الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

 
الموقع الجغرافي للسودان
تضاريس السودان
التقسيم الإداري للسودان
التوزيع القبلي للسودان
قناة جونجلي
أماكن معسكرات الفصائل

الفصل الأول
تطورات مشكلة الجنوب

1898 ـ 1998

المبحث الأول: سياسة الحكم الثنائي وأثرها على مشكلة الجنوب (1898ـ 1955)

         عندما اكتمل فتح السودان عام 1898م من قبل الإنجليز والمصريين، فُتح شماله وجنوبه لتلعب السياسة الدولية دورها كاملاً. ففي تلك الفترة وعند تقدم جيش الحكم الثنائي جنوباً، اصطدم بالوجود الفرنسي في مدينة فشودا "مدينة كدوك حالياً". وسويت المشكلة بانسحاب الجيش الفرنسي في ديسمبر 1898. وبدأت النظرة لجنوب السودان على أنها الأرض، التي يجرى عليها النيل الأبيض، الذي يُعتمد عليه كشريان للحياة لكل من السودان ومصر.

سياسة الحكم الثنائي تجاه الجنوب، وأثرها في مشكلة الجنوب

         في عام 1900م بدأت إدارة الحكم الثنائي، في توطيد دعائم حكمها بالإقليم الجنوبي. فأنشئت الحاميات تحت إشراف الضباط البريطانيين. وكعادة القبائل في الجنوب ومناوئتها للمستعمر، شقت تلك القبائل عصا الطاعة على هؤلاء الحكام الجدد. فكان التهديد بالقوة تارة، وإثارة الفتن بين القبائل تارة أخرى، لشغل المواطنين في أنفسهم. كما كانت هناك بعض الاستقطابات عن طريق الهدايا، لكسب ود الأهالي.

         ولم يقف إخضاع القبائل للحكم الجديد عند هذا الحد، بل كانت هناك التجريدات وحملات التأديب المتواصلة، خاصة التي أرسلت لإخضاع قبيلة النوير التي كانت تقاوم الاحتلال حتى أخضعت كليا عام 1930. وتجدر الإشارة إلى أن الجنوب، ظل يعيش منذ احتلال السودان وحتى عام 1930، في حروب قبلية تارة، وثورات ضد المستعمرة تارة أخرى. فتعطلت عجلة التطور، وتوقفت التنمية. وهذا عكس ما حدث بالمديريات الشمالية، التي بدأت في تطوير نفسها بشرياً ومادياً واقتصاديا. وهنا برزت الهوة في التّطور بين الشمال والجنوب. وفي تلك الفترة أيضاً تلاشت تجارة الرقيق، بعد حرب شعواء شنها الإنجليز والأوربيون عليها.

         كانت سياسة الحكم الثنائي في السودان، خلال العشر سنوات (1920 ـ 1930) مرتكزة على أن هناك فوارق وهوة سحيقة، بين شمال السودان وجنوبه. وعلى ذلك بدأت السياسة تجاه الشمال، بمديرياته الست آنذاك، مختلفة عن السياسة المطبقة في مديريات الجنوب الثلاث. واتخذت حكومة الحكم الثنائي من الإجراءات، ما يُمكنها من فصل مديريات الجنوب عن باقي مديريات الشمال، فمن ذلك:

  1. إسناد بعض المسائل، التي تخص الإدارة إلى السلطات المحلية وتحت الأشراف الحكومي. فأنشئت محاكم الرؤساء في الشمال والجنوب على السواء.
  2. تكوين قوه من الجنوبيين يقودها ضباط إنجليز، وعلى ذلك انسحبت الفرقة الشمالية من "منقلا" سنة 1917م، بعد اكتمال إنشاء هذه القوة.
  3. يهدف  تكوين هذه القوه إلى منع  وجود قوات شمالية مسلمة في الجنوب، للاعتقاد بأن القوات الشمالية بها من المسلمين ما يضير انتشار المسيحية.
  4. اتُخذت في سنة 1918م إجراءات، من شأنها أن تجعل اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية في الجنـوب، واعتبار يوم الأحد العطلة الرسمية.
  5. وضع الخطط والسياسات لجعل كل مديرية مكتفية ذاتياً، ومستقلة بقدر الإمكان.
  6. كان قبول الطلاب في الكلية الحربية أول إنشائها، مُحتكراً على السود أو الزنوج، دون غيرهم مِمَن يعتقد أنهم عرب.

قانون الجوازات والهجرة

         أصدر الحاكم العام في سنة 1922 قانون الجوازات والهجرة، الذي بمقتضاه مُنح الحاكم العام سلطة اعتبار أي جزء من السودان منطقة مقفولة كلياً أو جزئياً. وتخص سياسة القفل هذه، السودانيين وغير السودانيين على السواء. وصيغ هذا الأمر في المادة (23) من قانون الجوازات والهجرة. واعتبرت بعض المناطق في ذلك الوقت "مناطق مقفولة"، مثل :

  1. المديرية الاستوائية.
  2. مديرية أعالي النيل.
  3. مديرية دارفور، وأجزاء من جنوب مديرية كردفان.

         وصدر قانون آخر في 1925م، يمنع التجارة في بعض مناطق المديريات الأخرى لغير السودانيين إلاّ بتصديق خاص. وقُصد بهذا القانون منع المصريين وأبناء الشمال من المسلمين، من الدخول لتلك المناطق المقفولة، ومزاوله أعمالهم. كما شجع القانون التجار المسيحيين والتجار من الشمال، الذين ليس لهم قصد أخر سوى التجارة دخول تلك المناطق. ونجم عن ذلك آثار سلبية على الانتعاش التجاري والاقتصاد في الجنوب، للأسباب الآتية:

  1. انكمش حجم التجارة بشكل عام.
  2. انخفض حجم التبادل السلعي بين الشمال والجنوب.

         وبسبب ذلك تعثر الازدهار الاقتصادي بالجنوب، إذا قورن بتطور الاقتصاد والتجارة في الشمال. وصاحب التطور في الشمال، قيام المشاريع، وبناء الخزانات، وشقت الطرق، وتبعها عنصر الخدمات، من رعاية طبية وتعليم. في حين ظلت المديريات الجنوبية مقفولة، تفتقد ما وصل إليه الشمال من تطور. ولم تفِ إمكانيات بعثات المبشرين بالحجم المتعاظم من الأعمال في المجال الصحي، فتفشت في الجنوب الأمراض الفتاكة مثل السّل، والجذام، ومرض النوم، إلى جانب الملاريا.

         وفي مديرية بحر الغزال اختلف الموقف عن المديريات الجنوبية الأخرى. فقد دخلها الإسلام، وكانت حركة التجارة منتعشة بواسطة التجار الشماليين. وهنا وجد مدير بحر الغزال في قانون الهجرة الجديد مدخلاً للتخلي عن هؤلاء التجار، الذين هم عنصر غير مرغوب وجوده في مديريته. فشجع التجار الشماليين على العودة إلى ديارهم تارة، وأكرههم على البقاء في الجنوب تارة أخرى. وبذا تقلص الوجود الشمالي في الجنوب، وشمل ذلك الموظفين الشماليين، وأفراد القوات النظامية من الشماليين المسلمين. وقد تسبب إبعاد العنصر الإداري الشمالي من الجنوب، في إعاقة العمل الإداري والأمني مما حد من تطوره.

         وعلى كلٍ، يمكن القول إن توجهات الحكم الثنائي وسياسته نحو الجنوب، كانت ترمي إلى فصله عن الشمال، بخلق تلك الفوارق. بيد أن تلك السياسة والتوجهات لم يحالفهما الحظ في عملية الفصل النهائي، بل نجحا في تعميق الفوارق بين شمال السودان وجنوبه.

مؤتمر الخريجين في سنة 1938

         في سنة 1938 قدّم مؤتمر الخريجين مذكرة لإدارة الحكم الثنائي، تحمل تصوراً جديداً لسياسة التعليم في الجنوب. وحوت المذكرة اقتراحاً باتاحه الفرصة للتجار الشماليين بالعمل في المديريات الجنوبية، بغرض تمكين اللغة العربية في الوسط الجنوبي.

التنمية

         في الفترة ما بعد سنة 1939م، كانت هناك توجهات من شأنها زيادة الرقعة الزراعية بقيام المشاريع وتطوير الاقتصاد، بجانب التطوير الثقافي. ولكن حالت عوامل كثيرة دون التوسع في سياسة التنمية هذه، كان أهمها:

  1. نشوب الحرب العالمية الثانية، التي أوقفت معظم المشاريع الإنمائية.
  2. التخلف الذي كان يعيش فيه أبناء الجنوب، وعدم قدرة النظام التعليمي الكنسي على دفع عجله الثقافة.
  3. السياسة غير الواضحة حيال المديريات الجنوبية، والنظرة المريبة لأبناء الشمال والمصريين.
  4. عدم الارتياح والثقة لما سيعود من عائدات من الإمكانات المتاحة في الجنوب.
  5. انشغال الحكومة في الخرطوم، بالقضايا الملحة التي تخص شمال السودان.
  6. عدم رضى المثقفين في الشمال عن السياسة المطبقة في الجنوب، مما جعلهم يحجمون عن المشاركة في إبداء الرأي لتطوير الجنوب ثقافياً واقتصادياً وتنموياً.
  7. عدم ارتياح الجنوبيين عن نظام الأجور المطبق، بسبب الفوارق في الأجور بين الشمال والجنوب.

اقتراح تقسيم الجنوب

         وُجهت انتقادات عديدة لسياسة الحكومة البريطانية في الجنوب، تمثلت في مذكرة 3 إبريل 1944، التي رفعها المدير السابق للمعارف "المستر كوكش". وقد أوضح في المذكرة أن سياسة التعليم المطبقة في الجنوب، جعلته أكثر تخلفاً عن الشمال. ثم جاءت مذكرة مؤتمر الخريجين، التي اشتملت على المطالب الآتية:

  1. رفع القيود عن حركة التجارة بين الشمال والجنوب.
  2. إلغاء قانون المناطق المقفولة.
  3. إلغاء الإعانات التي كانت تمنح للإرساليات.
  4. توحيد المناهج التعليمية.
  5. حرية التنقل بين الشمال والجنوب.
  6. تحقيق سياسة زيادة الصلات، بين أبناء الجنوب والشمال.

         ونتيجة لذلك قدّم الحاكم العام مذكرة، تضمنت ثلاثة مقترحات، واشتملت على الخيارات الآتية:

  1. ضم الجنوب إلى الشمال.
  2. ضم الجنوب إلى دول شرق أفريقيا.
  3. ضم أجزاء من الجنوب إلى شمال السودان، وأجزاء أخرى إلى شرق أفريقيا.

         لم ترحب دول شرق أفريقيا بضم جنوب السودان إليها، نظراً للتخلف الشديد الذي كان يُعاني منه. ومع إلغاء السودان للمجلس الاستشاري عام 1946 وإنشاء الجمعية التشريعية، انقسمت وجهة نظر أهل الجنوب إلى قسمين:

الأولى:

تنادي بالاتحاد الفيدرالي مع الشمال، وذلك أملا في دخولهم الجمعية التشريعية السودانية، بدلاً من تجاهلهم مثل ما حدث في المجلس الاستشاري.

الثانية:

الاستفتاء لتقرير المصير.

مؤتمر جوبا

         في يونيه عام 1947 انعقد المؤتمر الإداري في جوبا، برئاسة السكرتير الإداري، وخرج المؤتمر بالتوصيات الآتية:

  1. الوحدة بين الشمال والجنوب ضرورة، لأن الجنوب لا يمكنه الاتحاد مع أوغندا، كما أنه لا يستطيع الاعتماد على نفسه ذاتياً.
  2. يُلحق فصل الشمال عن الجنوب الضرر البالغ بالجنوب، وسيؤدي إلى مزيد من التخلف للإقليم.
  3. يخشى الجنوب من نوايا الشمال، وسيطرته على الجنوب.

         وأعقب المؤتمر الموافقة على قيام جمعية تشريعية واحدة لكل السودان، شماله وجنوبه، وترك للحاكم العام سن القوانين أو إلغائها لوقف أي سوء إدارة من الشمال للجنوب.

         لم تلق قرارات مؤتمر جوبا قبولاً لأنها لم تُرضِ طموحات الإداريين البريطانيين. ورأى الإداريون البريطانيون أن هذه القرارات سوف تمكِّن من تعيين ثلاثة عشر عضواً جنوبياً في الجمعية التشريعية السودانية، وهذا سيؤدى إلى تحقيق وحدة الشمال مع الجنوب. ورأى المبشرون في الإرساليات أن الشماليين سيقررون فرض الدين الإسلامي على جميع أنحاء السودان.

وأعقب تلك المرحلة الإجراءات الآتية:

  1. تقلص حجم الإعانات الممنوحة للإرساليات.
  2. بدأ تدريس مادة اللغة العربية في مدارس الجنوب.
  3. توحدت سياسة التعليم بين الشمال والجنوب.
  4. سُمح للطلاب غير المسلمين بالقبول في المدارس الحكومية بالمدريات الشمالية، وسمح للذين لا ينتمون للأديان السماوية حرية حضور حصص الدين وغيرها.
  5. تتحمل مديريات الشمال عبء الإنفاق على التعليم في الجنوب.

اتفاقية عام 1953

         شُكلت لجنة دستورية عام 1951 لاقتراح الخطوات اللازمة لتحول السودان إلى الحكم الذاتي. واتخذت اللجنة قرارها باستقلال السودان الموحد، على الرغم من مطالبة الجنوب بالحكم الفيدرالي. ثم تلى ذلك إعلان اتفاقية السودان عام 1953 بين مصر وبريطانيا، بشأن منح السودان حق تقرير المصير، وأدت الاتفاقية إلى:

  1. قيام حزب الأحرار الجنوبي، نتيجة لعدم وجود أحزاب تمثل الجنوبيين.
  2. بعد تمرد الفرقة الجنوبية، طالب السياسيون الجنوبيون بحكومة فيدرالية، كشرط مسبِّق للموافقة على إعلان الاستقلال.
  3. طالب عدد من نواب الجنوب باستفتاء لتقرير المصير، وطالب الآخرون بحكم اتحادي.

تمرد عام 1955

          بإعلان اتفاق عام 1953، عادت القيادات الجنوبية تنادي بالفيدرالية، وتلا ذلك وقوع عصيان وصدام مسلح في يوليه 1955، بين عمال مصنع أنْزارا، من قبيلة الزاندي، والشرطة. ثم تلاه تمرد الفرقة الجنوبية في 15 أغسطس 1955م. وترجع تلك الأحداث إلى العوامل الآتية:

  1. الأخطاء التي حدثت من الأحزاب في الشمال، استغلها المبشرون والإداريون، الذين لم تعجبهم قرارات مؤتمر جوبا وقرار الجمعية التشريعية.
  2. عدم إلمام الأحزاب في الشمال بالأحوال في الجنوب.
  3. حرص الأحزاب في الشمال على التخلص من الاستعمار، دون إعطاء اهتمام كافٍ لما يدور في الجنوب.
  4. عدم ثقة أهل الجنوب في نوايا الشمال، خاصة وأن ممثلي الأحزاب الذين ذهبوا إلى القاهرة لمناقشة مصير السودان بعد الحكم الثنائي، لم يكن بينهم ممثلون من الجنوب.
  5. زاد من حدة التوتر إعلان حكومة الأزهري الانتقالية، أن الحكومة حريصة على تنفيذ الاتفاقية التي جاء فيها أن السودان وطن واحد لا يتجزأ، وأن الحكومة لن تتهاون في هذا الصدد ولديها الجيش والبوليس.
  6. سادت حالة من عدم الرضا بين الجنوبيين لقرارات السودنة (أي إحلال موظفين سودانيين وظائف البريطانيين) التي تجاهلت الكوادر الجنوبية المثقفة. فساد شعور بينهم أنهم بلا هوية وأغراب في وطنهم.


الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة