إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / السِّير الذاتية للشخصيات الواردة في كتاب "مقاتل من الصحراء" / السِّير الذاتية للشخصيات، في مصر









الفصل الثاني

الفصل الثاني

نشاطه السياسي قبل ثورة يوليه

اشتغاله بالسياسة قبل دخوله الكلية الحربية

بدأ السادات ممارسة العمل السياسي خلال فترة دراسته؛ فنظم تظاهرة طلابية قِوامها طلاب مدرسة فؤاد الأول، احتجاجاً على إعلان الإنجليز بقاءهم في مصر. وخرجت هذه التظاهرة إلى مدرسة فنون الصنايع (وهي حالياً كلية الهندسة ـ جامعة عين شمس) وشارك فيها أعداد كبيرة من الطلبة. وقد صدر الأمر بفصله خمسة عشر يوماً عقاباً له.

أُعجب السادات إعجابا شديداً بالزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، منذ أن رأى في بيت والده بالقاهرة صورة أتاتورك. وسأل والده عنه، فقال إنه رجل عظيم. ويقول السادات: "كان أتاتورك مثلاً أعلى في العالم الإسلامي، يتردد اسمه على كل لسان. فقد قام ليحرِّر بلاده ويعيد بناءها، وكان والدي شديد الإعجاب به، كما كان معجباً بنابليون، الذي حدثني عنه طويلاً". وقد أُعجب السادات بصورة أتاتورك والبدلة العسكرية. وأيقن، من ذلك الوقت، أن القوات المسلحة هي السلاح الذي يُعتمد عليه للتغيير. وأعجب السادات بالزعيم المصري سعد زغلول، فكان يخرج كل مساء لينتظر رؤية النحاس باشا ـ خليفة سعد زغلول ـ عندما كان ينتقل من بيته في مصر الجديدة إلى بيت الأمة، وعندما يعود، وكان يرى في النحاس وفي حزب الوفد، في ذلك الوقت، رمزاً لكفاح المصريين جميعاً ضد الإنجليز. وكان السادات يخرج في المظاهرات ويساهم في تكسير الصحون وحرق عربات الترام، ويشارك في الهتاف بسقوط صدقي باشا، وإعادة دستور 1923. ومن الطريف أن السادات أُعجب بالزعيم الهندي غاندي إعجابا شديداً عندما مر غاندي عام 1932 بمصر في طريقه إلى إنجلترا، وامتلأت الصحف والمجلات المصرية بأخباره وتاريخه وكفاحه. وتملَّك الإعجاب بغاندي وجدان السادات، فما كان منه إلا أن خلع ملابسه، وغطى نصفه الأسفل بإزار وصنع مغزلاً واعتكف فوق سطح بيته عدة أيام مُقلِّداً الزعيم الهندي، إلى أن تمكن والده من إقناعه بالعدول عما هو فيه.

التحاقه بالكلية الحربية

أراد السادات أن يلتحق بالكلية الحربية، وكان لا يتم القبول إلا بالواسطة، بل كان يُنادى على كل واحد من المتقدمين، فُيقال فلان ابن فلان وواسطته فلان. وفي ذلك الوقت كانت الوساطات تتدرج من الأمير محمد علي، ولي العهد، إلى الباشوات والباكوات من ذوي النفوذ. وزيادة على ذلك كان دخول الكلية الحربية قاصراً على أبناء طبقة الأعيان من كبار مُلاك الأرض، أو كبار موظفي الدولة. ولحسن حظ السادات كان قد تم توقيع معاهدة 1936 وبموجبها فُتح الطريق لبناء جيش مصري أكبر مما كان مسموحاً به من قبل، ولذلك سُمح لشباب من أمثال السادات وجمال عبدالناصر، أن يدخلوا الكلية الحربية ولكن بالواسطة.

حصل السادات على واسطتين، أولاهما: بطاقة توصية من د. فيتس بارك، رئيس القسم الطبي في مستشفيات الجيش البريطاني في القاهرة، الذي كان والد السادات قد سبق وخدم معه في الوحدة الطبية في ميت أبو الكوم.

أمّا الواسطة الثانية فكانت اللواء إبراهيم باشا خيري، رئيس لجنة قبول الطلبات، ومدرب الفروسية للملك فاروق، ووكيل وزارة الحربية، فضلاً عن كونه متزوجاً من سيدة من العائلة المالكة، ونجماً من نجوم المجتمع. وكان والد السادات يعرف أحد الصُولات، أيام خدمته في السودان، وتصادف أن كان هذا الصول في خدمة إبراهيم باشا خيري، فتوسط لديه أن يسمح للسادات ووالده بمقابلته في قصره في حدائق القبة. وهناك، عندما رآهما إبراهيم باشا خيري عند مدخل القصر، قال لهما مُسرعاً دون أن يصافحهما: "آه..آه.. إنت باشكاتب القسم الطبي، وده الولد ابنك اللي .. طيِّب .. طيِّب" ومضى في طريقه مسرعاً، ووالد السادات يهرول خلفه يرجوه.

وهكذا تم قبول أنور السادات في الكلية الحربية بصفة مبدئية، في انتظار تصديق وزير الحربية على أسماء المقبولين.

ومن الطريف أن الأسماء، حين عُرضت على وزير الحربية، طلب حجز ستة أماكن لأقرباء له، وعلى ذلك تم استبعاد الأسماء الستة الأخيرة من كشف المقبولين وعددهم 52، وكان من بينهم أنور السادات بالطبع، لأنه كان آخر المقبولين.

التحق السادات بكلية الآداب، ثم حوَّل أوراقه إلى الحقوق، ثم إلى التجارة، ثم حدثت تدخلات أخرى، فأُعيد إلى الكلية الحربية، وذلك بعد ستة وعشرين يوماً من دخول زملائه.

بعد التخرج

كان الحظ حليفه لأن دفعته، وهي الدفعة 37، تخرجت بعد تسعة أشهر فقط؛ بسبب سياسة توسيع الجيش. وكان تخرجه، في فبراير 1938، برتبة ملازم ثان في سلاح المشاة حيث انضم إلى الأورطة الرابعة، بمنطقة المكس بالإسكندرية، وظل هناك إلى يوليه من العام نفسه، حيث نقل إلى قرية "منقباد" في صعيد مصر. وكان بها المعسكر الرئيسي للجيش المصري وقتذاك. وفي هذه القرية التقى السادات الضابط جمال عبدالناصر، ونشأت بينهما صداقة لم تدم طويلاً؛ بسبب نقل جمال إلى مكان آخر.

بدأت ميول السادات الفكرية والعسكرية تتبلور وتصبح أكثر وضوحاً. ولعل تلك الفترة كانت بداية دخوله العمل الوطني السياسي. فقد أصبح يؤمن بأنه لن يُخلِّص مصر من احتلال الإنجليز وفساد الحكم إلاّ القوة.

التحاق السادات بسلاح الإشارة

وقع الاختيار عليه ضمن صفوة من الضباط المصريين للحصول على فرقة إشارة في مدرسة الإشارة في المعادي، في القاهرة في 2 أكتوبر 1939. وكان سلاح الإشارة في ذلك الوقت أهم الأسلحة جميعا، ولابد لدخوله من واسطة كبيرة. وكان سبب قبوله كلمة ألقاها في حفل نيابة عن زملائه. وقد أعجبت هذه الكلمة قائد سلاح الإشارة، الأميرلاي إسكندر فهمي أبو السعد، وكان محباً للأدب، فأمر بنقل السادات إلى سلاح الإشارة في المعادي.

ويتضمن الملف العسكري الشخصي للضابط أنور السادات (رقم 2274) أنه ظل في المعادي إلى أغسطس 1940، ثم نقل إلى الصحراء الغربية، وظل هناك، عاماً كاملاً، حتى عاد إلى المعادي.

إنضم، بعد ذلك، إلى سلاح الحدود، كتيبة الإشارة، بالجبل الأصفر حتى 7 أكتوبر 1942، حيث ترك الخدمة.

بدءاً من يناير 1950 إلى سبتمبر من العام نفسه، ظل ضابطاً للإشارة بالقاهرة، دخل خلالها امتحانين للترقي، ونجح فيهما. وفي 9 سبتمبر 1950، صدر قرار نقله إلى القنطرة، ثم رقي إلى رتبة "صاغ" رائد، في 22 سبتمبر 1950.

في 10 أكتوبر 1950، خدم بالعريش إلى 31 مارس 1951، ثم نقل في 1 أبريل 1951، إلى رفح. وهناك رقي في 6 مايو 1951، إلى رتبة بكباشي، في الفرقة الأولى مشاة، سلاح الإشارة، حتى يوم 21 يوليه 1952.

كان انتقال السادات إلى القاهرة، بداية تحقيق حلمه في تكوين خلايا سرية بالجيش، حيث تمكن من تكوين أول تنظيم سري من الضباط في عام 1939. وكان من بين أعضائه عبد المنعم عبد الرءوف، الذي كان يُعدُّ الرجل الثاني في التنظيم، وعبد اللطيف البغدادي، وحسن إبراهيم وخالد محيي الدين وحسن عزت (والمشير) أحمد إسماعيل. وكانت اللقاءات تتم بينهم في منزل السادات، وفي نادي الضباط، وفي المقاهي.

نشاطه السياسي وطرده من الجيش

نشاطه أثناء خدمته في الجيش

إلى جانب التنظيم السري، بدأ السادات الاتصال بقوى سياسية أخرى موجودة على الساحة. فإلى جانب اتصالاته الواسعة بالضباط، بدأ يتقرب من الجنود في وحدته بالمعادي، ويلقي عليهم محاضرات عن المعركة والموقف العسكري في العالم، وهزائم الإنجليز أمام هتلر والقوات الألمانية، وموقف مصر من الإنجليز، والوطن والوطنية. كما كان يُصلي بهم إماماً، في مسجد صغير بناه بمعونة بعض زملائه في سلاح الإشارة، وقد استحثَّ كثيراً من ضباط السلاح على تأدية الصلاة.

اتصالاته بالإخوان المسلمين

كان الشيخ حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين، يبذل نشاطاً هائلاً في تقوية جماعة الإخوان المسلمين، وانتشارها. ولعل الملك فاروق، ورئيس وزرائه، علي ماهر، رأيا القوة المتنامية للإخوان المسلمين، ففكرا في تشجيعها ـ في أول الأمر ـ لتكون قوة منافسة لحزب الوفد في التأثير على الشارع المصري. وهكذا سُمح للشيخ حسن البنا بأن يزور وحدات من الجيش المصري، ويلقى فيها محاضرات وعظ وإرشاد. وفي إحدى هذه الزيارات التقى الشيخ حسن البنا السادات وتوثَّقت بينهما علاقة قوية. فقد أُعجب السادات بالشيخ، ووصفه بقوله: "كان ممتازا في اختياره للموضوعات، وفهمه للدين، وشرحه وإلقائه، من كل النواحي. فعلاً، كان الرجل مؤهلاً للزعامة الدينية، هذا إلى جانب أنه كان مصرياً صميماً بكل ما تحمله هذه الكلمة من دماثة خلق وسماحة وبساطة في معاملة الناس، وكان يتكلم في الدين والدنيا معاً، وبأسلوب جديد، لم نألفه من رجال الدين".

وبدأ السادات يحضر دروس الشيخ الأسبوعية في مقر الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة. وكان الشيخ يستقبله في مكتبه عقب الدرس، ولذا تحمس السادات ذات مرة واندفع يقول للشيخ، في إحدى اللقاءات: "بصراحة، أنا أسعى إلى عمل تنظيم عسكري، هدفه قلب الأوضاع في البلد…!! نعم، أنا أسعى إلى ثورة مسلحة، ومعي عدد كبير من الضباط من كل أسلحة الجيش…!!".

وتم الاتفاق بينهما على التعاون، ولم يمض وقت طويل، حتى كان الشيخ البنا قد جنَّد، لحساب الإخوان، عبد المنعم عبد الرؤوف الرجل الثاني في التنظيم.

السادات في مرسى مطروح

في عام 1941 صدرت الأوامر بنقل السادات إلى مرسى مطروح ضابط إشارة في آلاي المدفعية. وعلى الرغم من ابتعاد السادات عن القاهرة، ظل يُداوم الاتصال بزملائه، من ضباط الجيش، على أمل الاستمرار في تحقيق حلمه نحو الثورة. وكان يتحدث مع زملائه، في مرسى مطروح، عن الحرب العالمية الثانية، ثم ينتقل إلى الحديث عن إمكانية تحرير الوطن من الاستعمار البريطاني. وهناك شِبه إجماع من جانب بعض زملاء الدفعة (37)، الذين زاملوا السادات في خدمته العسكرية، سواءً في القاهرة أو منقباد أو في مرسى مطروح، أنَّه كان دائم الخلاف مع الضباط الإنجليز.

ثورة لم تتم

فكَّر السادات، خلال وجوده في مرسى مطروح، في استغلال هزائم الإنجليز أمام الألمان في عام 1941، والقيام بثورة. فاتفق مع جميع الوحدات المصرية، المُنسحبة من مرسى مطروح، في ذلك الوقت[1]، على الالتقاء في وقت محدد عند فندق "مينا هاوس"، على طريق الإسكندرية القاهرة الصحراوي، وهناك يتم التجمع ودخول القاهرة، ومواجهة الإنجليز والاستيلاء على السلطة. ولكن الوحدات الأخرى سبقت السادات وجنوده إلى القاهرة، ولم يحدث التجمع، وفشلت الخطة.

اتصاله بالفريق عزيز المصري، والألمان

كان الفريق عزيز المصري باشا مفتشاً عاماً للجيش المصري، كما كان ثائراً محترفا، شارك في ثورة تركيا الفتاة، وشارك في الثورة العربية الأولى. وكان بمثابة الأب الروحي للخلايا الثورية المتناثرة داخل الجيش المصري في ذلك الوقت. وكانت المرة الأولى التي رآه فيها السادات، في "منقباد"، حين زارها عزيز المصري. وكان السادات معجبا به قبل أن يراه، يصفه بقوله: "شخصية أسطورية شاركت في الثورة التركية مع أتاتورك، كما كان أحد مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي، وجمعية تحرير الأمة العربية. هذا إلى جانب تاريخه الطويل المليء بالكفاح، وولعه بالثقافة والدعوة إليها، وكان معروفاً بكرهه للإنجليز حتى أن سير مايلز لامبسون، السفير البريطاني في ذلك الوقت، طلب من علي ماهر رئيس وزراء مصر إقالته من منصبه في الجيش، ولكن علي ماهر اكتفى بإعطائه إجازة مفتوحة".

طلب السادات من الشيخ حسن البنا أن يدبر له لقاء عزيز المصري في عام 1940، فكان له ما طلب، وتم اللقاء في عيادة طبيب من الإخوان في حي السيدة زينب، حيث وافق عزيز المصري على التعاون مع السادات وباقي أفراد تنظيمه، ونصح عزيز المصري السادات، في أول الأمر، بشيئين:

الأول: التعاون والاعتماد على النفس.

الثاني: الثقافة في كل الاتجاهات والمجالات[2].

وتوالت اللقاءات بينهما بعد ذلك في أماكن مختلفة.

وبعد عودة السادات من مرسى مطروح، عاود الالتقاء بعزيز المصري، وشارك في محاولة تهريبه خارج مصر، في عام 1940، يقول حسن عزت ـ رفيق كفاح السادات: "ذات يوم، حضر أنور السادات وقام بجمع لجنة الضباط الأحرار في مقرنا السري بكوبري القبة، واخبرنا بأنه كان يزور الفريق عزيز المصري، وأن ضابطين ألمانيين من فيلق البانزر الأفريقي التابع لروميل، قد اتصلا ـ عن طريقه ـ بعزيز المصري لتحديد طريقة تهريبه إليهم، وطلب مساعدته لوضع الخطة اللازمة لتهريب عزيز المصري إلى برقة في ليبيا للانضمام إلى قوات روميل".

ثم جرى تعديل للخطة ليكون الهرب إلى العراق، ثم إلى بيروت، ولكن فشلت الخطة، وأُلقيَ القبض على الجميع بما فيهم السادات، الذي أنكر علاقته أو معرفته بالأمر تماماً، ومن ثم لم تثبت عليه التهمة، وأُطلق سراحه.

اتصالات السادات بالألمان

1.      معاهدة مع روميل

اتفق السادات وزملاؤه على ضرورة الاتصال بروميل في "العلمين"، وإبرام معاهدة معه. فكتبوا رسالة إلى روميل، أملاها أنور السادات، جاء فيها: ".. إننا مصريون شرفاء، وإن لنا تنظيمنا داخل الجيش المصري، ونحن مثلكم ضد الإنجليز، وعلى استعداد لكي نُجنِّد من بيننا فرقاً كاملة تحارب إلى جانبكم، وأن نُزودكم بصور لجميع خطوط ومواقع القوات البريطانية بمصر، وفوق هذا كله، فنحن نتكفل بألاّ يخرج عسكري إنجليزي واحد من القاهرة. كل هذا مقابل أن تنال مصر استقلالها التام، فلا تكون من نصيب إيطاليا أو ألمانيا، وألا يتدخل أحد في شئونها الداخلية أو الخارجية".

وإثباتاً لحسن النوايا صوَّر السادات، وزملاؤه، جميع مواقع القوات البريطانية في مصر، ووضعوا الأفلام وخطاب المعاهدة في حقيبة، وعهدوا إلى أحد أعضاء التنظيم، من ضباط الطيران، واسمه سعودي طيار، ليقود طائرته ويوصِّل الحقيبة إلى روميل في العلمين. ولكن تلك الطائرة، على الرغم من أنها أطلقت إشارة الصداقة، إلاّ أن الألمان أطلقوا نيرانهم عليها، اعتقاداً منهم أنها تابعة لسلاح الجو البريطاني، لأنها كانت من نوع بريطاني. وانفجرت الطائرة؛ ومات سعودي طيار، وفشلت الخطة[3] .

2.      التعاون مع جاسوسين ألمانيين

خاض السادات تجربة تسببت في طرده من الخدمة العسكرية. وكانت هذه التجربة هي التعاون مع جاسوسين ألمانيين، هما هانز أبلر، وساندي[4]، وكان أبلر قد عاش في مصر فترة طويلة مع أمه الألمانية التي تزوجت من مستشار مصري. وكانت المخابرات الألمانية قد كلفت الجاسوسين بالتسلل إلى مصر ومعهما جهاز لاسلكي دقيق، وعشرات الآلاف من الجنيهات الإسترلينية المزيفة، وسيارة من سيارات الجيش الإنجليزي التي استولى عليها الألمان أثناء معركة العلمين.

لما وصل الجاسوسان إلى القاهرة (متنكرين في زي ضابطين إنجليزيين)، أقاما في عوامة إحدى الراقصات الشهيرات في ذلك الوقت، وتدعى "حكمت فهمي" حيث راحا يسهران ويشربان ويقضيان الليالي مع بنات الهوى، دون أن يشك أحد في هويتهما. وعن طريق حسن عزت، تعرف إليهما أنور السادات، لأن جهاز اللاسلكي الذي معهما تعطل، وتم الاتفاق مع السادات على أن يقوم بإصلاح الجهاز وذلك لخبرته في الإشارة.

كشفت المخابرات البريطانية أمر هذين الجاسوسين، بعد أن وشت بهما إحدى اليهوديات. وكان أبلر قد أعطاها أجراً عن ليلتها أقل مما كانت تنتظره. وكانت علمت أنه ألماني لأنها سمعته، هو وزميله في تلك الليلة، بعد أن لعبت الخمر برأسيهما، ينشدان نشيد (ألمانيا فوق الجميع). وبعد ساعات قليلة كان الجاسوسان في طريقهما إلى السجن، وهناك اعترفا بتعاونهما مع حسن عزت، وأنور السادات، فانطلقت مجموعة من ضباط وجنود المخابرات المصرية والبريطانية، وحاصرت بيت السادات، واقتحموا البيت، وفتشوا كل ركن فيه، ولكنهم لم يجدوا الجهاز في بيت السادات، بعد أن تمكن السادات من إخفاء الجهاز في الفرن المجاور للبيت.

الطرد من الخدمة العسكرية

قُبض على أنور السادات وحسن عزت، وصدر الأمر بإيقافهما عن العمل، ووُضع كل منهما تحت الحراسة المشددة، وتشكل لهما مجلس تحقيق عسكري. يقول حسن عزت: "انفجر السادات يصيح: لا يمكن أن أُحاكم أمام ضابط بريطاني، أنا ضابط مصري، والقانون ينص على أني أُحاكم أمام ضابط مصري مثلي، وهؤلاء الإنجليز ليس لديهم هذا الحق، حتى ولو الملك نفسه أعطاهم هذا الحق، برضُه لن أُحاكم أمامهم، يقدروا يضربوني بالنار، ولكن يستحيل أن أُفرِّط في شرف العسكرية المصرية".

وتشجع حسن عزت حين سمع ذلك، وأصرَّ هو أيضاً على ألا يُحاكم أمام ضابط إنجليزي. ولم يستطع المجلس العسكري أن يحصل منهما على شيء، وفي نهاية الأمر صدر النطق الملكي التالي: "تفضَّل حضرةُ صاحب الجلالة الملك فاروق الأول، واستغنى عن خدمات حضرتكم ابتداء من اليوم".

وهكذا طُرد السادات من الجيش في 8 أكتوبر 1942. ولم يكد يبرح مكانه حتى تسلمته السلطات المدنية، ومعه حسن عزت ، لتحملهما إلى سجن الأجانب.

السادات وراء القضبان

  1. سجن الأجانب

في 26 رمضان، الموافق 8 أكتوبر 1942، دخل السادات سجن الأجانب في القاهرة، وهو سجن كان خاصا بالمقبوض عليهم في قضايا خاصة بالسلطات البريطانية لاستكمال التحقيق معهم، تمهيداً لترحيلهم إلى المعتقلات. لم يتألم السادات من وجوده بهذا السجن، فكل زنزانة مُزوَّدة بالسرير، والبطاطين، وكرسي، وطاولة، وكان مسموحاً بالتدخين وطلب الجرائد والكتب، والخروج مرتين في اليوم لممارسة الرياضة. وطلب السادات مجموعة من القصص باللغة الإنجليزية ليرفع مستواه فيها.

  1. معتقل ماقوسة

وفي ديسمبر عام 1942، صدرت الأوامر بترحيله، ومعه حسن عزت، إلى معتقل "ماقوسة"، على أطراف المنيا في صعيد مصر، حيث أقام هناك، تسعة أشهر، إلى سبتمبر 1943، وهناك أخذ يتعلم اللغة الألمانية على يد معتقل يسمى حسن جعفر الأخ الغير شقيق لحسين جعفر أو (آبلر) الجاسوس الألماني.

سلاح سري مع السادات

يقول حسن عزت:

"حينما دخلت السجن، أنا واليوزباشي أنور السادات، كان معي متاع كثير، من مأكولات وملابس، وأدوات تسلية. أما زميلي، السادات، فقد كان معه حقيبة صغيرة، بها بيجامة، وفوطة وسجادة صلاة، ومصحف، فأخذني العجب، وقلت له: هل هذا كل متاعك؟ فنظر إلى باستغراب وقال: وهل هذا قليل؟ كنت في أشد حالات الضيق، بينما كان السادات يبدو هادئاً تماماً، قلت له: وماذا ستصنع بالنسبة لزوجتك وأولادك؟ ولكنه انصرف عني إلى الوضوء قائلاً: "لهم الله"، ثم قام للصلاة، ثم سحب مصحفه، وأخذ يرتل القرآن، فاشتد غيظي، وقلت له: كفى، فأجابني بإشفاق شديد: الله يهديك يا حسن، قم توضأ وتعال نُصلي ركعتين، فرفضت، فاستمر يقرأ القرآن، فصحت فيه ليسكت، فقال "الله يهديك يا حسن.. باقولك قم توضأ وتعال صلي معايا" فرفضت للمرة الثانية، بينما استمر أنور في القراءة. ولمّا لم يكن هناك ما أفعله، فقد اضطُررت إلى الإنصات إليه، وتأثرت بسحر القرآن، ورويداً رويداً، شعرت بلذة عظيمة وبطمأنينة تملأ قلبي. وهنا فقط عرفت ضخامة المتاع الذي دخل به السادات السجن، لقد كان يملك سلاحاً سرياً لم أكن أملكه!".

3.      معتقل الزيتون

في أواخر عام 1943 صدرت الأوامر بنقل السادات، ومعه حسن عزت إلى معتقل الزيتون بالقاهرة. وهناك أخذ يتسلى، ومعه زملاؤه، بتربية الأرانب، في إحدى الغرف الفارغة، وبزراعة البرسيم في حديقة السجن. ولكن الأرانب هلكت جميعها، بسبب مرض معد, فأخذ السادات وزملاؤه يزرعون البطاطا، والفواكه، وقد اشتهر السادات بينهم بلقب "الحاج"، وقد ابتكر السادات وسيلة لتهريب رسائل المعتقلين، التي ترد إليهم من ذويهم، وذلك بأن اتفق مع حلاَّق السجن أن يُهرِّب الرسائل داخل جوربه.

حادثة طريفة

حدث أن عُينِّ قومندان جديد للمعتقل، وكان عنيف السلوك، دخل في مشادة شديدة مع أنور السادات، مما أدى إلى اشتراك جميع المعتقلين في خُطة، مؤداها جمع الفرش والأمتعة، ووضعها على السلم، لمنع أي إنسان من الوصول إليهم في الدور الثاني. ولكن القومندان دخل إلى حجرة السادات وراح يهدده، وهو يحمل مسدساً في يده. وسبَّه السادات قائلاً: "أنت جبان، وإلاّ فكيف تهددني بالسلاح وأنا أعزل". خرج القومندان غاضباً وهو يسب السادات. وتوجه إلى حجرته وأحاطها بالجنود، وهنا قفز السادات من حجرة إلى حجرة حتى دخل إليه من النافذة، فأصابه بالهلع، ثم عاد وتركه.

حركة عصيان ثم محاولة هروب

اشترك السادات، وحسن عزت، في إثارة المعتقلين بمعتقل الزيتون، وتحريضهم لعمل حركة عصيان، ضد سوء المعاملة التي يلقونها. ونجحت حركة العصيان، وأخذ جنود الشرطة، بعد أن حاصروا المعتقل، يطلقون الرصاص من الحديقة. واتفقت مجموعة من المعتقلين، بعد ذلك، على تدبير خطة للفرار، بإحداث ثقب في سقف الحجرة، التي كانوا يربون فيها الأرانب. فوضعت منضدة صعد عليها أنور السادات، وصعد حسن عزت على كتفيه، ليقوم بعمل ثقب، بكافة الآلات التي أمكنهم الحصول عليها. وكان السادات وحسن عزت يتبادلان الأدوار، أياماً عديدة. كان السادات، في فترة الراحة، يقوم بتدريب بعض المعتقلين على طريقة الزحف على الكوعين والركبتين، وهي طريقة لا تُحدث صوتاً على الإطلاق. وبعد إتمام الحفر قال أنور ساخراً: "اذهب يا حسن، واعزم على المعتقلين، خليِّهم يتفضلوا، نُسلِّمهم أوامر الإفراج، على مسؤوليتنا!!".

كان عدد الفارِّين ستة، منهم أنور السادات، وكان آخر من خرج من الحفرة، بينما كان حسن عزت أولهم، لوجود سيارة في انتظاره، ثم موسى صبري، الصحفي المعروف، ومحسن فاضل[5]، وآخرون.

ولا شك، أن كلاًّ من السادات، وحسن عزت، أثبتا، بنجاح خطة الهرب هذه، قُدرتهما على التخطيط الدقيق، والصبر، وتدبير الاتصالات بالخارج، لإيجاد سيارة تنتظر الفارين. كل ذلك والمعتقل مُحاط من نواحيه كلها، بجنود مسلحين، لديهم أوامر بإطلاق الرصاص، على الفور.

ومن الطريف أن السادات توجه عقب الهروب، ومعه محسن فاضل، إلى قصر عابدين، إلى حجرة الاستقبال، وتوجها إلى دفتر التشريفات حيث قيَّدا اسميهما، وذكرا أنَّهما ضمن المعتقلين في معتقل الزيتون: "وقد حضرنا خصيصاً لكي نقول للملك أن الحكومة يجب ألا تخضع للسلطة البريطانية، كما لا يجوز إطلاقا أن تعاملنا هذه المعاملة البالغة السوء، وإننا على الفور سنعود إلى المعتقل بمحض إرادتنا، وقد هربنا لكي نُبلّغ هذه الرسالة للملك، ولكي نقول له إن أربعة من زملائنا، قد هربوا معنا، ولكنهم لن يعودوا، مثلنا، إلى المعتقل، بل سيظلون أحراراً يفعلون ما يريدون، رهائن خارج السجن، مقابل حريتنا جميعاً، وتحدياً للسلطة"

وقد عادا بالفعل إلى المعتقل، وكان نتيجة ما فعلاه أن تغيَّر قائد المعتقل، وتحسَّنت مُعاملة المعتقلين، ثم أُفرج عن عدد كبير من المعتقلين السياسيين، في نهاية عام 1944، باستثناء المعتقلين بناء على أوامر السلطات البريطانية، ومنهم السادات. الذي أضرب عن الطعام، وحرَّض زملاءه على الإضراب، ونُقل إلى مستشفى قصر العيني. وهناك زار حسن عزت السادات، ودبَّر هربه من المستشفى، في سيارة، كان حسن عزت أعدها من قبل، ونقله إلى منطقة فم الخليج. كان ذلك في أكتوبر 1944، وقد ظل السادات متخفياً هارباً إلى سبتمبر عام 1945، عندما انتهت الحرب العالمية الثانية، وسقطت الأحكام العرفية، وبمقتضى ذلك، أصبح السادات حراً طليقاً.

أعمال مارسها أثناء فترة اختفائه

عمل حمالاً، على سيارة نقل، كان يملكها حسن عزت، وكان ينقل الخضر والفاكهة، إلى معسكر الإنجليز في "التل الكبير"، لصالح أحد التجار المصريين الأغنياء. ثم عمل بعد ذلك في نقل الأحجار، من المراكب التي تأتي، عبر النيل، وترسو بالقرب من القاهرة. ثم انتقل، في أوائل عام 1945 إلى بلدة "أبو كبير"، في محافظة الشرقية، حيث عمل في مشروع شق إحدى ترع الري هناك. ثم عمل مقاولاً لنقل الرخام، من منجم للرخام في بلدة تسمى "سَنَّور" شرق النيل، جنوب محافظة بني سويف في صعيد مصر.

كفاحه السياسي خلال فترة الطرد من الجيش

كانت مصر في تلك الفترة مليئة بالجمعيات والخلايا السرية، التي تكونت وانتشرت، اعتباراً من 4 فبراير 1942، حين حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين الملكي، وأرغمت الملك فاروق، الذي كان يبدي تعاطفاً مع الألمان، أثناء حروبهم مع بريطانيا والحلفاء، على إقالة وزارة حسين سري باشا، وتعيين مصطفى النحاس باشا (رئيس حزب الوفد) رئيساً للوزراء. وقد أثار هذا التصرف البريطاني ثورة عارمة في نفوس المصريين، بما مثّله من إهانة بالغة لحقت بالملك، بوصفه رمزاً لمصر. وقد اُعتبر حادث فبراير نقطة سوداء في تاريخ حزب الوفد، كما كان حافزاً على مضاعفة النضال لطرد الإنجليز.

من بين هذه الجمعيات والخلايا، كان هناك الجمعية الكبيرة التي كان حسن عزت، والسادات عضوين فيها، وكانت هناك جمعية أخرى، صغيرة، نشطة، من 23 عضواً، يتولى إدارتها، مجلس من أربعة أفراد، منهم محمد إبراهيم كامل (الطالب بالحقوق بجامعة فؤاد الأول ـ القاهرة حالياً ـ والذي سيُصبح وزير خارجية مصر أثناء مباحثات كامب ديفيد، ويستقيل وتحدث استقالته دوياً كبيراً) وابن خالته، الشاب، حسين توفيق، وهو ابن توفيق باشا أحمد، وكيل وزارة المواصلات آنذاك، وهو شاب متحمس، يتمتع بجرأة نادرة، وأعصاب فولاذية. وكانت هذه الجمعية السرية تستهدف القيام بعمليات ضد القوات البريطانية، وكان أفرادها، ومعظمهم من الطلبة، يخصصون جزءاً من مصروفهم الشخصي لشراء بعض الأسلحة، كالمسدسات والقنابل اليدوية، ويتدربون على استعمالها في صحراء شرق القاهرة. وقد نفَّذت الجمعية عدة عمليات ضد الجنود والضباط البريطانيين، كما أشعلت النيران في أحد معسكرات الجيش البريطاني، بضاحية المعادي، مما أدى إلى حريق هائل.

تعرَّف السادات على مجلس إدارة هذه الجمعية عن طريق وسيط هو عمر أبو علي، شقيق الطيار سعودي، الذي كان قد انفجرت به طائرته من قبل، وتم الاتفاق على التعاون بين الجمعيتين، وقد أقنعهم السادات بتغيير أسلوبهم. يقول محمد إبراهيم كامل: "أدخل السادات على تفكيرنا تعديلاً لم يكن وارداً، وهو أن الطريقة الفعالة لتحقيق أهدافنا هي القضاء على الزعماء المصريين المتعاونين مع الإنجليز".

محاولة اغتيال النحاس باشا

اقترح السادات اغتيال النحاس، ووافق الأعضاء كلهم، ووُضعت الخطة، وعُهد بالدور الرئيسي فيها إلى حسين توفيق. وكان دور السادات أن يُعدَّ سيارة وينتظر قرب مبنى الجامعة الأمريكية في وسط القاهرة، كما أحضر السادات مسدساً وبعض الطلقات، وقنبلتين يدويتين، وحُدد لتنفيذ العملية يوم 6 سبتمبر 1945. لأنه كان يوافق الاحتفال بمولد النبي، وكان من عادة النحاس باشا أن يذهب إلى النادي السعدي، مقر حزب الوفد، ليلقي خطاباً بهذه المناسبة. وجرت المحاولة إلاّ أنها فشلت نتيجة انفجار القنبلة، التي ألقاها حسين توفيق، بعد أن أسرع سائق سيارة النحاس، ليتفادى تراماً قادماً بسرعة، فأصابت شظايا القنبلة سيارة أتوبيس يستقلها فتيات من هيئة تابعة للقوات البريطانية. وأسرع حسين توفيق، عقب الانفجار، إلى المكان المتفق عليه، فلم يجد أثراً للسادات، ولا للسيارة، حسب الاتفاق. وعاد جميع الأعضاء المشاركين في العملية إلى بيوتهم، وقُيِّدَ الحادث ضد مجهول.

وهنا يتعين على البحث أن يجيب على تساؤلين هامين:

1.     من أين جاء السادات بالأسلحة؟

2.      هل كان السادات يشارك في هذه المهام بإيعاز من القصر؟ بمعنى آخر. هل كان السادات فعلاً عضواً في الحرس الحديدي التابع للملك فاروق؟

أما التساؤل الأول فيجيب عنه حسن عزت بقوله:

"ذهبت مع أنور السادات، إلى اليوزباشي، مجدي حسنين، الذي كان يعمل في سلاح خدمة الجيش، وهو السلاح المسؤول عن الإمداد بالأسلحة والذخيرة آنذاك، وطلبنا منه السلاح، وقال السادات: "سنضرب أعداء الوطن، سنضرب كل من يخون هذا البلد". وغاب مجدي، فترة قصيرة، ليعود حاملاً صندوقاً، به 12 قنبلة يدوية من طراز (ميلز) الإنجليزي، وتناول السادات القنابل، وأخذ يُقلِّبها بين يديه في شغف، ثم قال: "والله وقعتوا يا أسيادنا الإنجليز، والله يا مجدي تشوف لنا كمان صندوقين ثلاثة، نهدي أصدقاءنا وأصدقاء أصدقائنا!!".

أما التساؤل الثاني:

فجوابه أن ثمة احتمال كبير أن يكون السادات قد انضم إلى الحرس الحديدي، إلى جانب انضمامه، إلى تنظيم، أو آخر، من الجمعيات السرية. ويؤكد اللواء محمد نجيب ـ رئيس مصر الأسبق ـ ومحمد حسنين هيكل، أن السادات كان يعمل لحساب الحرس الحديدي. ويقول أحمد بهاء الدين: "وقد ثبت أن أنور السادات كان فعلاً عضواً بارزاً في الحرس الحديدي"('أحمد بهاء الدين، `محاوراتي مع السادات`، ص 9.').

ويبدو أن السادات كان على استعداد للتعاون مع أي جهة ضد الإنجليز وأعوانهم.

اغتيال أمين عثمان

شغل أمين عثمان منصب وزير المالية، في وزارة النحاس باشا. وكان معروفا بصلاته الوثيقة، والمريبة بالإنجليز وكان، كثيراً، ما يدلي بخطب وتصريحات، تمثل استفزازا صارخاً لمشاعر المصريين. وكان شائعاً أنه الرأس المدبر لحادث 4 فبراير، كما كوَّن في تلك الأيام رابطة تسمى "رابطة النهضة" في شارع عدلي، وسط القاهرة، وكان لها مبادئ ستة، ينص المبدأ الثاني منها، على أن مصر، مرتبطة بإنجلترا ارتباطا حتمياً، بزواج كاثوليكي.

في مقهى (استرا)، المطل على ميدان التحرير، وسط القاهرة، اتفق السادات، وحسين توفيق، وبقية أعضاء الجمعية على التخلص من أمين عثمان، وُضعت الخطة، وحُدِّد يوم 6 يناير 1946، موعداً لها. كان أمين عثمان قد ذهب لزيارة المندوب السامي البريطاني، (لورد كيلرن)، في الظهر، وفي المساء ذهب إلى مقر الرابطة. وكان حسين توفيق، في انتظاره عند مدخل العمارة، حسب الخطة، فناداه: "يا أمين باشا.. يا أمين باشا" فالتفت إليه، فأطلق عليه حسين توفيق رصاص مسدسه. وتجمع الناس، يطاردون حسين توفيق، فاضطر إلى تفجير قنبلة، من قنبلتين يدويتين، كان السادات قد أعطاهما له، وأوصاه ألاّ يستعملهما، إلاّ عند الضرورة. وتفرَّق الناس عنه، وعاد في هدوء إلى بيته بمصر الجديدة. أمّا السادات، فعند ما سمع صوت الانفجار، استقل الترام، وعاد إلى داره، في كوبري القبة.

كان لهذا الحادث دوي هائل في الشارع المصري، جعله يتصدر عناوين الصحف، ويستحوذ على اهتمام كافة الدوائر زمناً طويلاً. كان أمين عثمان، يوم اغتياله، قد التقى المندوب السامي البريطاني، وكان هذا اللقاء يعد تشريفاً كبيراً لأمين عثمان، ويعني ترشيحه لرئاسة الوزارة. وكان أمين عثمان قد عاد قبل يومين من إنجلترا، فهو إذن موضع حماية الحكومة البريطانية ومن يمثلها في مصر. وقد ترك اغتياله أثراً في نفوس الجماهير، وأوضح أن الإنجليز فقدوا القدرة على حماية أنصارهم. واهتزت صورة الاستعمار على نحو لم يحدث من قبل.

وبعد أيام تمكن البوليس من القبض على حسين توفيق، في الفيلا التي كان يقيم بها مع عائلته، في ضاحية هليوبوليس، في القاهرة، وعُثر على أسلحة مخبأة، ومفكرة يوميات بها عبارات عدائية ضد الإنجليز وأعوانهم، وبها أيضاً عنوان الرابطة المصرية البريطانية. وبعد تحقيق طويل، اعترف حسين توفيق، وأدلى بأسماء أعضاء الجماعة كلهم، ومن بينهم أنور السادات.

السادات يعود إلى السجن

سيق جميع المتهمين، (وعددهم 26)، إلى سجن الأجانب، واعترفوا جميعهم، عدا أربعة منهم أنور السادات، ومحمد إبراهيم كامل. وقد ساعد هذا الإنكار على تحسين موقف أنور السادات في القضية، خصوصاً، أن النيابة العامة، والبوليس السياسي، كانا يركِّزان على أنور السادات، بوصفه المسؤول الأول، عن الجريمة، لأنه أكبر المتهمين عمراً، إضافة إلى ماضيه، واشتراكه في عمليات مشبوهة، منها محاولة تهريب عزيز باشا المصري، إلى العراق. وقد مكث المتهمون في هذا السجن، شهرين في حبس انفرادي، دون أن يُسمح لهم بالاتصال ببعضهم إلى أن انتهت تحقيقات النيابة والبوليس[6].

ثم صدر الأمر بنقل المتهمين إلى سجن "قره ميدان"، وهو "سجن مصر العمومي". ووُضع السادات في الزنزانة رقم (54)، وكانت حالة السجن غاية في السوء، حيث الزنازين الانفرادية الخالية من أي نوع من الأثاث، والتي تكثر فيها أنواع الحشرات، ويسودها الظلام، ولا يُسمح فيها بالقراءة، ولا الاستماع إلى الإذاعة. وبينما تمكَّن حسين توفيق، وهو المتهم الأول من الفرار[7]، مكث السادات، وبقية المتهمين، عامين كاملين في السجن، إلى أغسطس 1948، وقد تمتع محمد إبراهيم كامل بامتيازات داخل السجن، شاركه فيها السادات. وذلك أن والد محمد إبراهيم كامل كان رئيسا لمحكمة الاستئناف، وكانت له علاقات في أوساط القضاء والنيابة، مما سمح للابن بالحصول على الطعام من البيت. وكان السادات شغوفاً بالطعام، وكثيراً ما كان يطلب أصنافاً خاصة مثل طواجن الحمام بالأرز. كما أمكن تهريب السجائر والحلوى داخل السجن، وسُمح للسادات أن يتناول الطعام مع محمد إبراهيم كامل في زنزانة أيٍ منهما[8].

سيارة خضراء ودراجة

دُبّر التنظيم، الذي ينتمي إليه السادات، عن طريق حسن عزت، خطة لإفساد القضية، وأُطلع السادات عليها. فذهب إلى محمد إبراهيم كامل وأكّد له أن شيئاً عظيماً سيحدث في اليوم التالي، وسيقلب القضية رأساً على عقب، ويضمن الحكم بالبراءة لجميع المتهمين. وفي اليوم الموعود، وكان مُقرراً أن تُعقد فيه جلسة خاصة، أمام قاضي الإحالة، هاجم شخصان، في سيارة خضراء، ساعي المحكمة، الذي كان على دراجة، ربط على مقعدها الخلفي، أصول ملفات القضية، أثناء سيره في شارع محمد علي، المزدحم. وكان هذا الساعي ينقل الملفات من بيت القاضي، الذي كان يفحصها قبل الجلسة، إلى المحكمة لتكون أمامه أثناء نظر القضية.

حاول الشخصان الاستيلاء على تلك الملفات، إلاّ أن المارة تجمعوا على صُراخ الساعي، واضطر الشخصان إلى الهرب دون الاستيلاء على الملفات . كانت فكرة جهنمية، إذ كانت الملفات تتضمن اعترافات المتهمين بتوقيعاتهم، ولو اختفت هذه الأصول، وعمد المتهمون إلى إنكار ما سبق واعترفوا به، لانهارت أهم أدلة القضية.

سجلت قضية أمين عثمان أعلى نقطة في تاريخ كفاح السادات السياسي قبل الثورة. وقد عُرفت هذه القضية "بقضية الاغتيالات السياسية الكبرى"، وكانت أشهر القضايا السياسية آنذاك. وشارك في الدفاع فيها أغلب فطاحل المحامين، موكلين أو متطوعين. ودُعي للشهادة فيها أغلب الزعماء السياسيين، مثل النحاس باشا، رئيس الوزراء، ورئيس الديوان الملكي وقتذاك، وحسين باشا سري، رئيس الوزراء الأسبق، ومحمد حسين هيكل باشا، رئيس مجلس الشيوخ، ومكرم عبيد باشا، رئيس حزب الكتلة الوطنية وغيرهم. وكان هناك تعاطف شعبي واسع النطاق مع المتهمين. وظلت القضية، وما تحفل به من مفاجآت، تشغل الصفحات الأولى مع صور المتهمين، تتصدرها صورة السادات، في جميع الصحف المصرية على مدى سنتين، استغرقتهما القضية. ولمع اسم أنور السادات حيث كان التركيز عليه، منذ تقديمه رسمياً للمحاكمة في 18 أبريل عام 1948، مع كونه ملفتا للأنظار بحركاته وصوته الجهوري. ومما زاد في اهتمام الناس بالقضية، أن وكيل النيابة الذي كان يُنتظر أن يترافع ضد المتهمين، أخذ يدافع عنهم ويهاجم الإنجليز. فاستقبل الحاضرون، في قاعة المحكمة، عباراته بالتصفيق. وهكذا تحولت القضية إلى مظاهرة وطنية مما بعث القلق في دوائر الحكومة في ذلك الوقت، فبادرت بتكليف المدعي العام نفسه لتولى القضية. وفي اليوم التالي وقف المدعي العام في المحكمة، وأعلن عزل وكيل النيابة، وهنا انبرى السادات وصاح في وجهه محتجا، وراح يصدر الهتافات والشعارات الوطنية.

عجز النائب العام عن إقامة الدليل على إدانة السادات، وصدر الحكم ببراءته في أغسطس عام 1948. وخرج من السجن إلى حلوان يبحث عن نُزُل (بنسيون) رخيص يقيم فيه، ويشرب المياه المعدنية ليعالج معدته التي أصابتها آلام لم تفارقه بعد ذلك.

 



[1] 'كانت هذه القوات تُقاتل إلى جانب الإنجليز، ولكن إزاء السخط والغضب الشعبي، وتصريح الشيخ محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر آنذاك. بأن هذه الحرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، واجتماع البرلمان المصري، وإقراره سياسة رئيس الوزراء علي ماهر `تجنيب مصر ويلات الحرب، صدرت الأوامر للقوات المصرية هناك بالانسحاب، وأصرت تلك الوحدات على الانسحاب بأسلحتها، وعدم تسليمها للإنجليز. أنور السادات، `البحث عن الذات`، ص 40 ـ 41.

[2] 'يتأثر السادات بتلك النصيحة، ويحاول أن ينمي ثقافته، فيلتحق بالمعهد البريطاني بالقاهرة للحصول على البكالوريوس في الآداب من جامعة لندن، كما أخذ يتصيد الكتب من سور الأزبكية، ويكتب إلى الناشرين والمكتبات في طلب أنواع من الكتب. راجع: أنور السادات، `البحث عن الذات`، ص 32.

[3] ومن الجدير بالذكر أن تنظيم الضباط الأحرار أعد عشرة آلاف زجاجة على هيئة كوكتيل مولوتوف استعداداً للحرب إلى جوار الألمان.

[4] 'لم يرد في أيٍ من المراجع اسم الجاسوس `ساندي` كاملاً.

[5] 'محسن فاضل كان شاباً من أسرة غنية، يجيد الفرنسية، تولى بعد ذلك في عهد عبدالناصر وظيفة مدير مكتب الطيران المصري في باريس.

[6] وقد ذكر أن مدير السجن كان يقيم بفيلا ملحقة بحديقة السجن وعنده خنزير يربيه يطلق اسم سعد باشا نسبة إلى سعد زغلول.

[7] 'أنور السادات، `البحث عن الذات`، ص 123. قارن: محمد إبراهيم كامل. `السلام الضائع`، ص 16، 17. حيث ذكر أن حسين توفيق بعد أن نجح في الهرب، نجح بمساعدة أعوان له في السفر إلى سوريا، وهناك تزوج بسيدة سورية، ولم يلبث أن كون جمعية سرية في سوريا، وحاول اغتيال الزعيم الشيشكلي، وحكم عليه بالإعدام، إلا أن الشيشكلي سقط في انقلاب عسكري قبل تنفيذ الحكم. وقد عاد حسين توفيق إلى مصر بعد الثورة، وصدر قرار بالعفو عنه. قارن: محمد حسنين هيكل، `خريف الغضب`، ص 58.

[8] 'محمد إبراهيم كامل، `السلام الضائع`، ص 16.