الفصل الثالث أولاً: أعمال قتال الجانبين خلال المرحلة الافتتاحية للحرب1. عام (الخريطة الرقم 1) على الرغم من أن مشكلة فوكلاند كانت تخص في ظاهرها مباشرة المصالح البريطانية والأرجنتينية فقط، إلاّ أنها جذبت اهتمام القوتين العظميين، فبدأت أقمار التجسس الأمريكية في تزويد القيادة البريطانية بما تحصل عليه من معلومات عن تحركات القوات الأرجنتينية أولاً بأول، بما في ذلك التعليمات التي تصدرها قيادة الأخيرة إلى وحداتها في عرض المحيط، وعلى الجانب الآخر قامت أقمار التجسس وطائرات الاستطلاع السوفيتية بعيدة المدى المتمركزة في "كوبا" و"أنجولا" بجمع المعلومات عن تحركات القوات البريطانية ومواقعها وإرسالها إلى القيادة الأرجنتينية بعد التقارب الفجائي بين البلدين في أعقاب صدور قرار مجلس الأمن الذي أدان الغزو الأرجنتيني للجزر. 2. أعمال القتال الافتتاحية للجانبين في منطقة "فوكلاند"، الأول من مايو، (الشكل الرقم 7) بدأ العدُّ التنازليّ لشن الحرب قبل أن يعلن "الكسندر هيج" رسمياً في الثلاثين من أبريل فشل وساطته لحل المشكلة سياسيا، فما أن تم إبلاغ الحكومة البريطانية برفض المجلس العسكري الحاكم في الأرجنتين لمقترحات "هيج" الأخيرة حتى أرسل الأدميرال "فيلد هاوس" إلى قائد قوة الواجب في جنوب الأطلنطي أمراً إنذارياً بالاستعداد للحرب اعتباراً من منتصف ليلة 29 أبريل، إلاّ أنه إزاء تأخر قوة الواجب في اتخاذ أوضاعها داخل منطقة العمليات بسبب سوء الأحوال الجوية أثناء الرحلة البحرية، وعدم إعلان "هيج" رسمياً عن فشل جهود وساطته إلاّ يوم 30 أبريل تأجل الموعد المحدد لبدء القتال. 3. إغراق الطراد "جنرال بلجرانو"، 2 مايو، (الشكل الرقم 8) على أثر نجاح الغزو الأرجنتيني لجزر "فوكلاند" وتعيين حاكم جديد لها، عاد الأسطول ـ الذي لعب الدور الرئيسي في تنفيذ وتأمين العملية- إلى قواعده في الأرجنتين، إلاّ أنه سرعان ما أبحر عائداً إلى منطقة الجزر لمواجهة قوة الواجب البريطانية التي كانت تقترب وقتئذ من تلك المنطقة، وكانت قيادة الأسطول الأرجنتيني المبحر معقودة لرير أدميرال "ألارا" على متن حاملة الطائرات "25 مايو"، والتي كانت تمثل التهديد الرئيسي الأول للسفن البريطانية المقتربة. وبينما اتجهت مجموعة الحاملة "25 مايو" إلى شمال الجزر، فإن الطرّاد "الجنرال بلجرانو" ومعه مدمرتا الحراسة اتجه إلى غربها للعمل كمجموعة حماية متقدمة من أي أعمال هجومية بريطانية ضد قاعدتي "ريو جراندي" الجوية و"يوشوايا البحرية"، وفي التاسع والعشرين من أبريل ـ قبل وصول قوة الواجب إلى منطقة الحظر ـ كانت وحدات الأسطول الأرجنتيني قد اتخذت أوضاعها شمال وغرب جزر "فوكلاند". وفي أول مايو رصدت إحدى طائرات الاستطلاع البحري الأرجنتينية مجموعة القتال الرئيسية لقوة الواجب على مسافة 300 ميل (482 كم) جنوب شرق مجموعة الحاملة "25 مايو"، فبدأت الأخيرة تحركها للاقتراب من السفن البريطانية، في الوقت الذي كان يجري فيه تسليح طائرات "سكاي هوك" على مَتْن تلك الحاملة لتوجيه ضربة جوية لمجموعة الحاملات البريطانية، التي كانت قيادتها تحاول جاهدةً معرفة مكان الحاملة الأرجنتينية، غير أن الغواصات البريطانية الثلاث في المنطقة لم ترصد تلك الحاملة أو تحركها في اتجاه مجموعة الحاملات البريطانية، على الرغم من أنَّ الغواصتين "سبلندد" و"سبارتان" كانتا تبحثان في طرق الاقتراب إلى السفن البريطانية من ناحية الشمال الغربي، بينما كانت "كونكرر" في طريقها إلى غرب جزر "فوكلاند" بعد أن تلقت الأمر يوم 28 أبريل بمغادرة مياه "جورجيا الجنوبية" إلى منطقة عملها الجديدة ـ خارج منطقة الحظر الكلي ـ بين جزر "فوكلاند" والسواحل الجنوبية للأرجنتين. وبعد منتصف ليلة 1/2 مايو، التقط أحد طياري المقاتلات "سي هارير" على شاشة رادار طائرته النبضات المرتدة من حاملة الطائرات الأرجنتينية ومدمرتي حراستها. وسرعان ما دُقعت داوريات مقاتلات "سي هارير"، إلى الاتجاه المهدد. وعلى الجانب الآخر، تأجلت الضربة الجوية الأرجنتينية، التي كان من المزمع شنِّها قبل الفجر مباشرة، نتيجة لهبوب رياح خفيفة، أعاقت إقلاع الطائرات "سكاي هوك" بحمولتها من الوقود اللازم للوصول إلى موقع السفن البريطانية، التي باتت على مسافة 180 ميلاً من مجموعة حاملة الطائرات 25 مايو، التي اضطر القائد الأرجنتيني إلى سحبها من المنطقة، انتظاراً لفرصة أخرى أفضل. وفي الوقت الذي كانت تجري فيه الأحداث السابقة، كان الطرَّاد "جنرال بلجرانو" يمخر مياه جنوب الأطلنطي ذهاباً وإياباً بين "تييرا دل فيوجو" (جنوب الأرجنتين) وغرب جزر "فوكلاند"، مع الحرص على عدم دخول منطقة الحظر البريطاني حول الجزر. وعلى الجانب الآخر، كانت الغوَّاصة البريطانية "كونكرر" قد رصدت ذلك الطرَّاد جنوب غرب جزر "فوكلاند" أثناء عملها في المنطقة في اليوم السابق (1 مايو)، وظلت تتابعه كظلِّه وتُبلَّغ موقعه أولاً بأول إلى مركز قيادة القوات البحرية في "نورث وود" ومركز قيادة أسطول قوة الواجب في الحاملة "هيرمس"، إلاّ أن الأخير كان غيرَ مستعدٍ آنذاك للالتفات إلى التهديدات الأرجنتينية خارج منطقة الحظر، في الوقت الذي كان فيه كل اهتمامه مركزاً للضغط على الحامية الأرجنتينية في "فوكلاند" بمزيد من القصف الجوي وإبرار مزيد من جماعات الاستطلاع خلف خطوط تلك القوات، إلاّ أن الضباب الذي غطَّى المنطقة ومنع الطائرات من تنفيذ مهام القصف المخططة في ذلك اليوم، واختفاء مجموعة الحاملة "25 مايو" خارج نطاق وسائل الرصد البريطانية، حَوَّل اهتمام قائد أسطول قوة الواجب نحو مجموعة الطرَّاد "جنرال بلجرانو" التي تمثل التهديد الرئيسي لقوة الواجب. وبالنسبة إلى كلٍّ من الأدميرال "فيلد هاوس" ورير أدميرال "وودوارد"، كان تحرك مجموعة الحاملة "25 مايو" شمال سفن قوة الواجب، ومجموعة الطراد "جنرال بلجرانو" جنوبها بمثابة حركة كماشة حول تلك القوة، ومن ثمَّ أحس القائدان ـ خلال تشاورهما عَبْر وسائل المواصلات المؤمنة ـ أن سفن قوة الواجب في خطر متزايد، ولما كانت قواعد الاشتباك الصادرة من القيادة البريطانية لا تبيح الاشتباك مع السفن الأرجنتينية خارج منطقة الحظر الكلي، فقد طلب قائد أسطول قوة الواجب من الأدميرال "فيلد هاوس" التصديق للغواصة "كونكرر" بالهجوم على الطراد الأرجنتيني خارج منطقة الحظر، ونظراً إلى أن الهجوم على الطراد سيؤدي إلى خسائر كبيرة في الأرواح قد تثير الرأي العام العالمي، فقد رأى الأدميرال "فيلد هاوس" ضرورة الحصول على تصديق مجلس الحرب على العملية قبل تنفيذها، ومن ثَمَّ قام سير "تيرانس لوين" رئيس أركان الدفاع بعرض الأمر على المجلس خلال اجتماعه في ذلك اليوم (ظهر الثاني من مايو). ولمّا كان هدف الاستراتيجية البريطانية خلال هذه المرحلة هو هزيمة القوات الأرجنتينية في البحر والجو قبل بدء عمليات الإبرار الرئيسية، فلم يأخذ الأمر كثيراً من المناقشة في اجتماع مجلس الحرب، قبل أن يتخذ المجلس واحداً من أخطر قراراته في هذه الحرب بالموافقة على الهجوم على السفن الأرجنتينية خارج منطقة الحظر الكلي إذا كانت تشكل خطراً على قوة الواجب البريطانية، فقد كان هذا القرار يعني مزيداً من تصعيد القتال بين الجانبين، فلم يكن قرار المجلس يستهدف الطرَّاد الأرجنتيني وحده، بل كانت مجموعة الحاملة "25 مايو" معرَّضة أيضاً للهجوم عليها إذا تمَّ رصدها مرة أخرى، كما أدى هذا القرار إلى أن تكوٍن بريطانيا هي المتسببة في حدوث أول خسارة كبيرة في الأرواح خلال هذه الحرب بإغراقها ذلك الطرَّاد. وفي الوقت الذي كانت تجري فيه الاتصالات السابقة للحصول على تصديق وزارة الحرب بشأن الهجوم على الطراد الأرجنتيني، غيِّرت مجموعة ذلك الطراد اتجاه إبحارها نحو الغرب مبتعدة عن سفن قوة الواجب قبل أن تصل إلى حدود منطقة الحظر الكلي، وعلى الرغم من أخطار قيادة أسطول قوة الواجب وقيادة القوات البحرية البريطانية بالتغيير الجديد في اتجاه مجموعة الطراد، فقد تلقى قائدُ الغواصة "كونكرر" الأمرَ بالهجوم على الطرَّاد قبل أن يبتعد وتضيع الفرصة، على الرغم من وجوده خارج منطقة الحظر، وسرعان ما اتخذت الغواصة وضع الهجوم، وأطلقت على الطراد ثلاثة طوربيدات طراز 8 في الساعة 1857 بتوقيت جرينتش (1357 بتوقيت فوكلاند)، أصاب اثنان منها الهدف، ممَّا أدى إلى إغراق الطراد، وبعد أربعين دقيقة كان قد اختفى تماماً من على سطح الماء. وقد أدى ذلك الهجوم إلى فقد 368 فرداً من طاقم الطرَّاد الذي كان يناهز الألف فردٍ، أمّا الباقون فقد نجحوا في مغادرة السفينة الغارقة قبل أن تغوص تماماً في أعماق المحيط. وبعد ست دقائق من الهجوم على "جنرال بلجرانو" بدأت مدمرتا الحراسة أعمال البحث عن الغواصة البريطانية وإلقاء قنابل الأعماق في المنطقة المتواجدة فيها، إلاَّ أنَّ قائد الأخيرة حاول تفادي تلك القنابل بالغوص إلى أعماق أكبر ومغادرة المنطقة نحو الشرق. أمّا الناجون من الطراد الغارق فقد قضوا في الماء نحو أربعٍ وعشرين ساعة تعيسة في بحر عالٍ ورياح شديدة قبل أن يتم إنقاذهم. وبقدر ما أدَّى إغراق الطراد "جنرال بلجرانو" إلى تدعيم الموقف العسكري البريطاني جنوب الأطلنطي، فقد أدى إلى اهتزاز الموقف السياسي لحكومة السيدة "تاتشر" داخل وخارج بريطانيا، بعد أن تناقلت وكالات الأنباء خبر الغوَّاصة النووية الحديثة التي أغرقت طراداً قديماً خارج منطقة الحظر الكلي، وأن ثلث أفراد طاقمه قد لقوا حتفهم نتيجة الحادث. أمّا على الصعيد العسكري فقد أدَّى إغراق ذلك الطراد إلى تحجيم عمل البحرية الأرجنتينية ودفعها غرباً نحو سواحل الوطن الأم، ولما كانت حاملة الطائرات "25 مايو" قد انسحبت هي الأخرى من قبل لِمَا أصابها من عُطل، فقد وقع عبء مواجهة أسطول قوة الواجب في منطقة العمليات على عاتق بعض أسراب القتال الأرجنتينية التي يسمح مدى عملها من قواعدها في جنوب الوطن بالوصول إلى منطقة العمليات حول جزر "فوكلاند". وعلى ذلك، اتسم اليوم التالي بهدوء نسبيّ في ذلك المسرح، بعد انسحاب الوحدات البحرية الأرجنتينية غرباً، وخاصة بعد أن قرَّر قائد أسطول قوة الواجب الحد من أعمال القصف البحري للقوات الأرجنتينية في الجزر، حتى لا يقلل من زهوة إغراق الطراد بفقد إحدى وحداته البحرية، ولم يعكر ذلك الهدوء سوى هجوم الطائرات العمودية "لينكس" على إحدى سفن الدورية الصغيرة وأحد لنشات القطر الأرجنتينية فأصابت الأولى وأغرقت الثاني، ففي وقت متأخر من ليلة 2/3 مايو بينما كانت سفينة الدورية الصغيرة "ألفريز سوبيل Alferez Sobel" تقوم بالبحث عن أحد أطقم الطائرات، التي فقدتها الأرجنتين مساء الأول من مايو، اكتشفت موقعها إحدى الطائرات العمودية "سي كنج" من السرب 826 أثناء قيامها بإحدى دوريات البحث عن الغواصات، كما اكتشفت في الوقت نفسه إحدى لنشات القطر داخل منطقة الحظر، وعلى أثر إبلاغ طائرة عمودية البحث عن الهدفين، أقلعت الطائرتان العموديتان "لينكس" من المدمرتين " جلاسكو" و" كوفنتري" مسلحتين بصواريخ جو/ سطح موجهة بالرادار من طراز "سي سكوا Sea Skua" وقامتا بالهجوم على السفينتين فأغرقت إحداهما لنش القطر على مسافة تسعين ميلاً داخل منطقة الحظر بينما أصابت الثانية سفينة الدورية إصابةً بالغةً. وباستثناء تدمير طائرتين أرجنتينيتين إحداهما من طراز "اير ماكي" بسبب سوء الأحوال الجوية أثناء طلعة محلية في مطار ستانلي، وأخرى من طراز "سكاي فان" بواسطة نيران القصف البحري، فقد مضى نهار الثالث من مايو دون أحداث تُذكر، وخلال الليل قامت إحدى قاذفات "فولكان" من جزيرة أسنشن بثاني طلعات القصف الجوي للعملية "بلاك بك" فوق مطار "ستانلي" إلاّ أن القنابل سقطت على بعد نحو خمسين متراً من النهاية الغربية للمدرج، ولم تَحْدُث أيةُ خسائر. 4. إغراق المدمرة "شيفلد"، 4 مايو، (الشكل الرقم 8) حتى صباح الرابع من مايو كانت معنويات البريطانيين مرتفعة على مَتْن أسطول الواجب، فحتى ذلك الوقت تمَّ قصف المطارات في "فوكلاند" بالقاذفات ومقاتلات الأسطول عدة مرات، كما تمَّ قصف المواقع الأرجنتينية على شواطئ الجزر، وإغراق وإصابة ثلاث سفن وغواصة أرجنتينية دون أية خسائر مقابلة في السفن أو الطائرات أو الأفراد، إلاّ أنه قبل أن ينقضي نهار ذلك اليوم كان أسطول قوة الواجب يتلقى ضربة قاسية بتكبُّده أولى خسائره البحرية والجوية والبشرية في القتال. وقد بدأ صباح الرابع من مايو هادئاً، فلم تتجاوز أعمال القتال البريطانية المخططة لذلك اليوم ـ بعض طلعات الاستطلاع الإلكتروني في أول ضوء على طول ساحل الجزر بواسطة الطائرات العمودية "لينكس، وثلاث طلعات "سي هارير" لقصف مطار "جوس جرين" بعد ظهر ذلك اليوم، أمَّا على الجانب الآخر فقد كان الأمر مختلفاً، حيث قرَّرت القيادة الأرجنتينية الزج ببعض طائراتها الحديثة من طراز "سوبر اتندار" في أولى أعمالها القتالية ضد أسطول قوة الواجب البريطانية للانتقام من ذلك الأسطول لِمَا الحقة بالبحرية الأرجنتينية من خسائر. وقد بدأ الاستعداد لاستخدام هذه الطائرات مبكراً قبل أن يتطور الصراع بين البلدين حول جُزر "فوكلاند" إلى مستوى الصراع المسلح، ففور استلام الأرجنتين أولى دفعات صفقة هذه الطائرات وتمركزها في قاعدة "أسبورا" الجوية، بدأَ تدريب الطيارين على استخدامها في مهاجمة السفن باستخدام صواريخ "إكسوست AM39 Exocet" الحديثة التي تم شراؤها من فرنسا مع تلك الطائرات. ولما كانت الأرجنتين تملك مدمرتين مماثلتين للمدمرات البريطانية الحديثة من طراز "42 42A" هما "سانتيما ترينداد" و"هيركوليز"، فقد سهَّل لها ذلك معرفة أدق تفاصيل هذه المدمرات، وخاصةً فيما يتعلق بالرادار ومنظومة الدفاع الجوي المجهزة بها. وعندما بدأ الصراع يتصاعد بين الجانبين على أثر الغزو الأرجنتيني للجزر، زادت كثافة تدريب الطيارين في قاعدة "أسبورا" على الهجوم على أهداف بحرية مشابهة، مع إعادة التزود بالوقود جواً على مسافة 300 ميل (555 كم) داخل البحر، وتنسيق ذلك التدريب مع طائرات الاستطلاع البحري من طراز "نبتون" التي كانت مهمتها رصد الأهداف البحرية المعادية وتبليغ مواقعها للتشكيل الجوي المكلف بالهجوم. وعلى أثر تحرك مجموعة القتال الرئيسية لقوة الواجب إلى جنوب الأطلنطي، أعادت قيادة طيران البحرية الأرجنتينية تمركز أربع طائرات "سوبر أتندار" من قاعدة "أسبورا" الجوية إلى قاعدة "ريو جراندي" ـ في أقصى جنوب الأرجنتين ـ ومعها خمسة صواريخ "إكسوست" خلال يومي 19، 20 أبريل، لتكون أقرب ما تكون إلى منطقة العمليات حول الجزر. وفي الساعة الثامنة والربع (بالتوقيت المحلي) صباح 4 مايو، رصدت إحدى طائرات الاستطلاع البحري الأرجنتيني من طراز "نبتون" بعض سفن النطاق الخارجي لأسطول قوة الواجب على مسافة مائة وخمسة عشر ميلاً (185 كم) جنوب "ستانلي"، وأربعمائة وثمانية وثلاثين ميل (704 كم) من قاعدة "ريو جراندي". وفي الساعة التاسعة وخمس وأربعين دقيقة بالتوقيت المحلي أصدرت قيادة طيران البحرية الأمر بإقلاع طائرتين "سوبر اتندار" بكل منهما صاروخ "إكسوست" لمهاجمة الأهداف البحرية التي تم تحديد محلها، وبعد إعادة ملء الطائرتين بالوقود جواً في الساعة العاشرة صباحاً، واصلتا الطيران نحو هدفهما. وفي الساعة العاشرة والنصف (بالتوقيت المحلي) تلقت الطائرتان بلاغاً من طائرة الاستطلاع البحري عن آخر موقع للسفن المستهدفة، التي كانت آنذاك على مسافة مائة وثلاثين ميلاً (209 كم) من موقعهما، وما أن ظهرت السفن البريطانية الملتقطة على شاشتي رادار الطائرتين (هدف كبير وهدفان متوسطي الحجم) حتى بدأت الطائرتان المرحلة الأخيرة من اقترابهما للهجوم على ارتفاع منخفض، وفي الساعة 1104 (بالتوقيت المحلي) وعلى مسافة 23 ميلاً (37 كم) ـ وهي مسافة الإطلاق المناسبة ـ أطلق الطياران صاروخيهما في وقت واحد في اتجاه الأهداف المكتشَفَة، وأسرعا بالعودة إلى قاعدتهما بعد أن حقَّقا المفاجأة تاركين المدمرة "شيفلد" كتلةً من النيران بعد أن أصابها أحد الصاروخين في جانبها الأيمن فوق خط المياه بنحو ثماني أقدام، وأدَّى إلى مصرع واحدٍ وعشرين فرداً وإصابة أربعة وعشرين آخرين من طاقمها، أمّا الصاروخ الآخر فقد ضَلَّ طريقه إلى هدفه. وتفسر بعض المصادر البريطانية نجاح الهجوم على المدمرة "شيفلد" وتحقيق المفاجأة، على الرغم من أنَّ كلَّ فردٍ في أسطول قوة الواجب كان يعلم كلَّ شئ عن صاروخ "إكسوست" وأنَّ بعض السفن البريطانية كانت مسلحةً به، على النحو التالي:
غير أن الموقف الذي كانت فيه المدمرة "شيفلد" عند الهجوم عليها فوَّت عليها احتمالين من الاحتمالات السابقة، حيث أدى استخدام نظام "سكوت SCOT" للاتصالات عَبْر الأقمار الصناعية ـ لإرسال بعض الرسائل الروتينية من المدمرة ـ إلى تغطية تردّدات بث كلٍّ من طائرات "سوبر اتندار" وصواريخ "إكسوست" أثناء اقترابهما، فلم يُكتشف أي منهما، خاصة وأن فترة طيران الصاروخ نحو الهدف لا تزيد عن دقيقتين، ومن ثمَّ لم يكن هناك فرصة لاكتشافه إلاّ بواسطة العين أو الأجهزة البصرية قبل وصوله ببضع ثوان غير كافية لأية إجراءات مضادة في درجة الاستعداد الثانية التي كانت فيها المدمرة عند إصابتها. وإزاء فشل جهود الطاقم وسفن الإنقاذ التي وصلت إلى المنطقة في اطفاء الحريق الذي كان يلتهم المدمرة ويقترب من مستودعات صواريخ "سي دارت" قرَّر الكابتن "سام سالت Sam Salt" قائد المدمرة إخلاء الطاقم منها حتى لا يخسر مزيداً من رجاله، وفي الساعة 1433 (بتوقيت "فوكلاند") كان قد تمَّ إخلاء الطاقم بعيداً عن المدمرة التي غرقت فجر العاشر من مايو أثناء قَطْرَها على بعد 155 ميلاً (250 كم) شرق جزر "فوكلاند". وبعد نحو ساعة من الهجوم على "شيفلد" تكبَّد طيران قوة الواجب أُولى خسائره في القتال. ففي الوقت الذي كانت تُبذل فيه محاولات إخماد النيران المشتعلة في المدمرة المصابة، أقلع تشكيل من ثلاث طائرات "سي هارير" من الحاملة "هيرمس" لتنفيذ طلعة القصف المخططة ضد مطار "جوس جرين"، وكان على الطائرتين الأوليين الاقتراب على ارتفاع منخفض لقصف منطقة انتشار الطائرات بقنابل المستودعات، بينما كان على الطائرة الثالثة قصف الممر بثلاث قنابل زنة ألف رطل، غير أن إحدى الطائرتين الأوليين أُسقطت بنيران أسلحة الدفاع الجوي الأرجنتينية أثناء اقترابها من الساحل. وقد انعكست آثار أحداث الرابع من مايو على كل من الشعب البريطاني وقيادته السياسية في لندن وقيادة أسطول قوة الواجب في منطقة العمليات، فقد كانت "شيفلد" أول سفينة يُغرقها العدو للبحرية البريطانية منذ الحرب العالمية الثانية، خاصة وأن غرق تلك المدمرة التي وصل ثمنها 120 مليون جنيه (إسترلينيً) جاء نتيجة الهجوم عليها بواسطة صاروخ جو/ سطح لا يزيد ثمنه عن مائة ألف جنيه (إسترليني). فبالنسبة إلى لشعب البريطاني فقد تعرض لموجة من الحزن زحفت على كل البلاد، حيث كان على هذا الشعب أن يخوض مرة أخرى تجارب آلام الضربات والضربات المضادة للحرب التي توقف عن خوضها سنوات عديدة، وعلى الصعيد الوزاري غطَّى على اجتماع مجلس الحرب بعد أحداث ذلك اليوم مسحة من الكآبة واهتز معظم أعضاؤه الذين لم يعاصروا الحرب العالمية الثانية بشدة، وكان على الأدميرال "لوين" إعادة الطمأنينة إلى نفوسهم، فأوضح لهم أن السفن معرَّضة للخسارة والاستهلاك في أوقات الحرب، وخاصة الصغيرة منها، وضرب لهم مثلاً من الحرب العالمية الثانية عندما فقد الأسطول البريطاني عدداً كبيراً من سفن الحراسة لقوافل إمداد جزيرة "مالطة" حتى يمنع سقوطها في أيدي قوات المحور. أمّا على صعيد قوة الواجب، فقد كانت خسارة المدمرة "شيفلد" نقطة تحول في عمليات تلك القوة، حيث أصبح واضحاً لقيادتها أن استمرار القتال للحصول على السيطرة الجوية في منطقة العمليات سيؤدي إلى المخاطرة بفقد حاملتي الطائرات أو إحداهما على الأقل، وهو ثمن غير مقبول من الناحيتين السياسية والعسكرية، خاصةً وأنه لن يُمَّكن قوة الواجب من استعادة الجزر التي حُشد من أجلها ذلك الأسطول. ومن ثمَّ كان على رير أدميرال "وودوارد" حل مشكلة مستعصية أصبحت تواجهه بعد التأكد من فعالية الهجوم على سفنه بصواريخ "إكسوست"، وقدرة الطيران الأرجنتيني ـ من قواعده في الوطن الأم ـ على اختراق الدفاعات الجوية لقوة الواجب، وهي كيف يقوم بمهمته في هذه المرحلة التي تتلخص في دفع القوات البحرية والجوية الأرجنتينية للقتال لاستنزافها وتحقيق السيطرة الجوية والبحرية في منطقة العمليات قبل الإبرار على شواطئ الجزر، وإذا كانت البحرية الأرجنتينية قد لزمت شواطئها بعد إغراق الطراد "جنرال بلجرانو" فإن الطيران الأرجنتيني قد قبل التحدي على الرغم من خسائره المتزايدة، حيث كان رصيده من طائرات القوات الجوية والبحرية يسمح له باستمرار القتال وتقبل نسبة من الخسائر أكثر مما تتحمله أسراب "الهارير" البريطانية على مَتْن الحاملات. وبعد أن ظل يقلب الأمر على كافة وجوهه ثلاثة أيام، قرَّر الأدميرال "وودوارد" الحد من أعماله القتالية النشطة مؤقتاً، مع سحب أسطوله ناحية الشرق ليكون خارج مدى طائرات "سوبر اتندار" المسلحة بصواريخ "إكسوست"، ومن ثمَّ اتخذت مجموعة الحاملات أوضاعها الجديدة على مسافة 185 ميلاً (298 كم) شرق "ستانلي". وكان أكثر من تأثر بقرار الانسحاب شرقاً هي أسراب "الهارير"، فقد كان على طياري هذه الأسراب الطيران فوق البحر مسافة أطول في كل مرة يتجهون فيها لقصف الأهداف الأرجنتينية في الجزر، كما وقع على عاتقهم عبءُ الدوريات الجوية التي زادت كثافتها بعد الهجوم على "شيفلد" لتعويض القصور في إمكانات الإنذار الجوي المتاحة والتي برزت أثناء الهجوم على المدمرة الأخيرة، كما أدَّى فقد أحد طياري تلك الأسراب بطائرته أثناء الهجوم على ارتفاع منخفض إلى تجنّب هذا الأسلوب مؤقتاً أثناء عمليات القصف الجوي، اكتفاءً بأسلوب القصف أثناء التسلق (Toss Bombing) الأقل تعرضاً للدفاعات المضادة للطائرات في منطقة الهدف على الرغم من عدم دقته النسبية، وخاصة بالنسبة إلى الأهداف الصغيرة. ولم يكن التأثير النفسي للهجوم على "شيفلد" بصواريخ "إكسوست" أقل من التـأثيرات المادية لذلك الهجوم، فقد سادت حالة من التوتر بين أطقم الأسطول البريطاني شرق "فوكلاند"، وأخذ الجميع يفكرون في كيفية إحباط الهجوم الجوي بمثل هذا الصاروخ، وكان أكثر الأطقم تعرضاً للضغط النفسي هما طاقما المدمرتين "كونفتري" و"جلاسكو" المماثلتين للمدمرة "شيفلد" واللتان وقع على عاتقهما القيام بالستارة الدفاعية على النطاق الخارجي لأسطول قوة الواجب. وفي الوقت الذي كانت تجري فيه أعمال القتال السابقة تحوَّلت قاعدة "وايد أويك" بجزيرة "أسنشن" إلى قاعدة إمداد رئيسية للعمليات جنوب الأطلنطي، وفي هذه المرحلة المبكرة من الحملة كان هناك أكثر من أربعمائة طائرة تتحرك يومياً من وإلى تلك القاعدة التي تمركزت بها قاذفات "فولكان" وطائرات الإمداد بالوقود من طراز "فكتور"، فضلاً عن طائرات الاستطلاع البحري والإلكتروني من طرازي "نمرود" و"كانبرا". كما كانت طائرات النقل من طراز "هيركوليز" تقلع يومياً لإسقاط الإمدادات العاجلة لوحدات أسطول قوة الواجب، فضلاً عن الجسر الجوي الذي أقامته هذه الطائرات بين قواعد النقل الجوي في المملكة المتحدة وجزيرة "أسنشن" لسرعة نقل الاحتياجات العاجلة اللازمة لقوة الواجب. |