إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / سورية من الاستقلال إلى حافظ الأسد




هاشم الأتاسي
أديب الشيشيكلي
أكرم الحوراني
جميل مردم
خالد العظم
حافظ الأسد
حسني الزعيم
سامي الحناوي
صبري العسلي
شكري القوتلي
سعد الله الجابري
فارس الخوري





سورية من عصر الإستقلال والإنقلابات

المبحث الخامس: اندماج مصر وسورية

أمعنت سورية في المطالبة بالوحدة بينها وبين مصر، منذ التصدي لحلف بغداد، وبعد معركة السويس. ولم يتوانَ رئيس الوزراء السوري، صبري العسلي، عن اقتراحها، في فبراير 1957، أثناء اجتماع مع جمال عبدالناصر، لمناقشة مشروع أيزنهاور. كذلك اتخذ مجلس النواب السوري قراراً، في 5 يوليه 1957، يطالب بإنشائها. وأعلن تصميمه عليها، في 17 نوفمبر 1957، في اجتماع، حضره وفد مصري برلماني، يرأسه أنور السادات. وأعقب ذلك حضور وفد سوري برلماني اجتماعاً لمجلس الأمة المصري، في القاهرة، قرر فيه الاستجابة للرغبة السورية.

واضطلع بسياسة سورية، في هذه المرحلة الحاسمة، خمس رجال: خالد العظم وخالد بكداش وصبري العسلي وأكرم الحوراني وصلاح الدين بيطار؛ والأخيران ينتميان إلى حزب البعث، الذي استدرك زعيمه، ميشيل عفلق، ميله إلى الوحدة الشاملة، بإيثاره عليها النظام الفيدرالي؛ إذ "إن لكلٍّ من القطرَين تقاليده وتاريخه الخاص. ولا بدّ عند قيام الاتحاد من تقوية نظام الحكم المحلي، والبرلمانات الإقليمية، أولً.ا وهذا النظام أدعى إلى اجتذاب الدول العربية الأخرى نحو الوحدة الشاملة". وما ذلك إلا لأن الوحدة الاندماجية، تشترط حل جميع الأحزاب، والمنظمات السياسية، التي طالما جاهد حزبا البعث والشيوعي في سبيل إنشائها. وهو الأمر نفسه، الذي دفع الحزبَين إلى التحاور، وتنظيم صفوفهما.

أولاً: الجيش السوري فيصل الوحدة

لم يقرر مصير سورية سياسيوها وأحزابها؛ وإنما جيشها، الذي أشعره تخبُّط قياداته، والبلاد عرضة للأخطار، بالحاجة الملِحة إلى الوحدة. وأُلِّف، في 17 أغسطس 1957، مجلس قيادة عسكري إثر إقالة اللواء نظام الدين، رئيس الأركان؛ وإبعاد الضباط الرجعيين. فأمست قوى الجيش المستقلة، التقدمية، الأكثر ميلاً إلى مصر، تفوق نظيرتها البعثية والشيوعية في صفوفه.

فبادرت إلى المطالبة بتحقيق الوحدة، من الفور؛ وتنزيهها عن المتاجرة السياسية فيها. واجتمع المجلس، في ديسمبر1957، وبحث موضوع الوحدة مع مصر، ودرس ما ينبغي له عمله في شأنها. وخلص إلى استيضاح الحكومة السورية ما تنويه بالوحدة؛ وإبلاغها رغبة الجيش في التعجيل بها. وأجمع المجلس على قراره. غير أن موافقة الأعضاء الحزبيين عليه، لم تكن إلا مداهنة؛ لاعتقادهم أن دون الوحدة مشاق ومحاذير، تعسّر ولادتها؛ فلا داعي لمعارضتها؛ فضلاً عن أن تأييدهم إياها، سيعززهم بين القوى الأخرى.

أوفد عبدالناصر، في النصف الثاني من ديسمبر1957، إلى سورية، حافظ إسماعيل، مدير مكتب اللواء أركان الحرب عبدالحكيم عامر؛ كي يجتمع بمجلس القيادة السوري، ويعرض عليه الصعوبات التي تواجه الوحدة، وتلك التي ستنجم عنها. وقد وَفَّى رسالته، وجاهر بمعوقات الوحدة؛ وأبرزها:

1. الجيش السوري، قياساً بنظيره المصري، هو قليل العدد؛ وقد يسفر اندماجهما عن نعرات جمة؛ فضلاً عن أن أولهما لا يزال مُسَوَّساً، وترك الثاني السياسة لأهلها. ولذلك، لا بدّ من إعادة تنظيمهما، وتنسيق انضباطهما العسكري.

2. الوحدة الاقتصادية هي أشد جوانب الوحدة صعوبة؛ إذ إن اقتصادَي مصر وسورية غير متجانسَين.

3. "إن النظام السياسي في مصر ثورة، تحاول أن تثبت دعائمها… قد تصدت لها قوى متعددة، داخلياً وخارجياً. كما أن الثورة المصرية مطالبة، دائماً، في ظل الوحدة أو في ظل عدم قيامها، بيقظة مستمرة، للمحافظة على كيانها؛ فضلاً عن أن قيام الوحدة بين مصر وسورية، سيزيد من ضرورة استمرار قوة الثورة وقدْرتها على حماية الوحدة من الأخطار، التي لا بدّ أن تهددها؛ ذلك أن قيام الوحدة، لن يقابل، دولياً، بالارتياح، وبخاصة في الغرب". وكان قول حافظ إسماعيل هذا إيحاء للمجلس بأن هناك ثورة في مصر، وستستمر؛ وليس لسورية، إذا ما رغبت في الوحدة، سوى معايشة ظروف النظام المصري.

لم يفلِح النصح المصري لمجلس القيادة السوري العسكري بتدبُّر محبطات الوحدة؛ إذ حبَّذ أعضاؤه المستقلون إنشاءها، من الفور، ومن دون أيّ تأخير؛ لأنها ستكون أقدر على مواجهة عراقيلها. أمّا أعضاؤه الحزبيون داورا عليها، وقالوا بمناقشة عوائقها، والسعي إلى تذليلها؛ مع الاستمرار في السير قدماً نحوها. ولم يوضحوا أَيُّما أَوْلى تحقيق الوحدة أمْ إزالة ما يعترضها. وقد أصد المجلس قراراً، نص على "السير قدماً في طريق تنفيذ الوحدة مع مصر، وفي أقصر وقت ممكن؛ ومنع وضع الوحدة موضع مزايدات أو كسب حزبي؛ وتنزيهها عن هذه المناورات". ونُقل القرار إلى السفير المصري، محمود رياض؛ والعميد عبدالمحسن أبو النور؛ كي يبلغاه عبدالناصر.

عقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة السورية، في 11 يناير 1958، جلسة طارئة، انتهت إلى مذكرة، توضح للرئيس عبدالناصر موقف الجيش من الوحدة؛ جاء فيها: "ولما كانت الظروف الحالية، التي نشأت من جراء انتصار شعبنا العربي، في مصر وسورية، قد ربطت بين قضيتنا العربية وبين السلم العالمي إلى حدّ بعيد، وأفسحت المجال لنا، لكي نخطو خطوات إيجابية سريعة، تتناسب وأهمية انتصاراتنا؛ ونظراً لاحتمال تغير هذه الظروف والمناسبات، وخاصة إذا تمكن الاستعمار من إنهاء استعداداته للمجازفة بخوض حرب شاملة أو محلية، بسبب تعرض مصالحه، التي يعتمد عليها في حياته الأساسية، في وطننا العربي، إلى الزوال؛ فإننا ندعو إلى ضرورة الإسراع بإقرار البناء الأساسي للوحدة الشاملة مع مصر، والمباشرة بتنفيذه فوراً، وتخطي جميع العقبات المصطنعة، من دستورية أو سياسية أو اقتصادية. ونحن نعتبر أن كلّ استمرار للأوضاع المحلية، أصبح أمراً غير طبيعي، لا يعتمد في بقائه إلا على المبررات الاستعمارية الموروثة، والامتيازات الرجعية والانتهازية، التي لا يمكن الاعتراف بها، بعد أن أقر الشعب بأجمعه الوحدة الكاملة".

كما تضمنت المذكرة النقاط التالية:

1. دستور واحد، يعلن إنشاء الجمهورية العربية الجديدة، ويرسم نظام الحكم فيها؛ ويفسح المجال لانضمام بقية الشعوب العربية التي ستتحرر.

2. رئيس دولة واحد.

3. سلطة تشريعية واحدة.

4. سلطة تنفيذية واحدة.

5. سلطة قضائية واحدة.

6. علم واحد، وعاصمة واحدة للدولة العربية.

7. الاستناد إلى الدستور الواحد في سن القوانين المنظمة لحقوق مواطني الدولة الجديدة وواجباتهم.

لقد خلت المذكرة من أيّ شروط أو تحفظات من الوحدة. وأثبتت أن السوريين قد انقادوا لعواطفهم، وضحوا بكيانهم المستقل.

ثانياً: جمال عبدالناصر يلتقي الضباط السوريين

في الساعات الأولى من صباح 12 يناير1958، طار عدد من كبار الضباط السوريين، يرأسهم عفيف البزري، إلى القاهرة؛ لمقابلة الرئيس جمال عبدالناصر، وتسليمه نسخة من المذكرة. وبقي عبدالحميد السراج في دمشق؛ ليخبر بها مجلس الوزراء إخباراً، أوشك أن يكون إنذاراً.

وخلال اجتماعات الوفد الأولى مع الرئيس، بدت بوادر العقبات، فلحق بالوفد الأول ضباط آخرون من المجلس، للإسهام في سرعة الوصول إلى الصيغة النهائية للوحدة. وفي 15يناير1958، استقبل الرئيس عبدالناصر الوفد السوري، لعلن له: "إني مستعد لقبول مبدأ الوحدة. ولكنْ لي شروط ثلاثة، هي:

1. إجراء استفتاء شعبي على الوحدة، ليقول الشعب في سورية، وليقول الشعب في مصر، رأيه الحر في التجربة، ويعبّر عن إرادته.

2. أن يتوقف النشاط الحزبي في سورية توقفاً كاملاً، وأن تقوم الأحزاب السورية بحل نفسها.

3. أن يتوقف تدخّل الجيش في السياسة توقفاً تاماً، وأن ينصرف ضباطه إلى أعمالهم العسكرية، ليصبح الجيش أداة دفاع وقتال، وليس أداة سلطة في الداخل وسيطرة".

واستطرد جمال عبدالناصر، قائلاً: "إنني أعلم أنكم جميعاً، سوف توافقون على شروط الاستفتاء الشعبي؛ ولكن باقي الشروط لها أهميتها، في تقديري. إن صلاح البيطار هنا، وصلاح البيطار ممثل لحزب البعث، وهو من أكبر الأحزاب السورية؛ فهل حزب البعث على استعداد لأن يحل نفسه، ويوقف نشاطه الحزبي؟ ثم من ناحية أخرى، أنتم هنا جميعاً 22 ضابطاً، تمثلون كتلًا مختلفة في الجيش، أقرب إلى الأحزاب السياسية منها إلى الوحدات العسكرية؛ فهل تقبلون الابتعاد عن الأحزاب السياسية؟ إن هذا الذي أقوله لكم، فعلته في مصر، حتى مع الذين خرجوا معي، ليلة 23 يوليه، ليقوموا بالثورة".

ثالثاً: ولادة الجمهورية العربية المتحدة

لم تقتصر زيارة القاهرة على العسكريين السوريين؛ بل تردد إليها، مراراً، في النصف الثاني من يناير 1958، وزير خارجية سورية، صلاح الدين البيطار؛ ممثلاً لحكومة سورية وضباطها. وانتهت مساعيه إلى بيان اتفاق على الوحدة، عُرض على الوزارة والضباط، فطلب خالد العظم تأجيل إقراره، ريثما تتدارسه الحكومة والأحزاب. وأوضح العظم، خلال مطالعة البيان، نقاط الخلاف فيه، ومخالفته للدستور. واحتدم النقاش. وندد صبري العسلي بالأحزاب، ورآها هدامة هدد العظم بالاستقالة؛ ولكنه وقّع البيان، وسجل تحفظه من مضمونه؛ اتقاء الريح العاتية للوحدة العربية، التي كان هو نفسه من أوائل دعاتها. وحار صلاح الدين البيطار في ما يقوله للقاهرة. ولم ينتشله من حيرته اجتماعه بالضباط، وشكري القوتلي، وصبري العسلي، وخالد العظم، الذين ما زادوه إلا غموضاً؛ وإنما بددتها مبادرته هو وشكري القوتلي وصبري العسلي، إلى وضع أُسُس لمشروع وحدة اتحادية حمله إلى القاهرة.

وعُزِيَت موافقة السوريين، ساسة وضباطاً، على الوحدة، وبشروط عبدالناصر، إلى أسباب متباينة؛ منها أن الفريق عفيف البزري، جمع الوزارة وخاطب أعضاءها بما معناه: أمامكم طريقان: إلى المزة أو إلى القاهرة.

ويرجعها محمد حسنين هيكل إلى أن "إرادة الجماهير السورية، هي العامل الضاغط، حيث قبل السياسيون الوحدة؛ كي يفلتوا من الضغط الشعبي، الذي حاصرهم؛ وليجدوا لهم مكاناً في الأوضاع الجديدة، بعد الوحدة". وثمة من يردّها إلى "أن الوفد السوري، لم يتوقع أن يسير الرئيس جمال عبدالناصر على تلك الطريق الديكتاتورية".

أمّا ساسة البعث، فيعللون إذعانهم لشروط عبدالناصر، بأن "التفاعل الشعبي الثوري، بين إقليمَي الجمهورية الجديدة؛ والتفاعل الشعبي، بين دولة الوحدة وحركات النضال العربي ـ سيكونان الضمان ضد أيّ انحراف".

قدِم القاهرة، في 31 يناير 1958، الرئيس السوري، شكري القوتلي؛ ورئيس مجلس الوزراء، صبري العسلي؛ والفريق عفيف البرزي. وباحثوا جمال عبدالناصر في أُسُس الجمهورية الجديدة. وخلص المتباحثون إلى أن عوامل الوحدة، بين الجمهوريتَين: السورية والمصرية، وأسباب نجاحها، قد توافرت، بعد أن جمع بينهما، في الحقبة الأخيرة، كفاح مشترك، زاد معنى القومية وضوحاً. وأعلنوا اتفاقهم على توحيدهما في دولة واحدة، هي الجمهورية العربية المتحدة، وإيمانهم الكامل بهذه الوحدة؛ على أن يكون نظام الحكم فيها ديموقراطيا،ً رئاسياً. يتولى فيه السلطة التنفيذية رئيس الدولة، يعاونه وزراء، وهو يعيّنهم، ويسألهم عما يفعلون. ويتولى السلطة التشريعية مجلس تشريعي واحد. ويكون لهذه الجمهورية علم واحد وجيش واحد. ويتساوى أبناؤها في الحقوق والواجبات.

أبرم مجلس الأمة المصري، في 5 فبراير 1958، بالإجماع، اتفاق الوحدة. وكاد يُجمِع عليه المجلس النيابي السوري، لولا معارضة أحد أعضائه، خالد بكداش سكرتير الحزب الشيوعي السوري. وفي اليوم نفسه، دعا جمال عبدالناصر، في مجلس الأمة، إلى استفتاء الشعب العربي، في مصر وسورية، في أُسُس الوحدة، وشخص رئيس الجمهورية؛ ليضفي القوة والشرعية على الدولة الجديدة. فاستُتْتِيَ في 21 فبراير 1958. ووافق الشعب المصري على قيام الوحدة بأغلبية 99.99%. أمّا في سورية، فكانت النسبة 99.98%. وافق الشعبان، في مصر وسورية، على اختيار الرئيس جمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية الجديدة"؛ ما يعني الموافقة على حل الأحزاب السورية. وأعلن إحسان الجابري، رئيس اللجنة الخارجية في المجلس النيابي السوري، حل المجلس، في 23 فبراير 1958. أمّا وزارة الائتلاف السورية، فبقيت تدير الأمور، ريثما يعيِّن جمال عبدالناصر وزراءه الجدد.

وصل جمال عبدالناصر إلى دمشق، أول مرة في حياته، يوم 24 فبراير1958، رئيساً منتخباً؛ فاستُقبل استقبالاً لا يُنسى. وأعلن، في 5 مارس 1958، وهو في العاصمة السورية، دستوراً مؤقتاً للجمهورية العربية المتحدة، يتألف من 73 مادة.

وسرعان ما خَلَتِ الوحدة للعرب؛ إذ وقِّع، في دمشق، في 8 مارس 1958، ميثاق إنشاء اتحاد، يسمى: الدول العربية المتحدة، يتكون من الجمهورية العربية المتحدة والمملكة اليمنية المتوكلية، والدول العربية الراغبة فيه. وقد نص على أن تحتفظ كلّ دولة من الدول الأعضاء بشخصيتها الدولية، ونظامها الخاص؛ على أن تتبع كلّها سياسة خارجية موحدة، يضعها الاتحاد. كما يتولى تمثيله السياسي القنصلي، في الخارج، هيئة واحدة، في الأحوال التي يقرر فيها الاتحاد ذلك. ويكون للاتحاد قوات مسلحة موحدة. وينشأ بين دوله اتحاد جمركي.

رابعاً: المواقف: المحلية والإقليمية، من الجمهورية المستجدة

1. سورية

أبهجت الوحدة ضباط الجيش، ومنّتهم بعطف الرئيس الضابط، جمال عبدالناصر على القوات المسلحة، وتفهّمه لقضايا الجيش السوري. وأنست إلى الوحدة طبقات الشعب المؤمنة بالقومية العربية، أحزبية كانت أم في صفوف الجيش، وتماهت بها؛ علّها تكون إرهاصاً للوحدة العربية الشاملة. لا، بل إن حزب البعث، عَدّ نشوءها نصراً له؛ وقد زادته شعبية، ولو إلى حين، في سورية ودول عربية أخرى؛ إلاَّ في مصر.

واستثارت الوحدة رضا الطبقة المتوسطة وقلقها، في آن واحد؛ إذ أملت أن تقيها الخطر الشيوعي، المتواري بالاتفاقية الاقتصادية بين سورية والاتحاد السوفيتي؛ وخشيت الغموض في سياسة جمال عبدالناصر الاقتصادية.

أمّا كبار ملاك الأراضي، فلم يرحبوا بالوحدة؛ لتهيُّبهم أن يطبق عليهم الإصلاح الزراعي المعمول به في مصر. وهو ما يسحبونه تشفياً وانتقاماً منهم؛ فضلاً عن أنه يدنيهم من اليسار؛ وهم اليمنيون، المنتمن إلى حزب الشعب.

وتوجَّس الإخوان المسلمون خطر عبدالناصر، الذي أعدم عدداً منهم، قبل أعوام، غير عابئ بالشفاعة لهم من رجالات وحكومات عربية. ولكنهم لم يرفضوا الوحدة إذ آنسوا فيها خطوة أولى في سبيل تحقيق هدفهم الأشمل.

ولم يَضق بالوحدة إلا الحزب الشيوعي. وينمّ بذلك قول خالد بكداش قُبَيْلها: "لم تكن الوحدة مفاجأة لأمريكا والدول الغربية، وإنما هي بموافقتها؛ لأنها الوسيلة، التي يمكن بواسطتها القضاء على الحركة التقدمية في سورية، وإخماد صوتها الحر في الأوساط الدولية، بعد أن عجز الاستعمار عن الوصول إلى ذلك عن طريق المؤامرات والضغط والعدوان غير المباشر". أمّا الحزب القومي السوري، فقد اضمحل إثر اغتياله العقيد عدنان المالكي، في 22 أبريل 1955.

2. مصر

يصعب تحديد موقف المصريين من الوحدة؛ لأن أحزابهم السياسية، حرّمها انقلاب عام1952. وأقوال جمال عبدالناصر، توحي، بل تؤكد أن هبة الشعب المصري، في احتفالات الوحدة، لم تضارع نظيرتها السورية، لا فطرة، ولا صدقاً؛ وإنما وعّزت بها الصحافة والإذاعة وأجهزة الإعلام الأخرى توعيزاً، مسخ الوحدة نصراً لرائد القومية العربية.

3. العراق والأردن، وإنشاء الاتحاد العربي

لاذ الملك حسين إلى ابن عمه فيصل، ملك العراق؛ فراراً من عدوّه,[1] جمال عبدالناصر، رئيس دولة الوحدة، الطامح إلى انحياز سياسة الأردن: الخارجية والعربية، إلى مصر. فراوده على إحياء التراث الهاشمي؛ مرتضياً ما اشترطه لذلك نوري السعيد؛ وغير مبالٍ بإنذار الملك سعود، أن الاتجاه نحو العراق، سيحرم الأردن دعم المملكة العربية السعودية المالي.

أنشئ اتحاد فيدرالي بين الأردن والعراق، رأسه الملك فيصل بن غازي، ملك العراق. وعابه عبدالناصر بأنه وحدة زائفة، بنيت على أساس حلف بغداد، ولم تراعِ رغبات الشعبَين: العراقي والأردني، التي تعارض أيّ محالفة للغرب؛ وأن ذلك الاتحاد الجديد، سيعوق سياسة الحياد، التي يدعو لها الرئيس العربي. بيد أنه لم يتصدَّ له؛ بل أوشك أن ينتفع به انتفاعاً غير مباشرة.

4. سائر الدول العربية

أبهجت الوحدة كثيراً من الشعوب العربية. أمّا حكوماتها، فقد حرصت على مصالحها في الدول، التي تنكرت للجمهورية الجديدة؛ فاقتصرت مواقفها على "تمنيات أخوية صادقة، ومشجعة للوحدة العربية" لم تبلغ نية الانضمام إليها.

5. إسرائيلي

رابت إسرائيل، فعمدت إلى زيادة نشاطها العسكري على الحدود السورية، حيث بادرت إلى إنشاء التحصينات وتجهيزها؛ بل اعتدت، في 13 ديسمبر 1958، على قرية الدرباشية، في القطاع الأوسط من الجبهة السورية؛ وكذلك على قرية التوافيق، في الأول من فبراير1960. واستذرعت إسرائيل بالوحدة، فاستنصرت عليها بالغرب؛ ليمدها بأسلحة، تدفع بها عن كيانها تهديداً ذا شعبتَين أو اتجاهَين، تومض به الجمهورية العربية المتحدة[2].

خامساً: المواقف العالمية

1. الكتلة الشرقية

آثرت سورية آصرتها القومية على صداقتها للمعسكر الشرقي. وكذلك اطَّرح الرئيس جمال عبدالناصر نصح الرئيس السوفيتي، نيكيتا خروتشوف، بالتخلي عن الوحدة، والذي جاهر به سيد الكرملين وفداً سورياً عسكرياً، برئاسة اللواء نامق كمال، زار موسكو، في 13 سبتمبر 1962. فاضطر العالم الاشتراكي إلى الاعتراف، على مضض، بالجمهورية الجديدة؛ ولو لم يفعل، لاجتثت جذور مصالحه ومظاهر الميل إليه، في سورية وسائر البلاد العربية.

2. الكتلة الغربية

ما ضار الغرب، أن ترفض سورية الانضمام إلى حلف بغداد؛ وإنما نقْضها رؤية الدول العربية، التي انضوت إليه، أن الخطر الأول المحدق بالعرب، هو الخطر الشيوعي. فقد استشفت دمشق، الخطر الجاسم، هو إسرائيل وأولئك الذين يدعمونها. فنكدت رغبة الغرب، ولا سيما وزير الخارجية الأمريكي، جون دالاس؛ إذ إن حرباً بين سورية وإسرائيل، ستحمل الدول العربية الأخرى على مؤازرة دمشق؛ على الرغم من عضوية بعضها في حلف غربي، والتزامها بألا تحارب إسرائيل. ناهيك بمكانة سورية في نفوس الشعب العربي، وبخاصة العراقي، الذي سيسحق كلّ حكم لا يؤيدها على إسرائيل. ولا شك أن موقف الدول العربية، وبعض فئات من شعوب دول إسلامية مجاورة، سيوهن حلف بغداد.

سادساً: تقييم الوحدة الاندماجية

لم تتأتَّ للوحدة الاندماجية أركانها: السياسية والتشريعية والاقتصادية والاجتماعية؛ وهو ما أفصح به جمال عبدالناصر، ليلة 15 يناير 1958، لقادة الجيش السوري حين جاروه طالبينها: "إن الوحدة تحتاج إلى خمس سنوات، على الأقل، من التمهيد: الاقتصادي والاجتماعي؛ لا، بل إنها بدت مرتجلة، لا تكاد تستند إلى سوى زعامة شخصية، زعامة عبدالناصر. وأوشكت أن تخلو من المضامين، فاقتصرت على هيكل خارجي، تمثل في وحدانية رئيسها وعَلمها ونشيدها.

لئن أمكن تخطِّي الفاصل الجغرافي، بين جناحَي الجمهورية العربية المتحدة؛ فإنه تعذر جسر فوارقهما؛ وأبرزها:

1. انهماك الشعب العربي في مصر في ثورة اجتماعية، وانشغاله بمناهضة الأحلاف، واحتكار السلاح، والتبعية الدولية؛ وتصديه للطبقة الرأسمالية، التي انكشفت معاونتها للاستعمار. ناهيك بأن كثيراً من المصريين، جاهروا بتساؤلهم: "هل ستصبح مصر، بكلّ مجدها! الإقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة؟ وهل يمكن أن تتخلى عن العلم الأخضر، والهلال والنجوم الثلاث في وسطه! وقد خاضت تحت هذا العلم كلّ معاركها من أجل الاستقلال؟ ".

2. إمعان سورية في المناكدات الحزبية، والانقلابات العسكرية؛ وابتعادها عن أيّ تعبئة ثورية. ومعاونة رأسمالييها للاستعمار، من خلال  قصور ملكية، في بغداد وعمّان. فضلاً عن أن معظم الساسة السوريين؛ يريدون أن تبقى مصر في مصر، وأن تبقى سورية في سورية؛ إذ إن الوحدة، ستنجم عن قوى جديدة، سوف تضعفهم، وتقاسمهم مكاسبهم. فالاندماج الكامل في المجال الدبلوماسي، اقتضى إلغاء بعض الوظائف؛ ما أسخط بعض موظفي الخارجية، حتى أمسوا من أشد الفئات ذات النزعة الإقليمية. وفرض منظمة سياسية واحدة، هي الاتحاد القومي؛ وحل الأحزاب السورية العقائدية، وبخاصة الحزب الشيوعي ـ أجبر المعارضة على العمل في الخفاء، أو اللجوء إلى الخارج. أمّا حزب البعث، فقد تقبّل الوحدة الاندماجية، على مضض؛ إثر اختيار عبدالناصر أحد أعضائه، أكرم الحوراني، ليكون أحد نوابه؛ فضلاً عن تعيينه خمسة بعثيين في أول مجلس تنفيذي.

3. غموض الوضع السوري الداخلي وخفاؤه، ليس على القاهرة فحسب؛ وإنما على دمشق نفسها؛ ما لبس على القوة الجديدة، التي جاءت بها الوحدة إلى سورية، مهمتها.

اختُرمت الوحدة، ولما تبلغ ثلاث سنوات (22 فبراير 1958ـ 28سبتمبر 1961)؛ ما يؤكد أن العرب هم أنزع إلى إقليميتهم منهم إلى وحدتهم؛ بل إن جمهوريتهم العربية المتحدة، لم تكن دولة كونفدرالية؛ إذ احتفظ كلٌّ من جناحَيها بكينونته.

 



[1] أذاع راديو عمان بتاريخ 28/2/1958 أن هذا الذي تم بين مصر وسورية، ليس وحدة وإنما هو ابتلاع قامت به مصر لسورية، وفي الوقت نفسه أذاع راديو بغداد قوله أن الوحدة بين مصر وسورية لا تعدو أن تكون تسلطا مصرياً على سورية"

[2] أذاع راديو إسرائيل في نشرة أقوال الصحف في الساعة الواحدة إلا ربع بعد ظهر يوم28 فبراير 1958قوله " أن الوحدة ببن مصر وسورية هي خطوة في أحلام عبدالناصر بإقامة إمبراطورية عربية من المحيط إلى الخليج".