إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

 



الملحق الرقم (49)

رسالة من الملك عبدالعزيز
إلى رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل(*)

بسم الله الرحمن الرحيم

(في 26 ربيع الأول 1364هـ / 10 مارس 1945م)

من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود ملك المملكة العربية السعودية.

إلى حضرة صاحب الفخامة المستر تشرشل رئيس الوزارة البريطانية.

يا صاحب الفخامة

           إنها لفرصة سعيدة أنتهزها لأشاطركم السرور في انتصار المبادئ التي أُعلنت الحرب من أجل نصرتها، ولأذكر الشخصيات العظيمة التي بيدها ـ بعد الله ـ تصريف مقاليد نظام العالم، بحق صريح قائم منذ عرف التاريخ، ويراد الآن القضاء على هذا الحق بظلم لم يسجل له التاريخ مثيلاً ولا نظيراً. ذلك هو حق العرب في فلسطين، الذي يريد دعاة الصهيونية غمطه وإزالته بشتى وسائلهم التي اخترعوها وبيتوها، وعملوا لها في أنحاء العالم، بالدعايات الكاذبة، وعملوا في فلسطين من المظالم، وأعدوا للعدوان على العرب ما أعدوا، مما علم بعضه الناس، وبقي الكثير منه تحت طيّ الخفاء. وهم يُعدون العدة، لخلق شكل نازي فاشيستي، بين سمع الديمقراطية وبصرها، في وسط بلاد العرب، بل في قلب بلاد العرب، وفي قلب الشرق الذي أخلص العمل لقضية الحلفاء في هذه الظروف الحرجة.

           إن حق الحياة لكل شعب، في موطنه الذي يعيش فيه، حق طبيعي ضمته الحقوق الطبيعية وأقرته المبادئ الإنسانية التي أعلنها الحلفاء في ميثاق الأطلانطيق وفي مناسبات متعددة.

           والحق الطبيعي للعرب في فلسطين، لا يحتاج إلى بينات. فقد ذكرت غير مرة لفخامتكم وللحكومة الأميركية، في عدة مناسبات، أن العرب هم سكان فلسطين من أقدم عصور التاريخ، وكانوا سادتها والأكثرية الساحقة فيها، في كل العصور. وإننا نشير إشارة موجزة إلى هذا التاريخ القديم والحديث لفلسطين، حتى اليوم؛ ليتبين أن دعوى الصهيونية في فلسطين لا تقوم على أساس تاريخي صحيح.

           يبتدي تاريخ فلسطين المعروف من سنة 3500 قبل الميلاد. وأول من توطن فيها الكنعانيون. وهم قبيلة عربية، نزحت من جزيرة العرب. وكانت مساكنهم الأولى في منخفضات الأرض، ولذلك سموا كنعانيين. وفي سنة 2000 قبل الميلاد هاجر من العراق (أور الكلدانيين) بقيادة النبي إبراهيم، فريق من اليهود أقاموا في فلسطين، ثم هاجروا إلى مصر، بسبب المجاعات، حيث استعبدهم الفراعنة. وقد ظل اليهود مشردين فيها إلى أن أنقذهم النبي موسى من غربتهم، وعاد بهم إلى أرض كنعان، عن طريق الجنوب الشرقي، في زمن رمسيس الثاني سنة 1250 ـ أو ابنه منفتاح سنة 1225 ـ قبل الميلاد.

           وإذا سلمنا بنص التوراة، نجد أن قائد اليهود الذي فتح فلسطين، كان يشوع بن نون، وهو الذي عبر بجيشه واحتل مدينة أريحا من الكنعانيين، بقوة شديدة، ووحشية يدل عليها قوله لجيشه: "حرقوا كل ما في المدينة، واقتلوا كل رجل وامرأة، وكل طفل وشيخ، حتى البقر والغنم، بحد السيف، وأحرقوا المدينة بالنار، مع كل ما فيها". ( يشوع 6 ـ 21 ـ 24). وقد انقسم اليهود بعد ذلك إلى مملكتين: مملكة إسرائيل، وقصبتها السامرة (في نابلس) وقد دامت 250 سنة، ثم سقطت في يد شلمناصر ملك آشور سنة 722 قبل الميلاد، وسبى شعبها إلى مملكته. ثم مملكة يهوذا، وقصبتها أورشليم (القدس) وقد دامت 130 سنة بعد انقراض مملكة إسرائيل، ثم أُبيدت، على يد نبوخذ نصر ملك بابل، الذي أحرق المدينة والهيكل بالنار وسبى الشعب إلى بابل سنة 580 قبل الميلاد.

           ودام السبي البابلي مدة 70 سنة. ثم رجع اليهود إلى فلسطين بأمر قورش ملك الفرس. وتلا ذلك الفتح اليوناني، بقيادة إسكندر المقدوني، سنة 332 ق.م. ودام حكمه في فلسطين مدة 272 سنة. وجاء بعده الفتح الروماني سنة 63 ق.م، بقيادة بومبي، ودام حكم الرومان في فلسطين 700 سنة. وفي سنة 637 ميلادية، احتل العرب فلسطين. ودام حكمهم فيها 880 سنة متواصلة. وكانت وصية الخليفة للفاتح كما يأتي: "لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً، ولا تعقروا نخلاً أو تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً. وسوف تمرون بأناس قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له اهـ"
وقد ذكر هذا ابن الأثير المؤرخ المشهور.

           ثم انتقل الحكم في فلسطين إلى الأتراك سنة 1517 ميلادية في زمن السلطان سليم الأول. وظلت فلسطين في حوزتهم 400 سنة. وكان العرب سكانها. وكانوا شركاء مع الأتراك في حكمها وإدارتها. وفي سنة 1918م، احتلها البريطانيون ولا يزالون فيها إلى الآن.

ذلك تاريخ فلسطين العربية. يدل على أن العرب أول سكانها، سكنوها منذ ثلاثة آلاف وخمسمئة سنة قبل الميلاد، واستمر سكنهم فيها بعد الميلاد إلى اليوم. وحكموها وحدهم ومع الأتراك ألفاً وثلاثمئة سنة تقريباً. أما اليهود فلم تتجاوز مدة حكمهم المتقطع فيها 380 سنة، وكلها إقامات متفرقة مشوشة. ومن سنة 332 قبل الميلاد، لم يكن لليهود في فلسطين أي نفوذ أو حكم إلى أن دخلت القوات البريطانية فلسطين سنة 1918 ومعنى ذلك أن اليهود منذ 2200 سنة لم يكن لهم في فلسطين عدد ولا نفوذ. ولما دخل البريطانيون في فلسطين، لم يكن عدد اليهود فيها يزيد على 80 ألفاً، كانوا يعيشون في رغد وهناء ورخاء مع سكان البلاد الأصليين من العرب. ولذلك فاليهود لم يكونوا إلا دخلاء على فلسطين في حقبة من الزمن ثم أخرجوا منها منذ أكثر من ألفي سنة.

           أمّا الحقوق الثابتة للعرب في فلسطين، فتستند:

  1. إلى حق الاستيطان الذي استمرت مدته منذ سنة 3500 قبل الميلاد، ولم يخرجوا منها في يوم من الأيام.
  2. إلى الحق الطبيعي في الحياة.
  3. لوجود بلادهم المقدسة فيها.
  4. ليس العرب دخلاء على فلسطين، ولا يراد جلب أحد منهم من أطراف المعمورة لإسكانهم فيها.

           أمّا اليهود، فإن دعواهم التاريخية إنما هي مغالطة. وحكمهم القصير في فترات متقطعة، كما ذكرنا، لا يعطيهم أي حق في ادعائهم أنهم أصحاب البلاد، لأن احتلال بلد ما ثم الخروج منه، لا يخول أي شعب ادعاء ملكية ذلك البلد والمطالبة به. وتاريخ العالم مملوء بمثل هذه الأمثال.

           إن حل قضية اليهود المضطهدين في العالم، يختلف عن قضية الصهيونية الجائرة. فإن إيجاد أماكن لليهود المشتتين، يمكن أن يتعاون عليه جميع العالم؛ وفلسطين قد تحملت قسطاً فوق طاقتها. وأما نقل هؤلاء المشتتين ووضعهم في بلاد آهلة بسكانها والقضاء على أهلها الأصليين، فأمر لا مثيل له في التاريخ البشري.

           وإنّا نوضح بصراحة، أن مساعدة الصهيونية في فلسطين، ليست خطراً يهدد فلسطين فحسب، بل هي خطر يهدد سائر البلاد العربية. وقد أقام الصهيونيون الحجة على ما ينوونه في فلسطين وفي سائر البلاد المجاورة؛ فقاموا بتشكيلات عسكرية سرية خطيرة؛ ومن الخطأ أن يقال إن هذا عمل شرذمة متطرفة منهم، وأن ذلك قوبل باستنكار من جمعياتهم وهيآتهم. وإنا نقول إن أعمال الصهيونيين في فلسطين وفي خارجها، صادرة عن برنامج متفق عليه، ومرضيّ عنه من سائر اليهودية الصهيونية. وقد بدأ هؤلاء أعمالهم المنكرة في الإساءة إلى الحكومة التي أحسنت إليهم وآوتهم، وهي الحكومة البريطانية؛ فأعلنت جمعياتهم الحرب على بريطانيا، وأسست لذلك تشكيلات عسكرية خطيرة، تملك في فلسطين في الوقت الحاضر، كل ما تحتاج إليه من الأسلحة والمعدات الحربية. ثم قام أفرادها بشتى الاعتداءات. وكان من أفظعها الاعتداء على الرجل الفذ الذي كان ممتلئاً بالحب والخير لصالح المجتمع، وكان من أشد من يعطف على اليهودية المضطهدة، وهو اللورد موين. ومما يدل على أن فعلتهم المنكرة، كانت مؤيدة من جميع اليهود، المظاهر والمساعي التي قام بها رجال الصهيونية في كل مكان، في طلب تخفيف العقوبة عن المجرمين، ليجرئوا غيرهم على أمثالها.

           فهذه أفعالهم مع الحكومة التي أحسنت إليهم كل الإحسان، فكيف يكون الحال لو مُكنوا من أغراضهم، وأصبحت فلسطين بلدة خالصة لهم، يفعلون فيها وفي جوارها، ما يريدون؟

           ولو ترك الأمر، بين العرب وهؤلاء المعتدين، ربما هان الأمر، ولكنهم محميون من قبل الحكومة البريطانية صديقة العرب. فاليهودية الصهيونية، لم تراع حرمة هذه الحماية بل قامت بتدبير حبائل من الشرور، بدأتها ببريطانيا. وأنذرت العرب بعد بريطانيا، بمثلها وأشد منها. فإذا كانت الحكومات المتحالفة التي تُشعر العرب بصداقتها، تريد أن تشعل نار الحرب والدماء، بين العرب واليهودية؛ فإن تأييد الصهيونية سيوصل إلى هذه النتائج. وإن أخشى ما أخشاه هو:

  1. أنهم سيقومون بسلسلة من المذابح بينهم وبين العرب.
  2. ستكون اليهودية الصهيونية، من أكبر العوامل في إفساد ما بين العرب والحلفاء. وأقرب دليل على ذلك، قضية اليهوديين في مقتل اللورد موين، في مصر. فقد قدر اليهود أن يخفى فاعلوا الجريمة، فيقع الخلاف بين الحكومة البريطانية ومصر.
  3. أن مطامع اليهود ليست في فلسطين وحدها؛ فإن ما أعدوا من العدة يدل على أنهم ينوون العدوان، على ما جاورها من البلدان العربية.
  4. لو تصورنا استقلال اليهود، في مكان ما، في فلسطين؛ فما الذي يمنعهم من الاتفاق مع أية جهة قد تكون معادية للحلفاء، ومعادية للعرب، وهم قد بدأوا بعدوانهم على بريطانيا بينما هم تحت حمايتها ورحمتها.

           لا شك في أن هذه أمور ينبغي أخذها بعين الاعتبار، في إقرار السلم في العالم، عندما ينظر في قضية فلسطين. ففضلاً عن أن حشد اليهود في فلسطين لا يستند إلى حجة تاريخية، ولا إلى حق طبيعي، وأنه ظلم مطلق؛ فهو في نفس الوقت يشكل خطراً على السلم وعلى العرب وعلى الشرق الأوسط.

           وصفوة القول، إن تكوين دولة يهودية بفلسطين، سيكون ضربة قاضية لكيان العرب، ومهدداً للسلم باستمرار، لأنه لا بد وأن يسود الاضطراب بين اليهود والعرب. فإذا نفذ صبر العرب يوماً من الأيام، ويئسوا من مستقبلهم فإنهم يضطرون للدفاع عن أنفسهم وعلى أجيالهم المقبلة، إزاء هذا العدوان. وهذا بلا شك، لم يخطر على بال الحلفاء العاملين على سيادة السلم واحترام الحقوق. ولا نشك بأنهم لا يرضون بهذه الحال المقلقة المهددة لسلام الشرق الأوسط.

           ما كنت أريد في هذا المعترك العظيم، أن أشغل فخامتكم ورجال حكومتكم العاملين في هذه الحرب العظيمة، بهذا الموضوع؛ وكنت أفضل ـ وأنا واثق من إنصاف العرب من قبل دول الحلفاء ـ أن يستمر سكوت العرب إلى نهاية الحرب، لولا ما نراه من قيام هذه الفئة الصهيونية اليهودية، بكل عمل مثير مزعج؛ غير مقدرين الظروف الحربية ومشاغل الحلفاء حق قدرها؛ عاملين للتأثير على الحلفاء بكل أنواع الضغط، ليحملوهم على اتخاذ خطة ضد العرب، تختلف عما أعلنه الحلفاء من مبادئ الحق والعدل.

           لذلك أردت بيان حق العرب في فلسطين، على حقيقته؛ لدحض الحجج الواهية التي تدعيها هذه الشرذمة من اليهودية الصهيونية، دفعاً لعدوانهم، وبياناً للحقائق، حتى يكون الحلفاء على علم كامل بحق العرب في بلادهم، وبلاد آبائهم وأجدادهم، فلا يسمح لليهود أن ينتهزوا فرصة سكوت العرب ورغبتهم في عدم التشويش على الحلفاء، في الظروف الحاضرة، فيأخذوا من الحلفاء ما لا حق لهم فيه.

           وكل ما نرجوه، هو أن يكون الحلفاء على علم بحق العرب، ليمنع ذلك تقدم اليهود في أي أمر جديد يُعتبر خطراً على العرب وعلى مستقبلهم، في سائر أوطانهم، ويكون العرب مطمئنين إلى العدل والإنصاف في أوطانهم.

  وتفضلوا بقبول فائق احتراماتي.

                                             (عبدالعزيز آل سعود)

------------------------


(*) خير الدين الزركلي، "شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز"، ص 1189 ـ 1195.