الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

 
تقسيمات إدراية بأفغانستان
القوات المتحاربة بأفغانستان
توزيع القبائل

العلاقات السوفيتية الأفغانية فترة حكم محمد داود (جمهورية أفغانستان الأولى)

      اختلفت الآراء حول الانقلاب، الذي قام به الأمير محمد داود عام 1973؛ هل حصل على النور الأخضر من الاتحاد السوفيتي، أم أنها مسألة داخلية بحتة؟ إلاّ أن الأقوال الموثوق بها تؤكد على أن الانقلاب هو عمل أفغاني بحت، بدليل أن مراسلات السفارة الأمريكية في كابل، التي تابعت الحدث تؤكد على ذلك. أما الاتجاه الذي يؤكد أن للسوفييت دوراً في الانقلاب، وأن روسيا كانت على علم به، هو ذلك القدر الكبير من الدعم، ولو بصورة غير مباشرة، ذلك أن بعض كبار الضباط، أمثال محمد راقي، وأسلم، وطن جار، وعبدالقادر، وهم من المتورطين في عملية الانقضاض على السلطة، أعضاء في حزب الشعب الديموقراطي، الذي لا يتحرك إلاّ بتعليمات من موسكو. ويجب القول إن الشيوعيين اخترقوا الجيش الأفغاني، وتم تجنيد عددٍ كبيرٍ من الضباط. وحسب شهادة المقربين إلى محمد داود، فإن فكرة الانقلاب قد راودته فور إقالته، من قبل الملك ظاهر شاه في 9 (آذار) مارس 1963م، الأمر الذي سبب له غضباً شديداً. وبعد يومين من إعلان نبأ إقالته، عقد داود اجتماعاً حضره عدد من أصدقائه وأعوانه، بينهم رسولي وشرف وسيدي عبدالله، الذين صاروا بعد الانقلاب أعضاء في حكومته. وظهرت فكرة قلب النظام، وسحب السلطة من الملك. لكن داود رفض الفكرة، واعتبر أن التوقيت غير مناسب، إلاّ أن الفكرة لم تبارحه، وأخذ يخطط لها بصمت ورويه منذ عام 1963م، إلى أن نفذها عام 1973م.

      وكان انقلاب الأمير داود له أهمية في التمهيد للثورة الشيوعية، حيث إن فتره حكمه من عام 1973م حتى عام 1978م، تُعد فترة تسكين كوادر شيوعية، في مختلف المناصب الأفغانية، سواء فعل داود ذلك بلا إدراك لتداعيات مثل هذا الموقف، أو أن الشيوعيين، بإمكانياتهم وقدراتهم الذاتية، تمكنوا من احتلال المواقع المهمة في الدولة. ولكن كل الشواهد تدل على أن هذه الفترة من تاريخ العلاقات، اتسمت بالآتي:

  1. على المستوى الرسمي، تمكن الاتحاد السوفيتي، من خلال كوادر حزب الشعب الديموقراطي من فرض سيطرة كاملة على دولة أفغانستان؛ فالوحدات الخدمية يديرها، سواء الصف الأول أو الصف الثاني، كوادر شيوعية؛ والوحدات الإنتاجية ينتشر فيها الخبراء والمستشارون السوفييت، بأيديولوجيتهم الشيوعية يبثون أفكارهم بين العمال، والاقتصاد الأفغاني يعاني من القروض وفوائدها؛ وموسكو أصبحت تتدخل في أسلوب إدارة الاقتصاد الأفغاني، بالنظريات الماركسية. أما الجيش الأفغاني، وهو الذي قام بالانقلاب، فقد تولى حفيظ الله أمين مهمة تكوين خلايا شيوعية من الضباط والأفراد، الذين تم تدريبهم في الاتحاد السوفيتي وعادوا بفكر شيوعي ناقم وساخط على الملكية. وهكذا، يتضح أن أفغانستان أصبحت مهيأة لانقلاب شيوعي، والانضمام إلى الدول الشيوعية، التي تدور في فلك الاتحاد السوفيتي.
  2. أما على مستوى الشعب الأفغاني، فالعقيدة الإسلامية وقفت حائلاً ومانعاً قوياً، ضد سيطرة الفكر الماركسي. فالقبائل، وهي أساس النظام الاجتماعي الأفغاني، بعقيدتها الإسلامية شعرت بالخطر الشيوعي، وبأن الدولة مقبلة على مرحلة صعبة في تاريخها. فكانت بداية الانتفاضة الإسلامية في مواجهة المد الشيوعي، الذي لم يتدارك داود حجمه، إلاّ مع اقتراب استيلاء الشيوعيين على الحكم. فقد استشعرت الأحزاب الإسلامية الخطر، منذ بداية التعاون بين داود وحزب الشعب الديموقراطي. أما داود نفسه فقد كانت رقابته فقط على المعارضة الإسلامية، متناسياً أن ولاء الإسلاميين لن يتعدى حدود أفغانستان، أما ولاء الشيوعيين فدائماً يكون لموسكو.

وعلى الرغم من عدم الطعن في وطنية محمد داود، أو الشك فيها، إلاّ أن الشواهد تؤكد على أن فترتي حكمه كانتا السبب الرئيس، في التدخل السوفيتي في أفغانستان، ومرد ذلك إلى:

أ.

في فترة رئاسته الوزارة من عام (1953 إلى 1963م) ـ أيام حكم محمد ظاهر شاه ـ كانت له السيطرة الكاملة على البلاد، بأسلوب شمولي ديكتاتوري. ولمّا اطمأن السوفيت إلى أن طموحات داود ترقى إلى أكبر من الوزارة؛ هَيَّؤوا له أحقيته في الرئاسة، وأن الظروف فقط، وليست الكفاءة، هي التي آلت بالمُلك إلى ظاهر شاه. استفادت موسكو من ذلك، حين قيدت داود بقيد جديد، هو ضرورة التخلص من ظاهر شاه. لذا، تلاحظ أن داود كان يميل دائماً إلى الاتحاد السوفيتي، على الرغم من تظاهره بإقامة نوع من التوازن في العلاقات، مع الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت هذه الفترة بداية التأهيل النفسي لداود، للسير في ركب الاتحاد السوفيتي، فور توليه الحكم.

ب.

أما الفترة الثانية من حكم داود ـ وهي رئاسته للجمهورية الأفغانية الأولى (1973ـ 1978م) ـ فلو سألنا كيف تم الانقلاب العسكري،؟ ومن هم القائمون به؟ وما هو دور داود في الانقلاب؟ لأدركنا دوره الهامشي في هذا الانقلاب. بل يمكن القول إن الشيوعيين سلموا داود السلطة على طبق من فضة، لأن هذه المرحلة، أي القضاء على الملكية، لم يكن من المفضل أن يقوم بها الشيوعيون، إنما الأفضل أن يقوم بها أحد أفراد العائلة المالكة لامتصاص رد فعل الشعب الأفغاني. وهذا ما حدث بالضبط، فالشعب الأفغاني لم يستشعر الخطر من استيلاء داود على الحكم، لأن أبسط تعليق قيل من رجل الشارع، أنه تغيير بين أمير وأمير آخر، فهل يطمع الشيوعيون في أكثر من ذلك؟ فقد قام بالانقلاب "الكوادر" الشيوعية من ضباط الجيش، الذين جندهم حفيظ الله أمين. وكما هو معروف فداود كان بعيداً عن السلطة لمدة عشر سنوات، والتغييرات التي تمت في المناصب الحكومية على مستوى الدولة الأفغانية عديدة، أي أن الشعب الأفغاني بمشاكله العديدة، غير مؤهل لمتابعة إنجازات محمد داود. إذاً، الواضح أن دوره لم يتعد إذاعة بيان في الإذاعة، لبعض وحدات الجيش، التي كانت مؤهلة من قبل للقيام بالانقلاب، خاصة أن الملك ظاهر شاه كان خارج البلاد، أي لا مقاومة تذكر في مواجهة تحرك الجيش الأفغاني.

      تولى محمد داود رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة، التي كان يعاونه فيها أكثر من سبعة وزراء شيوعيين، إضافة إلى أن أغلب المناصب الرئيسة، يتولاها الشيوعيون، لذلك فإن صلاحياته كانت محدودة بأطر شيوعية، وتعليمات من الاتحاد السوفيتي بالسياسات الأفغانية المختلفة.

      إنّ تحليل العلاقات الأفغانية السوفيتية، يؤكد على أن مدة حكم محمد داود خمسة عشر عاماً منها عشرة أعوام رئيساً للوزارة، وخمسة أعوام رئيساً للجمهورية، كان لها أثر كبير ـ دون قصد غالباً ـ على قرار الاتحاد السوفيتي احتلال أفغانستان. ذلك أن فترة رئاسته للجمهورية (1973 ـ 1978م)، هي التي أوجدت البيئة الداخلية المناسبة لاستيلاء الشيوعيين على الحكم، توطئة للاحتلال الكامل لأفغانستان عام 1979م.

      تهيأت الفرصة لمحمد داود أكثر من مرة، للقضاء على الشيوعيين، ولكنه تقاعس. وكان آخرها قبل قيامهم بالثورة، عندما أضاع الوقت في البحث عن صيغة قانونية لإلقاء القبض على رموزهم، وعندما توصل إلى هذه الصيغة، كان أمين قد أصدر أوامره ببدء الثورة الشيوعية، التي سرعان ما استولت على الحكم. لذا، فإنه يمكن التأكيد على أن أمين هو العقل المدبر للثورة، وأن محاولاته العديدة للاستئثار بالحكم، تولدت لديه لقناعته بأحقيته في إدارة البلاد.

استيلاء الشيوعيين على الحكم

      كان لتسرب السلطة من يد داود، سواء عن قصد أو عن قوة التنظيم الشيوعي، أثره الكبير في التجهيز للغزو السوفيتي. فقد دعم الشيوعيون كوادرهم داخل مرافق الدولة المختلفة، خصوصاً القوات المسلحة، وأصبح لهم خلايا منظمة جاهزة للانقضاض على السلطة.

      في 27 (نيسان) أبريل 1978م، عقد داود اجتماعاً لمجلس الوزراء، في محاولة منه لتدارك الموقف المتدهور؛ فقد عمت البلاد الإضرابات، التي كان سببها الشيوعيون. ولكن هذا الاجتماع جاء متأخراً، فقد كانت تلك الإضرابات هي شرارة الثورة الشيوعية. كان حفيظ الله أمين قد توقع المواجهة مع نظام محمد داود، فأصدر حفيظ الله تعليماته مسبقاً بميعاد بدء الثورة. وكان من الواضح أنه تمكن ـ على الرغم من اعتقاله ـ من إصدار أوامره، إلى أحد قادة وحدات الدبابات، ويدعى محمد رافع، وهو شيوعي، بالتقدم إلى كابل والاستيلاء عليها. وفي الوقت نفسه، تم الاستيلاء على سلاح الطيران في كابل، بواسطة الضبّاط الشيوعيين. وقرر رسولي الاستعانة بالطائرات المتمركزة في شينداد بالقرب من حيرات، وكان ذلك بعد ظهر اليوم نفسه، إلاّ أن هذه الطائرات لم تتمكن من الإقلاع، لاحتلال مركز العمليات الخاص بسلاح الطيران، بواسطة العناصر الشيوعية.

      بوصول طلائع المدرعات أمام القصر الملكي بكابل، تأكد داود مما يجرى في البلاد، وقرر أن يقاوم في مكانة مهما كلفه ذلك. إلاّ أن مقاومته انهارت، نتيجة القصف البري والجوي المركّز. وتمت سيطرة الشيوعيين على الحكم، وقتل داود وبعض أفراد أسرته، أثناء الهجوم النهائي على القصر الرئاسي، فجر يوم 28 (نيسان) أبريل 1978م، إضافة إلى حوالي ألفي قتيلٍ من حرس القصر، الذي لم يبقَ منهم على قيد الحياة إلاّ القليل. وهكذا دفع داودُ حياته ثمناً لتردده في القضاء على رموز الشيوعية في مهدها. فالواضح أنه لو استجاب لمستشاريه، وتخلص من الزعماء الشيوعيين، لما حدثت هذه الثورة.

      حرر الضباط الشيوعيون قادتهم المأسورين، في سجون الحكومة السابقة. كما حوكم العديد من أنصار النظام القديم وجرى إعدامهم.وهنا يثار السؤال مرة أخرى: هل كان للاتحاد السوفيتي دور في هذا الانقلاب؟ إن هذا الدور، حتى الآن، غير موثق، فجميع الرؤساء الشيوعيين، الذين تولوا السلطة منذ الثورة حتى الآن، قد قتلوا، ولا يوجد من يكتب تاريخ هذه الثورة، إلاّ أن الشواهد تدل على أن دور الاتحاد السوفيتي في ثورة (نيسان) أبريل 1978م يتلخص في الآتي:

  1. مساعدة حفيظ الله أمين في تنظيم الخلايا الشيوعية، داخل الجيش الأفغاني. هذه الخلايا حققت نجاحاً كبيراً في استقطاب ضباط الجيش إليها. وقد تلاحظ أن عدد الشيوعيين في السبعينات لم يتعدَ المائة، ويوم الانقلاب وصل إلى الآلاف ما بين ضابط وجندي، إضافة إلى أن أغلب المناصب القيادية كانت توكل إليهم. وذلك أنّ القادة من الشيوعيين، آثروا إرسال البعثات والمأموريات ـ التي كانت تعقد بالاتحاد السوفيتي ـ للضباط والأفراد المنتمين إلى حزب الشعب الديموقراطي.
  2. تقول بعض المصادر: إن قصف القصر الملكي، نُفّذ بواسطة طائرات (ميج ـ21). ولمّا كان الطيارون الأفغان لم يدربوا جيداً على مثل هذه الطائرات، مما يثير الشك، إضافة إلى وجود أكثر من 20 طياراً روسياً يعملون كخبراء في سلاح الطيران، الأمر الذي يوحي بأن قصف قصر الشعب تم بواسطة الطيارين الروس. ويقال أيضاً: إن طائرات روسية قادمة من طشقند شنت غارات جوية على قصر محمد داود، الأمر الذي يؤكد تورط الاتحاد السوفيتي في الانقلاب.
  3. يقال إن الانقلابيين اتخذوا مبنى السفارة الروسية في كابل ـ لما تتمتع به من حصانه دبلوماسية ـ مقراً لهم لإدارة العملية الانقلابية، وأن قسماً كبيراً من التعليمات، كان يصدر خلال مبنى السفارة، مثل خطة الانقلاب التي نُقلت بواسطة أحد الضباط الشيوعيين، إلى حفيظ الله أمين.

        ويُعد الانقلاب الشيوعي بداية مرحلة جديدة، في استقرار النفوذ الشيوعي في أفغانستان. بل يمكن القول: أنه بداية الغزو السوفيتي لأفغانستان. فكما هو واضح، فإن إستراتيجية موسكو ـ– البعيدة المدى ـ في غزو أفغانستان، جرى التخطيط لها منذ عام 1921م، حيث أرسلت موسكو مبعوثها (مكسيمليتفينوف) إلى كابل قبل أن تعترف بريطانيا باستقلال أفغانستان. وقبلت حكومة كابل إعانة سنوية قدرها مليون روبل، بمقتضى معاهدة وقّعت في العام نفسه مع الاتحاد السوفيتي. كما قبلت الحصول على المساعدات الفنية، خاصة في ميدان الطيران. وطوال حكم الملك ظاهر شاه (1933 ـ 1973م)، وحكم الجنرال محمد داود (1973 ـ 1978م)، ظل الاتحاد السوفيتي الدولة الأكثر نفوذاً في أفغانستان؛ فمثلاً بلغت المساعدات الروسية 1.5 مليار دولار في المدة من 1953 إلى 1963م، في مقابل مساعدات أمريكية، بلغت 450 مليون دولار ومساعدات صينية، بلغت 72 مليون دولار.



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة