إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

 



البيان الذي أدلى به السيد نيلسون مانديلا في محاكمته في بريتوريا،
20 نيسان/ أبريل 1964

L.67/115.AC/A 6 أيار/ مايو 1964، وOPI/279، 1967

...

          إن كفاحنا كفاح ضد مشاق حقيقية وليست متخيلة أو باستخدام عبارة المدعي العام، "ما يدعى بالمشاق". ومن الناحية الأساسية، نحن نكافح ضد سمتين تتسم بهما حياة الأفارقة في جنوب أفريقيا وهما راسختان بحكم تشريعات نسعى إلى إلغائها. وهاتان السمتان هما الفقر وانعدام الكرامة الإنسانية ولسنا بحاجة إلى شيوعيين أو ما يسمى "مهيجين" لتعليمنا هذا.

          إن جنوب أفريقيا أغنى بلد في أفريقيا، وربما تكون من أغنى البلدان في العالم، ولكنها أرض المفارقات المتطرفة والتناقضات المشهودة. يتمتع البيض بما قد يكون أعلى مستوى معيشة في العالم، في حين يعيش الأفارقة في فقر وبؤس. ويعيش أربعون في المائة من الأفارقة في محتجزات مكتظة اكتظاظا شديدا ميؤوسا منه وفي بعض الحالات، مصابة بالجفاف حيث يؤدى تآكل التربة الإفراط في استغلالها إلى تعذر العيش بصورة ملائمة على نتاج الأرض. وثلاثون في المائة عمال وعمال مستأجرون ومستقطنون في مزارع البيض ويعملون ويعيشون في أحوال تماثل أحوال أقنان العصور الوسطى. ويعيش الثلاثون في المائة الآخرون في المدن حيث درجوا على عادات اقتصادية واجتماعية تجعلهم أقرب في كثير من النواحي إلى مستويات البيض. ومع ذلك فمعظم الأفارقة، حتى في هذه المجموعة، يعانون من الفقر بسبب انخفاض الدخل وارتفاع تكلف المعيشة.

          ويوجد في جوهانسبرغ القطاع الذي يحصل على أعلى الأجور وينعم بأعلى مستوى من الازدهار في الحياة الأفريقية الحضرية. ومع ذلك يتسم وضعهم الفعلي باليأس. وقد قدم السيد كار، مدير إدارة شؤون غير الأوروبيين في جوهانسبرغ، آخر الأرقام في هذا الشأن في 25 آذار/ مارس 1964. ويبلغ حد الفقر للأسرة الأفريقية المتوسطة في جوهانسبرغ (وحسبما ذكرت إدارة السيد كار) 42.84 راند في الشهر. وأوضح إن متوسط الأجر الشهري 32.24 راند وأن 46 في المائة من جميع الأسر الأفريقية في جوهانسبرغ لا يكسبون ما يكفي لمعيشتهم.

          ويرافق الفقر سوء التغذية والمرض. ومعدل الإصابة بأمراض سواء التغذية ونقص التغذية مرتفع جدا بين الأفارقة. ويتسبب السل والبلاغرا والكواشيوركر والتهاب المعدة والأمعاء والأسقربوط في الوفاة وانهيار الصحة. ومعدل وفيات الرضع من أعلى المعدلات في العالم. ويفيد المسؤول الطبي للصحة لبريتوريا أن السل يقتل أربعين شخصا يوميا (جميعهم أفارقة تقريبا)، وقد تم الإبلاغ عن 58491 حالة جديدة في عام 1961. وهذه الأمراض لا تدمر الأجهزة الحيوية بالجسم فقط، وإنما تؤدى أيضا إلى أحوال التخلف العقلي وفقدان المبادرة وتقليل القدرة على التركيز. وتؤثر النتائج الثانوية لهذه الحالات على المجتمع ككل ومستوى العمل الذي يؤديه العمال الأفارقة.

          بيد أن الأفارقة لا يشتكون فقط من أنهم فقراء والبيض أغنياء، وإنما أيضا من أن القوانين التي وضعها البيض مصممة للحفاظ على هذه الحالة. وهناك سبيلان للإفلات من ربقة الفقر. السبيل الأول عن طريق التعليم النظامي، والسبيل الأول عن طريق التعليم النظامى، والسبيل الثاني عن طريق اكتساب العامل مهارات أكبر في عمله ومن ثم يحصل على أجور أعلى. وبقدر ما يتعلق الأمر بالأفارقة، تقلص التشريعات عمدا من هذين السبيلين نحو التقدم.

          وقد سعت الحكومة الحالية دائما إلى عرقلة مساعي الأفارقة للحصول على التعليم. ومن أوائل الإجراءات التي اتخذتها، بعد وصولها إلى السلطة، وقف الإعانات للتغذية في المدارس الأفريقية. وكان الكثير من الأطفال الأفارقة، الذين ينتظمون بالمدارس، يعتمدون على هذه الوجبات المكلمة لتغذيتهم. وكان هذا عملا قاسيا.

          وهناك تعليم إلزامي لجميع الأطفال البيض ويكاد ذلك لا يكلف آباءهم شيئا، سواء كانوا أغنياء أو فقراء. ولا تقدم تسهيلات مماثلة للأطفال الأفارقة، رغم أن هناك منهم من يحصل على مساعدة من هذا القبيل، إلا أنه يتعين على الأطفال الأفارقة بصورة عامة، دفع مصاريف لدراستهم أعلى مما يدفعه البيض. وتفيد الأرقام التي أوردها معهد جنوب أفريقيا للعلاقات العنصرية في مجلته لعام 1963، أن ما يقرب من 40  في المائة من الأطفال الأفارقة في الفئة العمرية ما بين 7 و14، لا ينتظمون بالدراسة. وبالنسبة لمن ينتظمون بالدراسة، تختلف المستويات اختلافا شاسعا عما يتاح للأطفال البيض. وفي الفترة 1960-1961، بلغ إنفاق الحكومة على الفرد من الطلاب الأفارقة في المدارس التي تعينها الدولة ما يقدر بـ12.46 راند. وفي الفترة نفسها بلغ الإنفاق على الفرد من الأطفال البيض في مقاطعة الكيب (وهي الأرقام الوحيدة المتاحة لي) 144.57 راند. وعلى الرغم من عدم وجود أرقام متاحة لي، يمكن أن يذكر بدون أي شك، أن الأطفال البيض الذين ينفق على الفرد منهم 144.57 راند يأتون جميعا من أسر أغنى من أسر الأطفال الأفارقة الذين ينفق على الفرد منهم 12.46 راند.

          ونوعية التعليم مختلفة أيضا. وتفيد مجلة تعليم البانتو، أن 5660 طفلا أفريقيا فقد في جنوب أفريقيا كلها قد اجتازوا امتحان الشهادة المتوسطة في عام 1962، ولم يحصل على الإجازة العامة سوى 362 طالبا. ومن المفترض أن هذا يتسق مع سياسة تعليم البانتو التي قال رئيس الوزراء الحالي عنها أثناء مناقشة تعليم البانتو في عام 1953 ما يلى:

          "حينما أصبح مشرفا على تعليم الوطنيين الأصليين، سأصلحه بحيث يتعلمون من الطفولة إدراك أن المساواة مع الأوروبيين ليست لهم... ومَن يؤمنون بالمساواة لا يُرغب في أن يكونوا مدرسين للمواطنين الأصليين. وحينما تشرف إدارتي على تعليم المواطنين الأصليين ستعرف لأي فئة من فئات التعليم العالي يصلح المواطن الأصلي، وما إذا كانت ستتاح له فرصة في حياته للاستفادة من معارفه".

          والعقبة الرئيسية الأخرى التي تعترض سبيل النهوض الاقتصادي للأفارقة هي الحاجز اللوني الصناعي الذي تحتجز بموجبه جميع الوظائف الصناعية الأفضل للبيض فقط. وعلاوة على ذلك، لا يُسمح للأفارقة الذين يحصلون على عمل في مهن غير ماهرة وشبه ماهرة تتاح لهم، بتشكيل نقابات، يعترف بها بموجب قانون الوفاق الصناعي. ويعنى هذا أن الإضراب غير قانوني للعمال الأفارقة، وأنهم محرومون من حق المساومة الجماعية الذي يسمح به للعمال البيض الأفضل أجرا. ويتبدى التمييز في سياسة حكومات جنوب أفريقيا المتعاقبة نحو العمال الأفارقة فيما يسمى بـ "سياسة العمال المتحضرين" التي يمكن بموجبها إيجاد وظائف حكومية محمية وغير ماهرة للعمال البيض الذين لا يستطيعون بلوغ مستوى العمل المطلوب في الصناعة، وذلك بأجور تتجاوز بكثير ما يحصل عليه الموظف الأفريقي المتوسط في الصناعة. وكثيرا ما تجيب الحكومة منتقديها بأن تقول إن الأفارقة في جنوب أفريقيا أفضل حالا اقتصاديا من سكان البلدان الأخرى في أفريقيا. ولست أدرى إذا كان هذا صحيحا وأشك في إمكانية إجراء أي مقارنة دون إيلاء الاعتبار للرقم القياسي لتكلفة المعيشة في هذه البلدان. إلا أنه حتى لو كان هذا صحيحا، فهو، بقدر ما يتعلق الأمر بالشعب الأفريقي، غير ذي صلة بالموضوع. إننا لا نشتكى من الفقر بالمقارنة بالناس في بلدان أخرى، وإنما نحن فقراء بالمقارنة بالسكان البيض في بلدنا نحن، ويمنعنا القانون من تقويم هذا الاختلال.

          وتجربة عدم الكرامة الإنسانية للأفارقة تأتى كنتيجة مباشرة لسياسة تفوق البيض. ويستلزم تفوق البيض تدنى منزلة السود. وتجسد التشريعات المصممة للحفاظ على تفوق البيض هذه الفكرة. ويؤدى الأفارقة على الدوام المهام الدنيا في جنوب أفريقيا. وحينما يكون هناك ما يتعين حمله أو تنظيفه يتطلع الرجل الأبيض حوله للبحث عن أفريقي للقيام بذلك بدلا منه، سواء كان الأفريقي يعمل لديه أو لا يعمل. وبسبب هذا... الموقف، ينزع البيض إلى اعتبار الأفارقة من سلالة منفصلة. ولا ينظرون إليهم كأُناس ذوى أسر؛ ولا يدركون أن لهم عواطفهم- وإنهم يحبون كما يحب البيض؛ وإنهم يودون أن يكونوا مع زوجاتهم وأطفالهم مثلما يريد البيض البقاء مع ذويهم؛ وإنهم يريدون كسب ما يكفي من المال لإعالة أسرهم على النحو الصحيح وتغذية أفرادها وتزويدهم بالملابس وإرسالهم إلى المدرسة. وماذا بوسع "صبى المنزل" أو "صبى الحديقة" أو العامل اليدوي أن يأمل كي يحقق هذا؟

          وقوانين تصاريح المرور ، وهي من أكثر ما يمقته الأفارقة من التشريعات في جنوب أفريقيا، تجعل أي أفريقي عرضه لمراقبة الشرطة في أي وقت. وأشك فيما إذا كان هناك أي ذكر أفريقي واحد في جنوب أفريقيا لم يحتك في مرحلة ما بالشرطة بشأن تصريح مروره. ويُلقى المئات والآلاف من الأفارقة في السجون كل عام بموجب قوانين تصاريح المرور. بل والأسوأ من ذلك أن قوانين تصاريح المرور تفصل بين الرجل وزوجته وتؤدى إلى تفسخ الحياة الأسرية.

          وللفقر وتفسخ الحياة الأسرية آثار ثانوية، إذ يجوب الأطفال شوارع البلدات لعدم وجود مدارس ينتظمون فيها، أو عدم وجود أموال لتمكينهم من الالتحاق بالمدارس، أو لعدم وجود أباء في المنزل للتأكد من توجههم إلى المدارس، حيث يتعين على الوالدين (إن كانا معا) العمل لكي تبقى الأسرة على قيد الحياة. ويؤدى هذا إلى تفسخ المعايير الأخلاقية، وارتفاع مزعج في عدد الأطفال غير الشرعيين وتزايد العنف الذي ينشأ، لا لأسباب سياسية فقط بل في كل مكان. والحياة في البلدات خطيرة. ولا يمضى يوم دون أن يطعن أحد أو يتعرض للاعتداء عليه. وينتقل العنف من البلدات إلى المناطق التي يعيش فيها البيض. ويخاف الناس السير بمفردهم في الشوارع بعد حلول الظلام. وتتزايد عمليات السطو على المنازل والسرقات، رغم أنه يمكن الآن فرض أحكام الإعدام على من يرتكب هذه الجرائم. ولا يمكن أن يعالج الحكم بالإعدام هذا القرح الملتهب.

          إن الأفارقة يريدون أن تدفع لهم أجور يستطيعون العيش منها. ويريد الأفارقة أن يؤدوا الأعمال التي يستطيعون القيام بها ، لا الأعمال التي تعلن الحكومة أنهم قادرون على القيام بها. ويريد الأفارقة أن يسمح لهم بالعيش حيثما يحصلون على عمل، لا أن يطردوا من منطقة لأنهم لم يولدوا فيها ويريد الأفارقة أن يسمح لهم بحيازة الأراضي في الأماكن التي يعملون فيها، لا أن يضطروا إلى العيش في منازل مؤجرة لا يمكن أن يدعوا أنها منازلهم. ويريد الأفارقة أن يكونوا جزءا من عموم السكان، وألا يقتصروا على العيش في أحياء أقليات لهم ويريد الرجال الأفارقة أن تعيش زوجاتهم وأطفالهم معهم حيثما يعملون، وألا يضطروا إلى التواجد بصورة غير طبيعية في نزل الرجال. وتريد المرأة الأفريقية أن تعيش مع رجلها وألا تترك بصورة دائمة مترملة في المحتجزات. ويريد الأفارقة أن يسمح لهم بالخروج بعد الساعة الحادية عشرة ليلا وألا يضطروا إلى لزوم غرفهم مثل الأطفال الصغار. ويريد الأفارقة أن يسمح لهم بالسفر في بلدهم والتماس العمل حيثما يريدون لا حيث يخبرهم مكتب العمل ويريد الأفارقة قسطا عادلا من مجموع جنوب أفريقيا، ويريدون الأمن وحصة في المجتمع.

          وفوق كل شيء، نريد حقوقا سياسية متساوية لأنه بدونها سيصبح عجزنا عجزا دائما. وأنا أعلم أن هذا يبدو ثوريا للبيض في هذا البلد لأن أغلبية الناخبين ستكون من الافارقة. وهذا يجعل الرجل الأبيض يخشى الديمقراطية.

          ولكن لا يمكن السماح لهذا الخوف بأن يعترض سبيل الحل الوحيد الذي يضمن الانسجام العنصري والحرية للجميع. وليس صحيحا أن منح حق التصويت للجميع سيؤدى إلى سيطرة عنصرية. فالتفرقة السياسية، القائمة على أساس اللون، هي تفرقة مصطنعة برمتها، وحينما تختفي، ستختفي أيضا سيطرة فئة لونية على أخرى. لقد أمضى المؤتمر الوطني الأفريقي نصف قرن وهو يكافح العنصرية. وحينما ينتصر فلن يغير هذه السياسة.

          هذا إذن هو ما يكافح المؤتمر الوطني الأفريقي من أجله، إن كفاحه كفاح وطني حقا. وهو كفاح للشعب الأفريقي، يستلهم فيه معاناته وخبراته. وهو كفاح من أجل الحق في الحياة.

          لقد نذرت حياتي برمتها لهذا الكفاح الذي يخوضه الشعب الأفريقي, لقد كافحت ضد سيطرة البيض، وكافحت ضد سيطرة السود. وأنا أجل مُثُل المجتمع الديمقراطي الحر الذي يعيش فيه جميع الأشخاص معا في وئام وينعمون بتكافؤ الفرص. وهذه مثل آمل أن أعيش من أجلها وأن أحققها. ولكن إذا لزم الأمر، فهي مُثُل أنا مستعد للموت من أجلها.