إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / حركة الإخوان، في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود (1910 ـ 1930)






معركة أم رَضَمَة
معركة الجهراء (الجهري)
معركة السَّبَلَة
معركة تربة (حَوْقَان)
معركة تربة الكبرى
فتح الطائف



مؤتمر أعيان الرياض (الجمعية العمومية)

مؤتمر أعيان الرياض (الجمعية العمومية)

كان رد الملك عبدالعزيز على اتهامات الإخوان ومطالبهم، الدعوة إلى عقد اجتماع يحضره العلماء وزعماء القبائل، رؤساء القرى والحواضر. وأُطلق على هذا الاجتماع اسم "الجمعية العمومية"، كما يُشار إليه، كذلك، باسم "مؤتمر أعيان الرياض". وقد بدأ المؤتمر، في 22 من جمادى الأولى عام 1347هـ/ 5 نوفمبر عام 1928م[1]، في الرياض، وسط جو من الشكِّ وعدم الطمأنينة. وانتهى بعد ذلك بعدة أيام، بتقوية قبضة الملك عبدالعزيز على زمام الأمور، إلى حدٍّ كبير.

1. وقائع المؤتمر

تلبية لنداء الاجتماع، وصل إلى الرياض آلاف من أهل القرى والحضر، والعلماء ومشايخ القبائل، والإخوان من الهُجَر. وتخلف عن الحضور زعيما الإخوان، سلطان بن بجاد وضيدان بن حثلين، أمّا فيصل الدّويش فأناب عنه ابنه عزيز(عبدالعزيز).

ولم تكن إتاحة الفرصة لكل من وصلوا إلى الرياض، لحضور المؤتمر أو التحدث فيه، أمراً ميسوراً، نظراً لكثرة عددهم. لذلك، أعدَّ القائمون على أمر المؤتمر قائمة تضم حوالي ثمانمائة مندوب، عُرضت على الملك، للموافقة عليها. وفي ضوء وصف تجهيزات المؤتمر ومحاضر الاجتماعات، التي نشرتها جريدة "أم القرى"، يتضح أن وقتاً طويلاً، وجهداً كبيراً، أنفقا في التخطيط للمؤتمر. وحُددت شرفة كبيرة من شرفات القصر لتكون مكاناً للاجتماعات. وبعد أن وافق الملك عبدالعزيز على القائمة، التي قُدمت إليه، أمر بتوجيه الدعوة إلى كل عضو على حده. وتحدد موعد الاجتماع الساعة السابعة من صباح 22 جمادى الأولى عام 1347هـ/ 5 نوفمبر 1928م. وقد خُصِّصت غرف انتظار خاصة لكل جماعة من الجماعات. وروعي، في ذلك، وضع الحضر في قاعة واحدة، والزعماء الدينيين في قاعة أخرى، والإخوان في قاعة ثالثة. وقبل نصف ساعة فقط من بدء أعمال المؤتمر، جلس الملك عبدالعزيز في المكان المخصص له، يحيط به أفراد عائلته. ثم استدعى بعد ذلك المندوبين، طبقاً لمنازلهم. وبدأ العلماء، أولاً، بشغل الصف الأمامي من ناحيتي اليسار واليمين. وبعد أن جلس العلماء في أماكنهم، أُمر بإدخال الحضر والقرويين، الذين جلس بعضهم خلف العلماء، وبعض آخر في الخلف وعلى جانبي الشرفة. ثم أُمر بعد ذلك بإدخال الإخوان ورجال القبائل. وجلس الإخوان ورجال القبائل حسب الهجرة والقبيلة، صفاً بعد صف في مواجهة الملك. وقد استغرقت عملية الجلوس نحو خمس عشرة دقيقة تقريباً.

نهض الملك عبدالعزيز، بعد تقديم القهوة، وخاطب المؤتمر، مستعرضاً كفاحه، وكيف نصره الله بعون منه، ومعه أربعون من أصدقائه المقربين. ثم عرض على الاجتماع، أن يتنازل عن الحكم؛ لمن يختارونه من آل سعود. ولكنه أوضح للمؤتمر أنه لا يفعل ذلك خوفاً من أحدٍ منهم، أو جماعة، وإنما لأنه لا يريد أن يحكم أناساً لا يريدونه حاكماً لهم. وأشار إلى أفراد الأسرة المالكة الذين يحضرون الاجتماع، وطلب إلى المجتمعين أن يختاروا واحداً منهم لتولي الحكم، وأنه سوف يوافق على قرارهم (انظر ملحق خطاب الملك عبدالعزيز آل سعود، في مؤتمر الرياض). ولكن المندوبين رفضوا العرض رفضاً قاطعاً، وهم يصيحون "لن نرضى بغيرك بديلاً يحكمنا". وبعد ذلك مباشرة، وفيما يشبه الأداء المنظم، طلب الملك عبدالعزيز من الحاضرين أن يقولوا ما يريدون. ووعد بألا يُعاقب أحداً على ما سيقوله.

وعلى الرغم من أن المؤتمر كان قد عُقد من الناحية الشكلية، لمناقشة الأخطار، التي ترتبت على انتهاك البريطانيين لبروتوكولات العقير، وانتهاكهم لسيادة نجد من طريق الغارات الجوية، التي قاموا بها على القبائل، فإن كل من شهد المؤتمر كان يعرف أن موضوعه هو حسم الصراع بين الإخوان والملك عبدالعزيز.

وتحدث ممثلو العلماء في البداية (انظر ملحق موجز خطاب العلماء، في مؤتمر الرياض). وأقسموا أنهم لم يكتشفوا قط أي فتور في غَيْرة الملك عبدالعزيز على الدين، أو إخلاصه لنشر الإسلام. وأردف العلماء قائلين: إن كان الملك قد ارتكب بعض الأخطاء، فذاك شيء طبيعي، لأن محمداً ـ r هو الوحيد المعصوم من الخطأ. إن الأخطاء، التي ربما يكون الملك عبدالعزيز قد ارتكبها، لا تتيح لشعبه أن يدير له ظهره، أو أن يدير هو ظهره لشعبه. واختتم العلماء حديثهم قائلين: إنهم لم يشهدوا بما قالوه خوفاً من الملك، بل إحقاقاً للحق، لأنهم بوصفهم علماء يتعين عليهم إرشاد الناس وتوجيههم.

ثم تكلم بعد ذلك أعضاء من الإخوان(انظر ملحق خطاب أعضاء الإخوان في مؤتمر الرياض). وكان المتكلمون الرئيسيون يمثلون نواباً عن فيصل الدّويش نيابة عن قبيلة مطير، وتكلم عن مشايخ قبيلة حرب كل من البحيماح، وعبد المحسن الِفرْم والطويي وابن بخيت. كما تحدث ابن ربيعان ممثلاً لقبيلة عتيبة، وابن عمار وابن حشر ممثلين لقبيلة قحطان. وأقروا كلهم بمساعدة الملك عبدالعزيز لهم، واعترفوا بقيادته واحترامه لضعافهم ومُسِنِّيهم، كما نسبوا إليه فضل بناء مساجد لهم في الهُجَر، وإرسال الدعاة لتعليمهم الدين الصحيح. لم يشكّوا أبداً في ذلك كله، ولكن، على الملك عبدالعزيز ألاّ ينسى أنهم تخلوا عن حياتهم الرعوية الترحالية، وهَجَروا قبائلهم، وثرواتهم، في بعض الأحيان، تلبية لندائه لهم باتباع الدين الصحيح، وأن يجاهدوا في سبيل الله، وأن سيوفهم ودماءهم هي التي جلبت له النصر. وكان من أهم المواجهات، التي دارت في المؤتمر، ما أوضحه قادة الإخوان من أنهم يريدون أن يستوضحوا بعض النقاط، قبل أن يتبعوا الملك عبدالعزيز، مرة أخرى، دون قيد أو شرط. والسبب في ذلك، أنهم يخشون غضب الله، أكثر من خشيتهم للملك عبدالعزيز.

وأثار الإخوان بعض الأسئلة، التي طرحوها على العلماء من قبل فردوا عليها؛ واقتنع بعض الإخوان بتلك الردود، ولكن بعضاً منهم لم يقتنع. وأصرّوا على طرح الأسئلة التالية على الملك عبدالعزيز، وعلى العلماء مجتمعين. وأقسموا على أن يتبعوا ما يُفْتي به العلماء:

أ. مسألة البرق (التلغراف أوالأتيال). فهي من وجهة نظرهم نوع من الشعوذة والسِّحر. ولمّا كان الإسلام يحرِّم السحر، فهل يمكن للمسلم الحقيقي أن يستعمل التلغراف من دون أن يضر بالدين؟

ب. مسألة حض القرآن على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هل كان الملك عبدالعزيز يوفد الدعاة الدينيين إلى المناطق، التي كانوا يفتحونها لهداية أهلها، الذين كانوا يزعمون أنهم مسلمون، إلى الدين الصحيح؟لقد كانوا يخشون أن الملك عبدالعزيز قد بات متساهلاً في تلك المسألة.

ج. مسألة المخافر التي أنشأها البريطانيون في المناطق الحدودية بين نجد والعراق. لقد نفد صبر الإخوان في هذا الصدد. هل يعتقد الملك عبدالعزيز أن دينه أعطاه الحق لترسيم الحدود في المناطق التي كانت مملوكة لهم ولأجدادهم على مر الأجيال؟ وبعد أن التزم الملك عبدالعزيز بمثل تلك الحدود مع النصارى، كيف يسمح لهم بخرق المعاهدة، التي أبرمها معهم، وهي معاهدة تحظر إنشاء المخافر في مناطق الآبار؟إن مسألة المخافر لا يمكن السكوت عليها، أكثر من ذلك. وهم على استعداد لقبول حكمه في هذا الموضوع، ولكن بالشروط التالية:

(1) أن يحصلوا من العلماء على حكم مؤسَّسْ على الشريعة، مفاده: إذا سكت الإخوان على ذلك الأمر، وترتب عليه إضرار بالدين أو المسلمين، فإنهم سيكونون أبرياء من الملامة أمام الله.

(2) أن يضمن لهم الملك عبدالعزيز، شخصياً، أنه لن يسمح بحدوث أي ضرر لهم، أو لدينهم أو لبلدهم، نتيجة لإنشاء تلك المخافر. وأردفوا قائلين: "إنه إذا لم يستطع ذلك، فإننا نقسم بالله إننا لن نسمح بقيام تلك المخافر طالما استمرت دقات قلوبنا، أو بقيت الحياة في واحد منا، لأننا نفضل أن نموت وأن نقتل جميعاً على أن نرى خطراً يُهدد ديننا وبلدنا ونسكت عليه".

د. مسألة منع الناس عن الجهاد. لِم فعل الملك عبدالعزيز ذلك؟ ولِم أوقف نشر كلمة الله؟

وبعد انتهاء المندوبين من إلقاء خطبهم، طلب الملك عبدالعزيز سماع المزيد من الآراء والانتقادات؛ ولكن أحداً لم يقل شيئاً، فنادى مرة ثانية وثالثة. ورد عليه المتحدثون بأنهم قد أفرغوا صدورهم من جميع التساؤلات. ثم أخذ الملك عبدالعزيز، بعد ذلك، في الرد على تلك التساؤلات. فطلب من العلماء ـ فيما يتعلق بمسألة البرق "التلغراف" والاختراعات الحديثة الأخرى ـ أن يتحدثوا في هذا الموضوع. فقرأ العلماء نصاً من فتوى سبق إعدادها من قبل، وتعبر عن رأيهم في ذلك الشأن، ومفادها أنهم لم يجدوا سبباً شرعياً للمنع في القرآن أو السنة، أو عند علماء الإسلام السابقين. ولذلك، ما لم يُقدم المُعارض لاستخدام هذه المخترعات دليلاً شرعياً على ما يقول، فإنهم لا يرون حرجاً في استعمال التلغراف والاختراعات الحديثة. وفيما يتعلق بالمسلمين المنحرفين عن الدين الصحيح، كرر الملك عبدالعزيز على أسماع المؤتمر أنه أرسل دعاة إلى كل مدينة وبلدة، بل إِنه أرسل مؤخراً دعاة إلى قبيلة في شمال الحجاز هي بني مالك. وقال للحاضرين: إذا كان مشايخ القبائل لا يؤدون ما عليهم في هذا الصدد، فإنه يتعين عليهم إبلاغه بذلك، وسوف يتصرف بناء على التوصيات التي سيرسلونها إليه. وعن مسألة المخافر، أبلغ المؤتمر أن تلك المخافر إنما أنشئت بسبب الغزوات، التي كان الإخوان يقومون بها. فقد كان البريطانيون يتهمون فيصل الدّويش بقتل رجال الشرطة. "أنا، الملك عبدالعزيز، لم أفعل ذلك، والبريطانيون يقولون إنهم أقاموا تلك المخافر خوفاً منكم".

ورد الإخوان أنهم بريئون من أفعال فيصل الدّويش، وهم على استعداد لِقتاله بشرطين:

أ. أن يُدمر الملك عبدالعزيز المخافر، التي أُنشئت مؤخراً، والتي يرى الإخوان وجودها مسألة حياة أو موت، بالنسبة لهم.

ب. أن يعد البريطانيون بألا يحولوا بين الإخوان وأولئك الذين يرى الإخوان ضرورة معاقبتهم، من أمثال يوسف السعدون الزعيم العراقي.

وأردف الإخوان قائلين: إن المخافر تجرى تقويتها كل يوم، "ونحن نصارحك أن ديننا وحياتنا في خطر، وأن البريطانيين هم الذين بدأوا بالشر".

وعند هذه المرحلة، أدلى العلماء برأيهم في مسألة المخافر، ووقفوا إلى جانب الإخوان. وأبلغوا الملك عبدالعزيز أن المخافر تشكل خطراً على العرب والمسلمين، خاصة أهل نجد، ولا بد أن يفعل كل ما في وسعه لإزالة تلك المخافر. وأن الجهد الموجه لإزالة تلك المخافر لا يدخل في حكم الجهاد، وإنما هو دفاع عن الدين.

وصاح الإخوان ابتهاجاً برأي العلماء قائلين: "هل سمعتم ما يقولون. نستحلفك بالله أن تقول لنا رأيك في تلك المخافر؟ ورد عليهم الملك قائلاً: أنا أقول إن ما قاله العلماء صحيح، وأقسم إنني سوف أبت في الموضوع. وفيما يتعلق بمسألة الجهاد، فأنا أريد التحدث عنها في مكان آخر وعلى انفراد. ثم طلب إليهم أن يختاروا من بينهم خمسين شخصاً يمثلونهم ليجتمعوا معه، ويقول لهم رأيه في موضوع الجهاد، وأنهم سيتوصلون إلى بعض القرارات لإنهاء الموضوع. وفي ختام المؤتمر قال الملك عبدالعزيز للحاضرين: "أقول لكم جميعاً، كباراً وصغاراً، إن حياتنا لن تكتمل إلاّ بالسلام، الذي يضمن لنا حقوقنا الكاملة في الدفاع عن حقوقنا وتحقيقها. فإما الانتصار وإما الاحتضار دفاعاً عن مقدساتنا وأمتنا؛ وأنا أقطع على نفسي عهداً بذلك أمام الله".

وانتهى المؤتمر بأن وقف الأمير سعود، الابن الأكبر للملك، يقدم لوالده الحاضرين من الضيوف، ليُقسم كل منهم قسم الولاء والطاعة من جديد. وبعد تناول العشاء، اجتمع الملك بممثلي الوفود الخمسين شخصاً، من الساعة الثانية مساءً حتى الساعة السادسة[2]، ولم تذع محاضر هذا الاجتماع، ولا المحاضر التي تلت ذلك عن موضوع الجهاد، سوى القول إن المجموعة، التي اجتمعت مع الملك عبدالعزيز، توصلت إلى قرارات جماعية تناولت موضوع الجهاد.

وانتهى المؤتمر بحصول الملك عبدالعزيز على تأييد كل من العلماء والإخوان له، في مواجهة تمرد القائدين، فيصل الدّويش وابن بجاد (انظر ملحق أسماء الأعضاء، الذين حضروا مؤتمر الرياض)

2. الإخوان بعد مؤتمر الرياض

عقب مؤتمر الرياض، الذي كان نصراً مبيناً للملك عبدالعزيز على زعماء الإخوان الثلاثة، وحَرِصَ أكثر الإخوان والعلماء والجماعات ذات التوجه الديني، على التزام الحياد في الصراع الدائر بين زعماء الإخوان والملك عبدالعزيز.

تجاهل زعماء الإخوان ما جرى في المؤتمر، وأذاعوا في القرى والهُجَر أنهم قائمون بأمر الشريعة والدين، التي يهدمها الملك عبدالعزيز.

وقد أرسل فيصل الدّويش إلى الأمير سعود بن عبدالعزيز رسالة، عقب مؤتمر الرياض، تدل على أن المؤتمر لم يحقق الراحة النفسية الدينية الجهادية، التي كان الإخوان يأملون فيها. وأن هويّتهم الدينية مازالت معرضة للخطر، حين منعوا من الغزو والجهاد. يقول الدّويش في رسالته:

"لقد منعتني أيضاً من غزو البدو. وعليه فنحن لسنا مسلمين نحارب الكفار، ولا عرب وبدو يغزو بعضنا بعضاً، ونعيش على ما يحصل عليه بعضنا من البعض الآخر. لقد باعدت بيننا وبين اهتماماتنا الدينية واهتماماتنا الدنيوية. صحيح أنك لم تفشل في أن تفعل كل ما في وسعك من أجلي ومن أجل أهلي وناسي، ولكن إلى أين تذهب بقية قبائلي. إنهم سيموتون، وكيف لنا أن نرضى عن ذلك. لقد كان من عادتك في الماضي أن تصفح عن كل واحد منا يرتكب خطيئة من الخطايا، ولكنك الآن تعاملنا بالسيف وتتغاضى عن النصارى، وعن دينهم وقلاعهم، التي أنشأوها من أجل تدميرك".

لم تنجح الجهود المتكررة، التي بذلها الملك عبدالعزيز، لحل الخلافات مع القادة المتمردين، خاصة ابن بجاد والدّويش. ويرجع السبب في ذلك، إلى حدٍّ كبير، إلى الحقيقة التي مفادها أن كل واحد من الزعماء الثلاثة المتمردين، كانت دوافعه الأساسية مختلفة عن الاثنين الآخرين. ومما لا شك فيه، أن ابن بجاد كان مسلماً أميناً مخلصاً، يشعر بالقلق البالغ إزاء اتجاه البلاد نحو التحديث، والاتجاه نحو التعاون الوثيق مع النصارى[3].

لم تنجح سلسلة الرسائل المتبادلة بين زعماء التمرد والملك عبدالعزيز في نزع فتيل الأزمة، ولا المحاولات العديدة لترتيب اجتماعات تلتقي الأطراف فيها وجهاً لوجه. وفي الوقت نفسه، استمرت غارات الإخوان، وزادت حدّتها.

ترك سلطان بن بجاد قريته الغطغط، لقربها من الرياض، وانضم إلى فيصل الدّويش في الأرطاوية. وأغار ضيدان بن حثلين على عرب العراق وبادية الكويت والزبير. وضج العراق من اختلال الأمن على حدوده مع نجد.

وبينما كان الملك عبدالعزيز ينشد تسوية من طريق المفاوضات ـ تكون أقل كلفة مالية، وتحافظ على العلاقات القبلية من خطر الصراع على السلطة ـ اكتشف أن الفرصة تفلت من بين يديه، لتختفي نهائياً عندما غزا الإخوان، في شهر رجب 1347هـ/ ديسمبر 1928م (أي بعد أقل من شهر على مؤتمر الرياض)، قافلة النجديين العزّل في الجميمة، فضلاً عن غزوهم أيضاً بعض أتباع قبيلة شّمر، التي كانت كلها من رعايا الملك عبدالعزيز. وقد ذبح الإخوان تجار القافلة، ولم يعد بوسع الإخوان أن يزعموا أنهم كانوا يهاجمون الكفار؛ وفي المقابل، لم يطق الملك عبدالعزيز أن يقف مكتوف الأيدي أمام تحدي زعامته وسلطته، حين تُشنّ هجمات، لا يطولها العقاب، على رعاياه.

لم يمضِ ستون يوماً على مؤتمر الرياض، حتى أفصح سلطان بن بجاد ـ في يناير 1929 ـ عن نيته في شن حرب مقدّسة ضد العراق، في تحدٍّ صارخ لكل من الملك عبدالعزيز ومؤيديه في مؤتمر الرياض. وتحرك مع قواته في اتجاه العراق، حيث انضم إلى عناصر فيصل الدّويش من إخوان مطير، وعناصر ابن حثلين من قبائل العجمان، التي كانت تشن غزوات متقطعة على قبائل المنتفق الرعوية.

وقد دفعت تلك الإغارات العراقيين إلى اتخاذ إجراءات تأديبية قاسية. وبمساعدة القوات الجوية البريطانية، بدأ العراقيون يقصفون الغزاة من رجال القبائل. وكانوا في بعض الأحيان يتعقبونهم إلى نجد، ويقصفون مخيماتهم وموارد مياههم. وكانت إحدى هجماتهم على قبيلة مطير في "اللصافة"، حيث أصيب عدد كبير من النساء والأطفال. فاضطر الملك إلى تقديم احتجاج شديد اللهجة إلى الحكومة البريطانية. ثم واصل محاولاته للتفاوض مع زعماء الإخوان، لكنهم كانوا يزدادون تعنتاً. وكثيراً ما رفضوا حتى المجيء إليه في الرياض. ولم يكن من غير المعتاد، أن ترى أعداد كبيرة من الإخوان المسلحين يدخلون إلى الرياض ويخرجون منها، معلنين بصراحة عن قوتهم، وعدم احترامهم للسلطة المركزية.

3. اتساع فجوة الخلاف بين الملك عبدالعزيز والإخوان

تصاعدت قوة الإخوان أكثر فأكثر، وازداد نفوذهم في الحياة اليومية. ويُروى أنهم جلدوا علناً رئيس الديوان الملكي، بسبب الشكِّ في أنه لم يؤد الصلاة مع الجماعة. وكانت جماعات منهم تجوب الشوارع وتتصرف بوصفها شرطة دينية، عينت نفسها لتعاقب كل شخص لا يتبع تعاليمها الصارمة. أمّا هم فقد تحلُّوا بأقصى ما يمكن من العزوف عن الحياة الدنيا؛ فَحَرّموا على أنفسهم كل متعة مهما كانت ضئيلة. وكانوا يصرّون على ارتداء الملابس الخشنة؛ ويعتبرون الناعم من الثياب بذخاً محرّماً. وكانوا لا يبيحون أي نوع من أنواع الحلي. وقد ذهب كثيرُّ منهم أبعد من ذلك، ورأى وجوب إزالة الخيوط الذهبية المنسوجة في عباءاتهم. وكان من المألوف أن يمسكوا بمن يظهر وشارباه غير محفوفين، أو ثوبه أطول مما هو معتاد، فيقصوا الزائد من شعره أو ثوبه. ولم يسلم الملك عبدالعزيز نفسه من موقف مثل هذا. فقد ورد أنه زار مرة فيصل الدّويش في الأرطاوية، فحياه مضيفوه بقولهم إن ثوبه كان أطول مما ينبغي، فقصوا ما زاد عن الحدّ المعتاد، والملك مرتدياً ثوبه.

وفي اليوم الثاني عشر من شهر رمضان 1347هـ/ فبراير1929م، والملك يتأهب للتوجه إلى الحجاز لأداء الحج، وردت الأنباء بأن قبيلتين من أعظم قبائل الإخوان، عتيبة ومطير، اجتمعتا في شمال القصيم، استعداداً لشن هجوم شامل على الأراضي العراقية؛ فأدرك عدم جدوى محاولاته إقناعهم بالطرق السّلمية، وأن الحركة التي أنشأها لنشر السلام والاستقرار في مملكته صارت أداة للعنف والفوضى. وقد أصبح واضحاً، كل الوضوح، أن القوة يجب أن تواجه بالقوة. فبدأ جلالته يستعد للحرب، وقلبه مثقل بالألم.

واستمر الموقف على تدهوره، وانتقل الملك عبدالعزيز إلى القصيم لمواجهة هذه الأزمة من ناحية، ولإعداد نفسه وتجهيزها لمواجهة عسكرية سافرة معهم، من ناحية أخرى. واتخذ لنفسه جنوداً من الحضر وسكان القرى، الذين كان عدد منهم يتحرق إلى مقاتلة الإخوان، ليس انتقاماُ لإخوانهم الحضر، الذين قاسوا من غزوات الإخوان فحسب، وإنما لضمان أمن مستقبلهم وسلامته.

وقد تبادل زعماء المتمردين الثلاثة الرسائل مع الملك عبدالعزيز، قبل إعلان الحرب عليهم، على أمل التوصل إلى تسوية من طريق التفاوض. واستمرت تلك الجهود إلى ما قبل الليلة السابقة لمعركة السّبَلَة، المعركة الفاصلة.

ظل الإخوان حتى اللحظات الأخيرة من عمر حركتهم، يأملون في الاستمرار قوة عسكرية دينية، تحت قيادة الملك عبدالعزيز. يواصلون فتوحاتهم وينشرون العقيدة الصحيحة. كما كان الملك عبدالعزيز يُدرك أهميتهم ودورهم، وأنهم قوته وسنده، وأنهم صادقون فيما أدوه من خدمات جليلة مقدّرة، خلال مسيرته العسكرية والسياسية. ولكن وجد الملك عبدالعزيز نفسه مواجهاً بضرورة الاختيار الصعب: وهو ردع زعماء الإخوان، وإحباط تمردهم.

 



[1] اختلف المؤرخون حول تاريخ هذا الاجتماع؛ فورد لدى جلوب باشا 1 نوفمبر 1928، وحافظ وهبه 19 أكتوبر 1928.

[2] طبقا ًللتقويم الشمسي فإن ذلك الموعد يبدأ بعد ساعتين من غروب الشمس.

[3] هذا الرأي كما أورده جون س . حبيب على لسان بعض أسر الإخوان