إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

 



الملحق الرقم (47)

رسالة من الملك عبدالعزيز
إلى الرئيس روزفلت بشأن القضية الفلسطينية(*)

في 7 شوال 1357 (29 نوفمبر 1938)

يا صاحب الفخامة:

           لقد اطلعنا على ما أذيع عن موقف حكومة الولايات المتحدة الأميركية، في مناصرة اليهود بفلسطين. وبالنظر لما لنا من الثقة في محبتكم للعدل والإنصاف، وفي تمسك الأمة الأميركية الحرة بأعرق التقاليد الديموقراطية المؤسسة على تأييد الحق والعدل ونصرة الأمم المغلوبة؛ ونظراً للصلات الودية التي بين مملكتنا وحكومة الولايات المتحدة، فقد أردنا أن نلفت نظر فخامتكم إلى قضية العرب في فلسطين وبيان حقهم المشروع فيها، ولنا ملء الثقة أن بياننا هذا يوضح لكم وللشعب الأميركي، قضية العرب العادلة في تلك البلاد المقدسة.

           لقد ظهر لنا من البيان الذي نشر عن موقف أميركا، أن قضية فلسطين قد نُظر إليها من وجهة نظر واحدة، هي وجهة نظر اليهود والصهيونية، وأهملت وجهات نظر العرب. وقد رأينا من آثار الدعاية اليهودية الواسعة النطاق، أن الشعب الأميركي الديموقراطي، قد ضُلل تضليلاً عظيماً أدى إلى اعتبار مناصرة اليهود على سحق العرب في فلسطين عملاً إنسانياً، في حين أن مثل ذلك ظلم فادح موجه إلى شعب آمن مستوطن في بلاده، كان ولا يزال يثق بعدالة الرأي العام الديموقراطي، في العالم عامة وفي أمريكا خاصة. وأنا على ثقة بأنه إذا اتضح لفخامتكم وللشعب الأميركي حق العرب في فلسطين، فإنكم ستقومون بنصرته حق القيام.

           إن الحجة التي يستند إليها اليهود، في ادعاءآتهم بفلسطين، هي أنهم استوطنوها حقبة من الزمن القديم، وأنهم مشتتون في بلاد العالم، وأنهم يريدون إيجاد مجتمع لهم يعيشون فيه أحراراً في فلسطين، ويستندون في عملهم إلى وعد تلقوه من الحكومة البريطانية سُمي "بوعد بلفور".

           أمّا دعوى اليهود التاريخية، فإنه لا يوجد ما يبررها، في حين أن فلسطين كانت ولا تزال مشغولة بالعرب، في جميع أدوار التاريخ المتقدمة، وكان السلطان فيها لهم، وإذا استثنينا الفترة التي أقامها اليهود فيها، والمدة الثانية التي سيطرت فيها الإمبراطورية الرومانية عليها، فإن سلطان العرب كان منذ الزمن الأقدم على فلسطين إلى زماننا هذا.

           وقد كان العرب في سائر أدوار حياتهم محافظين على الأماكن المقدسة، معظمين لمقامها، محترمين لقدسيتها، قائمين بشؤونها بكل أمانة وإخلاص، ولمّا امتد الحكم العثماني على فلسطين، كان النفوذ العربي هو المسيطر، ولم يكن العرب يشعرون بأن الترك دولة مستعمرة لبلادهم ـ وذلك:

  1. لوحدة الجامعة الدينية.
  2. لشعور العرب أنهم شركاء الترك في الحكم.
  3. لكون الإدارة المحلية للحكم، بيد أبناء البلاد أنفسهم.

           فمما ذُكر يرى أن دعوى اليهود بحقهم في فلسطين ـ استناداً إلى التاريخ ـ لا حقيقة لها، فإن كان اليهود قد استوطنوا فلسطين مدة معينة، بصورة استيلاء، فإن العرب قد استوطنوها مدة أطول بكثير من ذلك، ولا يمكن أن يُعتبر احتلال أمة لبلد من البلدان حقاً طبيعياً يبرر مطالبتها به، ولو اعتبر هذا المبدأ في العصر الحاضر، لحق لكل أمة أن تطالب بالبلدان التي سبق لها إشغالها بالقوة حقبة من الزمن، وتسبب عن ذلك تغيير خريطة العالم بشكل من أعجب الأشكال مما لا يتلاءم مع العدل ولا مع الحق والإنصاف.

           أمّا دعوى اليهود التي يستثيرون بها عطف العالم، وهي أنهم مشتتون في البلدان ومضطهدون فيها، وأنهم يريدون إيجاد مكان يأوون إليه، ليأمنوا على أنفسهم من العدوان الذي يقع عليهم في كثير من الممالك. فالمهم في هذه القضية هو التفريق بين القضية اليهودية العالمية أو اللاسامية وبين قضية الصهيونية السياسية.

           فإن كان المقصود، هو العطف على اليهود المشتتين، فإن فلسطين الضيقة قد استوعبت منهم الآن مقداراً عظيماً لا يوجد ما يماثله في أي بلد من بلدان العالم، وذلك بالنسبة لضيق أرض فلسطين، وبالنسبة لأراضي العالم التي يقيم اليهود فيها، وليس في استطاعة رقعة ضيقة كفلسطين أن تتسع لجميع يهود العالم، حتى لو فرض أنها أُخليت من سكانها العرب ( كما قال المستر ملكولم ماكدونالد في خطاب ألقاه في مجلس النواب البريطاني مؤخراً ) فإذا قبل مبدأ بقاء اليهود الموجودين في فلسطين، في الوقت الحاضر، فتكون هذه البلاد الصغيرة قد قامت بأعظم قسط إنساني لم يقم بمثله غيرها، ويرى فخامة الرئيس أنه ليس من العدل أن تسد حكومات العالم ـ وفي جملتها الولايات المتحدة ـ أبوابها بوجه مهاجري اليهود، وتكلف فلسطين البلد العربي الصغير لتحملهم.

           وأمّا إذا نظرنا إلى القضية، من وجهة الصهيونية السياسية، فإن هذه الوجهة تمثل ناحية ظالمة غاشمة، سداها القضاء على شعب آمن مطمئن وطرده من بلاده بشتى الوسائل؛ ولحمتها النهم السياسي والطمع الشخصي لبعض أفراد الصهيونية.

           وأمّا استناد اليهود إلى تصريح بلفور، فإن التصريح بحدّ ذاته جاء جوراً وظلماً على بلاد آمنة مطمئنة، وقد أُعطي من قبل حكومة لم تكن تملك يوم إعطائه حق فرضه على فلسطين، كما أن عرب فلسطين لم يؤخذ رأيهم فيه، ولا في نظام الانتداب الذي فرض عليهم، كما صرح بذلك ملكولم ماكدونالد وزير المستعمرات البريطانية أيضاً، وذلك برغم الوعود التي بذلها الحلفاء ـ وبينهم أميركا، لهم، بحق تقرير المصير، ومن المهم أن نذكر أن وعد بلفور كان مسبوقاً بوعد آخر من الحكومة البريطانية بمعرفة الحلفاء بحق العرب في فلسطين وفي غيرها من بلاد العرب.

           ومن ذلك يتبين لفخامتكم أن حجة اليهود التاريخية باطلة، ولا يمكن اعتبارها، وحجتهم من الوجهة الإنسانية، قد قامت فيها فلسطين بما لم يقم به بلد آخر، ووعد بلفور الذي يستندون إليه، مخالف للحق والعدل، ومخالف لمبدأ تقرير المصير، والمطامع الصهيونية تجعل العرب في جميع الأقطار يوجسون منها خيفة وتدعوهم لمقاومتها.

           أمّا حقوق العرب في فلسطين، فإنها لا تقبل المجادلة، لأن فلسطين بلادهم منذ أقدم الأزمنة، وهم لم يخرجوا منها، كما إن غيرهم لم يخرجهم منها، وقد كانت من الأماكن التي ازدهرت فيها المدنية العربية ازدهاراً يدعو إلى الإعجاب، ولذلك فهي عربية عرفاً ولساناً وموقعاً وثقافة، وليس في ذلك أية شبهة أو غموض، وتاريخ العرب في تلك البلاد مملوء بأحكام العدل والأعمال النافعة.

           ولمّا جاءت الحرب العامة، انضمّ العرب إلى صفّ الحلفاء، أملاً في الحصول على استقلالهم، وقد كانوا على ثقة تامة من أنهم سينالونه، بعد الحرب العامة للأسباب الآتية:

  1. لأنهم اشتركوا بالفعل في الحرب، وضحوا فيها بأموالهم وأنفسهم.
  2. لأنهم وُعدوا بذلك من قبل الحكومة البريطانية في المراسلات التي دارت بين ممثلها السر هنري مكماهون وبين الشريف حسين.
  3. لأن سلفكم العظيم الرئيس ولسون، قرر دخول الولايات المتحدة الأميركية في الحرب إلى جانب الحلفاء، نصرة للمبادئ الإنسانية السامية التي كان من أهمها حق تقرير المصير.
  4. لأن الحلفاء صرحوا في نوفمبر سنة 1918 عقب احتلالهم البلاد، أنهم دخلوها لتحريرها وإعطاء أهلها حريتهم واستقلالهم.

           وإذا رجعتم فخامتكم إلى التقرير الذي قدمته لجنة التحقيق التي أرسلها سلفكم الرئيس ولسون عام 1919 إلى الشرق الأدنى، لعلمتم المطالب التي طلبها العرب في فلسطين وسورية، حينما سُئلوا عن المصير الذي يطلبونه لأنفسهم.

           ولكن العرب ـ لسوء الحظ ـ وجدوا أنفسهم بعد الحرب أنهم قد خُذلوا وأن الأماني التي وعدوا بها لم تتحقق. وقد جزئت بلادهم، وقسمت تقسيماً جائراً، وأوجدت لهذه الأقسام حدود مصطنعة لا تبررها عوامل جغرافية، ولا جنسية، ولا دينية، وعلاوة على ذلك وجدوا أنفسهم أمام خطر أعظم، هو خطر غزو الصهيونية لهم، واستملاكها لبقعة من أهم بقاعهم.

           ولقد احتجّ العرب بشدة، عندما علموا بتصريح بلفور، واحتجوا على نظام الانتداب، وأعلنوا رفضهم له، وعدم قبولهم به، منذ اليوم الأول، وقد كان تدفق مهاجري اليهود، من الآفاق المختلفة، إلى فلسطين؛ مدعاة لتخوف العرب على مصيرهم وعلى حياتهم، فحدثت في فلسطين ثورات وفتن متعددة سنة 1920 و1921 و1929 وكان أهم تلك الثورات ثورة عام 1936 التي لا تزال نارها مستعرة حتى هذه الساعة.

           إن عرب فلسطين ـ يا فخامة الرئيس ـ ومن ورائهم سائر العرب، وسائر العالم الإسلامي، يطالبون بحقهم ويدافعون عن بلادهم ضد دخلاء عنهم وعنها، ومن المستحيل إقرار السلام في فلسطين إذا لم ينل العرب حقوقهم ويتأكدوا أن بلادهم لن تُعطَى إلى شعب غريب أفاق تختلف مبادؤه وأغراضه وأخلاقه عنهم كل الاختلاف، ولذلك فإنا نهيب بفخامتكم، ونناشدكم باسم العدل والحرية ونصرة الشعوب الضعيفة التي اشتهرت بها الأمة الأميركية النبيلة، أن تتكرموا بالنظر في قضية عرب فلسطين، وأن تكونوا نصراء للآمن المطمئن الهادئ المعتدى عليه من قبَل تلك الجماعات المشردة من سائر أنحاء العالم، لأنه ليس من العدل أن يُطرد اليهود من جميع أنحاء العالم المتمدن، وأن تتحمل فلسطين الضيقة المغلوبة على أمرها هذا الشعب برمته. ولا نشك في أن المبادئ السامية التي يتحلى بها الشعب الأميركي ستجعله يذعن للحق ويقدم لنصرة العدل والإنصاف.

           حُرر في قصرنا بالرياض، في اليوم السابع من شهر شوال سنة سبع وخمسين بعد الثلاثمائة والألف هجرية، الموافق تسعة وعشرين نوفمبر سنة ثمان وثلاثين بعد التسعمائة والألف ميلادية.

------------------------


(*) أحمد عبدالغفور عطار، "صقر الجزيرة"، مج 2، ج 6، ص 1250 ـ 1255.