إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

 



البيان الذي أدلى به السيد نيلسون مانديلا، رئيس المؤتمر الوطني الأفريقي
في اللجنة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري

مركز الأمم المتحدة لمناهضة الفصل العنصري، المذكرات والوثائق، الرقم 8/93، أيلول/ سبتمبر 1993

          نعرب عن عميق امتناننا للجنة لمناهضة الفصل العنصري ولرئيسها المبجل سعادة الأستاذ إبراهيم غامباري فضلا عن الأمم المتحدة ككل لتمكيننا من مخاطبة هذا الحشد اليوم.

          لقد سلكنا معا طريقا طويلا للغاية. وقطعنا معا هذا الطريق قاصدين غاية مشتركة.

          إن الغاية المشتركة التي نتقدم صوبها تحدد السبب الفعلي لوجود هذه المنظمة العالمية.

          والهدف الذي نسعى إلى تحقيقه هو بلوغ ما يصبو إليه البشر جميعا من التمتع بالكرامة الإنسانية وتحقيق الذات. ولهذا السبب هجنا ومجنا لأنه كان من الممكن فرض نظام الفصل العنصري الإجرامي على أي شعب.

          إن كل واحد منا يشعر أن إنسانيته أهدرت لمجرد وجود هذا النظام. وأن كل واحد منا يشعر أن هناك سيفا مسلطا عليه قد يهوي به إلى مرتبة أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان لأن في إمكان البعض أن يعاملوا الآخرين كما لو كانوا مجرد قمامة يمكن التخلص منها بعد استعمالها.

          وفي نهاية المطاف، فإنه لا يمكن لكل ذي ضمير أن يقف مكتوف الأيدي دون أن يسعى إلى وضع نهاية لجريمة الفصل العنصري المرتكبة ضد البشرية.

          ونحن هنا اليوم، لننقل لكم، أنتم ممثلو شعوب العالم، امتنان شعب جنوب أفريقيا العميق لاشتراككم، على مدى العقود، في النضال المشترك لإنهاء نظام الفصل العنصري.

          لقد اهتزت مشاعرنا بعمق لأن المنظمة ظلت، منذ مولدها تقريبا، تدرج في جدول أعمالها القضية الحيوية التي تتمثل في القضاء على نظام الفصل العنصري وحكم الأقلية البيضاء في بلدنا.

          وطيلة سنوات كفاحنا العديدة، تشجعنا وتقوينا كثيرا، نحن أبناء جنوب أفريقيا، بالإجراءات المتخذة بصفة مستقلة وجماعية لتصعيد هجومكم على حكم الفصل العنصري في الوقت الذي اتخذ فيه نظام الأقلية البيضاء ذاته خطوات جديدة في هجومه لزيادة ترسيخ حكمه غير الشرعي وانتزاع الثناء ممن استعبدهم.

          وإننا نعرب على وجه الخصوص عن تقديرنا للتدابير التي اتخذتها الأمم المتحدة ومنظمة  الوحدة الأفريقية والكمنولث وحركة عدم الانحياز والجماعة الأوروبية وسائر المنظمات الحكومية الدولية لعزل دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

          ونعرب عن تقديرنا العميق للمبادرات المماثلة التي اتخذتها بلدان كل على حدة والمنظمات غير الحكومية والمجتمعات المحلية وحتى الأفراد بمفردهم كجزء من مساهماتهم في الجهد المشترك لمنع كل مؤازرة دولية لنظام الفصل العنصري.

          لقد ساعد هذا النضال العالمي، الذي قد يكون بلا سابقة في تجميعه لعدد لا يحصى من البشر حول قضية مشتركة واحدة، مساعدة حاسمة في بلوغنا ما وصلنا إليه اليوم.

          وفي النهاية، أرغم نظام الفصل العنصري على التسليم بأنه لم يعد بالإمكان استمرار نظام حكم الأقلية البيضاء. وأجبر على قبول أنه يتعين عليه أن يدخل في مفاوضات مع الممثلين الحقيقيين لشعبنا للوصول إلى حل سيحول جنوب أفريقيا، وفقا للمتفق عليه في الجلسة الأولى لمؤتمر العمل على إقامة جنوب أفريقيا ديمقراطية، إلى بلد موحد غير عنصري ولا يناصر أحد الجنسين على الآخر.

          ويترجم حاليا هذا الاتفاق واتفاقات أخرى إلى برنامج محدد سيمكن بلدنا من أن يقفز إلى الأمام من ماضيه المظلم والمؤلم والمضطرب إلى مستقبل مجيد يجاهد شعبنا بكل قوته لجعله مستقبلا تسوده الديمقراطية والسلم والاستقرار والرخاء.

          لقد بدأ العد التنازلي لإرساء الديمقراطية في جنوب أفريقيا. وقد تعين موعد اندثار حكم الأقلية البيضاء واتفق عليه وتحدد.

          فبعد سبعة أشهر من الآن، وفي 27 نيسان/ أبريل 1994، سيشترك جميع أبناء جنوب أفريقيا، دون تمييز على أساس الجنس أو العرق أو اللون أو المعتقد، في حدث تاريخي يتمثل في انتخاب حكومة من اختيارهم.

          وقد سن أيضا تشريع بإنشاء مؤسسات الدولة، الأجهزة القانونية التي ستكفل إجراء هذه الانتخابات وتكفل أن تكون هذه الانتخابات حرة ونزيهة.

          لقد وصلنا نتيجة لوضع هذه الصكوك القانونية إلى نقطة لن يقتصر بعدها حكم بلدنا على نظام الأقلية البيضاء.

          إن المجلس التنفيذي الانتقالي، المنصوص عليه في هذا التشريع، سيشكل أول مشاركة على الإطلاق من جانب أغلبية شعبنا على مستوى حكومي في عملية تحديد مصير بلدنا.

          وسيكون هذا المجلس بمثابة التباشير الأولى لحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة التي ستشكل بعد الانتخابات الديمقراطية في 27 نيسان/ أبريل.

          وستؤدى الهياكل الأخرى المنصوص عليها في القانون، وهي اللجنة الانتخابية المستقلة وهيئة الإذاعة المستقلة الأدوار المحددة لهما من أجل ضمان عملية الانتقال ونتيجتها التي سيقبلها الشعب ككل بوصفها نتيجة مشروعة وبالتالي مقبولة.

          ويجب أن نحذر مع ذلك من أننا لم ننج من الخطر بعد.

          فالمفاوضات مستمرة للاتفاق على دستور مؤقت، تحكم على أساسه البلد في الوقت الذي تقوم فيه الجمعية الوطنية المنتخبة بوضع الدستور النهائي.

          وستكون هناك لذلك حاجة مستمرة لكي تواصل هذه المنظمة والحركة العالمية لإقامة جنوب أفريقيا ديمقراطية ككل، تركيزهما على العملية الانتقالية، بما لا يدع مجالا لأن يتشكك أي فرد في بلدنا في أن المجتمع الدولي مستمر في إصراره على مساعدتنا لبلوغ الديمقراطية.

          والواقع أنه توجد قوى عديدة داخل جنوب أفريقيا لا تقبل حتمية النتيجة المشتركة التي تسعى البشرية بأسرها إلى بلوغها.

          وداخل بلدنا، فإن هذه القوى، التي تسعى إلى حرماننا من الحرية باللجوء إلى القوة الغاشمة التي قتلت وشوهت بالفعل عشرات الآلاف من الأفراد، تمثل أقلية من أبناء الشعب.

          إنها لا تستمد قوتها من الشعب، ولكن من الخوف وعدم الأمن وزعزعة الاستقرار التي تسعى إلى فرضها من خلال حملة للإرهاب يقوم بها قتلة غير معروفين سمتهم المميزة الوحشية وعدم الاكتراث التام بالحياة البشرية كقيمة.

          وهناك قوى أخرى تعارض، لمصالح ضيقة وطائفية، التغيير الحقيقي. وهي تشارك في أعمال أخرى تسعى إلى وضع عقبات في طريق الانتقال السلس إلى الديمقراطية.

          وإننا نؤمن أن من المهم بشكل حاسم أن تفهم هذه القوى أيضا أن المجتمع الدولي لديه الإرادة والعزيمة للعمل على نحو متضافر مع أغلبية الشعب في بلدنا لكفالة عدم تأخر التغيير الديمقراطي الذي حل أجله منذ أمد بعيد.

          لقد خلف نظام الفصل العنصري وراءه موجة من الكوارث. فاقتصادنا يترنح على شفا ركود أكثر حدة مما نعاني منه حاليا.

          ويعني هذا بعبارات عملية وجود ملايين من الأفراد بلا غذاء أو عمل أو مسكن.

          ويتعرض نسيج المجتمع نفسه لخطر عملية تفكك تتسم بارتفاع وتزايد معدلات الجريمة  العنيفة ونمو وزيادة عدد الأفراد الذين توحشوا لدرجة أنهم يقتلون من أجل مبالغ زهيدة وانهيار جميع المعايير الاجتماعية.

          وعلاوة على ذلك، فإن انعدام سلطة الدولة الشرعية وعدم التمتع بتأييد أغلبية الشعب، يفاقم بشدة من الأزمة التي تواجهها هذه القوى بصفة عامة ويؤكد على الأهمية الأساسية للتحرك بسرعة نحو التغيير الديمقراطي.

          وإجمالا، يجب أن نقاوم ونرفض، ونحن نعمل معا مهما كانت التكاليف، أي اتجاه للانزلاق نحو صومال أو بوسنة أخرى، وهو تطور من شأنه أن تكون له عواقب وخيمة تتجاوز حدود جنوب أفريقيا.

          إن ما ذكرناه للتو لا يهدف إلى إزعاج هذا الاجتماع المهيب. بل إنه يهدف إلى القول: إن الوقت قد حان الآن لاتخاذ خطوات جديدة تدفعنا إلى الأمام نحو النصر المشترك الذي ناضلنا جميعا من أجله!

          وإننا نؤمن أن اللحظة قد حانت لكي تقوم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ككل بإحصاء أوجه التقدم الحاسمة المحرزة من أجل تهيئة الساحة لنصرة قضية الديمقراطية في بلدنا.

          وإننا نؤمن كذلك أن اللحظة قد حانت لكي يقوم هذا المجتمع ذاته بإرساء الأساس لوقف الانزلاق نحو كارثة اجتماعية اقتصادية في جنوب أفريقيا، بوصفه أحد الأمور التي لا غنى عنها لضمان نجاح التحول الديمقراطي في حد ذاته.

          واستجابة لخطى التقدم التاريخية المحرز نحو تحقيق الديمقراطية وأيضا لإعطاء دفعة إضافية لهذه العملية ولتعزيز قوى التغيير الديمقراطي والعمل على تهيئة الظروف اللازمة لتحقيق الاستقرار والتقدم الاجتماعي، فإننا نؤمن أن الوقت قد حان لكي يقوم المجتمع الدولي برفع جميع الجزاءات الاقتصادية المفروضة على جنوب أفريقيا.

          وإننا نوجه لذلك نداء جديا إليكم وإلى الحكومات والشعوب التي تمثلونها، لاتخاذ جميع التدابير اللازمة لإنهاء الجزاءات الاقتصادية التي قمتم بفرضها والتي وضعتنا عند النقطة التي أصبح فيها حاليا التحول إلى الديمقراطية مقررا في قانون بلدنا.

          وإننا نحث كذلك على أن ينظر إلى هذه الخطوة التاريخية التي تشكل منعطفا في تاريخ العلاقات بين جنوب أفريقيا وبقية العالم، على أنها ليست عملا من أعمال الإحجام بل الالتزام.

          ودعونا جميعا نتعامل مع هذا الواقع الجديد على أنه فرصة وتحد للمشاركة في حالة جنوب أفريقيا بطريقة من شأنها أن تدفع قضية الديمقراطية قدما إلى الأمام وأن تهيئ افضل الظروف الاجتماعية والاقتصادية الممكنة لنصرة هذه القضية.

          لقد أخذت اللجنة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري نفسها بزمام المبادرة في عملية تهيئة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة لهذا الواقع الجديد الذي يعد ثمرة لنضالنا المشترك، وإننا واثقون من أن أسرة الأمم المتحدة لن تتأخر، لذلك، في الارتباط بشعب جنوب أفريقيا بطريقة جديدة.

          وإننا على ثقة كذلك من أن الحكومات في كل أرجاء المعمورة، التي أدت دورا أساسيا للغاية في الجهد الرامي إلى هزيمة نظام الفصل العنصري، ستبذل ما في وسعها لمساعدتنا لضمان الارتقاء بشعبنا.

          ونوجه نداء مماثلا إلى ملايين الأفراد ممن انتظموا في الحركة غير الحكومية العريضة المناهضة للفصل العنصري لكي يظلوا هم أنفسهم ملتزمين بمواصلة الكفاح من أجل إقامة جنوب أفريقيا ديمقراطية ولكي يضيفوا إلى برامجهم تقديم مساعدة إنمائية شاملة من شعب إلى شعب.

          وإننا نأمل في أن يغتنم مجتمع جنوب أفريقيا وأوساط المستثمرين الدوليين هذه الفرصة ليساعدوا في إنعاش اقتصاد جنوب أفريقيا لمصلحتهم المتبادلة.

          وكما تعلمون فإن شعبنا لم ينتخب بعد حكومة ديمقراطية. ومن المهم لذلك عدم الاعتراف بحكومة الأقلية البيضاء، التي لا تزال قائمة في بلدنا، وعدم معاملتها وكأنها تمثل شعب جنوب أفريقيا بأجمعه.

          إن المجلس التنفيذي الانتقالي يوفر آلية مناسبة للتفاعل الذي ينبغي أن يقوم بيننا وبين المجتمع الدولي خلال الفترة الممتدة من الآن إلى تشكيل الحكومة الجديدة.

          وينبغي أن نشير هنا كذلك إلى أنه في نطاق الجزاءات الدبلوماسية التي فرضها عدد كبير من البلدان فإننا نؤمن أيضا بأنه يمكن لهذه البلدان أن تقيم الآن وجودا دبلوماسيا في جنوب أفريقيا حتى تعزز قدرتها على مساعدة شعب بلدنا على تحقيق أهدافه المشتركة.

          لقد فرضت هذه المنظمة أيضا جزاءات خاصة تتصل بالأسلحة والمسائل النووية والنفط. وفي هذا الصدد، فإننا نود أن نطلب الإبقاء على هذه الجزاءات الإلزامية إلى أن يتم تشكيل الحكومة الجديدة. وسوف نترك قضية الحظر النفطي لحسم تقدير لجنة الجمعية العامة المسؤولة عن إنفاذ هذه الجزاءات بالذات.

          ونود كذلك أن نطلب إلى مجلس الأمن أن يشرع في النظر في القضية الهامة للغاية المتعلقة بما ينبغي على المنظمة أن تقوم به للمساعدة في عملية تنظيم الانتخابات المقبلة وضمان أن تكون حرة ونزيهة بالفعل.

          وينبغي بالطبع أن يقترن ذلك بإجراء استعراض للمساهمة الهامة التي قدمتها بعثة مراقبي الأمم المتحدة في جنوب أفريقيا، التي تساعدنا في التصدي لمسألة العنف السياسي، لضمان أن تعالج فيما تسهم به هذه المشكلة المستمرة على النحو الملائم.

          …

          إن انتصارنا المشترك على النظام الوحيد الذي أعلن جريمة ضد البشرية منذ هزيمة النازية أصبح على مرمى البصر.

          إن الضرورة التاريخية التي تحتم إنهاء هذه الجريمة بأسرع وبأسلم ما يمكن تتطلب منا نحن شعوب العالم أن نظل على وحدتنا وعلى التزامنا إزاء قضية الديمقراطية والسلم وتحقيق الكرامة الإنسانية والرخاء لجميع الأفراد في جنوب أفريقيا.

          وفي وقفتنا بينكم اليوم، ما زلنا نشعر بعواطف جياشة لما أبديتموه من تضامن يقوم على نكران الذات مع شعبنا. وإننا نعي إننا بأعمالنا المشتركة لم نسع فقط إلى تحرير شعب جنوب أفريقيا بل أيضا إلى مد حدود الديمقراطية واللاعنصرية وعدم مناصرة أحد الجنسين على الآخر والتضامن البشري إلى أرجاء العالم بأسره.

          وانطلاقا من وعينا بذلك، فإننا نتعهد أمامكم بأننا لن يهدأ لنا بال حتى تكلل هذه القضية النبيلة التي توحدنا جميعا بالنصر وتلحق جنوب أفريقيا الجديدة بركب بقية المجتمع الدولي بوصفها بلدا يحق لنا جميعا أن نفخر به.