إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

 



تابع الملحق الرقم (5)

هـ . رسالة من الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد

إلى سليمان باشا والي الشام(*)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

من سعود بن عبدالعزيز إلى سليمان باشا.

أما بعد.. فقد وصل إلينا كتابكم، وفهمنا ما تضمنه خطابكم، وما ذكرتم من أن كتابنا المرسل إلى يوسف باشا، على غير ما أمر الله به ورسوله من الخطاب للمسلمين بمخاطبة الكفار والمشركين، وأن هذا حال الضالين، وأسوة الجاهلين، كما قال تعالى:سورة آل عمران، الآية: 7 فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ .

فنقول في الجواب عن ذلك بأننا متبعون ما أمر الله به رسوله، وعباده المؤمنين، بقوله تعالى:سورة النحل، الآية: 125 ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . وقوله تعالى:سورة يوسف، الآية: 108 قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي . وذلك أن الله أوجب علينا النصح لجميع أمة محمد . ومن النصح لهم بيان الحق لهم بتذكير عالمهم، وتعليم جاهلهم، وجهاد مبطلهم، أولاً بالحجة والبيان، وثانياً بالسيف والسنان، حتى يلتزموا دين الله القويم، ويسلكوا صراطه المستقيم، ويبعدوا عن مشابهة أصحاب الجحيم، وذلك أن من تشبه بقوم فهو منهم كما ورد ذلك عن الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وقد قال تعالى في كتابه المبين:سورة آل عمران، الآية: 105 وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . وقال تعالى لهذه الأمة:سورة الروم، الآيتان: 31 ـ 32 مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ . ومن تلبيس إبليس، ومكيدته لكل جاهل خسيس، أن يظن إنما ذم الله به اليهود والنصارى والمشركين لا يتناول من شابههم من هذه الأمة، ويقول إذا استدل عليه بالآيات القرآنية، والآحاديث النبوية، هذه الآيات نزلت في المشركين، نزلت في اليهود، نزلت في النصارى، ولسنا منهم، وهذا من أعظم مكائده وتلبيسه. فإنه فتن بهذه الشبهة كثيراً؟ من الأغبياء والجاهلين، وقد قال بعض السلف: لمن قال له ذلك، مضى القوم وما يعني به غيركم. وقال بعض العلماء: إن مما يحول بين المرء وفهم القرآن، أن يظن إنما ذم الله به اليهود والنصارى والمشركين لا يتناول غيرهم، وإنما هو في قوم كانوا فباونوا، وقد قال الإمام الحافظ سفيان بن عينية، وهو من أتباع التابعين، من فسد من علمائنا، ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه من النصارى. وقد ثبت عن النبي في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب، لسلكتموه قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى قال: فمن؟ وهذا لفظ البخاري، والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:سورة التوبة، الآية: 69 كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . قال: ما أشبه الليلة بالبارحةسورة التوبة، الآية: 69 كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ  هؤلاء بنو إسرائيل، شُبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لد خلتموه فكيف يظن من له أدنى تمسك بالعلم، بعد هذه الأدلة الواضحة، والبراهين القاطعة، أن هذه الأمة لا تشابه اليهود والنصارى، ولا تفعل فعلهم، ولا يتناولهم ما توعد الله به اليهود والنصارى، إذا فعلوا مثل فعلهم. ومن أنكر وقوع الشرك والكفر في هذه الأمة فقد خرق الإجماع، وسلك طريق الغي والابتداع، ولسنا بحمد الله نتبع المتشابه من التنزيل، ولا نخالف ما عليه أئمة السنة من التأويل، فإن الآيات التي استدللنا بها على كفر المشرك وقتاله، هي من الآيات المحكمات في بابها لا من المتشابهات، واختلف أئمة المسلمين في تأويلها، والحكم بظاهرها وتفسيرها، بل هي من الآيات التي لا يعذر أحد من معرفة معناها، وذلك مثل قوله تعالى:سورة النساء، الآية: 48 إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ . وقوله:سورة المائدة، الآية: 72 مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ . وقوله:سورة التوبة، الآية: 5 فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وقوله:سورة الأنفال، الآية: 39 َقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ.

وأما قولكم: فإنا لله الحمد، على الفطرة الإسلامية والاعتقادات الصحيحة، ولم نزل بحمده تعالى عليها، عليها نحيا، وعليها نموت، كما قال تعالى:سورة إبراهيم، الآية: 72 يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ . فظاهرنا وباطننا بتوحيده تعالى في ذاته وصفاته كما بيَّن في محكم كتابه، قال تعالى:سورة النساء، الآية: 36 وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . وقال : أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وقال : بني الإسلام على خمس... الخ. فنقول:

غاض الوفاء وفاض الجور وانفرجت

مسافة الخلف بين القول والعمل

وليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال. فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، أنا مسلم، أنا من أهل السنة والجماعة، وهو من أعداء الإسلام وأهله، منابذ لهم بقوله وفعله، لم يصر بذلك مؤمناً، ولا مسلماً، ولا من أهل السنة والجماعة، ويكون كفره مثل اليهود، فإنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، فإن أصل الإسلام شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومضمون شهادة ألا إله إلا الله، ألا يعبد إلا الله وحده، فلا يدعي إلا هو، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يخاف إلا منه، ولا يرجى إلا هو، كما قال تعالى:سورة الكهف، الآية: 110 فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا . وقال تعالى:سورة الجن، الآية: 18 وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا . وقال تعالى:سورة المائدة، الآية: 23 وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وقال تعالى:سورة التوبة، الآية: 18 إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ .

فكل من دعا مخلوقاً أو استغاث به أو جعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو اقض ديني، أو اشفع لي عند الله في قضاء حاجتي، أو أنا متوكل على الله وعليك، فهو مشرك في عبادة الله غيره، وإن قال بلسانه: لا إله إلا الله، وأنا مسلم. وقد كفَّر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة وقاتلوهم، وغنموا أموالهم، وسبُوا نساءهم، مع إقرارهم بسائر شرائع الإسلام، وذلك لأن أركان الإسلام من حقوق لا إله إلا الله، كما استدل به أبو بكر الصديق، ، على عمر، حين أشكل عليه قتال مانعي الزكاة، حين قال له: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله : أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله؟ فقال أبو بكر: الزكاة من حقها، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق. أخرجاه في الصحيحين وغيرهما من كتب الإسلام.

فكيف بمن كفر بمعنى لا إله إلا الله؟ وصار الشرك وعبادة غير الله هو دينه، وهو المشهور في بلده، ومن أنكر ذلك عليهم، كفَّروه، وبدَّعوه، وقاتلوه، فكيف يكون من هذا فعله مسلماً من أهل السنة والجماعة؟ مع منابذته لدين الإسلام، الذي بعث الله به رسوله من توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، إلى غير ذلك من المجاهرة بالكفر والمعاصي، واستحلال محارم الله ظاهراً. فشعائر الكفر بالله، والشرك به، هي الظاهرة عندكم، مثل: بناء القباب على القبور وإيقاد السرج عليها، وتعليق الستور عليها، وزيارتها بما لم يشرعه الله ورسوله، واتخاذها عيداً، وسؤال أصحابها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، هذا مع تضييع فرائض الله التي أمر الله بإقامتها، من الصلوات الخمس وغيرها، فمن أراد الصلاة، صلى وحده، ومن تركها، لم ينكر عليه، وكذلك الزكاة. وهذا أمر قد شاع، وذاع، وملأ الأسماع في كثير من بلاد الشام والعراق ومصر وغير ذلك من البلدان، وقد حدث ذلك في هذه البلدان كما ذكر العلماء في مصنفاتهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، فمن ذلك ما ذكره أبو الوفاء، ابن عقيل الحنبلي، قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل: تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوايج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركاً، وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عَبَدَ اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبّل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة، يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته، أبو بكر الصديق أو محمد أو علي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجاً، بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر. انتهى.

فانظر إلى هذا الإمام كيف ذكر حدوث الشرك في وقته؟ واشتهاره عند العامة الجهال، وتكفيره لهم بذلك، وهو من أهل القرن الخامس من تلامذة القاضي أبي يعلى الحنبلي، ونقل كلامه هذا غير واحد من أئمة الحنابلة، كأبي الفرج ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس.

وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي: لما ذكر حديث أبي واقد الليثي، ولفظه: قال خرجنا مع رسول الله ، قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط(*)  فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي : الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسىسورة الأعراف، الآية: 138 اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ  لتركبن سنن من كان قبلكم. قال الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها انتهى، فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ آلهة مع الله، مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما ظنك بالعكوف حول القبر، والدعاء به، ودعائه والدعاء عنده، فأي نسبة بالفتنة بشجرة، إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون.

وقال الحافظ أبو محمد عبدالرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة الشافعي في كتابه (الباعث في إنكار البدع والحوادث) ومن هذا القسم أيضاً ما قد عم به الابتلاء؛ من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان، والعمد، وسرج مواضع مخصوصة، من كل بلد يحكي لهم حاك، أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها ويزجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي ما بين عيون، وشجر، وحائط، وحجر، وفي مدينة دمشق، من ذلك مواضع متعددة، كعونية الحمى، خارج باب توما، والعمود المخلق داخل الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة، خارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط، التي في الحديث، ثم ساق حديث أبي واقد الليثي المتقدم، ثم ذكر أنه بلّغه بعض أهل العلم ببلاد أفريقية، أنه كان إلى جانبه عين تسمى، عين العافية، كان العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، فمن تعذر عليه نكاح أو ولد، قال امضوا بي إلى العافية، فتعرف فيها الفتنة، فخرج في السحر، فهدمها، وأذن الصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأساً، قال: فما رفع بها رأس إلى الآن: قال: وأدهى من ذلك وأمرر، إقدامهم على الطريق السابلة، بجيرون، في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية، التي هي من بناء الجن في زمن نبي الله سليمان بن داود، عليهما السلام، أو من بناء ذي القرنين، أو من بناء غيره مما يؤذن بالتقدم على ما نقلناه، في كتاب تاريخ دمشق، وهو الباب الشمالي؛ ذكر لهم بعض من لا يوثق به، في شهور سنة ست وثلاثين وستمائة، أنه رأى مناماً يقتضي أن ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت، وقد أخبرني عنه ثقة، أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله مسجداً مغصوباً، وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج؛ على من دخل ومن خرج، ضاعف الله نكال من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه، وإزالة اعتدائه، اتباعاً لسنة رسول الله في هدم مسجد الضرار. انتهى كلامه. فانظر إلى كلام هؤلاء الأئمة وما حدث في زمانهم من الشرك، وأنه قد عم الابتلاء به في وقتهم، ومعلوم أنه لا يأتي زمان إلا وا لذي بعده شر منه، وتأمل كلامه في تخصيصه دمشق بما حدث فيها من الشرك والأوثان، وتمنّية إزالة ذلك وهي بلده ومستوطنه.

وقال ابن القيم، رحمه الله، في كتابه إغاثة اللهفان: ومن أعظم مكائده ـ التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله فتنته ـ ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها، ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل؛ ثم جعلت أصناماً، وعبدت مع الله. وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح، وأطال الكلام في ذلك ـ إلى أن قال: وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين؛ كالعمود المخلق، والنصب الذي كان بمسجد النارنج، عند المصلى، يعبده الجهال، والنصب الذي كان تحته الطاحون، الذي عنده مقابر النصارى، ينتابه الناس للتبرك، وكان صورة صنم في نهر القلوط، ينذرون له، ويتبركون به، وقطع الله سبحانه المسجد، الذي عند الرحبة، يسرج عنده؛ ويتبرك به المشركون، وكان عموداً طويلاً على رأسه حجرة كالكرة، وعند مسجد درب الحجر، نصب قد بني عليه مسجد صغير، يعبده المشركون، يسر الله كسره، فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر، أي تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه، ولهذا أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذي أمر الله أن يتخذ مصلى، كما ذكره الأزرقي في كتاب مكة، عن قتادة. في قوله تعالى:سورة البقرة، الآية: 125 وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى قال إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يأمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم، ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق(*) انتهى.

وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه المشهور بـ (زاد المعاد في هدي خير العباد)، لما ذكر غزوة الطائف، وقدوم وفدهم على رسول الله وأنهم سألوه أشياء، وكان فيما سألوه: أن يدعو لهم اللات ثلاث سنين لا يهدمها، واعتذروا أن مرادهم بذلك أن لا يروعوا نساءهم وسفهاءهم، فأبى عليهم رسول الله فما برحوا يسألونه سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً بعد قدومهم فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى. قال: لما ذكر فوائد القصة، ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهكذا حكم المَشَاهِد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثاناً وطواغيت، تُعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وأعظم شركاً عندها وبها، والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق، أو ترزق، أو تحيي، أو تميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلَّت العلماء، وغلبت السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. ومنها جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت، في الجهاد ومصالح المسلمين، فيجوز للإمام بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت، التي تساق إليها، ويصرفها على الجند والمقاتلة ومصالح المسلمين، كما أخذ النبي أموال اللات وأعطاها لأبي سفيان يتألفه بها، وقضى منها دين عروة والأسود، وكذا يجب عليه هدم هذه المشاهد، التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً، ول ه أن يُقْطِعها للمقاتلة أو يبيعها ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين. وكذا الحكم في أوقافها، فإن وقفها، والوقف عليها باطل، وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين. فإن الوقف لا يصحُّ إلا في قربة، وطاعة الله ورسوله، فلا يصح الوقف على مشهد، ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر له، ويحج إليه، ويعبد من دون الله، ويتخذ إلهاً من دونه، وهذا لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام، ومن اتبع سبيلهم.

وقال الشيخ قاسم في (شرح درر البحار)، وهو من أئمة الحنفية: النذر الذي يقع من أكثر العوام، يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلاً: يا سيدي، فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب أو الطعام أو الشمع كذا، باطل إجماعاً لوجوه: منها أن النذر للمخلوق لا يجوز، ومنها أن ذلك كفر ـ إلى أن قال ـ وقد ابتلى الناس بذلك لا سيما في مولد أحمد البدوي. انتهى كلامه.

وقال الأذرعي في (قوت المحتاج شرح المنهاج)، وهو من أئمة الشافعية: وأما النذر للمشاهد، التي بنيت على قبر ولي أو شيخ، أو على اسم من حلها من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة من الأنبياء والصالحين، فإن قصد الناذر بذلك ـ وهو الغالب أو الواقع من مقصود العامة ـ تعظيم البقعة والمشهد والزاوية، أو تعظيم من دفن بها، ممن ذكرنا، أو نسبت إليه، أو بنيت على اسمه، فهذا النذر باطل غير منعقد. فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات بأنفسها، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء، ويستجلب به النعماء، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء، حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل إنه جلس إليها أو استند إليها عبد صالح. وينذرون لبعض القبور السرج، والشموع، والزيت، ويقولون: القبر الفلاني والمكان الفلاني يقبل النذر، ويعنون بذلك أنه يحصل بالنذر له الغرض المأمول من شفاء مريض، وقدوم غائب، أو سلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة. فهذا النذر على هذا الوجه، باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقاً، من ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة لقبر الخليل ، ولقبر غيره من الأنبياء، والأولياء، فإن الناذر لا يقصد بذلك إلا الإيقاد على القبر تبركاً وتعظيماً، ظاناً أن ذلك قربة، وأكثر من ينذر ذلك يصرح بمقصوده، فيقول: الله عليَّ كذا من الشمع، مثلاً يوقد عند رأس الخليل، أو على القبر الفلاني أو قبر الشيخ فلان، فهذا مما لا ريب في بطلانه. والإيقاد المذكور محرم سواء انتفع به منتفع هناك أم لا، لأن الناذر لم يقصد ذلك، ولا مرَّ بباله، بل قصده وغرضه ما أشرنا إليه. فهذا الفعل من البدع الفاحشة التي عمَّت بها البلوى، وفيها مضاهاة لليهود والنصارى الذين لُعنوا في الحديث الصحيح على تعاطيهم ذلك على قبور أنبيائهم عليهم السلام. انتهى.

فانظر إلى تصريح هؤلاء الأئمة بأن هذه الأعمال الشركية قد عمَّت بها البلوى، وشاعت في كثير من بلاد الشام، وغيرها، وأن الإسلام قد اشتدت غربته، حتى صار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وأن هذه المشاهد والأبنية، التي على القبور قد كثرت، وكثر الشرك عندها وبها، حتى صار كثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركاً عندها وبها، وهذا مما يبطل قولكم إنكم على الفطرة الإسلامية، والاعتقادات الصحيحة. ويبين أن أكثركم قد فارق ذلك، ونبذه وراء ظهره، وصار دينه الشرك بالله، ودعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات والتمسك بالبدع المحدثات.

وأما قولكم فنحن مسلمون حقاً، وأجمع على ذلك أئمتنا، أئمة المذاهب الأربعة، ومجتهدو الدين والملة المحمدية، فنقول:

قد بيَّنا من كلام الله وكلام رسوله وكلام أتباع الأئمة الأربعة ما يدحض حجتكم الواهية، ويبطل دعواكم الباطلة، وليس كل من ادعى دعوى، صدقها بفعله، فما استغنى فقير بقوله: ألف دينار، وما احترق لسان بقوله: نار. فإن اليهود، أعداء رسول الله ، قالوا لرسول الله، لما دعاهم إلى الإسلام: نحن مسلمون، إلا إن كنت تريد أن نعبدك كما عبدت النصارى المسيح. وقالت النصارى مثل ذلك. وكذلك فرعون قال لقومه:سورة غافر، الآية: 29 مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ ، وقد كذب وافترى في قوله ذلك. وحالكم وحال أئمتكم وسلاطينكم تشهد بكذبكم وافترائكم في ذلك. وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة ـ على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ـ عام اثنين وعشرين، رسالة لسلطانكم سليم، أرسلها ابن عمه إلى رسول الله ، يستغيث به، ويدعوه، ويسأله النصر على الأعداء من النصارى وغيرهم، وفيها من الذلّ والخضوع والعبادة والخشوع ما يشهد بكذبكم. وأولها: من عبدك السلطان سليم وبعد: يا رسول الله، قد نالنا الضر، ونزل بنا من المكروه ما لا نقدر على دفعه، واستولى عبّاد الصلبان على عباد الرحمن، نسألك النصر عليهم، والعون عليهم وأن تكسرهم عنا، وذكر كلاماَ كثيراً هذا معناه وحاصله.

فانظر إلى هذا الشرك العظيم، والكفر بالله الواحد العليم، فما سأله المشركون من آلهتهم، العزى واللات، فإنهم إذا نزلت بهم الشدائد أخلصوا لخالق البريات، فإن كان هذا حال خاصتكم، فما الظن بفعل عامتكم! وقد رأينا من جنس كلام سلطانكم كتباً كثيرة في الحجرة، للعامة والخاصة، فيها من سؤال الحاجات، وتفريج الكربات، ما لا نقدر على ضبطه.

وقد ورد في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره أن النبي أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي. فأهل السنة والجماعة هم أتباع رسول الله ، في كل زمان ومكان، وهم الفرقة الناجية، كالصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، وقد بعث الله جميع رسله بتوحيده، ورفع مناره، وطمس الشرك، ومحو آثاره. ومن أعظم الشرك والضلال، ما وقع في هذه الأمة من البناء على القبور، ومخاطبة أصحابها بقضاء الأمور، وصرف كثير لها من العبادات والنذور، فهذا النبي ، هل تجد في عصره بناء على قبر صالح، أو ولي أو شهيد أو نبي؟ بل نهى عن البناء على القبور، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره، وكذلك أصحابه من بعده فتحوا الشام والعراق وغالب أقطار الأرض، فهل تجدون أحداً منهم، بنى على قبر، أو دعاه، أو استغاث به، أو نذر له، أو ذبح له، أو وقف وقفاً، أو أسرج عليه. بل ثبت عنه النهي عن ذلك، والتغليط فيه، ولعن من فعله، كما ثبت عنه أنه بعث علي بن أبي طالب، ، أن لا يدع تمثالاً إلا طمسه، ولا قبراً مشرفاً، إلا سوّاه. رواه مسلم.

وكذلك لم يكن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، يقول إذا نزلت به ترة، أو عرضت له حاجة، لميت: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقضِ حاجتي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا الصلاة عندها. بل لما قحط الناس في زمان عمر بن الخطاب استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك، إذا أجدبنا بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، فيسقون. فهذا توسل بدعاء النبي ، وشفاعته، في حياته، ولهذا توسلوا بعد وفاته بدعاء العباس، وهذا كله تحقيق لما بعث الله به رسوله من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، الذي هو حقيقة معنى لا إله إلا الله، فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليُعبَد وحده، ولا يدعى معه إله آخر، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة. وقد قال تعالى:سورة النساء، الآية: 171 يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ . وقال تعالى:سورة التوبة، الآية: 31 اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . فاتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً، هو من فعل اليهود والنصارى. وقال غير واحد من العلماء: إن من أسباب الكفر والشرك، الغلوّ في الصالحين ـ كعبد القادر وأمثاله ـ بل الغلو في علي بن أبي طالب، ، بل الغلو في الأنبياء كالمسيح وغيره. فمن غلا في نبي، أو ولي، أو جعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان، أغثني، أو انصرني، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل.

قال ابن القيم، رحمه الله، في (شرح المنازل): ومن أنواع الشرك: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم ـ إلى أن قال ـ وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرَّب بمقتهم إلى الله. قال: وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره.

وأما قولكم: وأما ما اعترينا وما ابتلينا به من الذنوب، فليست أول قارورة كسرت في الإسلام، ولا يخرجنا من دائرة الإسلام، كما زعمت الخوارج من الفرق الضالة الذين عقيدتهم على خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة. فنقول: نحن بحمد الله، لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، وإنما نكفرهم بما نص الله ورسوله، وأجمع عليه علماء الأمة المحمدية، الذين هم لسان صدق في الأمة، إنه كفر، كالشرك في عبادة الله غيره، من دعاء، ونذر، وذبح، وكبغض الدين وأهله، والاستهزاء به. وأما الذنوب كالزنا، والسرقة، وقتل النفس، وشرب الخمر، والظلم، ونحو ذلك، فلا نكفر من فعله إذا كان مؤمناً بالله ورسوله؛ إلا إن فعله مستحلاً له، فما كان من ذلك فيه حد شرعي، أقمناه على من فعله، وإلا عزرنا الفاعل بما يردعه وأمثاله عن ارتكاب المحرمات. وقد جرت المعاصي والكبائر، في زمن رسول الله وأصحابه، ولم يكفروا بها، وهذا مما رد به أهل السنة والجماعة على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، وعلى المعتزلة الذين يحكمون بتخليده في النار. وإن لم يسموه كافراً ويقولون ننزله منزلة بين المنزلتين، فلا نسميه كافراً ولا مؤمناً بل فاسقاً، وينكرون شفاعة رسول الله يوم القيامة، ويقولون: لا يخرج من النار أحد دخلها، بشفاعة ولا غيرها، ونحن بحمد الله برءآء من هذين المذهبين، مذهب الخوارج والمعتزلة، ونثبت شفاعة رسول الله ، وغيره من الأنبياء والصالحين، ولكنها لا تكون إلا لأهل التوحيد خاصة، ولا تكون إلا بإذن الله، كما قال تعالى:سورة الأنبياء، الآية: 28 وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى  وقال:سورة البقرة، الآية: 255 مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ  فذكر في الشفاعة شرطين: أحدهما أنها لا تكون إلا بعد الإذن من الله للشافع، لا كما يظنه المشركون الذين يسألونها من غير الله في الدنيا. وقال تعالى:سورة سبأ، الآيتان: 22 ـ 23 قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ . قال رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآية: وقد قطع الله سبحانه الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها، قطعاً، يعلم من تأمله وعرفه، أن من اتخذ من دون الله ولياً، أو شفيعاً، فمثلهسورة العنكبوت، الآية: 41 كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ . فالمشرك إنما يتخذ معبوده، لما يحصل له به من النفع؟، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه. فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك. فإن لم يكن شريكاً، كان معيناً أو ظهيراً، فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً، كان شفيعاً عنده. فنفى سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً، منتقلاً من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة، التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً ونجاة وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك ومواده، لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثاً. وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم ودونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك. ولكن الأمر، كما قال عمر بن الخطاب : إنما تنتقض عرى الإسلام، عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، أي لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه، وصوبه، وحسنه. وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه، فتنتفض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة. ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد. ويبدع بتجريد متابعة الرسول ، ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة، وقلب حي، يرى ذلك عياناً، وبالله التوفيق انتهى.

وهذا الذي ذكره غير واحد عن أئمة العلم، من تغير الإسلام وغربته، قد أخبر به الصادق المصدق صلوات الله وسلامه عليه، كما ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال: بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ. وفي حديث ثوبان الذي في صحيح مسلم وغيره، ولا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أُمتي الأوثان. وفي حديث العرباض بن سارية أنه قال: إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة ضلالة أخرجه أبو داود وغيره، وفي صحيح البخاري عنه أنه قال: لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة. وهذا الذي تقدم ذكره من كلام أهل العلم، من حدوث الشرك، وغيره من البدع في هذه الأمة، وكثرته هو مصداق ما أخبر به النبي في هذه الأحاديث وغيرها.

وأما قولكم: فكيف التجري بالغفلة على إيقاظ الفتنة بتكفير المسلمين، وأهل القبلة، ومقاتلة قوم يؤمنون بالله واليوم الآخر، واستباحة أموالهم وأعراضهم، وعقر مواشيهم، وحرق أقواتهم، من نواحي الشام.. الخ؟، فنقول: قد قدمنا أننا لا نكفر بالذنوب، وإنما نقاتل ونكفر من أشرك بالله، وجعل لله، نداً يدعوه كما يدعو الله، ويذبح له كما يذبح لله، وينذر له كما ينذر لله، ويخافه كما يخاف الله، ويستغيث به عند الشدائد، وجلب الفوائد، ويقاتل دون الأوثان، والقباب المبنية على القبور، التي اتخذت أوثاناً، تعبد من دون الله. فإن كنتم صادقين في دعواكم أنكم على ملة الإسلام ومتابعة الرسول فاهدموا تلك الأوثان كلها، وسووها بالأرض، وتوبوا إلى الله من جميع الشرك والبدع، وحققوا قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. ومن صرف من أنواع العبادة شيئاً لغير الله، من الأحياء والأموات، فانهوه عن ذلك، وعرفوه أن هذا مناقض لدين الإسلام، ومشابهة لدين عباد الأصنام، فإن لم ينته عن ذلك، إلا بالمقابلة، وجب قتاله، حتى يجعل الدين كله لله، وقوموا على رعاياكم، بالتزام شعائر الإسلام وأركانه من إقام الصلاة جماعة في المساجد، فإن تخلف أحد فأدبوه، وكذلك الزكاة التي فرض الله تؤخذ من الأغنياء، وترد على أهلها، الذين أمر الله بصرفها إليهم. فإذا فعلتم ذلك، فأنتم إخواننا لكم ما لنا وعليكم ما علينا، يحرم علينا دماؤكم، وأموالكم، وأما إن دمتم على حالكم هذه، ولم تتوبوا من الشرك الذي أتم عليه، وتلتزموا دين الله، الذي بعث الله به رسوله، وتتركوا الشرك والبدع والمحدثات، لم نزل نقاتلكم، حتى تراجعوا دين الله القويم، وتسلكوا صراطه المستقيم، كما أمرنا الله بذلك حيث يقول:سورة الأنفال، الآية: 39 وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ  وقال تعالى:سورة التوبة، الآية: 5 فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ  ونسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر أمة محمد ، إلى دينه القويم، ويجنبنا طريق المغضوب عليهم، والضالين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حرر في اليوم الرابع عشر، من شهر ذي القعدة، سنة خمس وعشرين (ومائتين وألف من الهجرة).


(*) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، ج1 ص 287-313.

(*) الأنواط "المعاليق" و "ذات أنواط" اسم شجرة بعينها، انظر الفيروز آبادي "القاموس المحيط" "الرازي" "مختار الصحاح" مادة "نوط".

(*) اخلولق، أي: بَلِيَ.