إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

 



خطة للتنمية

تقرير الأمين العام

A/48/935، 6 أيار/ مايو 1994

تصدير

  1. طلبت إليَّ الجمعية العامة في قرارها 47/181 المؤرخ 22 كانون الأول/ ديسمبر 1992 أن أقدم إليها، بالتشاور مع الدول الأعضاء، تقريرا بشأن "خطة للتنمية". وفي محاولة لتجميع أكبر قدر من الأفكار ووجهات النظر حول موضوع التنمية، طلبت إلى الدول الأعضاء ووكالات منظومة الأمم المتحدة وبرامجها موافاتي بآرائها، كما شجعت تقديم الأفكار في هذا الموضوع من المصادر العامة والخاصة على نطاق العالم. وقد تمت الاستفادة من الإسهامات التي وردت خلال هذه العملية في إعداد هذا التقرير.
  2. ووفقا لما طلبته الجمعية العامة في الفقرة 5 من قرارها 48/166 المؤرخ 21 كانون الأول/ ديسمبر 1993، سأقدم استنتاجاتي وتوصياتي بشأن خطة للتنمية في دورة الجمعية العامة التاسعة والأربعين، آخذا في الحسبان المناقشات التي دارت في الدورة الموضوعية للمجلس الاقتصادي والاجتماعي لعام 1994 وكذلك الآراء المعرب عنها أثناء المناقشات التي سوف يرعاها رئيس الجمعية العامة.

أولا - مقدمة: خطة للتنمية، لماذا؟

  1. التنمية حق أساسي من حقوق الإنسان. وهي صمام الأمان للسلام.
  2. وانطلاقا من هذين المبدأين، واتساقا مع ما أشعر به شخصيا من التزام قوي إزاء أهمية التنمية والاحتياجات المسلم بها للأمم المتحدة في هذه المرحلة من التاريخ، خرجت فكرة " خطة للتنمية " إلى الوجود.
  1. إن مفهوم التنمية، وعشرات السنين التي بذلت فيها الجهود للحد من الفقر والأمية والمرض ومعدلات الوفاة، إنما هي إنجازات عظيمة لهذا القرن. ولكن التنمية كقضية مشتركة تواجه خطر التراجع عن مكان الصدارة الذي تمثله في قائمة اهتماماتنا. فالتنافس على النفوذ أثناء الحرب الباردة حفز على الاهتمام بالتنمية، وإن لم يكن ذلك دائما بدافع الإيثار. ولكن البلدان التي كانت تسعى إلى تحقيق التنمية استطاعت الاستفادة من ذلك الاهتمام. أما اليوم فقد انتهى التنافس على تحقيق التنمية في أشد الدول فقرا. وأصبح كثيرون من المانحين يضيقون بهذه المهمة، بينما ألمَّ اليأس بكثير من الفقراء. إن التنمية تواجه أزمة.
  2. إن الدول الأشد فقرا تزداد تخلفا، والدول التي تمر بمرحلة الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى الاقتصاد الحر تواجه صعوبات هائلة. كما أن الدول التي حققت الازدهار تجد نجاحها مقرونا بمجموعة جديدة من المشاكل الاجتماعية والبيئية والثقافية والاقتصادية، مما جعل كثيرا منها تتردد حتى في مواصلة سياساتها في المساعدة على المستويات السابقة.
  3. وتستدعي الحالة الراهنة تفهما فكريا أوسع والتزاما أخلاقيا أعمق وتدابير أكثر فعالية في مجال تحديد السياسات، وإلا تقوض التقدم الكبير الذي أحرز في نصف قرن، وعاشت شعوب العالم قاطبة في كوكب متدهور فاقدة للقدرة بصورة متزايدة على تكييف مصيرها بشكل متجانس.
  4. وقد قدَّم الكثير من الاقتراحات المحددة والمقترحات التفصيلية للتنمية، وهي جديرة بالدراسة الجادة. وأصدرت منظومة الأمم المتحدة فيضا من الدراسات والتقارير عن مختلف جوانب التنمية، تعتبر مصدرا بالغ القيمة.
  5. واستنادا إلى هذه الجهود، يسعى هذا التقرير إلى إحياء رؤية التنمية وتشجيع المناقشة المكثفة لكافة جوانبها.
  6. إن ميثاق الأمم المتحدة يجعل من الممكن تطوير فكرة التنمية الأساسية بشكل أكثر نضجا، إلا أنه أوكلت إلينا، في العقود الأخيرة من القرن العشرين، مهمة محاولة تحقيق مفهوم التنمية.
  7. فهناك مخاوف من أن الأمم المتحدة تركز على حفظ السلام أكثر من تركيزها على قضايا التنمية. وهذه المخاوف لا تؤيدها الميزانيات العادية ولا عدد الموظفين العاملين في كل من مجالي السلام والتنمية. ولكن، مع تزايد طلب الأموال لأغراض حفظ السلام، تجد بعض الدول الأعضاء من الصعب عليها زيادة مساهماتها في الأنشطة الإنمائية التي تضطلع بها الأمم المتحدة. إلا أنه بدون التنمية لن تكون هناك احتمالات لإقرار سلام دائم.
  8. وفي حين تتحمل الحكومات الوطنية المسؤولية الرئيسية عن التنمية، أوكلت للأمم المتحدة ولايات هامة للمساعدة في هذه المهمة. وتمتد مشاركة الأمم المتحدة في التنمية عبر أربعة عقود إنمائية وتشمل المشاكل العالمية ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية. وتقوم الأمم المتحدة بالعمل في كل مجالات التنمية وعلى كل مستوى من مستوياتها.
  9. ومن هنا فإن "خطة للتنمية" تستند إلى خبرة الأمم المتحدة الفريدة.  فالفصل الأول يبين الأبعاد الخمسة الرئيسية والمتداخلة للتنمية. ويشير الفصل الثاني إلى تعددية العناصر الفاعلة في التنمية وإلى العملية التي يمكن من خلالها للأمم المتحدة المساعدة في ربط هذه العناصر الفاعلة بمختلف أبعاد التنمية. ويبين المرفق الأول لهذا التقرير نطاق مشاركة الأمم المتحدة في التنمية. وفي طرحي لمشاركة الأمم المتحدة في التنمية اكتفيت بالتعرض إلى أنشطة الأمم المتحدة ذاتها بما فيها صناديقها وبرامجها. أما عمل الوكالات المتخصصة التابعة للمنظومة الدولية، على أهميته، فليس هو محور التركيز في هذه الوثيقة.
  10. وفي ضوء الرؤية الجديدة للتنمية التي لا تزال في مرحلة التبلور، لا يوجد قطعا أي بديل للأمم المتحدة في مجال التنمية. فالأمم المتحدة محفل يسمع فيه صوت جميع الدول، كبيرها وصغيرها، بنفس الوضوح، ويمكن فيه للعناصر الفاعلة من غير الدول أن تبدي آراءها أمام أكبر جمهور ممكن. ولا تزال هناك فرصة للمضي معا إلى الأمام، لكن هناك ضرورة لمزيد من الاستعجال. فمع مرور كل يوم من التأخير يزداد العمل كلفة وصعوبة.
  11. ومادامت هناك حرب، فلن تنعم أي دولة بالسلام. ومادامت هناك حاجة، فلا يمكن لأي شعب أن يحقق تنمية دائمة.

ثانيا - أبعاد التنمية

ألف - السلام كأساس للتنمية

  1. تفترض النهج التقليدية للتنمية مسبقا أنها تتحقق في ظل ظروف من السلام. ولكن نادرا ما يكون ذلك هو الحال. فغياب السلام واقع سائد في أجزاء كثيرة من العالم. ولابد لمعظم الشعوب أن تكافح لتحقيق التنمية في ظل صراع ماض أو حاضر أو يتهددها في المستقبل. ويحمل الكثير من هذه الشعوب عبء دمار قريب العهد وصراع عرقي مستمر. ولا يمكن لأي شعب أن يتفادى واقع الحال في عالم يستمر فيه انتشار الأسلحة والحروب الإقليمية وإمكانية العودة إلى مناطق نفوذ عدائية. وينبغي أن يضاف إلى تقسيم الدول إلى فئات بحسب مستوى التنمية تقسيمها إلى فئات كدول في صراع. ولأن الأمم المتحدة تقود مجهودات المعونة الإنسانية ومساعدة اللاجئين وعمليات السلام المختلفة. فهي معنية بشكل أساسي لا مناص منه بالسلام كبعد أساسي للتنمية.
  2. ولا يمكن للتنمية أن تتقدم بسهولة في المجتمعات التي تكون فيها الشواغل العسكرية في مركز الصدارة أو تكاد. فالمجتمعات التي تخصص جزءا كبيرا من جهدها الاقتصادي للإنتاج العسكري تقلل بالضرورة من فرص شعوبها في التنمية. وغياب السلام يدفع المجتمعات غالبا إلى تخصيص نسبة من ميزانيتها للإنفاق العسكري أعلى مما تخصصه لاحتياجات التنمية في مجالات الصحة والتعليم والإسكان. فالاستعداد للحرب يستهلك موارد ضخمة للغاية ويعوق تنمية المؤسسات الاجتماعية.
  3. ويساهم غياب التنمية في التوتر الدولي وفي الإحساس بالحاجة إلى القوة العسكرية، وهذا بدوره يزيد من حدة التوتر. والمجتمعات التي تقع في هذه الدوامة تجد من الصعب دائما تفادي الانزلاق في مواجهة أو صراع أو حرب شاملة.
  4. وإذا كانت الخدمة العسكرية في بعض الدول هي أهم السبل التي يعول عليها للحصول على التعليم وعلى المهارات الضرورية للعمل في الحياة المدنية، فإن هناك حالات يمكن فيها للإنتاج الحربي نشر تقنيات متقدمة تستخدم في نهاية المطاف في الأغراض المدنية. إلا أن الميزانيات الوطنية التي تركز مباشرة على التنمية تخدم قضية السلام وأمن الإنسانية بشكل أفضل.
  5. إن حالات الصراع تتطلب إستراتيجية للتنمية تختلف عن تلك التي توجد في ظروف السلام. فخصائص التنمية تختلف تبعا لطبيعة الحالة. فالتنمية في إطار حرب دولية لا تواجه نفس المشاكل التي تواجهها التنمية في ظل حرب عصابات، أو عندما تكون المؤسسات الحكومية تحت السيطرة العسكرية.
  6. ورغم أن الأنشطة الإنمائية تعطي أفضل نتائجها في ظروف السلام، فإنه ينبغي لهذه الأنشطة أن تبدأ قبل انتهاء القتال. ولا ينبغي النظر إلى الإغاثة الطارئة والتنمية كبديلين، إذ تمثل إحداهما نقطة انطلاق وأساسا للأخرى. ويجب تلبية متطلبات الإغاثة بشكل يوفر، منذ البداية، أساسا لتنمية دائمة. ومخيمات اللاجئين والمشردين يجب أن تكون أكثر من مجرد مكان لتجمع الضحايا. فحملات التطعيم ومحو الأمية وإيلاء اهتمام خاص لحالة النساء هي أمور هامة في مثل هذه الأوقات. وهذه كلها يمكن أن تضع الأساس لتنمية المجتمع المحلي حتى في الوقت الذي يجري فيه تقديم الإغاثة الطارئة. ولا يجوز التريث في اتخاذ الخطوات المتعلقة ببناء القدرات انتظارا لانتهاء القتال بشكل رسمي، بل يجب أن يبدأ القيام بها جنبا إلى جنب مع الخدمات العاجلة وقت الحرب. إن الصراع، على فظاعته، قد يوفر فرصا للقيام بإصلاح رئيسي بل ولتعزيز هذا الإصلاح. ويمكن للمثل الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتدابير الرامية إلى تحقيق العدل الاجتماعي أن تبدأ في التشكل في هذه المرحلة.
  7. إن بناء السلم يعني العمل على تحديد ودعم الهياكل التي تؤدي إلى تقوية وتعزيز السلام لتجنب الانزلاق في الصراع مرة أخرى. وكما أن الدبلوماسية الوقائية تهدف إلى منع وقوع الصراع، يبدأ بناء السلام في أثناء الصراع لمنع تكراره. والعمل التعاوني الدؤوب على حل المشاكل الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية هو وحده القادر على تحقيق السلام  على أساس صلب ودائم. وإذا لم يكن هناك تعمير وتنمية في أعقاب الصراع، فلن يكون ثمة أمل يذكر في بقاء السلام.
  8. إن بناء السلم أمر يهم الدول في كل مراحل التنمية. وبالنسبة للدول التي تخرج من أتون الصراع، يوفر بناء السلم الفرصة لإنشاء مؤسسات اجتماعية وسياسية وقضائية جديدة يمكن أن تعطي دفعة قوية للتنمية. ويمكن القيام بإصلاح زراعي واتخاذ تدابير أخرى لتحقيق العدالة الاجتماعية. كذلك يمكن للدول التي تمر بمرحلة انتقالية أن تستعمل تدابير بناء السلم كفرصة لوضع أنظمتها الوطنية على طريق التنمية المستدامة. أما الدول الأكثر غنى وقوة فيجب أن تعجل بعملية التسريح الجزئي للجيش وتحويل الصناعات الدفاعية إلى صناعات مدنية. والقرارات التي تتخذ في هذه المرحلة يمكن أن يكون لها أثر كبير للغاية على مسار مجتمعاتها والمجتمع الدولي لأجيال قادمة.
  9. إن أكثر المهام إلحاحا بالنسبة لبناء السلم هي تخفيف آثار الحرب على السكان. وتتمثل أولى مهام بناء السلم في توفير المعونة الغذائية ودعم نظم الصحة والمرافق الصحية وإزالة الألغام والدعم الميداني للمؤسسات الرئيسية في المواقع المختلفة.
  10. وفي هذه المرحلة، فإنه من الأهمية بمكان أن تتم الجهود المبذولة لتلبية الاحتياجات الماسة بطرق تعزز أهداف التنمية الطويلة الأجل ولا تضر بها. وفي نفس الوقت الذي يوفر فيه الغذاء، يجب التركيز على استعادة القدرة على الإنتاج الغذائي. وفي الوقت الذي يتم فيه توفير إمدادات الإغاثة، ينبغي الاهتمام ببناء الطرق وترميم وتحسين المنشآت في الموانئ وتحقيق مخزون إقليمي ومراكز للتوزيع.
  11. إن إزالة الألغام عمل فريد في مرحلة ما بعد الصراع. وقد بدأ العالم يعي حقيقة أن انتشار الألغام البرية يشكل عقبة رئيسية على طريق التنمية ومن ثم يجب وضع حد له. فالألغام تمنع استعمال مساحات كبيرة من الأرض لأنها تبقى مدفونة لفترة طويلة بعد انتهاء أعمال القتال - تقتل وتصيب الأفراد بعاهات خطيرة بلا تمييز - وتلقي، في الوقت نفسه، عبئا هائلا على كاهل الأسر وعلى الهياكل الأساسية الصحية في الدول التي تمر بمرحلة ما بعد الصراع. وفي حالات كثيرة، تعتبر إزالة الألغام والذخائر الحربية التي لم تتفجر شرطا ضروريا لجميع أنشطة بناء السلم الأخرى في مرحلة ما بعد الصراع. والتقنيات المطبقة في الظروف السائدة في معظم الدول بطيئة وتحتاج إلى جهد كبير. وتستمر عملية إزالة الألغام أعواما طويلة، ولذلك يجب أن يكون مديروها والقائمون بها من مواطني الدول المعنية. ومن الضروري إنشاء القدرة على الاضطلاع بعملية إزالة الألغام ورصدها وتقييمها ووضع معايير وطنية وفقا للمعايير الدولية.
  12. إن إعادة الإدماج للمحاربين في الحياة المدنية أمر صعب ولكنه ذو أهمية بالغة للاستقرار في فترة ما بعد الصراع. ففي صراعات كثيرة يجند الجنود وهم في سن صغيرة للغاية. ونتيجة لذلك تضعف كثيرا قدرة المحاربين السابقين على العودة إلى المجتمع وكسب العيش في فترة السلم، مما يؤثر سلبا على إمكانات المجتمع في مجال التنمية.
  13. وإعادة إدماج المحاربين في الحياة المدنية بصورة فعالة أمر هام لاستدامة السلام. ومن الضروري جدا توفير برامج ائتمانات ومشاريع صغيرة إذا أريد للمحاربين السابقين أن يحصلوا على عمل منتج. ويعتبر التعليم الأساسي للتأهيل للعودة إلى المجتمع المدني وبرامج التدريب المهني الخاصة وكذلك التدريب أثناء أداء العمل وتعليم التقنيات الزراعية والمهارات الإدارية من الأمور الأساسية لبناء السلم في مرحلة ما بعد الصراع. ويمكن لبعض المهارات التقنية التي اكتسبها الجنود أن تكون إلى حد ما مهمة للتعمير الوطني.
  14. وبما أن الصراع يؤثر، في العادة، تأثيرا سلبيا كبيرا على آليات الحكم، فإنه ينبغي أن تولي جهود ما بعد الصراع اهتماما خاصا لإصلاح هذه الآليات. وقد يلزم تعزيز المؤسسات الرئيسية للمجتمع المدني، فالنظم القضائية - على سبيل المثال - قد تحتاج إلى دعم أو حتى إلى إنشائها من جديد. وهذا يعنى تقديم المساعدة لمجموعة متنوعة من الأنشطة الحكومية، كإقامة نظام عادل يولد إيرادات للقطاع العام، وأساس تشريعي لحماية حقوق الإنسان، وقواعد لتشغيل المشاريع الخاصة.
  15. إن استئصال شأفة الصراع يتعدى المتطلبات الآنية لفترة ما بعد الصراع وإصلاح المجتمعات التي مزقتها الحرب، إذ لا بد من مجابهة الأوضاع التي أدت إلى الصراع. وكما أن أسباب الصراع متنوعة كذلك لا بد من تنوع وسائل التصدي لها. وبناء السلم يعنى إنشاء ثقافة سلام. فالإصلاح الزراعي ومشاريع اقتسام المياه، وإنشاء مناطق للمشاريع الاقتصادية المشتركة، ومشاريع السياحة المشتركة، والتبادل الثقافي يمكن أن تحدث فرقا هائلا. كما أن استعادة وتحقيق نمو العمالة سيكون حافزا قويا للشباب على هجر مهنة الحرب.
  16. ويمثل تخفيض الإنفاق العسكري حلقة أساسية في سلسلة الوصل بين التنمية والسلام. ومع أن الإنفاق العسكري على نطاق العالم لا يزال يستهلك قدرا هائلا من الموارد والقدرات الإنتاجية، فقد تحقق بعض التقدم في السنوات الأخيرة. وعلى نطاق العالم، فقد تم في السنوات من 1987 إلى 1992، الحصول على عائد تراكمي للسلام بلغ 500 بليون دولار - منها 425 بليونا من الدولارات في الدول الصناعية والدول التي تمر بمرحلة انتقالية، و75 بليونا من الدولارات في الدول النامية. ويبدو أنه لم يوجه إلى التنمية سوى نسبة ضئيلة من هذا العائد.
  17. وفي حين ظهر انخفاض كبير في أرقام صادرات الأسلحة بالقيمة الحقيقية، وفي السنوات الأولى من هذا العقد، لا تزال هناك مخاوف كبيرة، فمخزون الأسلحة التقليدية المستوردة من الدول التي تخفض منشآتها العسكرية سرعان ما تجد طريقها إلى دول ثالثة. فالأسلحة غير المتطورة نسبيا، مثل مدافع الهاون والمدافع الرشاشة وقاذفات الصواريخ، حتى في أيدي أشخاص لم يحصلوا إلا على تدريب عسكري أولى، تسببت في قدر هائل من الفتك والدمار.

       ومن المفارقات أن الذين يعبرون عن قلقهم العظيم حول المخزون المتزايد من الأسلحة في العالم بأسره هم أنفسهم مصدر هذه الظاهرة. إن الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن مسؤولون عن 86 في المائة من إمدادات الأسلحة التي تتدفق إلى دول العالم الآن.

  1. وغالبا ما تشترى الواردات من الأسلحة على حساب السلع الإنتاجية أو الاستهلاكية. ويوفر تخفيض النفقات العسكرية المزيد من الأرصدة لتمويل التنمية وتلبيه مطالب المستهلكين وسد الاحتياجات الأساسية للرفاه الاجتماعي. وقد يدعم التخفيض في النفقات العسكرية إصلاح الميزانية ويعزز استقرار الاقتصاد الكلى. ويمكن أن يعاد توجيه الجهود الوطنية بعيدا عن الأولويات العسكرية وفي اتجاه أهداف سلمية وإنتاجية بشكل مطرد، كما يمكن خفض حالات التوتر والتنافس في العالم. وبالتأكيد فإن لكل ذلك أثر عميق (*) على التنمية.
  2. إن القوات المسلحة تجتذب البعض ممن هم من أكثر أفراد المجتمع تمتعا بالمواهب، وممن تزيد تكلفة تدريبهم على المتوسط الاجتماعي وتوجه طاقاتهم لتشغيل معدات حربية في تطور متزايد. فإنتاج الأسلحة يستغل مهارات وقدرات صناعية يمكن استثمارها لأغراض أخرى.
  3. لقد انهارت مشتريات منظومات الأسلحة الجديدة لدى كثير من الدول التي تمر بمرحلة انتقالية، ويذهب الجزء الأكبر من الإنفاق العسكري الآن إلى تكاليف الأفراد، بما فيها المعاشات التقاعدية. وهناك مجتمعات محلية، كانت تعتمد بأكملها على الصناعات الدفاعية، أصبحت الآن مهددة، ما لم تتكيف مع المقتضيات المتغيرة. والخوف من الزيادات في معدلات البطالة قد أدى إلى الإبطاء في خفض حجم القوات المسلحة، بينما تحول عمليات الدعم الهائلة دون إفلاس الصناعات العسكرية حاليا وذلك بالقطع على حساب الأهداف العامة للاقتصاد الكلي.
  4. وقد أحدث الحد من النفقات العسكرية في الدول الصناعية القائمة على اقتصاد السوق أيضا ضغوطا مؤلمة وإن تكن أقل حدة من تلك التي تواجهها الدول التي تمر بمرحلة انتقالية. وقد تأثرت أماكن وشركات بعينها بشكل حاد، فآلية السوق سهلت امتصاص الموارد في قطاعات أخرى من الاقتصاد. ومع ذلك كان من الصعب على العمال في كثير من الأحيان أن يجدوا فرصا بديلة للعمل، كما أن نشاط إعادة التدريب مازال غير منتظم.
  5. ومع ذلك فإن هذه المشاكل لا ينبغي أن تمنع الدول من تشجيع تحويل مؤسساتها العسكرية إلى مؤسسات أصغر. فتخفيض الإنفاق العسكري لا يؤدى فقط إلى تحرير النفقات العامة لتنفق في الأغراض الاجتماعية، بل يسمح أيضا بتدفق الائتمانات اللازمة للاستثمارات الاقتصادية. وفي الأجل الطويل ستثبت هذه التحولات جدواها حتى ولو كانت أليمة على المدى القصير.
  6. وبينما كان المأمول أن تؤدي نهاية الحرب الباردة إلى تخفيض هائل في الإنفاق العسكري، إلا أنه كان من الصعب تحقيق تقدم في هذا المجال في جو يتسم بتزايد النزاع العرقي وفقدان الأمن الاقتصادي. فالإحساس بالارتياح الذي نتج عن انتهاء سباق التسلح بين القطبين حل محله إحساس بالذعر من إمكانية تكديس الأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل في عدد من المناطق الإقليمية. وقد استمر الإنفاق العسكري في الازدياد في عدد من الدول، وبخاصة في الشرق الأوسط وآسيا، لأسباب كثيرة: الخوف من المواجهة حول الموارد المشتركة، وعدم الاستقرار الداخلي، والخوف من الجيران المسلحين تسليحا ثقيلا. وفي بعض الحالات، أدى تقلص إمكانية تدخل قوى عظمى إلى زيادة احتمال تفجر الأزمات الإقليمية. ولابد أيضا أن نأخذ في الاعتبار جوانب الربح في تجارة الأسلحة. وفي هذا السياق، أؤيد  النداءات لفرض حظر عالمي على إنتاج ونقل الألغام البرية ومكوناتها.
  7. إن الرقابة على التسليح ونزع السلاح تقلل من خطر الدمار والتدهور الاقتصادي والتوترات التي تؤدي إلى الحرب. فالعالم الذي ينخفض فيه الإنفاق العسكري وتقل فيه المنشآت العسكرية ويتضاءل فيه حجم المخزون من الأسلحة، ويقل فيه تدمير البيئة بواسطة الأنشطة المرتبطة بالعمل العسكري ليس عالما مرغوبا في حد ذاته فقط ولكنه يبشر بخير كثير للتنمية أيضا.
  8. واليوم فإنه حتى الصراعات النائية قد تثير مخاوف تتعلق بالأمن والتنمية أبعد من حدود الدولة المعنية بكثير. وهذا الوعي الجديد يعطي معنى أوسع للسلام والأمن الدوليين ويتطلب تدابير تدفع عجلة التنمية إلى الأمام حتى في أثناء الصراع ويثبت أن التنمية، عندما تطبق بنجاح، تكون وسيلة أخرى لتعريف السلام.

باء - الاقتصاد كمحرك للتقدم

  1. إن النمو الاقتصادي هو محرك التنمية ككل. وبدون النمو الاقتصادي لا يمكن أن تحدث زيادة متواصلة ومستدامة في استهلاك الأسر المعيشية أو الاستهلاك  الحكومي، وفي تكوين رأس المال الخاص أو العام، وفي مستويات الصحة والرفاهية والأمن. وأيا كانت العمليات الاجتماعية التي تجري بها اختيارات التوزيع، فإن القدرة على عمل هذه الاختيارات تكون محدودة بشدة في المجتمعات الفقيرة، بينما يعززها النمو الاقتصادي. وسيكون للتقدم في الجوانب الأخرى للتنمية التي ترد مناقشتها في هذا التقرير، السلام والبيئة والمجتمع والديمقراطية، أثر إيجابي على النمو الاقتصادي.
  2. وزيادة معدل النمو الاقتصادي شرط لتوسيع قاعدة الموارد، وهي بالتالي شرط للتحول الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي. وبالرغم من أن النمو الاقتصادي لا يكفل توزيع المنافع بشكل منصف أو حماية البيئة المادية، فإنه بغير النمو الاقتصادي لن توجد الموارد المادية اللازمة لمعالجة التدهور البيئي، كما أنه لن يتسنى الاضطلاع بالبرامج الاجتماعية بشكل فعال في الأجل الطويل. وميزة النمو الاقتصادي أنه يوسع مجال الخيار أمام الإنسان.
  3. غير أنه لا يكفي أن ننشد النمو الاقتصادي في حد ذاته. فمن المهم أن يكون النمو متواصلا ومستداما. وينبغي للنمو أن يعمل على توفير العمالة الكاملة وتخفيف حدة الفقر، وأن يهدف إلى تحسين نماذج توزيع الدخل عن طريق زيادة تساوي الفرص.
  4. وإذا استمر الفقر أو زاد، وكان هناك إهمال لأوضاع الأفراد، فإن الضغوط السياسية والاجتماعية ستهدد الاستقرار بمرور الزمن. ويتطلب خفض الفقر تنمية يكون فيها الحصول على منافع التقدم الاقتصادي متاحا على أوسع نطاق ممكن وليس مركزا بشكل مفرط في مناطق معينة أو قطاعات أو فئات معينة من السكان.
  5. إن تحسين التعليم والصحة والمأوى مع تحقيق الزيادة في فرص العمالة الحقيقية سيساهم بشكل مباشر في خفض الفقر وآثاره. فالتعليم والصحة والمأوى، علاوة على كونها أهدافا مرغوبة في حد ذاتها، فهي ضرورية لوجود قوة عمل منتجة وبالتالي فإنها ضرورية للنمو الاقتصادي. وينبغي أن يكون القضاء على الجوع وسوء التغذية هدفين مستقلين بذاتهما.
  6. ولكي يحدث النمو المتواصل، هناك شرطان ضروريان: وجود بيئة وطنية داعمة، ومناخ دولي موات. فما لم توجد سياسات وطنية ملائمة، لن يؤدي أي قدر من المساعدة، سواء كانت ثنائية أو متعددة الأطراف إلى نمو متواصل. بل على العكس من ذلك، يمكن للمساعدة المقدمة بهذه الطريقة أن تزيد الاعتماد على العالم الخارجي. ودون المناخ الدولي المؤاتي، سيكون من الصعب تحقيق سياسات الإصلاح المحلي، مما يهدد نجاح الإصلاحات ويزيد من معاناة السكان.
  7. ويجب أن تستند التجارب الاقتصادية الوطنية الناجحة إلى سياسات واقعية. والحاجة إلى الاستفادة من كفاءة الأسواق يجب أن يحد منها التسليم بضرورة تدخل الحكومات حيثما لا يمكن للأسواق أن توفر جميع الحلول.
  8. ولا يمكن بعد الآن الاعتماد على أن الحكومات أجهزة اقتصادية عليا. ومع ذلك تبقى عليها مسؤولية توفير إطار تنظيمي يكفل عمل نظام السوق التنافسي على نحو فعال. ويتعين على الحكومات التدخل حيثما كان ذلك ملائما: للاستثمار في الهيكل الأساسي، ولتسهيل تنمية القطاع الإنتاجي، ولتوفير بيئة مساعدة على تعزيز المؤسسات التجارية الخاصة، ولضمان وجود سياسات الضمان الاجتماعي الصحيحة، وللاستثمار في رأس المال البشري، ولحماية البيئة. فالحكومات توفر الإطار الذي يمكن فيه للأفراد تخطيط  إمكانياتهم على المدى البعيد.
  9. وليس هناك وصفات محددة لتقسيم الأدوار. إن الإنفاق العام والخاص ليسا بديلين يحل أحدهما بشكل ثابت محل الآخر. والعلاقة بينهما غالبا ما تكون ذات طابع تكاملي لا طابع تنافسي. والسياسات الحكومية الرامية إلى تعزيز إطار عمل سليم للاقتصاد الكلي ضرورية للنمو الاقتصادي المتواصل. ومع ذلك فهذه السياسات الاقتصادية الكلية يجب أن تبنى على أسس اقتصاد جزئي متينة تتضمن التوزيع الفعال للموارد ذات الندرة. وإذا فشلت الأسواق في أداء وظائفها أو في معالجة الاعتبارات الأساسية للرفاهية، فهناك مجال للتدخل الحكومي. ومع ذلك فالسياسات والبرامج الحكومية عرضة للفشل أيضا؛ وفي هذه الظروف فإن وجود قطاع خاص معزز يمكن أن يكون ضروريا.
  10. والوصول إلى المزيج الصحيح من التوجيه الحكومي للاقتصاد وتشجيع المبادرة الخاصة ربما يكون هو أكثر التحديات إلحاحا في التنمية الاقتصادية وهذه ليست مشكلة قاصرة على الاقتصادات النامية أو التي تمر بمرحلة انتقالية. فالبحث عن المسار الصعب الذي يقع بين الاقتصاد الموجه والاقتصاد الحر أمر يعني جميع الدول. فالدول الكبيرة ذات اقتصاد السوق، التي تعانى من الكساد المتكرر واستمرار ارتفاع معدلات البطالة، تواجه هذا التحدي أيضا.
  11. وقد عجل تزايد الترابط فيما بين الدول من نقل كل من نبضات النمو الإيجابية والصدمات السلبية. ونتيجة لذلك، فالمشاكل الاقتصادية حتى على الصعيد الوطني يتعين أن ينظر إليها حاليا في سياقها العالمي. والتمييز بين السياسات العامة الاقتصادية الوطنية وتلك الدولية يتضاءل. ولا يمكن لأي دولة، أيا كان مدى نجاحها، أن تعزل نفسها عن المشاكل الديمغرافية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية التي تحدث في العالم. وآثار الحرمان والمرض والمجاعة في أي جزء من العالم يشعر بها العالم كله. ولن يمكن معالجتها بنجاح حتى تبدأ التنمية العالمية.
  12. وجميع الدول هي جزء من نظام اقتصادي دولي، ولكن بينما تبقى دول كثيرة غير منتمية إليه بشكل كامل، فهناك دول أخرى ضعيفة تبقى عرضة للآثار السلبية لعدم استقراره. والتنمية تعوقها مشاكل الدين الخارجي، ونقص تدفقات الموارد الخارجية، والانخفاض الحاد في معدلات التبادل التجاري، وتزايد الحواجز أمام الوصول إلى الأسواق. وقد منع عدم كفاية التعاون الفني والتقني كثيرا من الدول من تحسين كفاءة استخدام الموارد، مما أضر بقدرها على المنافسة الدولية وزاد من عدم قدرتها على الاندماج في الاقتصاد العالمي.
  13. وتوسيع التجارة الدولية أمر ضروري للنمو الاقتصادي، وجزء لا يتجزأ من البعد الاقتصادي للتنمية. ومنافع زيادة التجارة والتبادل التجاري لا شك فيها: فمنها خفض تكاليف المعاملات التجارية، وزيادة الفرص الاقتصادية، وتعزيز الثقة والاستئمان والأمن على الصعيد الدولي.
  14. وتشكل صعوبة الوصول إلى نظام التجارة العالمي عقبة هائلة أمام التنمية. وفي الوقت الحالي، فإن هذا النظام غالبا ما يميز ضد العالم النامي بالحد من ميزته المتمثلة في انخفاض تكاليف اليد العاملة، في الوقت الذي يميل فيه سعر الكثير من السلع الأساسية الأولية إلى الانخفاض.
  15. إن تدويل النشاط الاقتصادي وتزايد الاعتماد على قوى السوق والتسليم على نطاق واسع بأن المبادرة الخاصة هي قوة فعالة للنمو الاقتصادي والجهود الضخمة التي تبذلها الدول النامية وتلك التي تمر بمرحلة انتقالية من أجل تحرير التجارة تدعو إلى نظام تجارى عالمي يتسم بالانفتاح والشفافية ويحترم فيه الجميع القواعد والنظم. وعندما تجد الدول أن لها ميزة مقارنة واضحة في نشاط اقتصادي معين وتستثمر بناء على ذلك في هذا النشاط، فإنه لا ينبغي مواجهتها بعد ذلك بتدابير حمائية جديدة عندما يكون استثمارها قد بدأ يؤتي ثماره وبدأت منتجاتها تدخل الأسواق الأخرى.
  16. غير أن الترابط الاقتصادي قد أخذ يتحول وبشكل سريع إلى أكثر كثيرا من مجرد مسألة تجارة وتمويل، فهناك أيضا اتجاهات قوية نحو زيادة الانفتاح في حركة الأموال والأفراد والأفكار حول العالم. وقد شجع هذا الحكومات على إيجاد بيئة وطنية تجذب الاستثمارات الخارجية.
  17. إن اتباع سياسات اقتصادية كلية تتسم بالمسؤولية على الصعيد العالمي من جانب الدول التي تشكل قوتها الاقتصادية البيئة الاقتصادية الدولية أمر ضروري لجميع الجهود الإنمائية، ودور الإقتصادات الرئيسية في الشؤون المالية العالمية مازال هو الدور المؤثر، فلسياساتها العامة بشأن سعر الفائدة والتضخم واستقرار سعر الصرف أهمية كبيرة. فتقلب سعر الصرف يضاعف من تعقيد مشكلة الديون عن طريق أثره على أسعار الفائدة وإيرادات واحتياطيات العملة الصعبة وخدمة الديون. ولذلك فإن للسياسات التي تتبعها الاقتصادات الرئيسية في شؤونها الداخلية أهمية حاسمة في عالم يتصف بشكل متزايد بأسواق رأس المال العالمية.
  18. إن التعاون الدولي الفعال من أجل التنمية لا يمكن أن ينجح إلا إذا اتخذته الدول الاقتصادية الكبرى هدفا خاصا لها. ولا توجد آلية يمكن بواسطتها دفع هذه الدول إلى إجراء تغيير هيكلي مفيد دوليا في اقتصادها، أو اتباع سياسات اقتصادية وضريبية ونقدية تتسم بدرجة أكبر من المسؤولية على المستوى الدولي.
  19. وفي الوقت الحالي، يتركز تنسيق السياسات العامة الاقتصادية فيما بين الاقتصادات الرئيسية على مجموعة البلدان الصناعية السبعة. وقد فشلت الجهود المتكررة من جانب العالم النامي، لإيجاد صلة بين مجموعة السبعة ومجموعة الخمسة عشر (فريق التشاور والتعاون فيما بين بلدان الجنوب على مستوى القمة). ومع التسليم بأن النمو في الدول الصناعية الكبرى لم يعد المحرك الوحيد للتنمية العالمية، فالتغيير مطلوب لكي تصبح عملية تنسيق السياسات الاقتصادية مستندة إلى قاعدة أوسع.
  20. إن الآليات اللازمة لتكامل السياسات الاقتصادية المسؤولة على المستوى الدولي مع النمو على المستوى الوطني لم تتطور بالشكل الكافي بعد. وعلى رأس قائمة الأولويات اتخاذ تدابير ملائمة لخفض العبء المعوق للديون الدولية، وسياسات عامة للحد من الاتجاه نحو الحمائية، وضمان مشاركة العالم النامي في منافع النظام الجديد للمنظمة العالمية للتجارة.
  21. إن أزمة الديون تزيد من حدة نقص الموارد المالية الضرورية للتنمية الاقتصادية مما يزيد الوضع صعوبة على صعوبته. ففي العقد الأخير تعين على الدول النامية المدينة أن تحول في المتوسط بين 2 و 3 في المائة من ناتجها المحلى الإجمالي إلى الخارج؛ وفي بعض الحالات بلغت الأموال المحولة 6 في المائة أو أكثر من الناتج المحلى الإجمالي. ومن الغريب أن بعض الدول النامية قد أصبحت الآن مصدرة صافية للموارد المالية.
  22. ولمشكلة الديون جوانب كثيرة. فبعض الدول مدينة بمبالغ كبيرة للمصارف التجارية. وكثير من الدول المنخفضة الدخل مدينة بمبالغ كبيرة للدائنين الرسميين سواء على المستويين الثنائي أو متعدد الأطراف. وقد بذلت جهود لإعادة هيكلة الديون التجارية، وفي بعض الحالات للإعفاء من الديون الرسمية الثنائية. هذا ولم يبذل جهد كاف لتخفيف عبء الديون المتعددة الأطراف أو لمساعدة الدول التي لم تتوقف عن الدفع بالرغم من عبء خدمة الديون الكبير.
  23. ولا توجد صيغة وحيدة لتحقيق النمو الاقتصادي، ولكن بعد نصف قرن من ظهور التنمية كميدان مستقل من ميادين البحث هناك بعض الشروط الأساسية المسلم بأهميتها مقدما. وفي مقدمة تلك الشروط الحاجة إلى اتخاذ قرار استراتيجي من أجل التنمية. ويجب أن يكون لدى الدولة الإرادة السياسية اللازمة للعمل.
  24. وقرارات التنمية لا تتخذ في فراغ. ويجب أن تأخذ جميع المجتمعات في اعتبارها الخيارات الإنمائية السابقة والدوائر السياسية وهياكل الإنتاج والعلاقات مع المحيط الخارجي والقيم الثقافية والتوقعات. ويتوقف نمط النمو إلى حد كبير على تأثير هذه العوامل والحلول التوفيقية التي تستتبعها.
  25. ويمكن النظر إلى تجربة الدول التي حققت تنمية سريعة في السنوات القليلة الماضية على أنها نتيجة اختيار واع من جانب الدولة لإعطاء أولوية استراتيجية للنمو. إن تأثير السياسات العامة للدولة، على سبيل المثال، في تشجيع البحث والتطوير أو توفير دعم الهيكل الأساسي والتعليم لأمر جوهري. إلا أن هذا لا يعني أن النمو يحدث من خلال مؤسسات الدولة. فالدولة تعطي قوة دافعة للنمو؛ ولكن الاقتصاد هو الذي يحتاج إلى أن ينمو وليست الدولة نفسها.
  26. والدولة هي التي يجب أن تترجم النمو إلى أشكال مقبولة لدى دوائرها السياسية. وأيا كانت طريقة الإنتاج المتبعة، فإن النمو المتواصل الذي يعتمد على تراكم رأس المال، المادي والبشري والمؤسسي، سيستتبع بعض التضحيات من الاستهلاك الحالي. وقرار تأجيل الاستهلاك لصالح العائدات المتوقعة في المستقبل هو خيار سياسي، بقدر ما هو قرار ادخار يتخذه الأفراد.
  27. إن الدرس الأساسي المستفاد من العقود الأخيرة يبقى صالحا: فنظرا لاختلاف الأحوال والظروف والقدرات، يجب أن تختلف أيضا الآليات اللازمة لتحقيق النمو. والنمو يتطلب التزاما ورؤية سياسيين. ويمكن للأمم المتحدة أن تقوم بدور مساعد للتسهيل والاتصال، ولكنها لا يمكن أن تحل محل التزام الدول وشركائها المحليين والدوليين.

جيم - البيئة كأساس لاستدامة التنمية

  1. البيئة، مثلها في ذلك مثل السلام والاقتصاد والمجتمع والديمقراطية، تتخلل جميع أوجه التنمية، وتؤثر في الدول على جميع المستويات الإنمائية. وفي العالم النامي، فإن الضغوط على البيئة تهدد بإعاقة التنمية طويلة الأجل. وفي كثير من الدول التي تمر بمرحلة انتقالية نجد أن إهمال البيئة طيلة عقود ترك مناطق كبيرة مسممة وغير قادرة على دعم النشاط الاقتصادي في الأجل الطويل. وفي الدول الغنية جدا تؤدي أنماط الاستهلاك إلى استنفاد موارد العالم بشكل يهدد مستقبل التنمية العالمية.
  2. والتنمية والبيئة ليسا مفهومين منفصلين، ولا يمكن معالجة أحدهما بنجاح دون التعامل مع الآخر. فالبيئة مورد للتنمية. وحالتها مقياس هام، وحفظها شغل شاغل للتنمية. والتنمية الناجحة تتطلب سياسات عامة تشمل الاعتبارات البيئية. وقد أقرت هذه الصلة في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية الذي انعقد في عام 1992، والذي وفر نموذجا للجهود الأخرى الرامية إلى زيادة التماسك في مجال التنمية.
  3. إن حفظ توافر الموارد الطبيعية للأرض وترشيد استخدامها هما من أهم القضايا التي يجب أن يواجهها الأفراد والمجتمعات والدول. والموارد الطبيعية لأي دولة هي غالبا أسهل أصولها الإنمائية منالا وأكثرها قابلية للاستغلال. ولحسن إدارة هذه الموارد الطبيعية وحمايتها أثر هام على التنمية وعلى إمكانيات تقدم المجتمع.
  4. وفي إطار التنمية، فإنه يجب على كل مجتمع مواجهة التحديات الصعبة المرتبطة بحماية الإمكانيات طويلة الأجل لموارده الطبيعية. ويجب موازنة الاحتياجات والمصالح المتنافسة. ويجب تلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية الحالية بطرق لا تضعف توافر الموارد في الأجل الطويل أو سلامة النظم البيئية التي نعتمد عليها نحن والأجيال القادمة.
  5. والتدهور البيئي يخفض نوعية وكمية الكثير من الموارد التي يستخدمها الناس بشكل مباشر. إن عدم إيلاء اهتمام كاف لمواجهة مشكلة تدمير الموارد الطبيعية يمكن أن يكون له نتائج وخيمة. فتلوث المياه يضر بمصائد الأسماك. وتزايد الملوحة وتآكل الطبقة السطحية من التربة يقللان غلة المحاصيل. وقد أدى تدهور الزراعة وإزالة الغابات إلى زيادة الجفاف وتحات التربة بحيث أصبحت حالات سوء التغذية والمجاعة أحداثا مألوفة بشكل متزايد في بعض المناطق. وقد أدى الإفراط في صيد الأسماك واستنفاد الموارد البحرية إلى تعريض مجتمعات قديمة للخطر. وأدى الإفراط في قطع الأخشاب وتدمير الغابات المطيرة إلى تدمير موائل طبيعية هامة وتقويض التنوع الإحيائي الشامل. وتركت الممارسات غير السليمة بيئيا المستخدمة في استخراج الموارد الطبيعية مناطق واسعة جرداء وملوثة.
  6. وأكثر ما يدعو إلى القلق أن التدهور يمكن في بعض الحالات أن يكون غير قابل للإصلاح. ولذا يجب أن تحدد على وجه السرعة الممارسات التي يمكن أن تؤدي إلى إلحاق ضرر دائم بصحة الكوكب. ويجب إيقاف هذه الممارسات.
  7. وبالرغم من أن كفالة حفظ الموارد الطبيعية تتضمن بعض القيود، فإنها توفر أيضا كثيرا من الحوافز والفرص القيمة لتفكير جديد. ويمكن للعلم والتكنولوجيا أن يؤديا دورا هاما. وسيكون من الضروري زيادة كفاءة الطاقة واستحداث مصادر جديدة ومتجددة للطاقة. إن تغيير أساليب حياة الناس الأيسر حالا ومواقفهم المتعلقة باستهلاك الطاقة، إلى جانب زيادة كفاءة عمليات الإنتاج، سيؤدى إلى نمط للتنمية العالمية أكثر استدامة.
  8. إن دمج إدارة الموارد الطبيعية وحفظها في التنمية الوطنية يمكن أن يكون له كثير من النتائج النافعة على نطاق واسع.  والسياحة التي تعتمد عليها دول كثيرة يمكن أن تنتج منافع هامة، بما فيها خلق الهيكل الأساسي الحيوي، وزيادة العمالة المباشرة وغير المباشرة، وزيادة الإيرادات من العملة الصعبة، وزيادة الوعي البيئي، وزيادة الاتصال فيما بين الدول، وتهيئة فرص فريدة لبناء هوية وطنية أقوى. فمن المهم وضع استراتيجيات سياحية مستدامة تحفظ البيئة الطبيعية.
  9. إن المبادرات التي يضطلع بها حاليا الرواد في عدة دول أعضاء تبين أيضا أهمية اشتراك المجتمعات المحلية في جميع الجهود الإنمائية. فبجعل السكان المحليين شركاء محفزين بدلا من أن يظلوا مجرد منتفعين ثانويين، أحرزت هذه البرامج تقدما لم يسبق له مثيل. وكانت النتائج هامة في أماكن كثيرة إلى حد أدت معه إلى زيادة التقدير للمنافع الناجمة عن الحفاظ على الموارد الطبيعية وزيادة تعاون المجتمعات المحلية في حفظ الموارد السياحية وارتفاع الإيرادات الريفية. وهي أمثلة هامة يمكن أن يتعلم ويستفيد منها آخرون كثيرون.
  10. غير أن الصلة بين البيئة والتنمية تتضمن ما هو أكثر بكثير من الاستغلال السليم للموارد الطبيعية. فحفظ التوازن البيئي وحمايته عنصر حيوي لا في التنمية البشرية فحسب بل أيضا في بقاء الإنسان.
  11. إن الرفاهية الاجتماعية تنخفض نتيجة لاعتلال الصحة والوفيات المبكرة التي يسببها تدهور نوعية الهواء والمياه وغير ذلك من الأخطار البيئية. فالمواد الملوثة يمكن أن تسبب مشاكل صحية عن طريق التعرض المباشر أو غير المباشر من خلال تغييرات البيئة المادية. وتتراوح الأخطار على الصحة من زيادة التعرض للأشعة فوق البنفسجية إلى التدهور في نوعية الغذاء والمياه.
  12. إن الكيميائيات السامة والمعادن الثقيلة يمكن أن تلوث الأنهار وغيرها من مصادر المياه. ويمكن أن تصعب إزالة كثير من هذه الملوثات من مياه الشرب باستخدام تقنيات التنقية المعتادة. كما يمكن أن يمتص هذه الملوثات الأفراد الذين لا يدركون أن الغذاء ملوث. فالتعرض للمواد الخطرة وخطر التلوث نتيجة للحوادث الصناعية هما أيضا مسألتان تربطان بين البيئة والتنمية.
  13. وبالرغم من أن مناقشة النواحي الملموسة والمادية للبيئة غالبا ما تطغى على المنافع الأخرى، فقدر الطبيعة ذاتها وقيمتها المتأصلان ينبغي احترامهما وينبغي الاعتراف بالارتياح غير الملموس المستمد من التمتع بالبيئة الطبيعية.
  14. إن الكوارث الطبيعية يمكن أن يكون لها أثر هائل وشديد على جهود التنمية. ونظرا لأن الكوارث الطبيعية يمكن أن تلتهم بسرعة إنجازات لم تتحقق إلا بصعوبة، فإنه ينبغي أن يركز التخطيط على السبل اللازمة لامتصاص الصدمات التي لا يمكن تجنبها بحيث لا تضار الهياكل الاجتماعية بشكل لا يمكن إصلاحه، ولا تنتكس المبادرات الاقتصادية إلى الأبد، ولا يحكم على ضحايا الكوارث الطبيعية بالاعتماد الدائم على المساعدة الخارجية.
  15. إن تحسين الإدارة البيئية يتطلب أن تقوم الشركات التجارية والأسر والمزارعون والمجتمع الدولي والحكومات بتغيير نمط سلوكهم. وتلزم بالتالي سياسات عامة ذات أهداف محددة لضمان انعكاس القيم البيئية على الوجه الصحيح في النشاط الاقتصادي. ويجب أن تحاسب المؤسسات العامة والخاصة على السواء على الأثر البيئي لأنشطتها، كما يجب أن تقوم الحكومات بدور رائد في صياغة السياسات العامة واتباع الاستراتيجيات الإنمائية التي تشجع التنمية السليمة بيئيا.
  16. وفي كثير من الدول، يتبين أن عدم كفاية المؤسسات يشكل عقبات رئيسية أمام تصميم وتنفيذ مشاريع إنمائية تتسم بالسلامة والمسؤولية من الناحية البيئية. وعلى ذلك، يجب أن تعزز القدرات الوطنية في مجال تصميم السياسات البيئية وتنفيذها وإنفاذها.
  17. إن الصلات المتبادلة بين البيئة والمجتمع والاقتصاد والمشاركة السياسية تبرز أهمية معالجة الجانب البيئي للتنمية في إطار وطني. والصلة بين الفقر والاستدامة البيئية قوية للغاية. وبالرغم من أن المجتمعات المحلية الفقيرة غالبا ما يكون لديها مبدأ أخلاقي راسخ فيما يتعلق بالرقابة على إدارة أراضيها التقليدية، فإن الضغوط السكانية المتزايدة ونقص الموارد غالبا ما يجعلان من الصعب عليها تفادي تدهور بيئتها. إن الأفراد الذين يعانون من الفقر المدقع ويعيشون عيش الكفاف يكون شغلهم الشاغل هو البقاء من يوم إلى آخر. وغالبا ما يكون هؤلاء ضحايا وسببا للتدهور البيئي في آن واحد. إن السياسات العامة التي تحسن البيئة، بتخفيض تلوث المياه، على سبيل المثال، غالبا ما تنتج أكبر المنافع الإيجابية لأفقر أفراد المجتمع. إن السياسات العامة الفعالة في تخفيف حدة الفقر ستساعد في خفض النمو السكاني وإنقاص الضغط على البيئة.
  18. إن السياسات العامة التي تعزز التعاون التكنولوجي وكفاءة استخدام الموارد يمكن أيضا أن تساعد في إيجاد حلول للتحديات البيئية. كما أن العلاقات بين المدخلات والمخرجات والآثار الإجمالية للنشاط الاقتصادي على البيئة تتغير باستمرار. ومفتاح زيادة الاستدامة ليس بالضرورة تخفيض الإنتاج، ولكنه الإنتاج بشكل مختلف.  إن ارتفاع الإيرادات يمكن أن يدفع تكاليف الاستثمارات في تحسين البيئة، كما أن منع استنفاد أو تدهور الطبيعة أقل كلفة بكثير من محاولة إصلاح الأضرار.
  19. وغالبا ما يفتقر الأفراد والمجتمعات المحلية إلى المعلومات عن الآثار البيئية أو السبل منخفضة التكلفة لتفادى الأضرار. ولذلك يجب على الحكومات وغيرها العمل بنشاط على تعزيز الوعي البيئي. ويمكن أن يكون الوعي أهم عامل في حفز العمل البيئي.
  20. وإذا أريد نجاح التنمية المستدامة، فإنها يجب أن تصبح شغلا شاغلا وواجبا لا للحكومات فحسب بل أيضا لجميع شرائح المجتمع. إن التنمية المستدامة تعني التزاما باستخدام موارد متجددة وتفادي الإفراط في استهلاك الموارد غير المتجددة. كما أنها تعني اختيار المنتجات وعمليات الإنتاج التي يكون لها أقل أثر سيئ على البيئة. وفي الزراعة، فإنها تعني تفادي الإفراط في استخدام الكيميائيات الضارة وكثيفة الطاقة وحفظ التنوع الأحيائي. وفي جميع مجالات الحياة العامة والخاصة، فهي تعني التزاما بالمحافظة على الموارد الطبيعية وحماية التوازن البيئي.
  21. إن تحديد أولويات السياسة العامة البيئية الدولية أمر معقد جدا. فتكاليف القعود عن فعل أي شئ قد تتحملها دول أخرى؛ والمكاسب قد لا تكون من نصيب أولئك الذين يتخذون أصعب القرارات.
  22. وينبغي إيلاء الاعتبار للمشاكل على كل المستويات. فبعض المشاكل ذات أثر عالمي، كالأضرار اللاحقة بطبقة الأوزون، مثلا.  وقد يكون التلوث الصناعي عبر الحدود ذا أثر إقليمي. وقد يكون تلوث مياه الشرب ذا أثر محلي.  ودور كل من التنظيم والحوافز على مختلف الصعد يمكن أن يكون حاسما. ولذا فإنه ستلزم (*) قواعد ونظم مباشرة، ولكن استخدام الضرائب والتراخيص أيضا يمكن أن يحقق نتائج.
  23. وقد أحدثت نتائج إزالة الغابات والتدهور البيئي ضغوطا تسببت في صراعات مريرة. وفي عدد متزايد من المناطق الإقليمية سيصبح الفقر وتدهور الموارد والصراع ثالوثا مألوفا تماما. وفي جميع أنحاء العالم، فإن اللاجئين الفارين من آثار الدمار والنضوب البيئيين يلقون عبئا إضافيا على المناطق الحضرية المثقلة بالفعل.
  24. ولكن بالرغم من أن الاحتمال المتمثل في قيام صراع بسبب الموارد يبرز المصلحة المشتركة لجميع الدول في معالجة تحدي البيئة والتنمية، فإن التعاون الدولي لازم لكي يتسنى معالجة مجموعة كبيرة من المصالح البيئية والإنمائية المشتركة معالجة فعالة. وعندما تتخطى آثار التدهور البيئي الحدود الوطنية لا يكون من الممكن الاعتماد، كما في حالة دولة بعينها، على إطار قانوني مشترك أو ضوابط تنظيمية موحدة أو حوافز اقتصادية مشتركة أو السلطات القسرية لحكومة وطنية.
  25. إن حلول المشاكل البيئية الدولية يجب أن تستند إلى مبادئ وقواعد مشتركة للتعاون فيما بين دول ذات سيادة، يدعمها الإقناع والمفاوضات. ويمكن أن تنشأ مشاكل إقليمية، وقد تكون لها عواقب سياسية، عندما تتقاسم الدول المتجاورة موردا مشتركا، كالأنهار الدولية أو البحار الإقليمية. وهناك أيضا موارد بيئية عالمية، كالغلاف الجوى والمحيطات، يجب أن تتخذ بشأنها إجراءات متعددة الأطراف. وفي حالة الموارد التي تخص دولة واحدة، ولكن لها قيمة للمجتمع الدولي، كالموائل البيئية والأنواع النادرة على سبيل المثال، من حق الدول منفردة الحصول على التعاون الدولي لحفظ التراث المشترك.
  26. ومن الضروري تعزيز الاستدامة كمبدأ استرشادي للتنمية. والمشاركة لازمة على جميع مستويات الجهد الإنمائي، فيما بين مختلف الدوائر ومستويات الإدارة داخل الدول، وكذلك بين المنظمات الدولية والحكومات والعاملين من غير الدول. وخلاصة القول هو أن التفاعل الحقيقي بين البشرية والطبيعة أمر مطلوب.

دال - العدالة كدعامة للمجتمع

  1. إن التنمية لا تحدث في فراغ ولا تبنى على أسس مجردة. التنمية تحدث ضمن مضمون محدد للمجتمع واستجابة لظروف مجتمع بعينه. وهي تؤثر على جميع جوانب المجتمع، كما أن جميع جوانب المجتمع تسهم في التنمية أو تنتقص منها. ويؤثر النمو الاقتصادي والتحول التكنولوجي على العلاقات الإنسانية والهياكل المجتمعية والقيم وأساليب الحياة في المجتمع. كما أن تنمية الموارد الاجتماعية والبشرية تجعل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية أكثر تواؤما وتسهل التدامج والتجانس الاجتماعي وتوفر أساسا صلبا ومرنا من أجل تحقيق التقدم طويل الأجل.
  2. والظروف الاجتماعية القائمة هي نقطة البداية لجهود التنمية. فهي تحدد إلى درجة كبيرة أولوياتها واتجاهها. وفي كثير من أنحاء العالم النامي، يعد الفقر والمرض والافتقار إلى التعليم وإلى أسباب العيش المستدامة بمثابة الأولويات الإنمائية الأكثر ضرورة والأشد إلحاحا. وفي كثير من الدول التي تمر بمرحلة انتقالية ينبغي للتنمية التصدي بسرعة للمشاكل الإنمائية الخاصة بهذه الدول والتي تتمثل في الصعوبات الاقتصادية المفاجئة والصناعات والهياكل الأساسية المتداعية والمشاكل الاجتماعية الناتجة عن شعور بالضياع الاجتماعي. وفي الدول الأكثر غنى،  فإن نمو طبقة مطحونة باستمرار ونزوح أعداد متزايدة من المهاجرين لأسباب اقتصادية وزيادة اتجاهات كراهية الأجنبي والمواقف القائمة على استبعاد الغير، كلها حقائق ينبغي مواجهتها بينما تواصل تلك المجتمعات تقدمها وتنميتها.
  3. إن البشر هم الرصيد الأساسي لأي بلد. ورفاهتهم هي التي تحدد تعريف التنمية، ومن طاقتهم ومبادراتهم تستمد التنمية قوة اندفاعها. وخصائصهم هي التي تحدد طابع واتجاه التنمية البشرية المستدامة. على أن فوائد الاستثمار في البشر تتجاوز زيادة إنتاجية اليد العاملة وتيسير سبل الوصول إلى الفرص العالمية. فالمواطنون الأصحاء، المتعلمون تعليما جيدا يسهمون ولا شك في التماسك الاجتماعي لأي بلد ويضفون الدينامية على جميع جوانب الحياة والثقافة.
  4. ومن ناحية أخرى، فإن الفقر المدقع والجوع والمرض والأمية هي قدر خمس سكان العالم. ولا يمكن أن يكون هناك مهمة أشد إلحاحا للتنمية من التصدي لأسباب وأعراض هذه العلل. وتلك مهمة تتطلب عملا والتزاما. وهي برنامج عمل يتطلب أكبر قدر ممكن من توزيع الجهود الإنمائية وتنفيذ استراتيجيات شاملة القواعد وتوجيه جهود التنمية نحو مشاريع تعزز طاقات وقدرات البشر قبل تعزيز الزهو الوطني.
  5. وتؤثر معدلات النمو الديمغرافي على أنماط الاستهلاك والإنتاج في المجتمعات. إلا أن نمو السكان الذي لا سبيل إلى رعايته أو تحمله قد تنجم عنه، بعد حد معين، آثار سلبية على جهود التنمية على المستوى العالمي. وهذه الآثار يترتب عليها آثار أعمق بالنسبة لاستخدام الموارد الطبيعية، كالمياه والأخشاب والوقود والهواء. وهي تؤثر على قدرة الحكومات على تهيئة الخدمات الأساسية التي يحتاجها البشر، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية.
  6. وتنجم عن معدلات الخصوبة والوفاة آثار اجتماعية تتعدى مجرد تعداد السكان. إن خفض نسبة الخصوبة مثلا يعني أسرا ذات حجم أصغر ويعني تخصيص وقت أقل لعمليات حمل وتربية الأطفال. وهذه التغييرات تتيح لأعداد متزايدة من النساء مواصلة تعليمهن النظامي والعمل خارج المنزل. فالتعليم يزيد من فرصهن في العمل ويعزز قدرتهن على الاختيار في كل جوانب الحياة. ويؤدى انخفاض نسب الوفيات والخصوبة أيضا إلى ارتفاع نسبة كبار السن بين السكان، وهي ظاهرة لها آثار هامة على قوة العمل ومعدلات الإعالة وخدمات الرعاية الاجتماعية ونظم الرعاية الصحية.
  7. ومن شأن الصراعات المطولة أن ينجم عنها أثر مأساوي على أوضاع السكان: إذ يزداد عدد الإناث المسؤولات عن إعالة أسر بأكملها، وكذلك يزداد عدد اليتامى والمعوقين. ولهذا فإن الاهتمام الخاص بهذه الفئات السكانية المستضعفة يعد أولوية فورية كبرى، فبدون هذه الفئات لا يمكن للمجتمع ذاته أن ينجح. وحالما أعيد تشكيل وحدة الأسرة وتلقي الضعفاء والأكثر تضررا الرعاية اللازمة، فإنهم يصبحون قادرين على أن يشكلوا الدعامة لجهود التنمية على نطاق أوسع.
  8. إن أهمية التكامل الاجتماعي، بوصفه أولوية إنمائية، أصبحت واضحة على نطاق العالم كله، وكذلك فيما بين الدول عبر منظور التنمية. أما مظاهر الافتقار إلى التكامل الاجتماعي فقد أصبحت مألوفة: التمييز والتعصب وعدم التسامح والاضطهاد. كما أن نتائجها مألوفة أيضا: السخط الاجتماعي والانفصالية والنزاعات القومية والصراع.
  9. لقد أخذ تحدي التكامل الاجتماعي طابعا دوليا. فحركة الأفراد الواسعة عبر الحدود الدولية، التماسا لحياة جديدة أفضل، تؤثر تأثيرا حاسما سواء على البرامج الوطنية أو الدولية. وبينما ينجو ملايين من البشر بأنفسهم من الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية، فإن هناك ملايين آخرين يهاجرون بحثا عن العمل. ولذلك، أصبح تنظيم الهجرة مسألة سياسية خلافية في كثير من الدول المستقبلة للمهاجرين، بينما أضافت الضغوط السياسية للهجرة مزيدا من التوترات الاجتماعية والاقتصادية في الكثير من الدول المرسلة للمهاجرين. وقد يكون المهاجرون من بين أعلى العناصر مهارة وأفضلها تعليما، وهو ما يمثل خسارة فادحة في الموارد والاستثمارات الوطنية.
  10. وحتى يتسنى تحسين التنمية على نطاق عالمي، سوف تظل أعداد كبيرة من السكان تنتقل عبر الحدود برغم الجهود الرامية إلى السيطرة على هذا التدفق أو إلى إعاقته. وفي بعض المجتمعات أدت مشاعر الاستياء من المهاجرين إلى إذكاء نيران البغض والتعصب، وكثيرا ما بدت السياسات الرسمية وكأنها تتغاضى عن نزعة الانفصالية بدلا من العمل على تعزيز الاندماج الاجتماعي. وفي أماكن أخرى فإن جماعات المهاجرين قاومت الاندماج الاجتماعي. وقد أصبحت مسألة معاملة المهاجرين موضع توتر كبير في الكثير من العلاقات الثنائية.
  11. إن التحدي الهائل للتنمية لا يمكن أن يضطلع به البشر الذين تتركز كل اهتماماتهم على مجرد الحصول على لقمة العيش أو الشفاء من الأمراض السقيمة. كما أنه لا يمكن للسكان الأميين وغير المتعلمين أن يراودهم الأمل في القدرة على المنافسة في اقتصاد عالمي يزداد تعقيدا وتطورا. كذلك فإن المجتمع الذي يشهد التمييز ضد المرأة أو يحرمها من تساوي الفرص لا يستطيع تحقيق كل إمكاناته البشرية كاملة.
  12. وبينما يمثل الاستثمار في رأس المال المادي جانبا مهما لحفز النمو الاقتصادي، فإن الاستثمار في التنمية البشرية هو استثمار في القدرة على المنافسة في الأجل الطويل، وهو أيضا عنصر مهم في إحراز التقدم المستقر والمتواصل. ومن ثم ينبغي النظر إلى الاستثمار في الموارد البشرية لا على أنه مجرد ناتج فرعي من نواتج النمو الاقتصادي ولكن بوصفه قوة دفع فعالة ولازمة لجميع نواحي التنمية. إن المجتمع الذي يفتقر إلى الاستقرار لا يمكن أن يبنى اقتصادا مستقرا ولا نظاما سياسيا مستقرا. ولابد في هذا الصدد من وجود نسيج اجتماعي قوي كشرط أساسي لاستدامة التنمية.
  13. إن خلق بيئة تتيح الوصول إلى الإمكانات والفرص على نطاق واسع قد يتطلب اتخاذ إجراءات حكومية. ومن الضروري كذلك إتاحة الظروف السياسية التي تعطي الثقل الكافي للتنمية الاجتماعية وتنفيذ سياسات التنمية الاجتماعية. وهذه كلها مسؤوليات جسام تتحملها الحكومات وكافة مؤسسات المجتمع. وعلى الحكومات التأكد من إيلاء الاهتمام الكافي بالعوامل الاجتماعية والبيئية ضمن إطار اقتصاد السوق، مع التركيز على الأنشطة التي تعزز التنمية البشرية في المجتمع بأسره. فالتعليم والخدمات الصحية والإسكان والرعاية الاجتماعية مجالات خاصة تتطلب غالبا إجراءات حكومية.
  14. إن وجود مجتمع مدني فعال ونشط أمر لا غنى عنه من أجل قيام تنمية اجتماعية دائمة وناجحة. وإذا ما كان للتنمية الاجتماعية أن تترسخ، فإنها ينبغي أن تنبع من واقع المجتمع ذاته. وعلى الحكومات أن تقود المسيرة وتيسِّر الأمور. غير أن الحكومات لا تستطيع، ولا ينبغي لها، أن تكون القوة الوحيدة التي تعمل من أجل التقدم الاجتماعي. فالمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المحلي والمشاريع الخاصة ومنظمات العمال وغير ذلك من الفئات ينبغي لها أن تشارك مشاركة فعالة. وبوسع المنظمات غير الحكومية المحلية بالذات أن تقوم بدور الوسطاء وأن توفر للأفراد منبرا لسماع صوتهم وعرض مطالبهم واختياراتهم ورؤيتهم لمجتمع أفضل. وينبغي لصانعي السياسة أن ينظروا إلى تلك المنظمات لا بوصفها منافسة للحكومة بل بوصفها شريكا لها. وفي هذا الصدد فإنه في الدول التي لا يزال المجتمع المدني فيها ضعيفا ينبغي أن يصبح دعم وتقوية هذا المجتمع هدفا أساسيا من أهداف السياسة العامة.
  15. إن للمشاركة الشعبية على جميع مستويات المجتمع أهمية حيوية في المساعدة على خلق الظروف الملائمة لتحقيق التنمية الاجتماعية. فإذا ما أريد للبشر أن يستغلوا كل طاقاتهم وإمكانياتهم فلابد لهم أن يشاركوا بفاعلية في صياغة أهدافهم، وأن تسمع أصواتهم في هيئات اتخاذ القرار بينما يسعون إلى اتباع أكثر ما يناسبهم من الأساليب من أجل تحقيق التنمية.
  16. إن الديمقراطية والمجتمع المدني الفعال أمران حيويان للغاية للمساعدة على ضمان أن تظل الحكومات مدركة للآثار الاجتماعية الناجمة عن سياساتها. وفي كثير من الدول، كان لعملية التكيف الهيكلي الاقتصادي، وهي عملية ضرورية، نتائج اجتماعية قاسية. فغالبا ما كان ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية وانكماش فرص العمالة وانخفاض الدخول هي أبرز الآثار الناجمة عن التكيف والتحول. ولقد كان الأثر غير المتناسب لهذه النتائج على الفقراء والمستضعفين بصفة خاصة مدمرا للغاية. ثم تزايدت معاناة الكثيرين من جراء ما طرأ من انخفاض عام في أوجه الإنفاق الحكومي على القطاع الاجتماعي، تنفيذا للمزيد من سياسات التقشف في الموازنات العامة.
  17. على أن التكيف الهيكلي يظل علاجا ضروريا لاختلال التوازن الاقتصادي الحاد. ولكن ينبغي أن يكون واضحا أنه لا سبيل إلى إهمال الاحتياجات والأولويات الإنسانية وأن التكيف والتحول ينبغي أن يركزا تركيزا واضحا على الإنسان، وإن كان من الصعب تغيير قوانين الاقتصاد فإنه يمكن تخفيف حدة الآثار الاجتماعية الناجمة عنها. والأمر يقتضي المرونة. وفي مواجهة مثل هذه التحديات، ينبغي تشجيع الحكومات على مواصلة المسيرة، مع إيلاء المزيد من الاهتمام لمساعدة الحكومات على معالجة الآثار القاسية التي يعاني منها الأفراد نتيجة لمثل هذه الإصلاحات.
  18. إن التوسع في العمالة المنتجة أمر أساسي لتخفيف حدة الفقر وتعزيز التكامل الاجتماعي، إلا أن مستويات البطالة المتزايدة أصبحت ظاهرة في العالم كله. وفي كثير من الدول اقترنت مستويات البطالة المرتفعة، بالنسبة لما كانت عليه في الماضي، بانخفاضات كبيرة في الأجور الحقيقية للعاملين. وفي الدول التي كانت العمالة الكاملة فيها هي القاعدة الرسمية في السابق، ترتب على الارتفاع المطرد في نسبة البطالة نتائج سيكولوجية عميقة، بالإضافة إلى آثارها القاسية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. وفي بعض الدول، أدت فترات طويلة من التقشف الاقتصادي إلى ظاهرة "نمو البطالة" وإلى شعور أكثر شيوعا بعدم الأمن في العمل. ومن بين قوة العمل العالمية البالغة 2.5 بليون نسمة، ويقدر أن هناك نسبة 30 في المائة ليست مستخدمة على نحو منتج.
  19. ولا توجد صيغة وحيدة لعلاج البطالة أو زيادة العمالة المنتجة. فمن شأن تدابير سوق العمل وبرامج التدريب وإعادة التدريب والبرامج التنظيمية الهادفة لإيجاد فرص العمل وسياسة الاقتصاد الكلي، من شأن ذلك كله أن يؤثر على مستويات العمالة. وبما أن معظم الوظائف في المستقبل القريب يرجح وجودها في القطاع الخاص، فإن لهياكل الحوافز الجيدة التصميم دورا مهما في جذب وتوجيه الاستثمارات الخاصة لصالح نمو العمالة. ومن مهام الدولة في هذا الصدد توفير البيئة المُواتية أمام القطاع الخاص لخلق وظائف أكثر عددا وأفضل نوعية. ومن الضروري وجود إطار قانوني عادل وموثوق به وبيئة استثمارية مستقرة مع استمرار صيانة البني الأساسية.
  20. ولأن الزراعة تستأثر بالحجم الأكبر من قوة العمل في العالم النامي، فإن التدابير الرامية إلى تعزيز الإنتاجية الزراعية وتوسيع وتنويع نطاق الأنشطة التي تتم في المزارع وخارجها لابد أن ينظر إليها على أنها أولوية إنمائية. وتشمل العناصر الأساسية لدعم القطاع الريفي سياسات تسعير الأغذية والتقنيات الزراعية والأنشطة الريفية خارج المزرعة التي لها روابط مع العمالة والبني الأساسية الريفية وبرامج الحفظ الملائمة بيئيا. وينبغي الاستمرار في دعم البحث الزراعي الذي يهدف إلى زيادة المحصول.
  21. وتتأثر إمكانيات العمالة كذلك بالظروف السائدة في الاقتصاد الدولي وهيكل البيئة الاقتصادية الدولية. وقد نجم عن الحواجز التجارية أثر سلبي ومعوق لأنه حرم الدول المنتجة من الوظائف الإنتاجية وسبل العيش، كما أدى إلى إعاقة إمكانيات النمو الاقتصادي.
  22. ولابد من تدارس قضايا العمالة في إطار دولي. ففي الدول التي تمر بمرحلة انتقالية، حدث تحرك ضروري نحو مبادئ اقتصاد السوق، وتلك عملية أدت مؤقتا إلى ارتفاع مستويات البطالة عما كانت عليه في السابق. وفي أغنى الدول الصناعية، زادت البطالة الهيكلية. وبالإضافة إلى ذلك، أدت زيادة التنافس الدولي إلى أن أصبحت الكثير من الصناعات، مع مرور الزمن، غير صالحة فضلا عن اختفاء الآلاف من الوظائف في مجال الصناعات الدفاعية. وتتطلب هذه التحولات العمل على إعادة تدريب الملايين من العمال. وفي كل من النظامين الاقتصاديين- الذي يمر بمرحلة انتقالية واقتصاد السوق - فإن ديناميكية شغل الوظائف تعني جزءا هاما من خلق الوظائف. وبينما يمكن للحراك المهني أن يتسم بكفاءة اقتصادية، فإنه يمكن أن يصبح كذلك مصدرا لاضطراب سيكولوجي واجتماعي. وتتحمل الحكومات والمشاريع والنقابات مسؤولية متزايدة إزاء تسهيل التكيف للعمال والانتقال من طبقة إلى أخرى وتهيئة سبل التدريب والحماية الاجتماعية خلال الفترات الانتقالية.
  23. ومن شأن تعليم عام جيد على المستويين الابتدائي والثانوي ألا يوفر قاعدة معرفية واسعة فحسب، ولكنه يرسي أيضا الأساس لاكتساب المزيد من المهارات الدقيقة ومن ثم لتجديد أو تكييف أو تغيير هذه المهارات حتى تتلاءم على نحو أفضل مع الاحتياجات الناشئة والمتطورة للأفراد والمجتمعات. إن التعليم يسهل تكافؤ الفرص، ومن ثم يسهم في تحقيق المزيد من العدالة. والتعليم الذي يقوم على قاعدة واسعة ومرنة يمكن أن يشكل قوة دافعة لتحقيق التقدم في مجال التنمية بكافة أبعادها السياسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية.
  24. ولا يكفي الاعتراف بأهمية البعد الاجتماعي للتنمية، بل ينبغي العمل من أجله. إن الشكل السياسي لقضايا التنمية الاجتماعية ينبغي إبرازه سواء على الصعيد الوطني أو الدولي. وعلى كل دولة يقع واجب التصدي لتحديات التنمية الاجتماعية في إطار مجتمعها، كما أن من واجب كل دولة المساهمة في التقدم نحو إيجاد حل أشمل لتلك التحديات. وتوفر المرحلة الراهنة فرصة تاريخية للقيام بذلك في ظل بيئة متحررة نسبيا من التوترات العقائدية الزائدة عن الحد. وتلك فرصة يجب اغتنامها وتحويلها إلى ميزة.

هاء- الديمقراطية كأسلوب حكم جيد

  1. الصلة بين التنمية والديمقراطية صلة بديهية، ولكن لا يزال من الصعب بلورتها. وفي حين يبدو أن الديمقراطية والتنمية مفهومان (*) يرتبط كل منهما بالآخر إلا أن الأحداث في أغلب الأحيان لم تبرز العلاقة السببية بينهما. فمثلا نجد أن بعض الدول حققت مستوى معينا من التنمية، ثم أعقب ذلك في مرحلة لاحقة اتجاه نحو التحول الديمقراطي، بينما أدى التحول الديمقراطي في دول أخرى إلى تمهيد الطريق نحو ثورة اقتصادية.
  2. وعند النظر إلى الديمقراطية في سياق التنمية، فإن تركيزنا ينبغي أن يكون على العمليات والاتجاهات لا على الوقائع والأحداث. ومن هذا المنظور، تصبح الصلة الطبيعية بين التنمية والديمقراطية أكثر وضوحا. وكما أن التنمية عملية شاملة ومستمرة أكثر من كونها مجرد حدثا (*) من الأحداث، فإن الديمقراطية ينبغي النظر إليها بوصفها عملية تنمو وتزدهر ويتعين الحفاظ عليها على مدار الزمن. وقد أكد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان الذي عقد في فيينا عام 1993 علاقة التعزيز المتبادل بين الديمقراطية والتنمية واحترام حقوق الإنسان.
  3. إن هناك ارتباطا أساسيا بين الديمقراطية والتنمية. فهما مرتبطتان باعتبار أن الديمقراطية تشكل الأساس طويل الأجل الوحيد لاحتواء المصالح المتنافسة، العرقية والدينية والثقافية، بطريقة تجعل خطر نشوب صراع داخلي عنيف أقل ما يمكن. وهما مرتبطتان لأن الديمقراطية وثيقة الصلة بمسألة أسلوب الحكم التي تؤثر بدورها على كافة جهود التنمية. وهما مرتبطان لأن الديمقراطية حق أساسي من حقوق الإنسان، والنهوض بهذا الحق في حد ذاته يعتبر إجراء هاما من إجراءات التنمية. وهما مرتبطتان لأن المشاركة الشعبية في عمليات صنع القرار التي تؤثر على حياة الأفراد مبدأ أساسي من المبادئ التي تقوم عليها التنمية.
  4. غير أن تزايد اليأس الاقتصادي وغياب السبل الديمقراطية التي تكفل حدوث التغيير أديا إلى إشعال أو تأجيج النوازع العنيفة والمدمرة حتى داخل المجتمعات المتجانسة نسبيا. وأصبح النزاع والصراع الأهليان يشكلان بصورة متزايدة تهديدا للسلم الدولي وعقبة عسيرة في طريق التنمية. إن العداء العرقي ونوازع التعصب الديني والانفصالية الثقافية تهدد تماسك المجتمعات وسلامة الدول في كافة أنحاء العالم. إن الأقليات، بل حتى الأغلبيات، المهملة والمفتقرة إلى الشعور بالأمن باتت تلجأ بصورة متزايدة إلى النزاع المسلح وسيلة للتصدي لما تعانيه من مظالم اجتماعية وسياسية.
  5. والديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة على المدى الطويل سواء للفصل أو للسيطرة على الكثير من التوترات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعرقية باعتبارها تهديدا مستمرا بتفتيت المجتمعات وتدمير الدول. وفي غياب الديمقراطية كمنبر للتنافس وأداة للتغيير، ستظل التنمية هشة وتبقى دوما معرضة للخطر.
  6. إن الاضطراب والنزاع يمكن أن يؤديا في غضون أشهر قليلة إلى تدمير التقدم نحو التنمية الذي تحقق بجهد جهيد على مدار سنوات عديدة. وفي غمار الاندفاع نحو تسوية الحسابات القديمة، وتصور رفع الظلم، فإن أي مكاسب يمكن أن تكون قد تحققت ستصبح من بين الخسائر الكثيرة نتيجة لمثل هذه الحالة.
  7. إن إجراء الانتخابات لا يمثل سوى عنصر واحد من عناصر عملية التحول الديمقراطي. ولقد التمست الدول الأعضاء وتلقت مساعدة من الأمم المتحدة في تسهيل عملية إنهاء الاستعمار وإعمال حق تقرير المصير ووضع الإجراءات الكفيلة بتسهيل وتيسير عمليات التحول إلى الديمقراطية، وبناء بدائل ديمقراطية عن الصراع. كذلك قدمت الأمم المتحدة دعمها إلى أنشطة عديدة مثل صياغة الدساتير ووضع الإصلاحات الإدارية والمالية وتدعيم القوانين المحلية لحقوق الإنسان وتعزيز الهياكل القضائية وتدريب مسؤولي حقوق الإنسان، ومساعدة حركات المعارضة المسلحة في الماضي على التحول إلى أحزاب سياسية تتنافس ديمقراطيا.
  8. إن تحسين وتعزيز أسلوب الحكم شرط أساسي لنجاح أي خطة أو استراتيجية للتنمية. وقد يكون أسلوب الحكم هو المتغير الإنمائي الوحيد والأهم الذي يخضع لسيطرة الدول فرادى.
  9. وفي سياق التنمية، يكتسب تحسين أساليب الحكم معان (*) شتى. ولكنه يعنى بصورة خاصة تصميم ومتابعة استراتيجية وطنية شاملة للتنمية. ويعني كفالة القدرة والمصداقية والنزاهة للمؤسسات الرئيسية في الدولة الحديثة. ويعني كذلك زيادة قدرة الحكومة على تنفيذ السياسات والمهام الحكومية، بما في ذلك إدارة أنظمة التنفيذ. ثم يعني أيضا المساءلة عن الإجراءات المتخذة والشفافية في صنع القرارات.
  10. وبصرف النظر عن الأيديولوجية أو الموقع الجغرافي أو درجة النمو، فإن المجتمعات التي تفتقر إلى الديمقراطية تتشابه فيما بينها، حيث تحوي طبقة وسطى عاجزة نسبيا، وسكانا مضطرون (*) إلى الصمت، وطبقة أقلية حاكمة هي المستفيد الوحيد من نظام يقوم على فساد ضارب الجذور وكثيرا ما يكون فسادا مؤسسيا. أما السكان في ظل حكم ديموقراطي فلديهم مزيد من حرية التعبير في وجه الابتزاز والفساد. إن تحسين أساليب الحكم يعني أن الإجراءات البيروقراطية تساعد على كفالة العدل بدلا من إثراء المسؤولين.
  11. وإذا كانت الديمقراطية لا تشكل الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها تحسين أساليب الحكم، فإنها الوسيلة الوحيدة الموثوق بها. فالديمقراطية من خلال ضمان المزيد من المشاركة الشعبية تؤدي إلى زيادة احتمالات أن تعكس الأهداف الإنمائية الوطنية الطموحات والأولويات العريضة للمجتمع. ومن خلال توفير الآليات والقنوات الملائمة لتداول السلطة، توفر الديمقراطية الحافز الذي يدفع إلى حماية قدرة مؤسسات الدولة المحورية ومصداقيتها ونزاهتها، بما في ذلك مؤسسة الخدمة المدنية والنظام القانوني وعملية الديمقراطية ذاتها. وبإقرار الشرعية السياسية للحكومات، تدعم الديمقراطية قدرة الحكومات على تنفيذ سياساتها والقيام بوظائفها بكفاءة وفعالية. وحيث تجعل الديمقراطية الحكومات مسؤولة أمام مواطنيها، فهي تجعل هذه الحكومة أو تلك أكثر استجابة للقضايا والاهتمامات التي تشغل شعبها وتزيد من التشجيع على الشفافية في صنع القرارات.
  12. إن التفويض الشعبي بالحكم يكفل الشرعية؛ ولكنه لا يحمل معه بالضرورة ضمانا بإدارة دفة الحكم في مهارة أو حكمة. فالديمقراطية لا تؤدي إلى تحقيق أسلوب حكم جيد أوتوماتيكيا، وليس بمقدور الحكم الديمقراطي أن يؤدي تلقائيا إلى تحسينات ملموسة في معدلات النمو أو الظروف الاجتماعية أو المساواة. وعندما تكفل الديمقراطية للناس قنوات المشاركة في القرارات التي تؤثر على حياتهم، فهي تجعل الحكومات أقرب إلى جماهير الشعب. ومن خلال اللامركزية وتدعيم الهياكل المحلية، فإن العوامل المحلية التي تمس القرارات المتعلقة بالتنمية تؤخذ في الاعتبار بشكل أفضل.
  13. والديمقراطية ذاتها ليست بلا ثغرات؛ إذ يمكن التعرف على ممارسات غير ديمقراطية حتى في الدول التي تأصلت فيها جذور التقاليد الديمقراطية. فهناك مثلا الانخفاض المزمن في إقبال الناخبين على الاقتراع وتمويل المرشحين من قِبَل جماعات المصالح الخاصة والافتقار إلى الشفافية في بعض مؤسسات الحكم. كذلك فإن وجود طبقة مطحونة بشكل دائم أصبح سمة من سمات الكثير من أغنى المجتمعات. وأخيرا، فإن استمرار ارتفاع معدلات البطالة ووجود مهاجرين أجانب أديا إلى إحياء روح بغض الأجنبي والتعصب القومي الشديد والحركات المتطرفة المناهضة للديمقراطية في بعض المجتمعات التي تتمتع بأعلى مستويات للمعيشة. وتوضح هذه الظواهر أن هناك حاجة إلى تعزيز التنمية السياسية حتى في المجتمعات التي طال اعتبار الديمقراطية فيها راسخة الجذور.
  14. وفي أماكن أخرى، أدى إطلاق العنان لمشاعر الإحباط التي طال كبتها نتيجة لعقود طويلة من حكم الحزب الواحد إلى الخلط بين الانتخابات المتعددة الأحزاب والديمقراطية الدائمة. وإذا كانت التعددية والبرلمانات أمورا لا غنى عنها للتحول نحو الحكم الديمقراطي، فإن زوال دولة الحزب الواحد لا يضمن انتصار الديمقراطية النهائي. بل لقد أدى تفتيت المجتمعات المتعددة الأعراق وصعوبة بداية فترة التحول إلى اقتصاد السوق إلى إحياء النزعات المعادية للديمقراطية التي تسعى إلى ممارسة السلطة السياسية.
  15. إن بروز القوى المعادية للديمقراطية التي أقامت دعواها على أساس خيبة أمل الشعب نتيجة سوء الأداء الاقتصادي لا يقتصر على المجتمعات الميسورة أو المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية. فكثير من المجتمعات في مختلف أنحاء العالم النامي أصبحت تواجه الآن المهمة الصعبة المتمثلة ليس فقط في مواجهة التحول نحو الديمقراطية بل مواجهة عملية الإصلاح الاقتصادي. وصعوبة الظروف الاقتصادية المتولدة في المراحل الأولى للإصلاح بالإضافة إلى الآمال المتوقعة من قبل الجماهير تشكلان بدورهما تحديا أمام التحول الديمقراطي. وفي كثير من الحالات أدى الانغماس في الصراعات الأهلية أو الدولية إلى زيادة الأمور تعقيدا. وحيثما تندر الموارد، وحيثما لا يستطيع غالبية السكان تلبية احتياجاتهم الأساسية، يصبح تحقيق التنمية السياسية من الصعوبة بمكان. وغالبا ما يعوق الكفاح من أجل التقدم الاقتصادي والاجتماعي مسيرة التقدم السياسي.
  16. ويرتبط الحفاظ على الديمقراطية واستدامة التنمية داخل الدول ارتباطا وثيقا بتوسيع الديمقراطية في العلاقات بين الدول وعلى كافة مستويات النظام الدولي. وتوفر الديمقراطية في العلاقات الدولية الأساس الوحيد لتحقيق الدعم والاحترام المتبادل فيما بين الدول. وبغير ديمقراطية حقيقية في العلاقات الدولية لا يمكن للسلام أن يدوم كما أنه لا يمكن ضمان معدل مُرض للتنمية.
  17. إن الديمقراطية في إ طار الأسرة الدولية مبدأ أصيل وجزء لا يتجزأ من نظام العلاقات الدولية الذي طرحه ميثاق الأمم المتحدة. وهو مبدأ من شأنه أن يكفل لجميع الدول، كبيرها وصغيرها، أكمل الفرص للتشاور والمشاركة. وهو يعني تطبيق المبادئ الديمقراطية داخل الأمم المتحدة ذاتها. ويعنى أن جميع أجهزة الأمم المتحدة يجب أن تُعطَي - وأن تؤدي - دورها الصحيح كاملا، وسوف يساعد ذلك على حفظ التوازن بين الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تقوم بها الأمم المتحدة، بحيث يمكن أن يعزز بعضها بعضا.
  18. والديمقراطية في العلاقات الدولية تعني كذلك احترام المبادئ الديمقراطية في التفاعلات التي تتم خارج نطاق الأمم المتحدة. إنها تعني المحادثات الثنائية بدلا من التهديدات الثنائية. وتعني احترام وحدة الدول الأخرى وسيادتها. كما تعني التشاور والتنسيق في معالجة المشاكل التي تهم الطرفين. ثم هي تعني التعاون من أجل التنمية.
  19. إن الحوار والمناقشة والاتفاق كلها أنشطة تتطلب الكثير من الجهد. لكنها تشكل جوهر الديمقراطية، سواء داخل الأمم أو في إطار أسرة الأمم. وهي فوق ذلك الوسيلة الرئيسية التي ينبغي لمجتمع الدول أن يسعى جاهدا من خلالها للتعبير عن إرادته المشتركة ولتحقيق التقدم.
  20. وفي هذه الحقبة الجديدة، حيث المعلومات والمعرفة والاتصالات والتفاعلات الثقافية أمور جوهرية للنجاح الاقتصادي والاجتماعي، لا ينبغي النظر إلى الديمقراطية باعتبارها فقط أحد المثل التي نسعى إليها أو أنها مجرد حدث من الأحداث، بل بوصفها أيضا عملية مستمرة لازمة لتحقيق التقدم الملموس. ذلك لان الديمقراطية توفر الطريق الوحيد المستدام وطويل الأجل الذي يؤدى إلى تنمية ناجحة. والتحول الديمقراطي في إطار النظام الدولي لا يتيح الفرصة فحسب لسماع الأصوات الداعية إلى التنمية، بل يسمح لها أيضا بأن تكتسب وزنا سياسيا. ومن شأن عالم أكثر ديمقراطية أن يسهِّل العمل التعاوني من أجل تنفيذ خطة التنمية.
  21. إن ثمة ترابطا وثيقا بين أبعاد التنمية الخمسة التي يبرزها هذا التقرير وهي: السلام والاقتصاد والبيئة والمجتمع والديمقراطية. ولم تأت هذه الأبعاد اعتباطا، وإنما نشأت مع واقع نصف قرن من الجهود العملية والفعلية التي للأمم المتحدة وغيرها مع الحكومات والمنظمات والأفراد. ويرد في الفصل التالي عرض لكيفية تحقيق المزيد من التماسك والتوافق والتعاون من أجل التنمية.

(*) كذا في الأصل، وصحتها "أثرا عميقا "
(*) كذا في الأصل.
(*) كذا في الأصل، وصحتها: " مفهومَيْنِ ".
(*) كذا في الأصل، وصحتها: " حدثٍ "
(*) كذا في الأصل، وصحتها: " معانيَ " .
(*) كذا في الأصل، وصحتها: " مضطرين " .