إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

 



كلمة الأمير سعود في المدينة المنورة
(أم القرى العدد 1442 في 24 ربيع الأول 1372 الموافق 12 ديسمبر 1952)

إخواني الكرام:
          
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أحييكم، وأؤكد لكم أني سعيد جداً بلقائكم، وأود أن أستهل كلمتي هذه بحمد الله تعالى على ما يسر لي من تحقيق حلم ظل يراودني أعواماً بشد الرحال إلى هذه البلدة المنورة:

أولاً:

لزيارة مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذلك الرسول الكريم الذي هاجر إليها؛ لينشر بين الناس تعاليم الإسلام الهادي للخير، والمكافح للشر، وليبعث في نفوسهم روح التآلف والتوادد والتعاون فيما بينهم؛ لينالوا العز والسعادة في دينهم ودنياهم.

ثانياً:

لتفقد شؤونكم والتحدث إليكم، ولأتحقق بنفسي ما تحتاجه هذه البلدة المقدسة من أعمال نافعة، وترقية حالة أبنائها المادية والمعنوية، وتوفير كل ما هو ضروري لرفع مستواهم.

          ولهذا فقد رأيتوني رجحت السير لهذه المدينة المباركة على الطريق البري رغم ما فيه من نصب وتعب؛ لأني أحس في نفسي أن الاتصال المباشر بالشعب يأتي بالفوائد الجمة، ويمهد للتجاوب الطبيعي بينه وبين ولاة الأمور، ويمكن من تقوية روابط المحبة والثقة، فضلاً عن أنه ينمي الأفكار الإصلاحية، ويعطيها حقها من الاهتمام والرعاية، وإني لمغتبط أشد الاغتباط لما لاقيته منذ دخولنا حدود هذه البلدة المقدسة من أبنائها: حضرهم وبدوهم من حفاوات زاخرة، تضطرم حماسة وطنية، واستقبالات حارة، تفيض شعوراً حياً، بعيدة عن التصنع والرياء، كما أنه لتغمرني موجة من التقدير والإعجاب بتلك الخطب، وتلك القصائد المملوءة عواطف كريمة، وإخلاصاً فياضاً، تبعث على البشر والسرور، وإني لأشكر لكم ولهم ذلك الشعور، وتلك الحفاوات، التي أكنَّت روعتها أحاسيس الجماهير المخلصة، وقد خلد ذلك في قلبي أثراً بليغاً، وذكرى جميلة لا تنسى، ولا أغالي إذا قلت لكم إن ما يخلتج بين جنبات قلبي من إحساس فياض بالحب لبلدتكم، والخير لكم، وما يجيش في نفسي من عواطف التقدير لحفاوتكم الشعبية، لا يقل عن شعور ولائكم وإخلاصكم، بل يزيده أضعافاً مضاعفة، وسأبذل قصارى جهدي أن لا أبقي هذا الحب والتقدير محصوراً في دائرة العواطف والشعور، بل أواصل العهد لإخراجه إلى حيز العمل والوجود، وقد الْتَفتُّ كثيراً لخطب خطبائكم، وقصائد شعرائكم، وأصغيت لما عبروا به من أماني وطنية، وآمال قومية، وكم يسرني أن أصارحكم بأن أغراضنا التقت في نقطة واحدة، وأهدافنا تجمعت في غاية واحدة، ألا وهي الإعمار والإصلاح، هذا وإني لمست بنفسي الحالة التي تعيشون فيها، وأحطت عن كثب بما يعوز البلاد من رقي وعمار، يعود عليكم بالنفع العام، إن شاء الله.

إخواني:
          
كلما أمعنت النظر في حالة المجتمع، وتعمقت في دراسة ما يعانيه أبناؤه، ازددت يقيناً بأن أشد العلل فتكاً هو الفقر؛ حيث تتولد منه العلل الأخرى كالمرض والجهل؛ وحسبنا دليلاً على ذلك إن الفقير يحول فقره بينه وبين ما يبتغيه من تداوٍ لمرضه، ومن تعلم لعلمه، أو فن يرفعه، فلذلك ما زلت، ولن أزال، أهتم قبل كل شيء بمعالجة هذا الداء الوبيل، ولا بد أنكم أطلعتم أنني قمت، وأنا عندكم، بتدابير سريعة في هذا الشأن؛ لتخفيف الوطأة، وإنعاش المؤسسات العلمية، وقمت في الوقت نفسه بتأليف لجنة من ذوي الخبرة بشأن بلدتكم؛ لنضع ما تحتاجه من مشاريع عمرانية، وخطط إصلاحية ترمي إلى مكافحة كل علة تنخر في جسم البلاد، وتؤدي بأبنائهم إلى الإضرار بحالتهم الصحية والمعيشية والاجتماعية من جهة، وتجلب لهم الرخاء والرفاهية من جميع النواحي الحيوية من جهة أخرى، إذ إني أعني في برامج ثابتة ليضمن تنفيذها في مدى معين، وإني لقوي الأمل أن دراستي حالة البلاد ستكون بدء صفحة جديدة مليئة باليمن والخير للشعب بمشيئة الله تعالى، وبإرشاد مولاي صاحب الجلالة الملك المعظم حرسه الله.

          وإنه لمما يسعدني أن أشاهد جميع إخواني بهذه البلاد ينظرون إلى المستقبل بنظرة باسمة، ملؤها الثقة والطمأنينة، وأراهم على حق؛ إذ ليس بيننا وبين تحقيق أغراضنا وأهدافنا كاملة سوى صدق العزيمة، والإخلاص في العمل، وهذا متيسر، إن شاء الله، غير أنه يجب أن لا يغرب عن البال أن أمر الإعمار والإصلاح ـ وبعبارة أخرى ـ إن الواجب الملقى على عاتقنا لصالح الوطن وبنيه لكبير جداً، يتطلب عملاً متواصلاً، ووقتاً غير قصير، فعليكم إذاً أن تتدرعوا بالصبر، ويهون هذا عليكم إذا رأيتم أن سفينة الإعمار والإصلاح سائرة في طريقها، مقتحمة كل موجة تطفو عليها حتى تصل، إن شاء الله، إلى ساحل الأمان، متوجة بإكليل النجاح والتوفيق؛ وتأكدوا أننا جادون فعلاً في القيام بعمل كل شيء يفيد الشعب ويرفعه.

إخواني:
          
أحب بهذه المناسبة أن استودعكم الله تعالى؛ حيث قررت مغادرة هذه البلدة المقدسة في القريب، مكرراً شكري وامتناني العظيم لجمعكم على عواطفكم النبيلة، وحفاوتكم الشائقة، ولو كانت ظروف العمل في الجهات الأخرى من البلاد تساعدني لقضيت في هذه البلدة الطيبة أطول وقت؛ لأني أشعر في قدسيتها أنها رمز للشعور الوطني أيضاً، والولاء الصادق، وأحب أن أشكر أيضاً وفد مكة المكرمة الذي قدم إلى المدينة لتوديعي باسم أهالي مكة، الذين أبوا إلا أن يتبعوني ولاءَهم وإخلاصهم إلى هنا، فلهم ولبقية الوفود الأخرى من مختلف جهات بلادنا تقديري، وشكري، وامتناني الصادق من كل قلبي، وختاماً أرجو الله، تعالى، أن يوفقنا جميعاً لأداء الواجب في سبيل تقويم أحكام الدين الإسلامي المتين، وتعزيز الوطن المحبوب تحت ظل جلالة الملك المعظم، أيده الله، وأبقاه ذخراً للبلاد والعروبة والإسلام، والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته".