إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / الدولة السعودية الثالثة (تأسيس المملكة العربية السعودية)






السعودية في الوقت الحالي



الفصل الأول

الفصل الأول

استرداد الرياض، وتوحيد أجزاء من نجد

 

واتت الفرصة الشاب عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وهو في الكويت، ليخوض أولى تجاربه العسكرية، ففي الأشهر الأولى من عام 1318هـ / يونيه 1900م، قام شيخ الكويت، الشيخ مبارك بن صباح بحشد قواته، في منطقة الجهراء، استعداداً لمحاربة ابن رشيد. وكان الإمام عبدالرحمن بن فيصل، ضمن جيش الشيخ مبارك، يرافقه ابنه، عبدالعزيز، في هذه الحملة. ووصل الجيش إلى مكان في نجد، يسمى" الشوكي"، على بعد مئة وستين ميلاً عن الرياض، إلى جهة الشمال الشرقي منها. وفي ذلك المكان، فارق عبدالعزيز جيش الشيخ مبارك، وسار على رأس قوة صغيرة، متجهاً إلى الرياض، أملاً في انتزاعها من عبدالرحمن بن ضبعان، الأمير المعين عليها من قبل ابن رشيد. وقد تمكن عبدالعزيز من الوصول إلى الرياض، بعد يومَين فقط. ودخل الرياض دون صعوبة، ثم بدأ بحصار أميرها، الذي اعتصم بقصر المصمك. وعلى أثر هزيمة الشيخ مبارك في معركة الصريف، التي حدثت في 17 مارس 1901م، فك عبدالعزيز الحصار المضروب على قصر المصمك، وغادر الرياض، قافلاً إلى الكويت.

لقد عاد الأمير عبدالعزيز، مرة أخرى، إلى الكويت، ليعيش مع والده فيها. ولكنه استفاد من تجربته الأولى، ونجاحه النسبي في دخول الرياض؛ وبدأ يخطط لإعادة المحاولة. يقول أمين الريحاني في كتابه، "تاريخ نجد الحديث": "إن البطل عبدالعزيز، استمر محاصراً لقصر المصمك، مدة أربعة أشهر". لقد جدد بقاؤه في الرياض هذه المدة، معرفته بتلك البلدة، سكاناً وأرضاً وتحصيناً. كما أكد ظهوره أمام الآخرين، بمظهر القائد الكفء، ومكنه من تعرف أوضاعها، ومواقف الناس فيها، خاصة من لهم تعاطف مع آل سعود. وهذا كان له أكبر الأثر في تشجيعه على تكرار المحاولة، مرة أخرى. ومن هنا، جاء إلحاحه الشديد على أبيه، والشيخ مبارك بن صباح، بعد عودته إلى الكويت، في السماح له بأن يبدأ بالخروج من الكويت، قائداً لغزوات. وقد عارضه والده، في بداية الأمر. ولعل معارضة الإمام عبدالرحمن لابنه، عبدالعزيز، مردها إلى أن التجارب المرة، التي واجهها الأب، وبخاصة ما حدث في معركة الصريف، جعلته يقتنع بأن أي عمل عسكري، في تلك الفترة، قد يؤدي إلى نتائج وخيمة، لابنه وأسرته. إلا أن الأمير عبدالعزيز، كان ينظر إلى ما جرى في الرياض على يديه هو، ولا ينظر إلى ما دار في الصريف، التي لم يحضرها. أمّا موقف الشيخ مبارك بن صباح، فق د كان مغايراً لما يراه الإمام عبدالرحمن، إذ رحب بفكرة الأمير عبدالعزيز، وإن كان غير مقتنع بنجاحها؛ فإن مثل هذه المحاولة، ستشغل أمير حائل، عبدالعزيز بن متعب الرشيد، عن مضايقة الكويت وتهديدها، مما يخفف الضغط عليها، إن لم يزله كليةً.

بعد حصول الأمير عبدالعزيز على موافقة والده، وتأييد الشيخ مبارك بن صباح، خرج من الكويت، غازياً، في النصف الأول من عام 1319هـ/1901م، بعد أن جهزه شيخها ببعض الأسلحة والمؤن والركائب. وبدأ الأمير عبدالعزيز رحلته إلى الرياض، ومعه عدد من أقربائه ومؤيديه، يرجح أنهم لا يزيدون على الأربعين، إلا قليلاً.

وكان الإمام عبدالرحمن، قد اجتمع بابنه، عبدالعزيز، قبل خروجه من الكويت. وقال لـه: "تـرى يا عبدالعزيز، ما قصدي، أن أقف في سبيل إقدامك. ولكن، كما ترى، موقفنا وحالنا، يقضيان باستعمال الحكمة في إدارة أمرنا. أمَا وقد عزمت، فأسأل الله العون والظفر".

1. الطريق إلى الرياض

بدأ عبدالعزيز رحلة العودة إلى الرياض، مزوداً بالكثير من الدعوات والعزيمة، وقليل مما من سواهما، تاركاً أول أبنائه، تركياً، رضيعاً في الكويت. فاتجه عبدالعزيز إلى الصحراء القريبة من الأحساء. وكانت خطته ترمي أولاً إلى ضرب العشائر المعادية لأبيه، والموالية لابن رشيد، في محاولة منه لإقناع القبائل، الصديقة والمحايدة، بالانضمام إليه. وقد أثمرت تلك الخطة، وانضم إليه عدد لا بأس به من المحاربين، من قبائل مختلفة، مثل العجمان وسُبيع والسهول وآل مرة، حتى وصل عدد أتباعه إلى حوالي ألف راكب ذلول، وأربعمائة خيال. وقام عبدالعزيز ببعض الغارات الموفقة، على بعض العشائر في نجد. ثم عاد إلى أطراف الأحساء، التي كان يمون جيشه الصغير منها. ولئن زادت هذه الغارات من عدد أتباع عبدالعزيز، من طالبي الكسب، فإنها لفتت نظر الأمير عبدالعزيز بن متعب بن رشيد، أمير حائل، إلى خطر هذا الوضع، الأمر الذي جعله يطلب من العثمانيين طرد عبدالعزيز وأتباعه من نواحي الأحساء. وقد فعلت الدولة العثمانية ما أراده ابن رشيد، ومنعت عبدالعزيز من التمون من الأحساء. وقد أدى هذا الإجراء العثماني إلى تفرق أتباعه من البدو، وجعله في موقف صعب. وبقي عبدالعزيز في الصحراء، بلا تموين، ومع قليل من الأتباع، إذ تخلى عنه كل من انضم إليه، طالباً للكسب، بعد ما أدركوا ما سيتعرضون له من عقوبات اقتصادية عثمانية، من جراء انضمامهم إلى جيشه. فتوجه بأتباعه إلى منطقة يبرين، الواقعة بين قطر والربع الخالي، ليرسم خططه المستقبلية، بتمعن وروية.

وكانت الدولة العثمانية قد اتخذت إجراء آخر، ضد الإمام عبدالرحمن، إذ قطعت معاشه، الذي كان يتقاضاه، أثناء إقامته في الكويت، فتكالبت هذه المشاكل على عبدالعزيز، وهو في واحة يبرين.

وقد حاول الإمام عبدالرحمن، أن يقنع ابنه، عبدالعزيز، بعد أن رأى انفضاض القبائل من حوله، بالعودة إلى الكويت، وعدم الاستمرار في محاولته العسكرية. ولكن ما حل بعبدالعزيز، لم يزده إلا طموحاً وتصميماً على مواصلة جهوده. فجمع رجاله، الذين بقوا معه في الصحراء، وقرأ عليهم رسالة والده، التي يدعوهم فيها إلى العودة. وقال لهم: "أنتم أحرار في ما تختارونه. أما أنا، فلن أعرض نفسي لأكون موضع سخرية في أزقة الكويت". وقال: "من أراد الراحة، ولقاء أهله، والنوم والشبع، فإلى يساري "، فتواثب أتباعه المخلصون إلى يمينه، وصاحوا مقسمين على أن يصحبوه إلى النهاية. فالتفت الشاب عبدالعزيز إلى رسول والده، الذي كان حاضراً، وقال له: "سلم على الإمام، واسأله أن يدعو لنا. وموعدنا في الرياض ـ إن شاء الله". عندها، رأى الأمير عبدالعزيز، أن الأسلوب، الذي اتبعه لم يجده نفعاً، وأنه لا بدّ من عمل جريء، مفاجئ، يحدث صدى بعيداً، في المنطقة كلها.

وفي الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 1319هـ/2 يناير 1902م، تحرك عبدالعزيز بن عبدالرحمن وأتباعه، الذين بلغ عددهم أربعين، وقيل ستين، رجلاً ، من واحة يبرين، قاصدين الرياض، وفي نيتهم شيء واحد، هو المغامرة باقتحام قصرالمصمك، وهو مقر الحاكم (اُنظر ملحق أسماء الأشخاص، الذين رافقوا الملك عبدالعزيز في فتح الرياض في 5 شوال 1319هـ /15 يناير 1902م).

2. استرداد الرياض

أصبحت الرياض قاعدة للحكم السعودي، بعد أن اتخذها الإمام تركي بن عبدالله عاصمة له، سنة1240هـ /1824م، بدلاً من الدرعية. واستمرت عاصمة للدولة السعودية الثانية، إلى سقوطها، سنة 1309هـ/ 1891م، لتصبح، بعد ذلك، واحدة من البلدان، التي تخضع لحكم ابن رشيد في نجد. ولكن الرياض لها تاريخها العريق في أذهان الناس، خاصة في نجد، لكونها قاعدة للحكم السعودي، ورمزاً إلى شرعية ذلك الحكم. ولهذا، فقد قرر عبدالعزيز، أن يهاجمها، يشجعه على ذلك تأييد أهلها له ولأسرته، ولرغبتهم في التخلص من حكم ابن رشيد، الذي سامهم سوء العذاب، بعد محاولة عبدالعزيز الأولى، لاسترداد البلدة.

واصل عبدالعزيز بن عبدالرحمن، ورفاقه، السير الحثيث، يستريحون نهاراً، ويسيرون ليلاً، حتى بلغوا مكاناً، يقال له "الشقيب"، من ضواحي الرياض، في الخامس من شوال سنة 1319هـ / 15 يناير 1902م . ووضع عبدالعزيز خطة محكمة للاستيلاء على الرياض. فقسم رجاله إلى ثلاث مجموعات. واحدة مكونة من عشرين فرداً، ترابط عند الإبل حتى الصباح، وتكون احتياطياً، خارج الرياض. وأمرت بالبقاء في مكانها، فإذا حل الصباح، ولم يصلها خبر من الأمير عبدالعزيز، فعلى أفرادها أن ينجوا بأنفسهم، إذ قد يكون عبدالعزيز وأتباعه قد قتلوا. وإذا تحقق لهم الظفر، واستولوا على البلدة، فسيأتيهم رسول من قبله، يلوح لهم بثوبه، إشارة لهم، يعرفونها، للحاق به. أما المجموعة الثانية، المكونة من ثلاثين رجلاً، بقيادة أخيه، محمد بن عبدالرحمن، فعليها أن تختبئ في إحدى المزارع، خارج أسوار الرياض، حتى تصلها الأوامر من عبدالعزيز، ومهمتها حماية ظهور المجموعة الثالثة. أما الثالثة، وقوامها عشرة رجال، يقودهم الأمير عبدالعزيز. فتدخل الرياض. وقد كان لقلة أفراد المجموعة، التي كانت بقيادة عبدالعزيز أثرها في سهولة دخول المدينة، في ظلام الليل. فاستطاع هؤلاء النفر بقيادة عبدالعزيز، أن يدخلوا بيتاً مجاوراً لبيت عامل لابن الرشيد، وهو عجلان بن محمد، فتسلق عبدالعزيز ورفاقه إلى بيت عجلان، ولكنهم لم يجدوه فيه. وأخبرتهم زوجته أنه نائم في قصر المصمك، عند رجال حامية ابن رشيد، وأنه لا يأتي من ذلك القصر إلى بيته، إلا بعد طلوع الشمس، وذلك لعدم اطمئنانه إلى الأوضاع المحيطة به. فانتظر الجميع خروج عجلان من قصر المصمك. وفي هذه الأثناء، أرسل عبدالعزيز إلى أخيه، محمد ورفاقه، ال ذين بقوا خارج السور،فانضموا إليهم وتكاملوا داخل بيت عجلان.

فلما خرج عجلان بن محمد من قصر المصمك، بعد شروق الشمس، ومعه عدة رجال، أطلق عليه عبدالعزيز النار من بندقيته، فلم يقتله. ثم تتابع الرصاص من الباقين، صائحين صيحة، ملأت البلد: (أهل العوجا.. أهل العوجا) وتعقبوا عجلان ورجاله. وتمكن عبدالعزيز من إمساك رِجل، عجلان، وهو يحاول العودة إلى القصر، وقد أدخل يديه ورأسه في فتحة باب القصر (الجوخة)، فرفس عبدالعزيز، وأفلت من يديه. فازدحم عبدالعزيز ورفاقه، عند باب القصر، والحامية تصب رصاصها عليهم. ودخل عبدالله بن جلوي القصر، في أثر عجلان، فأدركه جريحاً في مسجد القصر، فأجهز عليه برصاصة من بندقيته. وقُتل عدد من أتباعه. وتتابع رجال عبدالعزيز في دخول القصر، فاضطر باقي رجال الحماية إلى الاستسلام. ونودي، في الرياض، أن الحكم لله، ثم لعبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود.

وبعد انتهاء معركة القصر، تتبع عبدالعزيز رجال ابن رشيد، الذين كانوا خارج القصر وقتلهم. وخرج فهد بن جلوي، على جواد من خيل عجلان، وذهب إلى الرجال، الذين أبقوهم عند الرواحل، وأدخلهم البلدة.

وبذلك خطا الملك عبدالعزيز خطوته الأولى، لاستعادة حكم آبائه وأجداده، ومن ثم، توحيد معظم أجزاء شبه الجزيرة العربية. وفي ذلك التاريخ، 5 من شوال سنة 1319هـ/15 من يناير سنة 1902م، بدأت الدولة السعودية الثالثة.

اندفع سكان الرياض إلى مبايعة حاكمهم الجديد، الذي أعاد الحق إلى أصحابه. ولم ينس الابن أباه، فأرسل عبدالعزيز رفيقه، ناصر بن سعود، ليبشر الإمام عبدالرحمن، والشيخ مباركاً، في الكويت، بفتح الرياض، ويطلب المدد. وفي الوقت نفسه، شرع يحصن الرياض. وتمكن، بمساعدة أهلها، من بناء سور حصين للعاصمة، في أربعين يوماً، بعد أن كان هدمه ابن رشيد، على أثر وقعة حريملاء، عام 1308هـ. وأمده والده والشيخ مبارك الصباح، بسبعين رجلاً وذخيرة، تحت قيادة أخيه، سعد بن عبدالرحمن الفيصل.

وكان الأمير عبدالعزيز بن متعب بن رشيد، في تلك الأثناء، في حفر الباطن، يفاوض العثمانيين، ليساعدوه على احتلال الكويت. ولما وصله خبر دخول عبدالعزيز بن سعود الرياض، لم يهتم كثيراً، واستهان بأمره، قائلاً لرجاله: "لا يهمكم أمره؛ فهو أرنب محجورة. ومتى ما فرغنا من مهمتنا، التي جئنا إلى هنا من أجلها ،أتيناه في عقر داره، وقتلناه وجميع من معه". وأقام في حفر الباطن أربعة أشهر، بعد فتح الرياض، يفاوض الأتراك، ويمني نفسه بقتل ابن سعود، واستعادة الرياض، واحتلال الكويت معاً. وبعد أن لمس تقاعس الأتراك ومماطلتهم، تشاور مع رجاله، واستقر رأيه على التوجه إلى عاصمته، في حائل، وتجهيز جيش كبير، لغزو الرياض.

3. ضم منطقة العارض

وباستعادة الرياض، وضع عبدالعزيز اللبنة الأولى في بناء الدولة، وخطا أول خطوة على طريق الوحدة الوطنية، ومرحلة التوحيد. وتعد مرحلة ما بعد استرداد الرياض، أهم المراحل في تاريخ عبدالعزيز، إذ قضى أكثر من عشرين عاماً في معارك وحروب، على أكثر من جبهة، واجهته، خلالها، الكثير من المشاكل والمصاعب. ولكنه استطاع أن يتغلب عليها، بكرمه وحكمته وشجاعته.

وقد أدرك الأمير عبدالعزيز، أنه لا بدّ من الإسراع في التوسع، وكسب الأنصار. فاتجه إلى المناطق الواقعة جنوب الرياض، لبعدها الجغرافي عن مركز حكم ابن رشيد، في حائل. كما أنه كان يدرك ما له ولأسرته من مؤيدين وأنصار في تلك المناطق. واستطاع، في أقلّ من ستة أشهر، أن يضم إلى حكمه المناطق الواقعة جنوبي نجد، بين الرياض والربع الخالي، بما فيها الخرج، والحريق، والحوطة، والأفلاج، ووادي الدواسر، ويعين عليها أمراء من قبله، ويخصص لها قوات من رجاله.

وبعد هذه الانتصارات المشجعة، وجه الأمير عبدالعزيز أنظاره إلى عالية نجد، في الغرب. وقام بهجمات موفقة على تلك المنطقة، فاستطاع أن يضمها إلى حكمه.

وبعد أن استعاد الأمير عبدالعزيز المناطق الواقعة جنوب الرياض وغربها، أرسل إلى والده يستدعيه من الكويت. فقدم الإمام عبدالرحمن، وخرج الابن ورجاله، لاستقباله على مسيرة ثلاثة أيام من الرياض. وهكذا، عاد الإمام عبدالرحمن إلى عاصمة الحكم السعودي، بعد غياب دام إحدى عشرة سنة. وقد قام الأمير عبدالعزيز يتنازل لوالده عن الإمارة، بقوله: "الإمارة لكم. وأنا جندي في خدمتكم". ولكن الأب لم يوافق على ذلك، بل جمع العلماء، وأخبرهم بتنازله عن الإمارة لابنه، الذي قبل التكليف، بشرط أن يكون الإشراف لوالده، في ما يقصد به خير البلاد.

وفي اجتماع عام، حضره علماء الرياض وكبراؤها، تمت البيعة لعبدالعزيز، في باحة المسجد الكبير، في العاصمة السعودية، بعد صلاة الجمعة. وأعلن الإمام عبدالرحمن تنازله عن حقوقه في الإمارة، لكبير أبنائه، عبدالعزيز، وكان ذلك سنة 1320هـ/1902م.

أزعجت انتصارات الأمير عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، في جنوب الرياض وغربها، خصمه اللدود، الأمير عبدالعزيز بن متعب بن رشيد؛ فخرج من حائل، في شهر ربيع الأول سنة 1320هـ/يونيه1902م، ومعه قواته من حاضرة جبل شمر وباديته، واستنفر أتباعه في القصيم والوشم وسدير والمحمل والشعيب. ووصل بالجميع إلى رَغَبة، إحدى بلدان المحمل، وأقام بها شهرَين. تقدم، بعد ذلك، إلى الحسي، شمال الرياض. ثم أمر بادية قحطان بالنزول قرب بلدة ضرما. كما أرسل إلى هناك، أيضاً، سالم بن سبهان، ومعه أتباع له من أهل القصيم. وبعث سعداً الحازمي، لكي يستنهض القبائل المجاورة للأحساء، من العجمان وآل مرة. ولكنه فشل في مهمته؛ إذ كان الأمير عبدالعزيز آل سعود، قد أرسل أخاه، محمداً، وعبدالله بن جلوي، إلى تلك القبائل، فتمكنا من الحصول على تأييدها. ثم خطر لابن رشيد، أن يتحرك جهة الحفر، ليقطع عن ابن سعود التموين، الذي يأتي من الكويت.

أما الأمير عبدالعزيز بن سعود، فقد استعد لأول لقاء عسكري مباشر مع خصمه، عبدالعزيز بن رشيد. فبعد أن حصن الرياض، خرج منها، تاركاً فيها حوالي ألف مسلح، مع والده، الإمام عبدالرحمن، للدفاع عنها. وتوجه، أولاً، إلى جنوب الرياض، إلى حوطة بني تميم، ليستنهض أهلها، وبعث أخاه، سعداً، إلى بلدة الحريق، مستنجداً بأهلها. وجعل عبدالله بن جلوي يرابط بقوات في "عليّة"، التي تقع بين البلدتَين المذكورتَين. كما رابطت سرية من قواته، بقيادة السديري، في الدلم.

وقد أظهر سلطان نجد نبوغاً عسكرياً، في قيادته وتخطيطه، إذ فضل أن تكون أول مواجهة مباشرة له مع ابن رشيد، في منطقة يطمئن إليها، ويكثر فيها الأنصار، وتكون خطوط الانسحاب منها الآمنة، أيضاً. واستدرج خصمه إلى جنوب نجد.

ولما علم ابن رشيد بخروج الأمير عبدالعزيز بن سعود، إلى الجنوب، أسرع إلى الرياض، ظناً منه، أن خلافاً قد حصل بين الأمير عبدالعزيز ووالده، ليفاجأ بحصانة البلدة ومناعتها، فتركها، وتوجه إلى الخرج، لملاقاة عبدالعزيز بن سعود. ونزل ابن رشيد، مع أربعة آلاف من مقاتليه، في بلدة نعجان، وكانت ترابط، بالقرب منها، قوات الأمير السعودي، في بلدة الدلم، بقيادة السديري. وكان معظم جيش الأمير عبدالعزيز بن سعود، مكوناً من أهالي بلدتَي الحوطة والحريق، وبلغ عددهم ألفَي مقاتل. ووصلته أخبار مجيء عبدالعزيز بن رشيد، بجيشه، إلى نعجان، وهو لا يزال في الحوطة، فتقدم ودخل بلدة الدلم، ليلاً، من دون علم خصمه. ولما هاجمت قوات ابن رشيد الدلم، فوجئت بالمقاومة العنيفة، واندحرت عنها، فأدرك، عندها، أن الأمير عبدالعزيز بن سعود، وراء هذه المقاومة. واستمرت المناوشات بين الطرفَين مدة شهر ونصف. صمدت فيها قوات ابن سعود، على الرغم من معاناتها نقصاً في الرجال والعتاد. واضطر ابن رشيد إلى الانسحاب والعودة إلى نعجان، بعد أن لمس قدرة عدوه على الصمود. وتعقبه ابن سعود إلى السلمية. ووقعت بينهما اشتباكات غير حاسمة. وحينما أيقن ابن رشيد، أن لا قدرة له على مواجهة خصمه، انسحب، ليلاً، تاركاً نيران معسكره موقدة لتمويه انسحابه، وتوجه نحو شمال نجد. وكانت موقعة الدلم، أو "السلمية"، أول مواجهة بين الخصمَين ابن سعود وابن رشيد. وعدت انتصاراً لابن سعود. ويرجح أنها كانت في شهر شعبان 1320هـ/نوفمبر 1902م.

كان هذا الانتصار لابن سعود مشجعاً لأهالي المناطق، الواقعة شمال الرياض على التمرد على ابن رشيد، مما سهل على الأمير عبدالعزيز بن سعود ضمها إلى حكمه. فانتفضت شقراء ضد أميرها من قبل ابن رشيد، عبدالله الصويغ. وأخرجه أهلها إلى ثرمداء، وأعلنوا ولاءهم للرياض. وحاول عبدالعزيز بن رشيد، أن يستميل أهل شقراء، فلم يفلح. ولجأ إلى إخضاعها، بالقوة، وحاصرها، فلم يتمكن من دخولها، ثم رحل عنها إلى الغاط.

وتوجه الأمير عبدالعزيز بن سعود إلى شقراء ودخلها. وبعث سرية إلى ثرمداء، بقيادة عبدالله بن جلوي، سيطرت عليها. ونجحت سرية أخرى، أرسلت إلى روضة سدير، بقيادة أحمد السديري، خال الأمير عبدالعزيز، في السيطرة عليها، وأخرجت حامية ابن رشيد منها. وتوالى دخول بلدان سدير تحت الحكم السعودي، إلاّ المجمعة، قاعدة ذاك الإقليم، التي بقيت تابعة لابن رشيد وموالية له.

وبحلول شهر ربيع الأول من سنة 1321 هـ /يونيه 1903م، كان الأمير السعودي، قد تمكن من توحيد أقاليم الوشم، وسدير، والمحمل، والشعيب. وقد كانت الأعمال العسكرية في تلك المناطق، موجهة، في الأساس، ضد حاميات ابن رشيد لأن أهلها، كانوا ميالين إلى الحكم السعودي.

4. ضم القصيم

القصيم هي البوابة، التي عبرت منها قوات محمد علي باشا، إلى قلب نجد، وقضت على الدولة السعودية الأولى. وكانت ممراً للقوات، التي قدمت للقضاء على الدولة الثانية.

كان الأمير عبدالعزيز بن سعود، يدرك مدى أهمية القصيم، الجغرافية والاقتصادية والسياسية. وكان يدرك، أيضاً، أن عدم السيطرة على القصيم، يعني عدم استقرار الحكم في نجد. ويعلم الأمير عبدالعزيز، أن له أتباعاً وأنصاراً في هذه المنطقة، وبخاصة أمراء عنيزة، آل سُلَيم، وأمراء بريدة، آل مهنا السابقون، الذين اضطروا إلى الهجرة إلى الكويت، بعد معركة المليداء الشهيرة، سنة 1308هـ /1891م، ويتطلعون إلى العودة إلى بلادهم، وتسلم الأمور فيها. لذلك، قرر الأمير عبدالعزيز بن سعود ضم هذه المنطقة الحيوية إلى حكمه، فأرسل إلى قادة آل سُلَيم وآل مهنا، طالباً قدومهم من الكويت، والتعاون معه على تخليص القصيم من حكم ابن رشيد. فلبوا طلبه، وقدموا من الكويت، وقد زودهم الشيخ مبارك الصباح بمائتَي مقاتل.

وأخذ ابن رشيد يعزز دفاعاته في الإقليم؛ فعزز الحامية الموجودة في بريدة، بسرية من قواته، بقيادة عبدالرحمن بن ضبعان. وبعث سرية أخرى إلى عنيزة، قوامها خمسون رجلاً، بقيادة فهيد بن سبهان. كما رابطت، بالقرب من هذه البلدة، سرية مكونة من أربعمائة رجل، يقودها ماجد الحمود ابن رشيد. وأرسل سرية مكونة من أربعمائة رجل، أيضاً، إلى منطقة السر، على الحدود الجنوبية للقصيم، لترابط فيها، بقيادة حسين بن جراد. وأخذ عبدالعزيز بن رشيد يظهر الود لأهل القصيم ويكسب رضاهم. وبعد أن اطمأن إلى ترتيباته، توجه نحو العراق، ليؤمن لجيشه الطعام، ويستنهض عشائر شمر هناك، لتهب معه، من هناك، اتصل بالمسؤولين العثمانيين، طالباً منهم تزويده بالمؤن والسلاح والمال، ونجدته على غريمه، ابن سعود.

وخرج الأمير عبدالعزيز بن سعود، بجموعه، من الرياض، في أواخر ذي الحجة عام 1321هـ/مارس1904م. وانضم إليه أمراء عنيزة، وأمراء بريدة السابقون. وفي 5 محرم سنة 1322 هـ/23 مارس 1904م، اقترب الأمير عبدالعزيز بن سعود من عنيزة، وحاصر أسوارها الجنوبية. وأمر آل سُليم، وآل مهنا، وأتباعهما، أن يدخلوا عنيزة، ليستولوا عليها. فدخلوها، من دون مقاومة، وكمنوا لرئيس الحامية الرشيدية فيها، فهيد بن سبهان، وتمكنوا من قتله، وحاصروا قصر الإمارة، الذي تحصنت به السرية الرشيدية، ثم استسلم أفرادها، وطلبوا الأمان. ولم تتمكن السرية، الموجودة خارج البلدة، بقيادة ماجد الحمود بن رشيد، من تقديم أي عون إلى مَن هم في داخلها، وبخاصة بعد أن علموا بتعاون أهلها مع أمرائهم السابقين. ودخل الأمير عبدالعزيز بن سعود عنيزة، وعين عبدالعزيز بن عبدالله بن سليم، أميراً عليها، وصالح بن زامل، قائداً للغزو بها.

أما بريدة، فإن أمرها كان هيناً، بعد أن تشجع أهلها بأنباء دخول الأمير عبدالعزيز بن سعود عنيزة؛ فقدم عليه وفد منهم، يبدون وقوفهم معه. فسيّر إليها أمراءها السابقين، آل مهنا، فاستقبلهم الأهالي بحماسة. وحاصر آل مهنا قائد حامية بريدة، عبدالرحمن بن ضبعان، في القصر. وبعد أن استمر الحصار شهراً ونصف الشهر، استسلم أفراد الحامية، وخرجوا بسلاحهم، وأعطاهم الأمير عبدالعزيز بن سعود الأمان على أرواحهم، ليرحلوا إلى بلادهم.

ودخل الأمير عبدالعزيز بن سعود بريدة، وبايعه أهلها. وعين صالح الحسن المهنا أميراً عليها. وبخضوع عنيزة وبريدة، يكون إقليم القصيم، قد خضع للحكم السعودي.

5. معركة البكيرية

علم عبدالعزيز بن متعب بن رشيد، بانتصارات ابن سعود في القصيم، وهو في العراق، يستمد العون من الدولة العثمانية، ويستثير قبيلة شمر لنجدته. فاشتد غضبه، خاصة على أهل القصيم، الذين ساعدوا الأمير عبدالعزيز بن سعود. وقد أمدته الدولة العثمانية بعدد كبير من الجند النظامين، بأسلحتهم الحديثة، خاصة المدافع، وكميات كبيرة من المؤن. وقدّر عدد الجنود المدد بنحو ألف وخمسمائة جندي، على اختلاف روايات المصادر، أغلبهم من الشام والعراق، يعملون في الجيش العثماني. وقام عبدالعزيز بن رشيد بمصادرة ما وجد من إبل العقيلات القصيميين، الذين كانوا يجوبون البلاد، للتجارة بين العراق والشام ومصر وشبه الجزيرة العربية، وحمل عليها قسماً كبيراً مما حصل عليه من أطعمة ومؤن وأسلحة، ونقلها من العراق إلى نجد.

وأسرع عبدالعزيز بن رشيد إلى القصيم، بمن اجتمع لديه من البدو، خاصة من قبيلة شمر، وفئات من الحضر والجيش النظامي العثماني، يريد القضاء على ابن سعود، أو على الأقل إخراجه من القصيم. والتحق به ماجد الحمود بن رشيد، ومن معه، ووصلوا إلى بلدة القصيباء، ومنها إلى الشيحية، بالقرب من البكيرية.

وإزاء هذه الجموع، استنهض الأمير عبدالعزيز بن سعود، وهو في بريدة، أهل البادية والحاضرة، ليجتمعوا عنده. وبلغ عدد الوافدين عليه عدة آلاف من المحاربين. خرج بهم من بريدة، ونزل البكيرية، في مواجهة خصمه، وكان ذلك في أول شهر ربيع الثاني 1322هـ/يونيه1904م. وكانت خطة الأمير عبدالعزيز، أن يقسم جيشه إلى قسمَين. قسم بقيادته، ويضم أهل العارض وجنوبي القصيم، وخصصه لملاقاة جموع قبيلة شمر وابن رشيد. والقسم الثاني، يضم أهل القصيم، ومن تبعهم من قبائل مطير وغيرها، وخصهم لملاقاة الجيش العثماني النظامي. ونشب القتال بين الطرفَين، من الفور. وقد رجحت كفة ابن رشيد، في بداية المعركة، إذ ركز نيران مدافعه ضد القسم، الذي يقوده الأمير عبدالعزيز، مما ألحق به خسائر بشرية كبيرة، وأرهق قواته، مع آخر النهار، فضلاً عن جرح يده اليسرى بشظية. واضطر إلى التراجع إلى جهة بلدة المِذْنَب. ولكن أهل القصيم، لم يعلموا بأن القسم الآخر من الجيش قد انهزم، وكانوا يحققون تقدماً ضد الجنود النظاميين، المحاربين في صفوف ابن رشيد؛ فحولوا الهزيمة إلى نصر، وأسروا عدداً من أولئك الجنود، وغنموا بعض المدافع، وعادوا إلى البكيرية، مع الليل. وعلى الرغم من ذلك فإن قوات ابن رشيد، ظلت متماسكة وثابتة.

ولما أدرك أهل القصيم، أنهم لا يزالون معرضين لخطر ابن رشيد، غادروا البكيرية، عائدين إلى بلدانهم، حاملين معهم ما خف من الغنائم. وتركوا الأسرى والمدافع وراءهم.

وكانت الخسائر البشرية كبيرة، لدى الطرفَين، خاصة بين الجنود النظاميين. فقد خسر ابن سعود 900 رجل من قواته، منهم أربعة من آل سعود. وقُتل من جيش الأتراك نحو ألف جندي، بينهم أربعة ضباط كبار. وقُتل من أهل حائل، أيضاً، 300 فرد، بينهم اثنان من آل رشيد.

وصل الأمير عبدالعزيز، مع أتباعه، إلى ما بعد بلدة المِذْنَب. وإذ وصلته الأخبار بانتصار أهل القصيم على جيش ابن رشيد، قدم إلى عنيزة، في اليوم التالي للمعركة. واستعاد قوته، وتوافدت عليه جموع من بوادي عتيبة ومطير، فتجمع لديه، في ستة أيام، اثنا عشر ألف مقاتل.

وفي الوقت نفسه، عاد ابن رشيد من الشيحية، التي تجمعت فيها فلوله، ورجع إلى البكيرية، بعد أن علم بانسحاب أهل القصيم منها. ومن هناك، انطلق إلى بلدة الخَبْراء. ولكن، أبى أهلها أن يعلنوا له الطاعة، فأمر بقطع النخيل وقذف البلدة بالمدافع. وعمد الأمير عبدالعزيز للعودة إلى البكيرية، للسيطرة عليها، فزحف إليها. إلا أن ابن رشيد سارع إلى إرسال سرية، بقيادة سلطان الحمود بن رشيد، اصطدمت بخيالة ابن سعود، عند الفجر، فهزمتها ودخل الأمير عبدالعزيز البكيرية، وفتك بالحامية الرشيدية فيها، واستولى على المستودعات، التي رتبها ابن رشيد. ثم تعقب جيش ابن رشيد، الذي ارتحل من بلدة الخَبْراء إلى الشنانة، واتخذ منها معسكراً له. وتمركزت قوات الأمير عبدالعزيز بن سعود في الرس.

6. معركة الشنانة

على الرغم من أهمية معركة البكيرية، إلاّ أنها لم تكن حاسمة. فقد خسر الأمير عبدالعزيز بن سعود كثيراً من جنده ومعداته. ولكنه، بخبرته وحسن قيادته، استطاع أن يعوض هذا النقص، وجمع حوالي عشرة آلاف مقاتل، في خلال عشرة أيام.

بقي الطرفان في موقعيهما مدة شهرَين؛ ابن رشيد في الشنانة، يقابله ابن سعود في الرس. كانت المناوشات الخفيفة، تجري بينهما، من دون قتال حاسم، مما أصاب المحاربين، في الطرفين، بالضجر، وتناقصت الإمدادات والإبل، وتفرقت جموع البادية، ولم يبق مع ابن الرشيد سوى الجنود النظاميين، وأهل الجبل. كذلك، لم يثبت مع ابن سعود سوى أهل الحاضرة. ورحل عبدالعزيز بن رشيد بجنوده الجياع إلى قصر ابن عقيّل، وفيه سرية لابن سعود، فضربه بالمدافع. وقبل أن يهجم على القصر، في الصباح، كان الأمير عبدالعزيز بن سعود، قد سبقه إلى داخله، وثبت فيه. وفي الصباح، صب ابن رشيد نيران مدافعه على القصر. فخرج له ابن سعود، واقتتلوا قتالاً شديداً، انهزمت على أثره قوات الترك النظاميين، وفروا هاربين. فلم يجد عبدالعزيز بن رشيد بداً من الهرب، أيضاً، تاركاً وراءه غنائم كثيرة، منها الذخائر والسلاح والأموال، ظلت قوات ابن سعود تجمعها طيلة عشرة أيام. وحملت صناديق الذهب العثماني إلى عنيزة. وكانت معركة الشنانة في 18 رجب 1322هـ/29 سبتمبر 1904م.

وطدت معركة الشنانة الحكم السعودي، ليس في القصيم، بل في نجد بأسرها. كما أنها قضت على النفوذ العثماني في نجد "وانهارت بها الصخرة الأولى من صرح ابن رشيد". وقد وصف بعض الكتاب العرب وغيرهم أهميتها؛ فقال أمين الريحاني: "وقعة الشنانة، والأحرى أن تدعى بوقعة وادي الرمة، هي القسم الثاني من مذبحة البكيرية، التي قضت على عساكر الدولة، وأغنت أهل نجد". وأضاف: "تشتت ما تبقى من جنود الدولة، بعد هذه الوقعة. فكانت حالتهم محزنة، فقد فر بعضهم مع ابن رشيد، وهام الآخرون في الفيافي، كالسائمة. ومنهم من لجأ إلى ابن سعود، فآواهم وكساهم وأعطاهم الأمان". أما كنت وليمز، فقال: "كانت هزيمة الأتراك، في سبتمبر سنة 1904م، شنيعة حقاً، فاستسلم بعضهم للوهابيين، ولجأ آخرون إلى قبائل شمر، وذهب كثيرون ضحايا الجوع والعطش".

7. المفاوضات مع العثمانيين

لقد أصبح وضع الأمير عبدالعزيز بن سعود، في القصيم، قوياً بعد معركة الشنانة. واتضح للعثمانيين فشل تجربتهم العسكرية في تلك المنطقة. وأدركوا أن الأمر ليس بالسهولة، التي صورها لهم ابن رشيد؛ وأن عليهم مراجعة حساباتهم تجاه ابن سعود، الذي اتضح أنه يتمتع بشعبية واسعة في القصيم، و في نجد كلها. كما أن الأمير عبدالعزيز، وجد أن الفرصة سانحة أن يستثمر هذا النصر في مبادرة سياسية، وذلك بالتفاوض مع العثمانيين، على أمل تحييدهم في الصراع الدائر بينه وبين ابن رشيد؛ إذ إنهم لا يزالون قوة عالمية، يحسب لها كل حساب. ويشير الزركلي إلى أن الدولة العثمانية، هي التي طلبت منه بدء المفاوضات مع ابن سعود، من طريق الشيخ مبارك الصباح.

وأرسل الأمير عبدالعزيز والده، الإمام عبدالرحمن بن فيصل، نائباً عنه في المفاوضات. ورافقه من الكويت الشيخ مبارك الصباح. وبدأت المفاوضات السعودية ـ العثمانية، فعلاً، في بلدة الزبير، أولاً، حيث تباحث الإمام عبدالرحمن الفيصل، ممثلاً لابنه، الأمير عبدالعزيز، مع والي البصرة. وطلب الوالي أن تكون منطقة القصيم فاصلة بين ابن سعود وابن رشيد؛ وأن تضع الدولة العثمانية فيها مركزَين عسكريَّين، أحدهما في بريدة، والآخر في عنيزة. ولكن الإمام عبدالرحمن، لم يوافق على ذلك. وطلب عرض الأمر على أهل نجد، وعلى ابنه، الأمير عبدالعزيز. وعندها، أخبره الوالي، أن المباحثات، سوف تستكمل في القصيم، مع المشير أحمد فيضي، الذي كان في طريقه، وقتذاك، إلى المنطقة. وعاد الإمام عبدالرحمن إلى نجد، وخرج الأمير عبدالعزيز لاستقباله، في الحسي، قرب الرياض، ثم توجها إلى شقراء. وانتقل، بعدها، الأمير عبدالعزيز، برجاله، إلى القصيم.

وفي الوقت، الذي كانت تجري فيه المفاوضات في الزبير، أرسلت الدولة العثمانية قوة إلى نجد، قوامها ثلاثة أفواج وخمسة مدافع، من العراق، بقيادة المشير أحمد فيضي، وقوة أخرى، قوامها فوجان من المدينة المنورة، بقيادة الفريق صدقي باشا. ووصلت القوتان إلى الكهفة ـ قرية من قرى حائل ـ التي لجأ إليها ابن رشيد، بعد معركة الشنانة. واجتمع المشير فيضي، والفريق صدقي باشا، إلى عبدالعزيز بن متعب بن رشيد، الذي طلب منهما الدعم، لاسترداد القصيم من ابن سعود، بالقوة. ولكنهما لم يوافقاه، وأبانا له، أن مهمتهما سلمية. وغادرا إلى القصيم، ترافقهما القوات النظامية، التي كانت تحارب إلى جانب ابن رشيد. ولما دنت القوات العثمانية من القصيم، يقودها المشير أحمد فيضي، أرسل إلى الأمير عبدالعزيز، الموجود في البلدة، يخبره أنه قد جاء للصلح، وتحقيق الأمن. ونزل المشير فيضي، في أول صفر 1323هـ/7 أبريل 1905م قرب بريدة، وخرج إليه أميرها، صالح الحسن المهنا، للتفاوض معه. ويبدو أنه أعرب للمشير عن رغبته، أن يكون تابعاً للدولة العثمانية، مستقلاً عن ابن سعود، وابن رشيد. ثم تحرك المشير إلى عنيزة، في 4 صفر 1323هـ/11 أبريل 1905م، وأظهر له أميرها، عبدالعزيز بن عبدالله بن سُليم، أن أمر الدولة العثمانية مطاع، لكن لا بدّ من الرجوع إلى الأمير عبدالعزيز، في تقرير أمر البلاد. وطلب المشير أحمد فيضي من الأمير عبدالعزيز بن سعود، إرسال أبيه، الإمام عبدالرحمن، لاستكمال المفاوضات، التي جرت في البصرة. فقدم الإمام عبدالرحمن الفيصل إلى عنيزة، وأعاد عليه المشير ما سبق أن قاله والي البصرة. فكرر الإمام عبدالرحمن رفضه العرض. فاقترح المشير إقامة مركز عثماني مؤقت، في كلٍّ من بريدة وعنيزة، يرفع عليهما العلم العثماني. فوافق الإمام على الاقتراح. وبناء على ذلك، دخلت قوة عثمانية صغيرة، إلى كل من البلدتَين، ورفع العلم العثماني عليهما. وكان المشير أحمد فيضي، قد غادر القصيم إلى اليمن، لإخماد العصيان الذي ثار هناك، وترك قيادة القوات العثمانية للفريق صدقي باشا، الذي تمركز في الشّيحيّة. ولم تقم تلك القوات بأي عمل عسكري ضد ابن سعود.

8. معركة روضة مهنا ومقتل ابن رشيد

كان عبدالعزيز بن متعب بن رشيد، بعد هزيمته في معركة الشنانة، وخسارته النهائية للقصيم، قد اتجه، شمالاً، إلى بلدة الكهفة. وحاول استرجاع القصيم من ابن سعود، واستمر في شن هجمات وغارات متعددة، على مناطق مختلفة.

وفي 16 صفر سنة 1324هـ / 12 أبريل سنة 1906م، وصل الأمير عبدالعزيز بن سعود خبر نزول عبدالعزيز بن متعب بن رشيد، في روضة مهنا، الواقعة غربي نفود الثويرات، ليجتمع إلى صالح بن حسن بن مهنا، أمير بريدة، الذي يسعى إلى الاستقلال عن ابن سعود. وكان الأمير عبدالعزيز في مجمع "البطنان"، غرب الدهناء، وتفصله عن خصمه مسافة ساعتين، فأمر أتباعه بالتوجه إلى مهاجمة خصمه. وفي ليلة السابع عشر من شهر صفر سنة 1324هـ/13 أبريل 1906م، بدأوا هجومهم، ودارت المعركة تحت جنح الظلام. واحتلوا مراكز لجنود ابن رشيد، الذين تقهقروا، على الرغم من جولان ابن رشيد، على حصانه، بينهم، حاضاً إياهم على الثبات. وفوجئ عبدالعزيز بن رشيد بوجوده وسط جنود ابن سعود، الذين عرفوا صوته، وهو يصيح بحامل الراية السعودية، يظنه حامل رايته، فأطلقوا عليه رصاص بنادقهم، فقتل، من فوره. ولم يصب فرسه، ولا العبد الذي يرافقه بأذى. وانهزم جنوده لا يلوون على شيء. وحمل رجال ابن سعود رأس عبدالعزيز بن متعب بن رشيد، إلى بريدة ليشاهده الأهالي، وأعطوا الأمير ابن سعود خاتمه وسيفه. وكان عبدالعزيز بن متعب في الخمسين من عمره، عند مقتله. وتولى الإمارة الرشيدية، من بعده، ابنه، متعب بن عبدالعزيز بن متعب بن رشيد.

9. إجلاء القوات العثمانية من القصيم

ازداد موقف الأمير عبدالعزيز ابن سعود رسوخاً في منطقة القصيم، خاصة بعد مقتل عبدالعزيز بن رشيد، في معركة روضة مهنا. فبادر إلى بعض الترتيبات، العسكرية والإدارية، لتعزيز موقفه. وإذا علم بنية أمير بريدة، صالح بن حسن بن مهنا، الاتفاق مع القائد العثماني، صدقي باشا، فقد قرر عزله عن الإمارة. وسارع إلى بريدة، قادماً من الرياض، وألقى القبض على صالح بن مهنا وإخوانه، في 2 ربيع الثاني 1324هـ/26 مايو 1906م، وأبعدهم إلى الرياض، وعين مكانه شخصاً، من الأسرة نفسها هو محمد بن عبدالله أبا الخيل.

ورأى الأمير عبدالعزيز، في بقاء القوات العثمانية في القصيم، أمراً يحد من سيادته الكاملة على المنطقة. وكان الجيش العثماني فيها، قد تمركز في بلدة الشيحية، ويعاني من نقص المؤن والإمدادات، وتولى قيادته قائد جديد، هو سامي باشا الفاروقي. ولذا، جاء الأمير عبدالعزيز بن سعود، واتفق مع أمراء القصيم، على وجوب إخراج القوات العثمانية سلماً أو حرباً. والتقى، في البكيرية، قائد القوات العثمانية في القصيم، سامي باشا الفاروقي. وعرض عليه، إما أن ينتقل بجيشه، في خمسة أيام، إلى وادي السر، فيحول بذلك بينه وبين ابن رشيد. وإما أن يرحّله ابن سعود من نجد، فإذا رفض أحد الأمرين، فسوف يقاتله. وتحت ضغط الضباط الأتراك، وإلحاحهم على قائدهم في الخروج من هذه المهلكة، التي سئموا الإقامة بها، اختار القائد العثماني الحل السلمي، وقبل ما عرض عليه ابن سعود، وهو ترحيل القوات العثمانية، التي قدمت من العراق والمدينة المنورة، كلٌّ إلى جهته. وتعهد ابن سعود لهم بسلامتهم وسلامة معداتهم، في الطريق من نجد إلى مقاصدهم. وأمر قبيلة حرب، بترحيل القوات العثمانية، التي جاءت من المدينة إلى المدينة المنورة، فغادرت القصيم، في 15 رمضان سنة 1324هـ/3 نوفمبر1906م. أما القوات القادمة من العراق، فقد تم ترحيلها في 13 شوال 1324هـ/أول ديسمبر1906م، بمساعدة أهل القصيم.

وبعد شهرَين، تلقى الأمير عبدالعزيز بن سعود شكراً من السلطان عبدالحميد الثاني، لحسن معاملته لجنوده. وطلب من الأمير السعودي إرسال وفد سعودي إلى إستانبول، لتلقي التكريم والنياشين.

وبهذا، استطاع الأمير عبدالعزيز بن سعود تعزيز سيطرته على المناطق التي يحكمها، ووحد نجداً، ولم يبق عليه، إلا ضم منطقة حائل وما يليها، شمالاً.