الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

 
بطاريات صواريخ أرض/جو
مواقع بطاريات الصواريخ
 
بيروت خلال حرب الجليل
عمليةالسلام من أجل الجليل
مراحل وتطور أعمال القتال
الحجم والأوضاع الإبتدائية
اُنظــــر كـــذلك
 
الليطاني الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1978، (الليطاني)
مذبحة قانا الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1996، (مذبحة قانا)
الحرب الأهلية اللبنانية
الجمهورية اللبنانية

الاجتيــاح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، عام 1982، (سلام الجليل)

الفصل الأول
الغزو، مقدماته وأبعاده المختلفة

مقدمات الغزو، وحرب يوليه 1981

          سُئل مناحم بيجن، بعد فوزه، في انتخابات عام 1981، عند تكليفه تشكيل الحكومة، عن الفترة الزمنية، التي قد يحتاج إليها للتعامل مع قضية الصراع مع لبنان. فرد طالباً طول الأناة، حتى يستطيع أن يَبَرّ ببعض ما قطعه على نفسه في المعركة الانتخابية. وكان بيجن يقصد تصفية الوجود الفلسطيني المسلّح في الجنوب اللبناني.

          وتكاد تجمع المصادر الإسرائيلية، على أن فوز حكومة بيجين الثانية بثقة الكنيست، في 5 أغسطس 1981، كان إيذاناً بحرب مقبلة في لبنان. وبدا الإعلان في شأن هذه الحرب، رسمياً، يتوقف على توافر الظروف الملائمة، محلياً وإقليماً ودولياً.

          وأخذ العدوان الإسرائيلي يتصاعد بوتيرة متسارعة على قواعد الثورة الفلسطينية ومراكز إدارتها وقيادتها، وعلى خطوط تنقل قواتها، وصولاً إلى الأحياء السـكنية التي يوجد فيها مركز قيادة العمل الفلسطيني، السياسي والعسكري. وقد جرى ذلك كله بنـاء على خطـة مُحكـمة، وضعتها قيادة أركان الجيش الإسرائيلي، تقضي بتكثيف الضربات المتفرقة على مواقع انتشار القوات العسكرية الفلسطينية، بهدف إضعافها، وصولاً إلى تحطيم ذلك الانتشار وتصفيته في الجنوب اللبناني. وكان رئيس الأركان الإسرائيلي، رفائيل إيتان Raful Eytan ، يشرف على تنفيذ هذه الخطة بنفسه، إضافة إلى قائد المنطقة الشمالية، أفيجدور بن جال، غير أن شـيئاً من ذلك لم يحدث. فعلى الرغم من الجهد العسكري الضخم، الذي وظفته القيادة الإسرائيلية في هذا السبيل، ومن ثم، الأضرار المادية والبشرية الجسيمة، التي لحقت بالقرى والمدن والمنشآت على الأرض اللبنانيـة، والتي كانت معظمها مدنية، إلاّ أن القوات الفلسطينية صمدت، وردّت على العدوان بعمل عسكري مركز، أحبط الخطة الإسرائيلية العامـة، وفرض علـى حكومة بيجن القبول بوقف القصف المتبادل عبر الحدود اللبنانية.

          وبادرت إسرائيل إلى هذه الحرب، في إطار ما يمكن تسميته "خيار بيجن اللبناني"، الذي يأتي، بدوره، في سياق توجُّه الإدارة الأمريكية، برئاسة رونالد ريجان Ronald Wilson Reagan ،لإنشـاء تشكيل سياسي ـ عسكري في المنطقة، يقوم على أساس "مبدأ كارتر" ، الرئيس السابق Jimmy James Earl) Carter) للولايات المتحدة الأمريكية. فإدارة ريجان، منذ توليها السلطة في بداية عام 1981، أعلنت عن عزمها على القيام بمبادرة جديدة، لدفع مسار "التسوية" في الشرق الأوسط، لتحل في خريف ذلك العام، وبعد أن تكون الانتخابات الإسرائيلية قد حُسمت، وظهر الفريق الإسرائيلي الذي سيتولى السلطة.

          وفي إطار الإعداد لهذه المبادرة، ووضع خطوطها وإستراتيجية تنفيذها، زار وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج Alexander Meigs Haig، بعض دول المنطقة، في 3 أبريل 1981، وأعلن أن الهدف من زيارته، هو "البحث مع أصدقائنا في السبُل لمواجهة ما يتعرض له السلام من تهديدات، من جانب الاتحاد السوفيتي، والدول التي تخضع لمشيئته، ومن أجل تقدم السلام في الشرق الأوسط" . وفي مناسبة زيارة هيج إلى المنطقة، تمّ تفجير الوضع الأمني في زحـلة، وصـولاً إلى "أزمة الصواريخ السورية". ويبدو أن المفتاح الصحـيح لفهْم سليم للأسباب، التي أدّت إلى اندلاع القتال في زحلة، ومن ثم، إلى نشـوب أزمة الصواريخ، كان ينعكس بشكل أساسي على تلك الزيارة وأهدافها، وفي دوافع حكومة بيجن للتأثير في نتائجها، عبر تحرك سـياسي ـ عسكري، من شـأنه، في اعتقادها، أن يوجه قرار هيج في مسار محدد، ويضع، من ثم، تحرك الإدارة الأمريكية المرتقب على مسار يوصل إلى حيث تريد حكومة بيجن في هذه المرحلة.

          إذاً، جاء هيج إلى المنطقة للتشاور مع أصدقاء واشنطن المحليين، في إستراتيجية بناء هذا التشكيل السياسي - العسـكري، الذي كان جوهـره "مبدأ كارتر"، الذي تبنّاه ريجان، على أن يتم تجسيده بوتيرة متسـارعة. وينطـلق هذا المبدأ من قاعدة "أمن الخلـيج أولاً". وعليه، فإن واشنطن كانت تسعى جاهدة، وفي إطار إستراتيجية محددة، إلى بناء محور إستراتيجي في الشرق الأوسـط، يقوم أصـلاً على الوجود العسكري الأمريكي فيه، وذلك في قواعد ثابتة أو عائمة، وعلى "قوات التدخل السريع" الأمريكـية، مع كل ما يتطلبه أداء مهمتها، من تسهيلات في المرافق البحرية والجوية لدى "الدول الصديقة" في المنطقة، وعلى بناء مراكز حشد وتخزين فيها، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من أعمال الصيانة وغيرها. وعليه، فإن الفكرة كانت تنطوي بالأساس على انضمام بعض دول المنطقة إلى هذا المحور المزمع إقامته، على أن تتولى واشنطن مهمة التنسيق فيما بينها، فتصبح جميعاً في حلف سياسي ـ عسكري، بشكل مباشر. ولكن بناء هذا المحور، يصطدم بالحلقة السورية ـ الفلسطينية، التي استعصت على "كامب ديفيد". فجاء هيـج ليبحث في سُبُل كسرها، وتطويع طرفَيها لإملاء المشروع الأمريكي. واقتصرت زيارة هيج على مصر وإسرائيل والأردن والسعودية، محددة بذلك الأطراف التي تعينه في هذه المرحلة، ومستثنية الأطراف الأخرى، التي يستهدفها المحور.

          وبرز في كلام هيج، أثناء الزيارة، النهج السياسي، الذي تنوي الإدارة الأمريكية الجديدة انتهاجه، في المنطقة، متذرعة بالخطر السوفيتي على أمن الخليج، ومن ثم، ضرورة مواجهة ذلك الخطر، مع كل ما يترتب على ذلك من اسـتقطاب في المنطقة، وصولاً إلى تأجيج الصراع بين الأطراف المحلية، المنضوية إلى المحور، من جهـة، وبين القوى المناوئـة له، من جهة أخرى. وقد خص هيج، قبل الزيارة وأثناءها وبعدهـا، كلاً من منظمة التحرير الفلسطينية وسورية بقسط وافر من الاتهامات والتهديدات، مستغلاً في ذلك تفجير الموقف الأمني في لبنان.

          لقد جاء هيج إلى المنطقة، وفي ذهنه تصور لأولويات التحرك الأمريكي المقبل فيها، انطلاقاً من نظرة واشنطن إلى الأمور بشكل عام. وهذا التصور، كما بدا من تصريحات هيج، قد ميّز بين الخطر الرئيسي والخطر الثانوي. فالخطر الرئيسي، في نظره، هو "الخطر السوفيتي" وتأثيره في النفط العربي ومعابره. أما الخطر الثانوي، فهو الخلافات القائمة بين الأطراف المحلية "الصديقة"، حول متطلبات تجسيد المحور السياسي ـ العسكري في المنطقة، وتحديداً حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي، أي تصفية القضية الفلسطينية بشكل أو بآخـر. وفي العواصم، التي زارها، استمع هيج إلى أطروحات مختـلفة عن أولويات التحرك، وإستراتيجية الوصـول إلى تشكيل المحور. ويبدو أنه اصطدم، في تلك العواصم، بتقديرات مختلفة حول القضايا المطروحة وأسلوب معالجتها. ففي القاهرة، أكد الرئيس السادات لوزير الخارجية هيج، ضرورة استئناف مفاوضات "الحكم الذاتي"، طبقاً لاتفاقيات "كامب ديفيد"، بعد أن وصلت إلى طريق مسدود . وفي إسرائيل، سمع هيج كلاماً من المعارضة الرسمية عن "الخيار الأردني"، والحل الوسط الإقليمي، ومن حكومة بيجن رفضها لذلك الخيار، وإصرارها على التمسك بالضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، وكذلك الجولان. كما أكد الجانب الإسرائيلي في المحادثات أهمية الدور الذي تستطيع الآلة العسكرية الإسرائيلية أن تؤديه، في مواجهة "الخطر السوفيتي"، ومن ثم، ضرورة تزويدها بكل وسائل القوة.

          وفي عمّان، سمع هيج كلاماً عن ضرورة انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية، وإيجاد حل ملائم لمسألة الأماكن المقدسـة في القدس. أمّا في الريـاض، فقد أكـدت المملكة العربية السـعودية لهيج أهمـية إيجاد حل للصراع العربي ـ الإسرائيلي، يحقق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، بما فيها القدس العربية، مع تأكيد الخيار الفلسطيني، ببناء الدولة الفلسطينية على ترابها الوطني.

          وهكذا، وجدت حكومة بيجن نفسها أمام خيارات صعبة، تطرحها الأطراف الأخرى، بما فيها الإسرائيلية، وجميعها تطرح ملف الأراضي المحتلة عام 1967، على حل الانسحاب الإسرائيلي، الكلي أو الجزئي، وهو ما لا يريده بيجن. فالمقترحات التي تقدمت بها القاهـرة وعمّان والرياض، حتى المعارضة الرسمية الإسرائيلية، تنطلق من ضرورة فتح الملف الفلسطيني على قاعدة "التسوية السلمية"، ومن ثم، ضرورة قبول إسرائيل بانسحاب كلي أو جزئي، من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وإعادتها إلى الجانب العربي، "أردني أو فلسطيني"، وهو ما يرفضه بيجن وحكومته بشكل قاطع. وما دام بيجن يعرف إملاءات المشروع الأمريكي العام في المنطـقة، وهو على علم بمواقف الأطراف الأخـرى، فلم يبقَ أمامه إلا "الخيار اللبناني"، أي فتح الملف الفلسطيني، ولكن على قاعدة تصفية "الخـيار الفلسطيني"، وصولاً إلى حصر "الخيار الأردني" في شرقي الأردن فحسب، وقطع الطريق علـى برنامج حزب العـمل، ومن ثم، وضع جميع الأطراف أمام الخيار الوحيد، وهو اسـتئناف المفاوضات في إطار "الحكم الذاتي الفلسطيني"، وفقاً لمفهوم بيجن لاتفاقيات "كامب ديفيد". ولكن ذلك لن يتم من دون شطب منظمة التحرير الفلسطينية من المعادلة السياسية في المنطقة، والذي يستلزم إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، ومن ثم، إلحاق لبنان بركب "كامب ديفيد".

          وعلى خلفية نتائج "عملية الليطاني، في مارس 1978، تأكد لمناحم بيجن صعوبة تحقيق "الخيار اللبناني"، كما يريده هو، أي بتصفية "الخيار الفلسطيني"، وإلحاق لبنان بركب "كامب ديفيد"، ما دامت قوات الردع العربيـة موجودة فيه. فلا بدّ من إخراجـها منه أولاً، ولن يتم ذلك إلا بافتعال معركة مع القوات السورية في البقاع. فحدث، من ثم، التفجير في زحلة، الذي تواكب مع زيارة هيج إلى المنطقة. غير أن الرد السوري على التحدي الكتائبي بتشجيع بيجن، جاء عنيفاً، حتى إنه لم يكن في استطاعة ميليشيا "الكتائب" الصمود في وجهه، مما حدا بحكومة بيجن على اتخاذ قرار التدخل العسكري، المباشر في القتال . ويبدو أن التقدير الإسرائيلي، جاء على أرضية القناعة بحتمية إعاقة القوات السورية من متابعة عملها العسكري في مرتفعات صنين، بعد تدخل سلاح الجو الإسرائيلي في القتال الدائر، انطلاقاً من ثقة القيادة الإسرائيلية بفاعلـية القوة الرادعة لآلتها العسـكرية. وتشير الدلائل إلى أن بيجن، أقدم على اتخاذ قرار التدخل المباشر في القتال، بناء على قراءة لموقف الإدارة الأمريكية من مثل هذه الخطوة، استخلصها من محادثاته مع هيج، أو من التصريحات التي أدلى بها الوزير الأمريكي عن الأزمة اللبنانية، أثناء زيارته إلى إسرائيل. وعلى أي حال، فقد جاء الرد السوري على خطوة بيجن مغايراً تماماً لتوقعاته، إذ عمدت القيادة السورية إلى تصعيد المواجهة، بإدخال بطاريات صواريخ مضادة للطائرات إلى البقاع، فما كان من بيجن إلا أن أصدر أوامره بقصف تلك البطاريات، ولكنه تراجع عن ذلك بذريعة الأحوال الجوية. وتصاعدت نبرة التهديدات الإسرائيلية، ومعها حدّة رد الفعل السوري، وصولاً إلى حافة الانفجار العسكري، مع ما واكب ذلك من تحرك للدولتين العظميين، على الصعيدين، السياسي والعسكري. وبفعل نشاط المبعوث الأمريكي، فيليب حبيب Philip Charles Habib ،ورحلاته المكوكية، تم تجميد "أزمة الصواريخ السورية" .

          وفي أوج تصعيدها للتوتر في لبنان حول "أزمة الصواريخ السورية"، وبينما كانت تخوض صراعاً حاداً مع الإدارة الأمريكية، حول قضية تزويد المملكة العربية السعوديـة بطائرات الاستطـلاع من طـراز "أواكس" Airborne Warning And Control System "AWACS"، وكل ذلك في خضم معركة انتخابية صـعبة، تغلَّب فيها القضايا السياسية الخارجية، وتحديداً مسألة "التسوية"، على القضايا الداخلية، من اقتصادية واجتماعية ـ أقدمت حكومة بيجن على قصف المفاعل النووي العراقي. وكان قصف المفاعل في بغداد سابقة أولى من نوعها في العالم، إذ لم يحدث أن أقدمت دولة، من قبلُ، على مهاجمة المنشآت النووية لدولة أخرى. ومع ذلك، خرجت القيادة الإسرائيلية إلى العالم، لتواجه كل نقد لما اقترفته يداها، ولترفض أي إدانة لعملها هذا. وتشير الدلائل إلى تواطؤ الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل في التخطيط لهذه العملية وإعدادها، فضلاً عن تزويدها بالمعلومات ووسائل التدمير من أجهزة ومعدات ، وفوق ذلك، قدمت واشنطن دعمها السياسي لإسرائيل على الصعيد الدولي، وحمتها من أي عقوبات تترتب على إدانتها في مجلس الأمن.

          ومن الواضح أن حكومة بيجن أرادت بفعلتها تلك، ترسيخ مصداقية قوّتها الرادعة على صعيد الشرق الأوسط. فقد كان من الأهمية بمكان للآلة العسكرية الإسرائيلية إبراز قدرتها على العمل العسكري بعيداً عن حدودها، وذلك لإيصال رسالة واضحة إلى كل من يهمه الأمر، بأنها مستعدة للذهاب إلى أقصى الحدود، غير عابئة بالنتائج المترتبة على عملها، في سبيل الاحتفاظ بتفوّقها العسكري، ومن ثمّ، بمصداقية قدرتها على الردع. وبتدميرها المفاعل النووي العراقي، أرادت إسرائيل أن ترسل إنذاراً إلى جميع دول المنطقة، بأنها قادرة بل مستعدة لضرب منشآتهم النووية، إذا اقتضت مصلحتها ذلك. وهي كأنما أرادت أن تبرهن على عنفها، أو حتى جنونها، في سبيل تثبيت قدرتها الرادعة، وإبراز فاعلية الأسلحة، التي تمتلكها.

          وإذا انتقلنا إلى نتائج "حرب تموز الإسرائيلية ـ الفلسطينية"، في يوليه عام 1981، نجد أن هناك شبه إجماع في إسرائيل، على أن القيادة الإسرائيلية فشلت في تحقـيق أهدافها من عملها العسكري ضد الفلسطينيين في لبنان. وبذلك، خرج الفلسطينيون أكثر قوة، كنتيجة مباشرة لتلك المعركة.

          وعقب فوزه في الانتخابات العامة للكنيست العاشر، وقبل أن يشكل حكومته الجديدة، بادر بيجن إلى تصعيد عدوانه على المواقع الفلسطينية في لبنان، بحجة حماية أمن المستوطنين اليهود في شمالي فلسطين. وكأن بيجن يعلن أنه بذلك إنما يَبَرّ بوعده، الذي قطعه على نفسه، أثناء المعركة الانتخابية، بألاّ تسقط قذيفة كاتيوشا واحدة على المستوطنات الشمالية بعد الآن، وبذلك، انطلقت "حرب تموز" بمبادرة إسرائيلية، على غرار الخطة التي وضعتها قيادة الأركان الإسرائيلية، والقاضية بتكثيف الضربات وتصعيدها على مواقع الانتشار العسكري للقوات الفلسطينية، وصولاً إلى تدميرها بضربة قاضية، ووفقاً، لإستراتيجية بيجن، في وضع المبادرة الأمريكية المرتقبة، إلى حيث يريدها هو.

          وكانت إدارة الرئيس ريجان، قد أعلنت عزمها على دعوة القيادة السياسية في كل من مصر وإسرائيل والأردن والسعودية لزيارة واشنطن، وإجراء محادثات، تنير أمامها الطريق في طرح مبادرتها الجديدة، الرامية إلى بناء تشكيل سياسي ـ عسكري في المنطـقة، يكون هدفه الأساسي حماية المصالح الأمريكية في نفط الخليج. وكان ما يشغلُ بيجن من المبادرة تأمين استئثار إسرائيل في هذا التشكيل، بموقع متميز، يتناسب مع وزن إسرائيل العسكري في المنطقة، وضمان استمرار "العلاقة الخاصة" بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثمّ، استمرار الدعم الاقتصادي الأمريكي، من دون تقديم تنازلات في البعد الفلسطيني من الصراع العربي - الإسرائيلي. وكانت سياسة بيجن المعلنة هي ضم المناطـق المحتلة عام 1967، في الوقت المناسب. غير أن انخراط إسرائيل في محور سياسي - عسكري متعدد الأطراف في المنطقة، إلى جانب دول عربية أخرى، يصطدم بعقبة الحضور السياسي والعسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتمثيلها الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ومن الطبيعي، والحال هكذا، أن يعمل بيجن على إزالة هذه العقبة، التي تتركز حالياً في لبنان. ومن هنا كان خياره، الرامي إلى طرد قوات الردع العربية من لبنان، وتصفية الوجود الفلسطيني المسلح فيه، ومن ثمّ الانفراد بالحركة الوطنية اللبنانية وتطويعها لإرادة إسرائيل.

          وكان لبيجن في خياره اللبناني حساب آخر، يتعلق بمشروعه للحكم الذاتي في المناطق المحتلة عام 1967، الذي يتعارض مع مفهوم مصر، لِمَا تم الاتفاق عليه في "كامب ديفيد". فبيجن يريد ضم هذه المناطق، ومن ثم، فإنه لا يقبل بغير سيادة إسرائيل عليها، انطلاقاً من "حقها التاريخي" فيها. بل لا يريد أن يُعطي لأي طرف عربي موطئ قدم في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال "التسوية"، لأن من شأن ذلك أن يعرقل عملية الضم في المستقبل. وفي المقابل، تعمل إسرائيل على فرض "الحكم الذاتي"، كما تراه من جانب واحـد، وهو جوهر "مشروع شارون" ، الذي يسعى إلى تحقيقه منذ توليه وزارة الدفاع الإسرائيلية، ومن ثم، إدارة المناطق المحتلة. ومن المؤكد أن تصفية المنظمة الفلسطينية في لبنان، يمكن أن يسهّل على أرييل شارون Ariel Sharon تنفيذ مشروعه.

          وترك بيجن لآلته العسكرية الحبل على الغارب. فراحت هذه، بكل أسلحتها، تصب حمم الموت في أنحاء لبنان، وتزرع الدمار في مدنه وقراه، والخراب في سهوله وجباله ، ولمدة أسبوعين كاملين. وتصدت "القوات المشتركة" الفلسطينية واللبنانية، لهذا العدوان، ببسالة، وردّت على القصف البري والبحري والجوي بقصف مضـاد ومركز على المستوطنات اليهودية في شمالي فلسطين المحتلة. وفوجئت القيادة الإسرائيلية بكثافة الرماية المضادة ودقتها، بما لم تعهده سابقاً، ولم تُعد العدة لمواجهته، مما أدى إلى هجرة إسرائيلية واسعة النطاق من الشمال الإسرائيلي إلى الداخل. واضطرت القيادة الإسرائيلية إلى القبول بوقف هذا القصف المتبادل، عبر الحدود اللبنانية، والتزمـت قيادة "القوات المشتركة" بذلك. وقد لخّص أحد المراقبين الإسرائيليين، حاييم تسور، تقييم أوساط إسرائيلية لنتائج ذلك العدوان على لبنان، بالقول : "إن النقطة الأكثر مدعاة للقلق، بالنسبة إلينا، عند تقييم التطورات في لبنان، هي الإحساس بانعدام أي شكل من التخطيط والفكر الاستراتيجيين في إسرائيل، لأن ثمة خللاً في عملية التفكير والقرار السياسي عندنا. والنتيجة أن التطورات، التي كان في الإمكان توقعها سلفاً، جاءتنا مفاجأة، واليوم تجد الحكومة نفسها أسير مبالغات مناحم بيجن اللفظية، من خلال فقدان الكثير من المرونة".

          وفي ضوء الفشل الإسرائيلي، تحركت الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن، من أجل إصدار قرار بوقف إطلاق النار. وأوحت أيضاً إلى مبعوثها، فيليب حبيب، بالتحرك من أجل الغاية نفسها. كما تحرك قائد قوات الطوارئ الدولية في لبنان، من أجل الحصول على موافقة الأطراف المعنية لوقف إطـلاق النار، فتم ذلك. وهكذا، فشل مخطط بيجن في تحقيق هدفه السياسي على الصعيد الفلسطيني، الذي استطاع أن يصمد في مواجهة العدوان الإسرائيلي.

          وقد لخص المعلق العسكري لجريدة "يديعوت أحرونوت"، إيتان هابر، على هذا الوضع، بقوله : "لقد اتضح أن المناعة النفسية، لدى جزء كبير من السكان المدنيين في حاجة ملحّة إلى التشجيع وحقن الدم. والخلل القومي في هذا الشأن كبير جداً. وقد اتضح، كما هو الحال دائما، أن الأكثر صراخاً ليس بطلاً، بالضرورة. ومن الصعب العيش في ظل هدير صواريخ الكاتيوشا المخيف والمدمر. ولـكن لا نستطيع أن نعفي أنفسنا من مناقشة كل ما حدث في مدن الشمال، عندما يحين الوقت. والقصص التي تصل من هناك محزنة جداً".

إن فشل بيجن في تحقيق أهدافه من "حرب تموز" ، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي، لا يعني تراجعه عن سياسته إزاء منظمة التحرير الفلسطينية، أو مشروعه للحكم الذاتي. غير أن النصر، الذي حققته "القوات المشتركة الفلسطينية ـ اللبنانية"، شكل درساً في المواجهة بينها وبين إسرائيل، التي استفادت منه في المواجهة التالية من الصراع.

          وعلّق إسحاق رابين على تلك الحرب، في جريدة "يديعوت أحرونوت"، بقوله : "على الرغم من الضربات الشديدة، التي أنزلها سلاح الجو بقيادات لبنان وقواعده، فقد واصل الفلسطينيون قصفهم لمستوطنات الشمال، الذي يشهد، في هذه الأيام، حرب استنزاف، تعطل الحياة العادية في إصبع الجليل والجليل الغربي. والجهود الكبيرة، التي بذلها الجيش الإسرائيلي، لم تُؤد بعد إلى إسكات مصادر النيران بصورة كاملة. وهنـاك شك في التوصل إلى ذلك، حتى إن استمرت العمليات العسكرية بالأسلوب الحالي. إنها لحرب استنزاف في كل شـيء. إضافة إلى ذلك، فكلما استمرت الحرب بهذه الصورة، فإننا نشهد تأزماً متزايداً في العلاقـات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فالوضع على الجبهتين السياسية والعسكرية، لا يمكن أن يستمر الآن على هذا المنوال. إن المسألة الرئيسية، التي يجب على الحكومة أن تجد حلاً لها، هي حرب الاستنزاف، ولا يجوز أن تقع مثل هذه الحرب. ويبدو لي أنه يجب علينا، في المرحلة الحالية، استنفاد جميع الإمكانات للتوصل إلى وقف إطلاق شامل على الجبهة اللبنانية، بالاستعانة بخدمات الولايات المتحدة الأمريكية، ومن دون ذلك، لن يتهيّأ أي احتمال لتسوية المشكلات الداخلية في لبنان. وما دامت مشكلات لبنان هذه قائمة، فستواصل المنظمات الفلسطينية واللبنانية العمل ضد دولة إسرائيل. ومن الجائز جداً ألاّ يصمد وقف القتال طـويلاً، وربما يستمر أسابيع أو بضعة أشهر فقط. وإن خرق المنظمات الفلسطينية لوقف إطلاق النار، في مثل هـذه الظروف، سيمكن إسرائيل من القيام بعملية عسكرية أشمل وأكثر فاعلية من العمليات التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في هذه الأيام، وفي مثل هذه الحالة، تتهيأ أيضاً مهلة لإعداد منطقة الشمال بصورة أفضل، ومن أجل استعداد سياسي، يضمن النتائج المرغوبة".

          ويتضح من هذا التعليق، أن إسرائيل لا ترغب الدخول في حرب استنزاف طويلة بينها وبين الفلسطينيين، وأن أفضل الحلول المتاحة أمامها، هي تنفيذ عمل عسكري أكثر شمولاً وفاعلية في الجنوب اللبناني، وهذا ما حدث فيما بعد في حرب عام 1982.

          ويرى عضو الكنيست الإسرائيلي، يوفال نئمان ، أنـه "يجب احتلال جنوبي لبنان. فالحل، في رأيه، يَكْمُن في إبعاد الفلسطينيين إلى خط نهر الزهراني تقريباً. فعندما يصبح الشمال بأسره خارج مدى قذائف الكاتيوشا والمدفعية، سنتمكن من حماية مستوطناتنا في الشمال. ولا أعتقد أن هناك طريقاً آخر أفضل من الاحتلال الفعلي، شريطة أن تتوافر لنا القدرة على الصمود السياسي، بعدم الانسحاب، إذا ما قرر مجلس الأمن ذلك. فإذا كنا غير مستعدين لمواجهة الضغط، فمن غير المجدي تنفيذ العملية".



الصفحة التالية الصفحة الأخيرة