إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / التاريخ السياسي المصري الحديث: حكم أسْرة محمد علي في مصر (1805 ـ 1952)






الاحتلال البريطاني لمصر
الحملة الفرنسية على مصر
حدود مصر في عهد إسماعيل
حدود الدولة المصرية ومعاركها



الفصل الأول

المبحث الثاني

محاولات الاستقلال عن الدولة العثمانية

أدرك محمد علي حقيقة وضع مصر السياسي، بعد الحملة الفرنسية، تأثر مصر بتيارات السياسة الأوروبية، ولا سيما استهداف تلك السياسة أطرف العالم الإسلامي، وتهديدها بابتلاعه. وأيقن ضعف الدولة العثمانية وعجزها عن مواجهة الضغط الأوروبي، الذي سارع في وضع عدة مشروعات لاقتسام أملاكها. وأصبحت ولاياتها، ومنها مصر، معرضة لمصير تلك الدولة الضعيفة نفسه.

اطمأن محمد علي إلى غنى مصر بالموارد، وأهمية مركزها الجغرافي، على طريق التجارة القديم، الذي رغب في إحيائه. وهو ما حكم سياسته الخارجية، من خلال علاقته بالدولة العثمانية ودول أوروبا؛ ومحاولاته تجنُّب الوقوع تحت سيطرة هذه الأخيرة.

لئن اتسمت علاقة مصر بالدولة العثمانية ببعض السلبيات، فإنها لم تَخْلُ من بعض الإيجابيات. فاضطرار محمد علي إلى امتثال أوامر السلطان بنجدته على الولايات الثائرة عليه، في بلاد العرب وكريت واليونان ـ هو نفس ما أتاح له زيادة قوّته العسكرية، والتوسع داخل الدولة العثمانية، بالحصول على ولاية بلاد العرب، وكريت.

وقد استمرأ الوالي الوضع الآنف، فطمع في تقوية نفسه، داخل الدولة العثمانية؛ مستغلاً موارد مصر، بالسيطرة على تلك الدولة، والعمل على تقويتها؛ لتتمكن من مواجهة الضغط الاستعماري الأوروبي. ولا يَحْسَبَنّ أحد أن ذلكم يستدعي، بالضرورة، أن يقضي على آل عثمان، ويتولى هو السلطنة؛ بل يمكنه أن يبقي على الأسْرة العثمانية الحاكمة، ويوجه سياسة الدولة وجهة، تُجدِّد شبابها. كما أن ذلك لم يناقض سعيه لنوع من الاستقلال، داخل نطاقها.

أمّا رغبته في إعادة فتح طريق التجارة القديم، فقد مكنته الحملة على بلاد العرب من بسط سلطانه على الشواطئ الشرقية للبحر الأحمر، حتى قرب عدن نفسها. ومهدت حملة فتح السودان للسيطرة على السواحل الغربية لذلك البحر. كما اتجه محمد علي نحو الفرع الآخر من الطريق القديم، عبر الخليج العربي ونهر الفرات وشمال الشام، إذ وصلت قواته، في بلاد العرب، حتى الحسا والقطيف، وبلغت قواته، في سورية، إثر الحرب بينه وبين السلطان، نهر الفرات. واستكمل مشروعه هذا، في مصر، بالعمل على استتباب الأمن، في الطريق بين السويس والقاهرة؛ وشق ترعة المحمودية، لِوَصْل الإسكندرية بالنيل.

وقد مرت المشروعات الآنفة كلّها بمرحلتَين متتاليتَين:

الأولى: من خلال الوفاق مع السلطان.

الثانية: من خلال النزاع مع السلطان، ومواجهة الدول الأوروبية.

أولاً: المرحلة الأولى من سياسة محمد علي الخارجية

1. فتح شبه الجزيرة العربية

أوجدت الثورة، في شبه الجزيرة العربية، وضعاً جديداً في المنطقة. فقد عجزت قوات الولاة العثمانيين فيها عن مواجهة الثوار، الذين سيطروا على شعيرة الحج بخاصة. وهو ما أحرج السلطان، حامي الحرمَين الشريفَين. فعهِد، عام 1807، إلى محمد علي بالقضاء على تلك الثورة. ولكن والي مصر، لم يستكمل استعداداته لهذا الأمر، إلا في عام 1811، بعد أن تمكن من القضاء على المماليك.

ولم يكن محمد علي ليرفض أوامر السلطان تلك، إذ قد يتعلل بالرفض ليعزله. كما أن هناك عوامل أخرى، حملت والي مصر على الترحيب بخوض تلك الحرب، منها رغبته في توطيد مركزه في مصر، ورسوخ منزلته لدى السلطان، فلا يفكر في عزلة أو تغييره؛ بل لا يستطيع أن يعامله معاملة سائر الولاة. لا، بل إن نجاحه، قد يساعده على تحقيق أطماعه، سواء بالانفصال من الدولة العثمانية، أو الاستقلال بمصر خارج نطاق تلك الدولة، أو التوسع، داخل نطاقها، أو الاكتفاء بالحكم الوراثي، وتحقيق مركز متميز، في نطاقها. يضاف إلى ذلك، أن بسط سلطانه على الساحل الشرقي للبحر الأحمر، كان عاملاً مساعداً على تحقيق هدفه في إحياء طريق الشرق القديم، المار بمصر، وفوق مياه ذلك البحر.

زِد على ذلك، أن تلك الحرب، ستسوغ لمحمد علي بناء قوّته العسكرية، من دون معارضة السلطان؛ وتلك القوة هي وسيلته إلى تحقيق أطماعه جميعاً. وكانت تلك الحرب سبيلاً إلى أغراض محلية، كالتخلص من ثورات الجنود الأرناؤوط وغيرهم المتكررة؛ ومن ثَم، بناء قوة عسكرية حديثة. كما أنها ستخوّله جمع ما يريد، من ضرائب وإتاوات، من دون اعتراض الشعب أو السلطان.

ناهزت الحرب سبع سنوات (1811 – 1818). فأتاحت لمحمد علي فرصة، لكي يبنى نظاماً إدارياً ضخماً، يعيد بناء القدرة الذاتية في مصر، استجابة لمطالب الحرب؛ ما أفرز نظاماً قادراً على العمل في عدة جبهات. كما كان من نتائج الحرب عودة العلاقات التجارية، التي كانت تمر بموانئ البحر الأحمر، إلى سابق مكانتها.

2. فتح السودان

رغب محمد علي في فتح السودان؛ لأسباب عدة، منها سعيه إلى اكتشاف مناجم الذهب والماس، التي سمع بوجودها في تلك البلاد. ورغبته في القضاء على فلول المماليك، الذين فروا من مصر، واستقروا بإقليم دنقلة؛ فأصبحوا مصدر تهديد لمصر وواليها. يضاف إلى ذلك حاجته إلى الجند، لجيشه الجديد (النظام الجديد)؛ والسودانيون مشهورون بالشجاعة والطاعة. ناهيك بأن فتح السودان، بما في ذلك شرقيه، وسواحله الطويلة على البحر الأحمر، كان سيكفل لمحمد علي السيطرة على السواحل الغربية لذلك البحر. وبذلك، يصبح باشا مصر مسيطراً على شاطئَي البحر الأحمر: الشرقي والغربي؛ ولهذا أهميته في خططه لإحياء طريق تجارة الشرق القديم. بيد أن أهم أهدافه، كان استكمال وحدة وادي النيل، بضم السودان، والوصول إلى منابع النيل؛ وبذلك يعمل على تأمين سلامة مصر، وضمان مواردها من المياه، وتوثيق علاقاتها الاقتصادية بالسودان، لمصلحة البلدَين.

وأَوْلى محمد علي الهدفَين الأخيرَين اهتماماً بالغاً؛ حتى إنه لم يكتفِ بوصول فتوحه إلى مناطق سنار وفازوغلى وكردفان والنيل الأبيض، عند موقع الخرطوم الحالية؛ بل واصل بسط سيطرته، جنوباً، في اتجاه منابع النيل، من خلال بعثات الاستكشاف، ولا سيما بعثة سليم قبطان، على النيل الأبيض وبحر الجبل، والتي بلغت خط العرض الرابع، شمال خط الاستواء. زِد على ذلك استئجار والي مصر من السلطان العثماني مناطق مصوع وسواكن، وهي منافذ السودان إلى البحر الأحمر؛ وبذلك، سيطر على سواحل السودان الطويلة، المطلة على البحر الأحمر.

وقد استغرقت فتوح السودان الأولى نحو عامَين (1820 – 1822).

أهداف الحملة على السودان ونتائجها

أ. كثرت أطماع محمد علي في السودان. وقلّ ما تأتّى له منها. فلم يهتدِ إلى مناجم الذهب والماس. ولم يُفلح في تجنيد السودانيين في جيشه؛ لأسباب عديدة، أهمها أن مناخ مصر، لم يلائمهم، وتعذر عليهم التأقلم فيه؛ ففتكت بهم الأمراض، وكثرت بينهم الوفيات. ولكنه تمكن من التخلص من فلول المماليك، الذين هربوا إلى السودان، واستكثروا من الأتباع، وسعوا لتهديد أمن البلاد، من وقت إلى آخر.

ب. مهدت بعثات محمد علي الكشفية للجهود، التي استهدفت الوصول إلى منابع النيل الأساسية، بعد ما يقرب من عشرين عاماً (عام 1839). أمّا رجاله، قوات إسماعيل الدفتردار، فلم يتورعوا من عمليات نهب وسلب وتدمير، وحرق المدن والقرى. وكان رد الفعل عنيفاً، إثر مؤامرة حاكم شندي لقتل إسماعيل باشا. وكلّ ذلك، خلق في نفوس السودانيين مرارة وكراهية لمصر؛ على الرغم من أنه لم يكن في تلك القوات أي مصري.

ج. فات الوالي طول المسافة ووعورتها، وصعوبة الأحوال المناخية، واتساع مناطق السودان. وعدم اقتصار الحرب على جبهة سنار ـ كردفان؛ وكلّ ذلك يقتضي زيادة أعداد القوات المحاربة. ولعله كان مقدِّراً لمحدودية القوات العسكرية المعادية، لدى ملك السودان؛ وعلى الرغم من ذلك، فقد عانى محمد علي تناقص قواته، باستمرار، في السودان، حيث فتكت بهم الأمراض المتفشية، وقِلة الرعاية الصحية، الناجمة عن افتقاد العدد الكافي، من الأطباء ووسائل العناية والأدوية؛ ما أضعف قدرتهم القتالية. زِد على ذلك سوء أحوال المعيشة، وتأخر الرواتب؛ ما ثبَّطهم، وحفز السودانيين وقادتهم إلى التمرد والثورة على الحكم المصري.

د. افتقر قائد الحملة العسكرية، إسماعيل باشا، إلى الصفات القيادية، والحنكة، وأسلوب التعامل مع كبار القوم. كما عُرف بالاستبداد في الرأي، والقسوة والعنف، ورفض النصح ممن هو أكثر خبرة منه. ولقد راح ضحية هذه السلبيات.

3. حرب الموره

ثار اليونانيون على السلطات العثمانية، منذ عام 1821، تحدوهم دوافع سياسية ودينية. فقد سارعوا إلى تلبية نداء الجهاد، براً وبحراً، فأغاروا على حاميات العثمانيين وقلاعهم، واعترضوا سفنهم، واستولوا على بعضها، وأسروا رجالها، ونهبوا ما فيها. فاستنجد السلطان العثماني بوالي مصر القوي، محمد علي باشا، الذي أعَدّ ست عشرة سفينة كاملة العتاد والعدة، يقودها إسماعيل قبودان، وعلى متنها نحو ألف مقاتل. أبحر الأسطول من الإسكندرية، في أوائل أبريل 1821، إلى جزيرة رودس؛ لتأديب القراصنة اليونانيين.

التقى الأسطول المصري نظيره العثماني، الذي تكون من عشرين سفينة. وبادر الأسطولان إلى مطاردة سفن القراصنة، في بحر إيجه، حيث أغرقا نحو خمسين سفينة يونانية، وأسرا ثلاثين سفينة أخرى. وبعد انقضاء الشتاء، عاد الأسطول المصري، ظافراً، في مارس 1822، وقد فقد خمساً من سفنه، وتضرر بعضها.

وما إن رجع الأسطول المصري، حتى عاد السلطان العثماني يستعين بمحمد علي باشا على جزيرة كريت، حيث كانت الثورة قد نشبت عام 1821. فاستجاب له بحملة عسكرية، قِوامها خمسة آلاف جندي، بقيادة حسن باشا.

هبط الجند المصريون، في يونيه 1822، جزيرة كريت، حيث دارت معارك طاحنة، استبسل فيها الجانبان. وتمخضت بغلبة القوات: المصرية والعثمانية. ولقي خلالها قائد الأسطول المصري مصرعه. فخلفه حسين بك.

أ. دخول الجيش المصري إلى الموره

(1) خاض الجيش العثماني معارك طويلة، ضد الثوار، في شبه جزيرة الموره، طاولت عامَين. تكبد فيها ضحايا كثيرة، أحرجت السلطان العثماني إحراجاً، فاق خوفه من نشاط محمد علي لتطوير الجيش المصري الذي كان فائقاً في المعارك السابقة. فأراد الاستعانة بذلك الجيش الحديث على إخماد تلك الثورة، التي أعيت الجيش العثماني التقليدي. فأصدر فرماناً، يعهد إلى والي مصر بهذه المهمة.

(2) قَبِل محمد علي تلك المهمة الشاقة؛ لما فيها من مكاسب ولا سيما ارتفاع شأنه ومكانته.

(3) أَعَدّ محمد علي جيشاً برياً، قِوامه 17 ألف جندي و700 فارس، وأربعة بلوكات من المدفعية. تنقلهم 51 سفينة حربية. وترافقهم 146 سفينة نقل. وتولى القبطان إسماعيل قيادة الأسطول. وعُهد إلى إبراهيم باشا بالقيادة العليا للحملة.

(4) أبحر الأسطول المصري من الإسكندرية، في يوليه 1824. واتجه إلى رودس، ثم إلى شاطئ الأناضول، حيث التقى الأسطول العثماني. ودارت معارك بحرية عنيفة، ضد السفن اليونانية، أبدى فيها الأسطول المصري كفاءة عالية. وفقَد سفينتَين، حتى أكتوبر 1824. وتراجع الأسطول العثماني في بعض تلك المعارك. وأيقن إبراهيم باشا استحالة الانتصار على الثوار، في مياه البحر؛ فلا مناص من المواجهة البرية، على أرض شبه جزيرة الموره.

(5) اعتمد المصريون خطة جديدة، إذ اتجهوا، في أواخر عام 1824، إلى جزيرة كريت، حيث انتظروا سنوح الفرصة لاختراق السفن اليونانية، وهبوط ساحل شبه جزيرة الموره. ولاحت لهم الفرصـة، في فبراير 1825، حينما دب الخلاف بين القراصنة اليونانيين، وامتنعوا عن مواصلة القتال. ووصل الأسطول المصري، بقيادة إبراهيم باشا، إلى ميناء مودون، جنوبي الموره.

(6) نزل الجيش المصري إلى أرض الموره. وبادر إبراهيم باشا إلى وضع خطة التوغل فيها. وبدأ يدعم الحاميات العثمانية المثبَّطة، المحاصرة، في بلدة كورون، حيث تمكن من إنقاذها، بعد هزيمة اليونانيين. وشجعه ذلك على محاصرة: برية وبحرية، لواحد من أهم معاقل الثوار اليونانيين، مدينة نفارين، الحصينة.

(7) عهد إبراهيم باشا، في مايو 1825، إلى سليمان باشا الفرنساوي باقتحام جزيرة إسفاختريا، التي تُعَدّ مفتاحاً لمدينة نفارين. فتخير عدداً من أشجع جنوده، وهجم عليها. ولم تَثْنِهِ صعوبة الموقف، وسقوط عدد من جنوده، عن الوصول إلى الجزيرة، ورفع العلم المصري عليها. أمّا اليونانيون، فقُتل قائدهم، "البطل تامدرس". وعمدا إلى إحراق بعض السفن المصرية، ومستودعات الذخائر. ولكن ذلك لم يضعف حصار نفارين، بل أحكمه. فيئس المحاصَرون. وطلبوا الأمان من إبراهيم باشا، الذي استجاب لهم، بشروط.

(8) كان استسلام نفارين نقطة تحوُّل مهمة لمصلحة الجيش المصري. وبعدها، خاض الثوار حرب عصابات، في الجبال المجاورة والمناطق الوعرة. ولكن تمرّس كثير من القادة المصريين بتلك الحرب، حقق عدة انتصارات على عدو عنيد، أفاد كثيراً من تضاريس بلاده ووعورتها.

(9) سُر محمد علي باشا بانتصارات ابنه، إبراهيم. وأدرك ضرورة دعمه. فعززه بزهاء 11 ألف جندي، أبحروا، في منتصف أكتوبر 1825، من ميناء الإسكندرية، يرافقهم الأسطول العثماني. ووصل المصريون وحدهم إلى كريت، التي وصلوها، في 27 أكتوبر؛ ومنها إلى نفارين.

ب. معركة ميسولونجي ( عام 1826)

تتميز مدينة ميسولونجي بموقع حصين جداً، وحامية قوية من الثوار. ويكفي القول إن الاستيلاء عليها، يُعادل الاستيلاء على نصف بلاد اليونان.

حاصرها إبراهيم باشا، حتى اضطر المحاصَرون إلى مفاوضته في خروجهم، ومعهم أسلحتهم وعتادهم. ولكنه صمم على أن يستسلموا، ويتركوا أسلحتهم؛ ما أجبرهم على المقاومة. كما طلبوا من الثوار، خارج المدينة، أن يهجموا على المحاصِرين، حتى يمكنهم أن يشقوا طريقهم، بين صفوف القوات المصرية، إلى خارج المدينة.

وحاولت القوات المحاصَرة الخروج من المدينة، في قسمَين: الجنود، وعليهم اختراق الدفاعات العثمانية، بقيادة رشيد باشا؛ والمسلحون، وعليهم المرور بين الجنود المصريين، بقيادة إبراهيم باشا.

تمكن القسم الأول من اجتياز جميع خطوط العثمانيين. ولم يتمكن من اختراق صفوف المصريين، من القسم الثاني، سوى 2400 شخص. وارتد الباقي إلى داخل المدينة، بعد مقتل عدد كبير منهم، بنيران المدفعية المصرية. وطاردت القوات المصرية القوات المرتدة. وتمكنت من دخول المدينة، التي دار فيها قتال عنيف، انتهى إلى سقوطها، في 23 أبريل 1826، بعد أن دُمرت، وفَني من فيها.

وناهزت الخسائر العثمانية، في ميسولونجي، 20 ألف شخص. أمّا الخسائر المصرية، فبلغت ستة آلاف مقاتل. وأخذ إبراهيم باشا في تحصين المدينة. وترك فيها حامية كبيرة. ثم رجع، عبر خليج ليبانت، إلى الموره.

ج. معركة نفارين البحرية (عام 1827)

توجست الدول الأوروبية بقوة الجيش المصري، في حرب الموره. فعقدت معاهدة، في لندن، في 6 يوليه 1827، عرضت فيها إنجلترا وفرنسا وروسيا الوساطة، بين الباب العالي واليونان. وإذا لم تُقبل، خلال شهر، فإن تلك الدول، ستتدخل لفرض الهدنة، ومنع القتال. وسرعان ما رفض الباب العالي الرسالة الأوروبية.

وفي أوائل أكتوبر 1827، حذر محمد علي، إبراهيـم من التحرش بأساطيل الحلفاء ومصادمتها؛ لأنها فائقة عدةً وتسليحاً. فقصر إبراهيم خطته على الدفاع عن نفارين. بيد أن ذلك لم يُرْضِ دول الحلفاء. ورأت إنجلترا أنها فرصة ذهبية لتحطم الأسطولَين: المصري والعثماني. ووافقتها على رؤيتها حليفتاها. وانتهزت الدول الثلاث مبادرة إبراهيم باشا إلى التصدي لاعتداءات الثوار اليونانيين، ليَعُدوا موقفه خروجاً على الهدنة، تجب مواجهته. وتمهيداً لها، استدعى أمير البحر الفرنسي، في 17 أكتوبر، الضباط الفرنسيين، العاملين في خدمة الأسطول المصري، وطلب منهم التخلي عن عملهم.

وما إن شعر محرم بك بالاستعدادات والتحركات الإنجليزية، حتى أرسل إلى أمير البحر البريطاني، طالباً منه العدول عن الرسو في نفارين بسفنه. فردّ القائد الإنجليزي بأنه ما جاء ليتلقى منه الأمر. وإنما حضر ليملي عليه الأوامر.

اصطفت أساطيل الحلفاء على شكل نصف دائرة، في مواجهة الأسطولَين: المصري والعثماني. وتقارَب الطرفان، حتى أمكنهما التراشق بنيران الأسلحة الخفيفة. وبدأت تحرشات الأساطيل الأوروبية، وتنفيذ المؤامرة الدولية على الشرق. وحانت ساعة الصفر في منتصف الثالثة، بعد ظهر يوم 20 أكتوبر 1827، حين أطلقت أساطيل الحلفاء نيرانها، بشدة، على ذينك الأسطولَين؛ فدُمر معظم سفنهما. وهكذا خسر الجيش المصري المعركة. بيد أنه لم يسلِّم أيّ سفينة أو جندي. وناهز عدد القتلى، في الجانبَين: المصري والعثماني ثلاثة آلاف مقاتل. ولم تزد خسائر الحلفاء على 254 قتيلاً.

لم يخض إبراهيم باشا هذه المعركة لانشغاله بإخماد الثورات، وإنقاذ حامياته في الموره. وإذ بوالده يأمره باتباع خطة دفاع، ووقف القتال في الشمال. وفي أواخر فبراير 1828، فرغ إبراهيم باشا من لملمة فلول قواته في الموره. وبقي في ظروف سيئة جداً، ينتظر المدد والمؤن، حتى أغسطس 1828، حينما وصله أمر العودة، من محمد علي؛ طبقاً للاتفاقيات المبرمة مع الحلفاء، في الإسكندرية، والتي تسمح بحامية مصرية في الموره، خارج المدن الكبرى؛ وعودة باقي القوات إلى مصر.

وفي أوائل سبتمبر 1828، بدأ إبراهيم باشا الاستعداد للعودة إلى مصر. وفي أوائل أكتوبر 1828، انتهى الجلاء عن اليونان؛ لتنتهي إليه حروب الموره، التي خسرت فيها مصر نحو 30 ألف مقاتل؛ إضافة إلى أموال طائلة، ناهزت 775 ألف جنيه؛ وفقدان أسطولها، الذي استنفد أموالاً باهظة وجهوداً جاهدة.

رسخ في ذهن محمد علي، أن القوة هي التي تضمن تحقيق الهدف؛ وأن الدفاع عن الحقوق، لا بدّ أن يستند إلى قوى ضاربة، متطورة، تماشي وروح العصر الحديث. فسارع، بعد نكبة نفارين، إلى تحديث الجيش وتطويره، وتزويده بأحدث الأسلحة؛ وتكوين الأسطول المصري الحديث.

ثانياً: المرحلة الثانية من سياسة محمد علي الخارجية

إن تفرّد محمد علي بتوقيع اتفاق، في الأول من أغسطس 1828، مع الحلفاء، بجلاء الجيش المصري عن الموره، مع تحديد كيفية هذا الجلاء، يمثل عملاً من أعمال سيادة، ما كان السلطان، وهو صاحب السيادة على مصر، ليغفره له. فما أبداه الجيش المصري، من قدرة وكفاءة، في ميدان القتال، جعل الدول المتحالفة تفاوض والي مصر مباشرة، من دون وساطة الدولة العثمانية. وبذلك، توطد مركز باشوية مصر، وأصبحت ولاية غير عادية. ومن ثَم، فإن محمد علي بدأ يتخذ مواقف استقلالية، تغفل السلطان العثماني؛ بل بدأ ينازعه، ويوسع باشويته على حساب الدولة العثمانية.

كما تميزت هذه المرحلة بمعارضة سياسته التوسعية لمصالح الدول الأوروبية؛ بل مواجهتها؛ ما أدى إلى انهيار تلك السياسة. وفي هذه المرحلة كذلك، أخذ محمد علي يعمل على التخلص من التبعية للدولة العثمانية؛ ومحاولة الانفصال بمصر، وبما يحكمه من ولايات أخرى؛ مع تكوين وحدة اقتصادية متكاملة منها، تضم المنافذ والمواقع، المؤدية إلى الطرق التجارية القديمة.

ولذلك، لم يكتفِ محمد علي بما منحه أياه السلطان، من حكم جزيرة كريت؛ تعويضاً عما فقده في الحروب اليونانية؛ بل طالب بضم سورية إليه؛ وهو أمل طالما ساوره دوماً؛ لأنها هي خط الدفاع الأول عن مصر. ولكن السلطان رفض مطلبه. فدفع الباشا بجيوشه بقيادة إبراهيم يكن، من معسكر الخانكه (العباسية)، في 29 أكتوبر 1831، إلى الشام، عبر العريش، فغزة، في ما عُرف بحرب الشام الأولى، ضد السلطان، والتي انتهت إلى استيلائه عليها، هي وإقليم أطنه. وبذلك، تعدت حدود مصر جبال طوروس، ولاصقت نهر الفرات، أيْ أنها ضمت أحد طرفَي طريق تجارة الشرق القديم، المار بالخليج العربي.

1. فتح عكا

اندفع الجيش المصري نحو العريش، حيث استراح يوماً. ثم احتل خان يونس، فغزة، بعد أن تخلت عنهما حاميتاهما العثمانيتان. ثم واصل تقدمه نحو يافا. وفى الوقت نفسه، أقلع الأسطول المصري، من الإسكندرية، حاملاً سائر الجيش وقيادته، وعلى رأسها إبراهيم باشا يكن، وفي صحبته سليمان الفرنساوي وعباس حلمي باشا.

رسا الأسطول، في 8 نوفمبر 1831، أمام ميناء يافا. وقصد وجهاء المدينة قائده وعرضوا عليه تسليم حاميتها المكونة من 250 جندياً. فأنزل قوة صغيرة، لاستلامها. واستولى على مواقع قلعة يافا، متمثلة في 47 مدفعاً، بذخائرها. وواصل الأسطول الإبحار إلى ميناء حيفا، حيث أنزل بها المدافع والذخائر. وفيها التقى جناحا الجيش المصري: البري والبحري.

زحفت قوات الجيش المصري الرئيسية إلى عكا، وحاصرتها، منذ 26 نوفمبر 1831. واشترك الأسطول في حصارها، بحراً. وتراشق الطرفان، يومَي 9 و10 ديسمبر 1831 نيران المدفعية؛ فأصيب بعض السفن المصرية، التي عادت إلى الإسكندرية، للإصلاح. وانقضت ثلاثة أشهر، والقوات المصرية عاجزة عن اقتحام المدينة، التي تحميها قوة، تناهز ثلاثة آلاف مقاتل؛ إضافة إلى عدة آلاف أخرى، من سكان عكا، الذين سُلِّحوا لمقاومة الجيش المصري.

شدد إبراهيم باشا حصار عكا، براً وبحراً. وساعده على ذلك العرب والدروز والموارنة. وما لبث أن ضرب سورها بالمدفعية؛ فتصدع، وفتحت فيه ثغرتان كبيرتان، وثالثة صغيرة. فقرر الهجوم على المدينة، في 27 مايو 1832. وسرعان ما استولى على الثُغَر الثلاث. وبعد أن فقدت الحامية معظم رجالها، طلب عبدالله باشا الجزار التسليم. فقابله القائد المصري بالتكريم. ثم أرسله إلى الإسكندرية، حيث كرمه محمد علي، واختصه بقصر لسكنه. وغنم الجيش المصري، من داخل عكا، الكثير من المؤن والأسلحة والمدافع. وقُتل من المدافعين عنها نحو 5600 قتيل، من أصل ستة آلاف مقاتل. وقاربت خسائر الجيش المصري، في الحصار والهجوم، 4500 قتيل بخلاف الجرحى.

2. احتلال دمشق

عَجِلَ إبراهيم باشا، بعد الاستيلاء على عكا، إلى تحصينها. وعيَّن لها حامية وأناب عنه في إدارة شؤونها رئيس ديوانه، نجيب أفندي. ووزع المدافع في حيفا، وغيرها من المدن الساحلية. وما إن دعمه  محمد علي بالإمداد والمؤن والقوات المدربة، حتى عزم على التقدم إلى دمشق.

غادر إبراهيم باشا يكن عكا، في 9 يونيه 1832، في جيش مؤلف من 18 ألف مقاتل، منهم تسعة آلاف من القوات النظامية، وتسعة آلاف من العربان المصريين والبدو السوريين والدروز، ومعهم أربعة وعشرون مدفعاً. وفي 15 يونيه، خرج لمواجهته علوي باشا، والي دمشق؛ وجمهور الدمشقيين. تصادمت القوتان، خارج المدينة، فانهزم العثمانيون، وفروا إلى حمص. وخرج وفد من أعيان دمشق، وقدموا طاعتهم للقائد الظافر؛ فدخلها، في 16 يونيه. وأقام بها ثمانية عشر يوماً. ورتب فيها الإدارة، على نظام جديد. وأنشأ ديواناً مؤلفاً من عشرين عضواً، أسماه: "ديوان المشورة"؛ يختص بنظر دعاوى الرعية والحكومة. ونصّب حاكماً على المدينة. وعيَّن لها حامية، من المشاة والفرسان.

3. موقعة حمص

دفع حسين باشا، قائد الجيش العثماني، 25 ألف جندي، بقيادة محمد باشا؛ للدفاع عن حمص. وبقي هو وسائر جيشه على مقربة من إنطاكية. فانتهز إبراهيم باشا تجزئة الجيش العثماني، وقرر أن يتخلص من قوة محمد باشا أولاً. وبادر إلى ضم قوات عباس باشا المتمركزة في بعلبك؛ وقوات حسين باشا المناسترلي، المتمركزة في طرابلس؛ فناهزت حشوده 30 ألف مقاتل، توزعتهم سبعة آلايات مشاة، وستة آلايات فرسان؛ ومعهم ثمانية وثلاثون مدفعاً.

وصلت قوات محمد باشا، العثماني، إلى شمالي مدينة حمص، يوم 7 يوليه، وقد أرهقها السير الطويل. وعسكرت بشاطئ نهر العاصي. وقرر قائدها أن يدافع الجيش المصري عن المدينة؛ فنثر قواته، أمام المزارع، في ثلاثة صفوف.

استمرت معركة حمص نحو أربع ساعات. انتهت إلى استيلاء الجيش المصري على المدينة. وتكبد العثمانيون ألْفي قتيل وألفين وخمسمائة أسير. واستولى المصريون على 20 مدفعاً، وذخائر الجيش العثماني وأمتعته. وبلغت خسائر الجيش المصري مائة قتيل وقتيلَين، ومائة واثنَين وستين جريحاً. ودخل المصريون حمص، في يوليه 1832. وتراجع الجيش العثماني، صوب حلب وإنطاكية.

4. موقعة بيلان (يوليه 1832)

ارتدت قوات حسين باشا إلى حلب. ولكن أهلها رفضوا أن يمدوا الجيش العثماني بالمؤن والرجال؛ بل رفضوا دخوله إلى المدينة، سوى الجرحى والمرضى. وأغلقوا أبوابها. فاضطر إلى التراجع عنها، في 14 يوليه، قاصداً الإسكندرونة، حيث يرسو الأسطول العثماني. وقرر الدفاع عند مضيق بيلان، حيث تزيد حصانة الأرض من مناعة الموقع وصلاحيته للدفاع. أمّا إبراهيم باشا، فواصل تقدمه في اتجاه حلب، ووصلها، في 17 يوليه. وأقام بها مدة قصيرة، ريثما يستريح جنوده. وقصدته الوفود، من أورفا وديار بكر، تعلن خضوع المدينتَين.

وفي 30 يوليه 1832، تمكن إبراهيم باشا من احتلال بيلان. واتجهت الخيالة، بقيادة عباس باشا، إلى طريق الإسكندرونة، حيث عثروا على 14 مدفعاً، وكميات كبيرة من المؤن، تكفي لأربعة أشهر. وسرعان ما استولت القوات المصرية على الإسكندرونة، بعد أن غادرها الأسطول. وأسرت فيها ألْفاً وأربعمائة عثماني. وتسلمت إنطاكية. أمّا حسين باشا، فتراجع إلى أضنه، حيث لحقت به القوات المصرية، واحتلتها، في 31 يوليه. ثم احتلت طرسوس. كما أرسل إبراهيم باشا قوة إلى أورفا، وقوة من الفرسان لمراقبة أرضروم. وأصدر محمد علي أوامره إلى إبراهيم باشا بالتوقف عن التقدم؛ آملاً أن ينال هدفه، من طريق تدخّل الدول. ولكن القائد الميداني، لم يرغب في هذا التوقف، إذ آنس هزيمة الجيش العثماني، وفرض الشروط على الدولة العثمانية.

5. معركة قونية

جهَّز السلطان العثماني، محمود، جيشاً قوامه 53 ألف مقاتل. وعهد بقيادته إلى الصدر الأعظم، محمد رشيد باشا، الذي كان قد شارك إبراهيم باشا في حرب الموره. أمّا هذا، فقد كان مصمماً على اجتياز جبال طوروس، والهجوم على الجيش العثماني والقضاء عليه. وكان جيشه طاول، في أوائل أكتوبر 1832، 50 ألفاً، تتوزعهم عشر آلايات مشاة، وأثنا عشر آلاي خيالة. وقد حشده في أضنه. وفي الجهة المقابلة الجيش العثماني الجديد، الذي لم يكن قد اكتمل تنظيمه وتدريبه بعد.

وفي 23 أكتوبر 1832، عَبَر القائد المصري جبال طوروس، حيث وصل إلى زانيب. ثم احتل أركلي، في 25 أكتوبر، بعد أن غادرها العثمانيون. ثم توقف، ثلاثة أسابيع؛ انتظاراً لموافقة أبيه على التقدم، داخل الأناضول، أيْ في قلب الدولة العثمانية.

جاءته الموافقة، في 13 نوفمبر؛ على ألا يتجاوز قونية. فتقدم، في محورَين، التقيا، في 17 نوفمبر، عند شوميره، حيث علم إبراهيم باشا، أن العثمانيين قد أخلوا قونية؛ فأسرع إلى احتلالها، في اليوم نفسه. وأخذ يُعِد العدة لملاقاة الجيش العثماني، في هذه المنطقة، حيث حشد قواته، وأجرى العديد من المناورات، في المواقع، التي توقع نشوب المعارك فيها.

وعند ظهر 18 ديسمبر 1832، بدأت المعركة. واستغل إبراهيم باشا ثغرة في صفوف القوات العثمانية، وعَجِلَ إلى اختراقها. عمد الجيش العثماني إلى الهجوم المضاد. ولكنه هُزم، وتشتت في الجبال. فانتهت معركة قونية، بعد قتال، استمر سبع ساعات. ولم تزد خسائر الجيش المصري، في تلك المعركة، على 262 قتيلاً، و530 جريحاً. أمّا الجيش العثماني، فقد أُسِر قائده، ونحو ستة آلاف من ضباطه وجنوده. وقُتل منه نحو ثلاثة آلاف جندي. واستولى المصريون على 46 مدفعاً. وأصبح الطريق إلى الآستانة مفتوحاً، دون عوائق، أمام جيش إبراهيم باشا.

6. اتفاق كوتاهية

أثار تقدم القوات المصرية في الأناضول مخاوف الدول الأوروبية الكبرى؛ إذ إن انبعاث قوة جديدة، سوف يخلّ بميزان القوى الدولي، لغير مصالحها. بيد أنها ارتأت استمرار الحرب بين الطرفَين؛ لأن ذلك سيضعفهما؛ شريطة ألاّ يسمح ذلك بتفوق الجيش المصري؛ لأن ذلك من شأنه أن يخلق قوة جديدة، تؤثر في التوازن الإستراتيجي في المنطقة؛ ومن ثَم، في مصالح القوى الدولية فيها.

سخّرت فرنسا علاقاتها الودية بمحمد علي لإقناعه بتسوية الخلاف بينه وبين السلطان؛ وفى الوقت نفسه، منع التدخل الروسي في هذه الحرب. كما استحسنت بريطانيا الشروط المعروضة على والي مصر، ما دامت تحرمه دمشق وحلب، أيْ الطريق إلى العراق. ولا شك أن الدول الأوروبية، كانت على استعداد للتدخل العسكري، إذا لزم الأمر؛ لمنع انهيار السلطنة العثمانية.

لقد اطمأن العثمانيون إلى حماية روسيا: البحرية والبرية، من خلال رُسُوّ أسطول روسي في ميناء البوسفور، في فبراير 1833؛ إضافة إلى 12 ألف جندي. كما وصل إلى إبراهيم باشا، في كوتاهية، ثلاثة رسل، من الآستانة: رسول الباب العالي، رشيد بك؛ ورسول الجنرال مورافييف، ورسول الأميرال روسان، من فرنسا. واتفق محمد علي مع خليل رفعت باشا على شروط الاتفاق، التي تتركز في إعطاء والي مصر ولاية سورية وأضنه. واتفق على الصلح، في 8 أبريل 1833، وهو المعروف باسم: "اتفاق كوتاهية". وفى 6 مايو 1833، أصدر السلطان العثماني فرماناً، أعلن فيه تثبيت محمد علي باشا على مصر وكريت، وإسناد ولاية سورية إليه؛ وتحديد ولاية إبراهيم باشا على جدة، مع مشيخة الحرم المكي، أيْ إسناد إدارة الحجاز إليه، وتمكينه من إدارة إقليم أضنه.

7. نتائج حرب الشام والأناضول

اختتم حرب الشام والأناضول اتفاق كوتاهية، الذي يسميه البعض: هدنة مسلحة؛ وإنه لكذلك. فهو لم ينهِ خلاف الطرفَين، ولم يحقق أهدافهما. فمحمد علي، لم ينجز طموحه إلى الاستقلال بمصر أولاً، وتوسيع ملكه ثانياً؛ وإن خطا خطوة في سبيل ذلك، وهي تثبيته في ولاية مصر وكريت؛ وخطوة في توسيع ملكه، بإسناد ولاية سورية إليه، وتمكينه من تحصيل أموال الجباية في إقليم أضنه. إذاً، ليس غريباً أن يعاود السعي إلى تحقيق أهدافه، ويحاول الحصول على ما لم يستطع الفوز به.

أمّا الدولة العثمانية، فلم توقع الاتفاق إلا مضطرة، إذ أجبرتها على ذلك حاجتها الشديدة إلى مدة، تلتقط فيها أنفاسها، بعد أن فقدت جيشها، وأصبح الطريق إلى الآستانة خالياً من أيّ مقاومات.

كانت حرب الشام والأناضول تهديداً مخطراً لتوازن القوى الأوروبية؛ إذ إن السلطنة العثمانية، على ما ينتابها من ضعف عام واضمحلال، كانت أحد عوامل الاتزان بين تلك القوى. فإذا سيطرت إحداها على تلك المنطقة، اختل التوازن بين الدول الأوروبية الكبرى. كما أنه إذا ما حلت قوة جديدة في المنطقة محل السلطنة المتهالكة، فإن ميزان القوى سوف يضطرب بشدة. وعلى ذلك، فإن الدول الأوروبية، رأت، كلّ على حدة، أن تراقب الموقف، آملة أن يستنزف الصراع طاقة السلطنة العثمانية ومحمد علي معاً. ولكن، حينما لاح احتمال انهيار السلطنة، أصبح الأمر منذراً بحدوث خلل في التوازن الدولي.

لقد ترجّح الميزان، إثر سماح الدولة العثمانية لروسيا بالدفاع عنها وحمايتها؛ ما أثار حفيظة كلّ من فرنسا وبريطانيا، وعملتا على وقف تقدم محمد علي، مرحلياً؛ لوضع حدّ للتدخل الروسي في السلطنة. وأصبح انبثاق قوة جديدة، في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، يمثل مصدر القلق الرئيسي لبريطانيا خاصة؛ لتهديده خطوط مواصلاتها.

لئن تجشم الشعب المصري خسائر في الأرواح والأموال، في سبيل محاولات محمد علي تحقيق أهدافه وأطماعه، فإن ذلك مهد لنمو قدرة مصر الذاتية؛ إضافة إلى تطور، في كلّ المجالات: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كان القصد الوحيد لمحمد علي منه هو بناء قوة عسكرية، تستطيع تحقيق طموحاته الشخصية. فقد أيقن أنه في سبيل بناء هذه القوة، لا بدّ من نظام متكامل، يغذيها، ويطورها، من خلال المصانع المختلفة، المنتجة لما تتطلبه القوات العسكرية، من أسلحة ومعدات وذخائر.

8. معركة نصيبين وتأثيرها في حكم محمد علي

أُرغمت الدولة العثمانية على قبول اتفاق كوتاهية، علّها تتدارك وضْعها، وتعيد بناء جيشها، بعد هزائمه المتلاحقة، أمام جيش إبراهيم باشا. وفى الوقت نفسه، عقدت مع روسيا في 8 يوليه 1833، معاهدة، عرفت بمعاهدة "هندكار إسكله سي". نصت على أن تساعد كلّ دولة الدولة الأخرى، إذا استهدفها خطر خارجي، أو داخلي؛ أن تأذن الآستانة للأسطول الروسي بالعبور من البحر الأسود إلى البحر الأبيض المتوسط. كما أعاد العثمانيون بناء قدراتهم العسكرية. وحشدوا، منذ عام 1834، في سيواي، وملطية جيشاً، تحت قيادة رشيد باشا، الذي كان قد أُسر في موقعة قونية، ثم توفي عام 1836، مخلفاً محمد حافظ باشا في قيادة الجيش.

ولم يحقق محمد علي أهدافه، بقبوله اتفاق كوتاهية. فهو كان يطمح إلى الاستقلال بمصر، وأن تصبح إمبراطورية، ترث الدولة العثمانية. وقد اضطر إلى قبوله، بعد أن ظهر استعداد الدول الأوروبية للتدخل العسكري، للحؤول دون مطمعه. فلقد رسا أسطول روسي في مياه البوسفور. ووطئ الجنود الروس الشواطئ العثمانية الآسيوية. كما أن السفير الفرنسي في الآستانة، أرسل برسالة إلى محمد علي باشا مصر، ينذره بأن الأسطولَين: الروسي والإنجليزي، سوف يحضران إلى سواحل مصر، إن هو بقي متمسكا ًبمطالبه. وما إقرار محمد علي بالاتفاق إلاّ امتصاص للتهديد المحدق به، ولو مدة قصيرة، قد تتغير خلالها الظروف. وفي عام 1834، صارح وكلاء الدول في مصر بعزمه إعلان الاستقلال، فَكَبُر عليهم ذلك، وحذروه عاقبة عزمه.

أ. تطور الأحداث

فى مايو 1838، استدعى محمد علي وكلاء الدول في مصر، وكرر لهم عزمه على إعلان الاستقلال. وقد خوّفوه مغبة طموحه. ومن ثَم، انحسرت مطامعه، لتقتصر على وراثة أسْرته حكم مصر. وكانت بريطانيا قد عقدت، في عام 1838، اتفاقية تجارية مع الدولة العثمانية، نصت على إلغاء الاستئثار، في جميع أنحاء الدولة العلية؛ وكان محمد علي يستأثر بالتجارة والصناعة في مصر.

وبين 23 أبريل و21 مايو، عبرت القوات العثمانية، المتمركزة في بيرة جك، على الضفة الشرقية لنهر الفرات، إلى نصيبين، على ضفته الغربية، حيث تمركز ثلاثة آلايات، وبدأوا بحفر الخنادق.

وما إن علم إبراهيم باشا بعبور تلك القوات، حتى استمد والده إمدادات جديدة، واستوضحه الموقف، إذا عمد العثمانيون إلى الهجوم. فما كان من الأب إلاّ أن حشد 60 ألف جندي نظامي؛ وثمانية آلاف جندي غير نظامي، معظمهم من الخيالة؛ و25 ألف بدوي؛، وألحق بهم، بعد ذلك، 16 ألف ماروني، من لبنان؛ إضافة إلى المؤن والذخائر. وعهد إلى أحمد باشا المتكلي، ناظر الجهادية، بأن يلحق بإبراهيم باشا، في الشام.

أمّا الجيش العثماني، فكان قوامِه 38 ألف مقاتل، توزعهم 17 آلاي مشاة، منها ثمانية آلايات من قوات الاحتياطي، وتسعة آلايات من الخيالة، علاوة على 140 مدنياً. عمد إبراهيم باشا إلى حشد قواه، شمال حلب، بنحو 80 كم. كما خصص قوة، من عرب الهنادي، قِوامها 18 آلاياً من المشاة، و120 مدفعاً، تحت قيادة سليمان باشا الفرنساوي، لمراقبة تحركات القوات العثمانية وأنشطتها القتالية.

وبادرت القوات العثمانية إلى الانتشار في ما بين نهرَي الفرات وساجور. واحتلت مدينة مزار، إلى الغرب من نصيبين، ما بين "بيره جك" و"عينتاب". واضطرت القوة المتقدمة، من عرب الهنادي إلى التراجع، بعد عبور تلك القوات نهر ساجور، وقتلت، وأسرت بعض أولئك العرب.

لم ينتظر إبراهيم باشا رد أبيه، بل انطلق، في 29 مايو، من حلب، ومعه سبعة آلايات خيالة، و11 بطارية مدفعية؛ لاستعادة المنطقة، التي احتلتها القوات العثمانية. إلا أن العثمانيين كانوا قد أخلوها، قبل وصول المصريين إليها. وفي 25 يونيه، استدعى إبراهيم باشا حامية "عينتاب"، عدا كتيبة واحدة، لحماية قلعتها؛ ما لبثت أن استسلمت، بعد أيام، للقوات العثمانية. وقد أججت هذه الاحتكاكات الموقف؛ ما سمح للقائد المصري، بعد موافقة أبيه، بقتال العثمانيين.

ب. معركة نصيبين

نَيَّف الجيش المصري، في معركة نصيبين، على 40 ألف جندي، بل 50 ألفاً، وفق مراجع أخرى؛ انتظموا في 14 آلاي مشاة، وثمانية آلايات خيالة، ومعهم 62 مدفعاً. أمّا الجيش العثماني، فبلغ 38 ألف مقاتل، توزَّعهم 17 آلاي مشاة، وتسعة آلايات خيالة، ومعهم 140 مدفعاً؛ ورافقهم ضباط ألمان، وعلى رأسهم البارون دي مولكه، تولوا تحصين المواقع الدفاعية العثمانية، حول نصيبين.

اختص إبراهيم باشا بهجومه الجناح الأيسر. وتجنَّب النيران العثمانية بتسيير قواته في طريق بعيد عن المواقع العثمانية، أيْ في اتجاه "بيرة جك"، ثم يلتف نصف لفة، ثم نصف لفة أخرى؛ لكي يكون في وضع الهجوم، حيث ميمنته هي أقرب إلى ميسرة الجيش العثماني؛ والقلب والميسرة المصريان بعيدان عن القلب والميمنة العثمانيَّين. وجعل ستة آلايات خيالة في الأمام، وآلايّي خيالة الحرس في حراسة المؤخرة، وبطاريات المدفعية في الخلف. ويسير آلاي مشاة الحرس أمام حرس المؤخرة، وخلف بطاريات المدفعية.

في نهاية 24 يونيه 1839، بدأت القيادة العثمانية تحرك بعض قواتها من الميمنة إلى الميسرة. كما قرب الاحتياطي من الميسرة؛ وهو يتكون من الخيالة والمدفعية. وبدأ القتال بتراشق مدفعي، استمر نحو ساعة ونصف. وأسفر عنه انفجاران في عربات ذخيرة الجيش العثماني، رَبَكَا صفوفه.

وأمر سليمان باشا الفرنساوي قسماً من مشاة الصفَّين: الأول والثاني، بالتقدم، ومعهم المدفعية ذات العيار الكبير. وفي الوقت نفسه، أُمِر أربعة آلايات خيالة، وآلاي مشاة حرس، وآلاي مشاة، ومعهم أربع بطاريات مدفعية، بالالتفاف على الميسرة العثمانية. فتمكنوا من الوصول إلى شرق نصيبين، حيث بدأ الآلاي الأول خيالة بالهجوم؛ إلا أنه قوبل بنيران كثيفة، أجبرته على الارتداد. فدُفع الآلاي الثاني الخيالة إلى معاونته. ومع وصول إمدادات الذخائر للمدفعية، عاودت فتح نيرانها الشديدة على الميسرة العثمانية؛ ما سهل معاودة الهجوم المصري.

ما إن واجه آلاي خيالة الحرس والآلاي الثاني خيالة خيالة العثمانيين، حتى فرّ هؤلاء، ليفرّ، في إثرهم، سائر القوات العثمانية؛ تاركة سلاحها وذخائرها، وكلّ عتادها ومؤنها؛ بل إن حافظ باشا، إلى ترك خيمته، بكلّ ما تحتويه، من أوراق ووثائق.

ناهزت خسائر العثمانيين، في معركة نصيبين، أربعة آلاف قتيل وجريح، وما بين 12 و15 ألف أسير. واستولى الجيش المصري على نحو 20 ألف بندقية، و 44 مدفعاً؛ إضافة إلى ستة ملايين فرنك. أمّا الجيش المصري، فقاربت خسائره أربعة آلاف قتيل وجريح.

استمرت معركة نصيبين ساعتَين. انتصر فيها الجيش المصري، الذي تابع تقدمه، بعدها، فاحتل "بيره جك"، على ضفة نهر الفرات، في 26 يونيه. وفى صباح 28 منه، دخل "عينتاب". وفي مساء 29 الشهر عينه، استولى على "أنيجاسويو".

وفي الأول من يوليه 1839، توفي السلطان محمود، وخلفه السلطان عبدالمجيد، ولمّا يتجاوز السابعة عشرة. وبادر إلى تعيين خسرو باشا في منصب الصدر الأعظم. وفي الوقت نفسه، عمد الأسطول العثماني، بقيادة أحمد باشا فوزي، إلى تسليم نفسه، في 14 يوليه، بالإسكندرية. وكان مؤلفاً من تسع بوارج كبيرة، و11 سفينة من نوع الفرقاطة، وخمس سفن من نوع كورفت.

9. حدود الدولة المصرية ومعاركها، في عهد محمد علي (اُنظر خريطة حدود الدولة المصرية ومعاركها، في عهد محمد علي)

ثالثاً: التسوية الدولية للمسألة المصرية

استمسكت إنجلترا بالمحافظة على سلامة الدولة العثمانية. وأصرت على رد القوة المصرية إلى داخل بلادها. وسعت إلى تأليب الدول الأوروبية الكبرى على محمد علي؛ فأصبح الخلاف بينه وبين السلطان العثماني مسألة أوروبية، تحالفت فيها تلك الدول على مصر، وخاصة بعد حرب الشام الثانية، وهزيمة الجيش العثماني في نصيبين، وانحياز الأسطول العثماني إلى الجبهة المصرية.

وحاولت فرنسا مساعدة محمد علي، بتسوية الخلاف بينه وبين السلطان مباشرة، من دون تدخُّل دول أوروبا. وأوشكت أن تنجح، لولا انضمام روسيا إلى الدول، التي ألبتها بريطانيا على الوالي المصري؛ وإرسال تلك الدول، مجتمعة، مذكرة مشتركة إلى الباب العالي، تطلب إليه ألاّّ يعقد أيّ اتفاق مع محمد علي، من دون مشاركتها. وهكذا حالت تلك الدول دون اتفاق مباشر بين الطرفَين. ثُم وقعت معاهدة لندن، في يوليه 1840؛ فكانت خطوة أولى في التسوية الدولية للمسألة المصرية.

1. عُرفت المعاهدة باسم: "وفاق لندن"، الذي أبرم في 15 يوليه 1840، بين الدولة العثمانية من جهة، وكلّ من بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا، من جهة أخرى. وأعلن، في مقدمته، أن الغرض من عقده هو المحافظة على استقلال الدولة العثمانية وسلامة أراضيها. ونص على توارث أسْرة محمد علي حكم مصر؛ وقصْر حكم جنوب الشام على الوالي المصري فقط، دون أسْرته. وإذا لم يقبَل ذلك، خلال عشرة أيام، نزع منه جنوب الشام. وإن استمر في عدم قبوله مدة عشرة أيام أخرى، نزعت منه مصر. وستساعد تلك الدول الباب العالي على إخضاعه (اُنظر ملحق أبرز شروط معاهدة لندن عام1840).

وألحق بالمعاهدة "عقد مفرد". نص على أن المعاهدات والقوانين، الجاري العمل بها في الدولة العثمانية، يجب أن تسري في باشوية مصر. كما وعد الباب العالي بعرض شروط معاهدة لندن على محمد علي، من أجل الصلح. جوهر المعاهدة، إذاً، كان الإقرار بتوارث أسْرة الباشا حكم مصر، شريطة أن تبقى ولاية عثمانية.

رفض محمد علي تلك المعاهدة؛ آملاً أن يتفكك التحالف الأوروبي، ومعتمداً على مساعدة فرنسا. لكن هذه الدولة لم تنجده. كذلك لم تفلح محاولته مفاوضة الباب العالي، في مبدأ الأمر، في أساس الحكم الوراثي في مصر، وحكم الشام كلّه، طيلة حياته. وأدى تخلي فرنسا عنه إلى تزعزع جيشه في الشام؛ نتيجة تدخُّل أساطيل الحلفاء وقواتهم، وثورات الأهالي.

ولم يزحزح محمد علي عن تصلبه إلا تهديد، تلقاه من أسطول إنجليزي، يحاصر الشواطئ المصرية. فأصبح الباشا أميل إلى الصلح. ولم يتردد في مفاوضته قائد الأسطول، تشارلز نابير. وانتهى التفاوض إلى قبول الوالي حكم مصر الوراثي فقط. وكان السلطان قد أصدر فرماناً، في 14 سبتمبر 1840، يقضي بعزل محمد علي، لعدم قبوله شروط الصلح، خلال المدة المحددة. ولذلك، عمدت الدول الأربع، الموقعة المعاهدة، إلى التدخل لدى الباب العالي؛ وأرسلت إليه مذكرة، في 10 يناير 1841؛ للإقرار بتوارث أسْرة الباشا حكم مصر.

والحكم الوراثي، الذي نصت عليه المذكرة الآنفة، يستند إلى الوراثة الصليبية المباشرة، أيْ من الوالي إلى أكبر أبنائه. يضاف إلى ذلك، أن إعطاء محمد علي الحكم الوراثي في مصر، عَدَّتْه الدول المعنية منحة من الباب العالي، ولا تنتقص من السيادة العثمانية في تلك الولاية، ولا تلغي واجبات واليها؛ بصفته أحد رعايا السلطان العثماني، وحاكماً لإحدى مقاطعات الدولة.

وكان هناك رأي آخر في معاهدة لندن 1840، فحواه أنها استهدفت عزل مصر، والانفراد بها. وثمة معاهدة أخرى، في العام نفسه، وبالاسم عينه: "معاهدة لندن"؛ لتهدئة الأحوال في سورية. وكان إسهام آل روتشيلد في المعاهدتَين رئيسياً. وتنمّ الأحداث بأن المعاهدة، مهدت لهجرة يهودية واسعة إلى فلسطين، وأمعنت في الدعوة إليها، إذ كانت غايتها غير المباشرة هي وراثة ممتلكات الخلافة العثمانية، في الشرق.

لم يتقيد الباب العالي بنظام الوراثة الصليبية المباشرة. وأصدر فرمان 13 فبراير 1841، أورث محمد علي وذكور أسْرته حكم مصر؛ على أن يختار السلطان العثماني المتوارثين. وإذا انقرض ذكور الأسْرة الحاكمة، يختار هو كذلك للولاية من يشاء. ونص الفرمان على أن جعل الولاية وراثية منحة، تخضع لشروط الفرمان؛ فتبطل إذا أخل الولاة بتلك الشروط (اُنظر ملحق نص فرمان الباب العالي إلى محمد علي، عام 1841).

وأبلغ الباب العالي فرمان 13 فبراير 1841 إلى الدول المعنية. فردت عليه بمذكرة، أكدت تبعية مصر للسيادة العثمانية. وهذان الإبلاغ والرد جَعَلا الفرمان اتفاقاً دولياً. بيد أن محمد علي اعترض على القيود، التي فرضها الفرمان الآنف، والخاصة بترتيب الوراثة وتقدير الجزية. فتدخلت الدول الأوروبية لدى الباب العالي، لحل هذه المسألة؛ فأصدر فرمانَين: أحدهما في 23 مايو 1841، والآخر في الأول من يونيه.

نظم الفرمانان وراثة العرش. فحصراها في الأكبر فالأكبر من ذكور أسْرة محمد علي، أيْ أن السلطان، فقَد حق اختيار الوالي؛ وإن اشتُرط إصداره فرمان التقليد. من السلطان. وقد استُبقي سريان القوانين والعهود في مصر، كما تسري في بقية ولايات الدولة. وحُددت الجزية بمبلغ 400 ألف جنيه. وكان قد صدر، في 13 فبراير 1841، فرمان، يقلِّد محمد علي مقاطعات السودان وملحقاته، مدى الحياة، على أن تسري فيها كذلك القوانين العثمانية.

وهكذا نجحت الدول الأوروبية في تقرير مبدأ، يخدم مصالحها. فحواه أن تبقى مصر جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وتوريث حكمها لأسْرة محمد علي، مع المحافظة على سلامة الإمبراطورية. وبذلك، لا يختل التوازن الدولي، ولا يعكر الاستباق إلى تقسيم الدولة العثمانية سلام أوروبا، ولا تقوم في الشرق دولة قوية، تصد الأطماع الأوروبية.

يضاف إلى ذلك، أن الدول الأوروبية، قد اشتركت في تحديد الوضع النهائي لمصر، ذلك الوضع، الذي كفلته تسوية 1840 – 1841. وقد اكتسبت تلك التسوية صفة دولية ظاهرة. فتلك الدول فرضت معاهدة لندن، والعقد المفرد. ثم تدخلت في تحديد شروط فرمانات، التي أصدرها الباب العالي، لتنفيذ تلك المعاهدة المذكورة، وتحديد تفاصيل وضع مصر. وكانت الفرمانات الآنفة تبلغ إليها.

وبذلك، لا يمكن تعديل تلك التسوية، ولا إلغاؤها، إلا بموافقة الدول، الموقعة معاهدة لندن. وبقيت تلك المعاهدة هي الأساس، الذي يقوم عليه مركز مصر الدولي، حتى إعلان انتهاء الحماية البريطانية لها، عام 1914. وانتهى، قانوناً، بنزول تركيا عن سيادتها فيها، في مؤتمر لوزان، عام 1923.

خلاصة القول، أن تسوية 1840 – 1841، أعادت مصر إلى التبعية العثمانية، ووضعتها تحت وصاية دولية.

2. نقد تسوية 1840 – 1841

لم تضع تسوية 1840 – 1841 العلاقات بين مصر والدولة العثمانية على قواعد ثابتة؛ ذلك أن الدول الأوروبية، لم تتدخل في فرضها، خدمة لمصالحهما؛ وإنما خدمة لمصالحها هي، بالقضاء على قوة مصر النامية من جهة، والمحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية؛ تجنباً للمشاكل، التي قد تنشأ عن تفككها من جهة أخرى.

منحت التسوية مصر بعض دعائم الاستقلال واستقرار الحكم، ممثلة في الحكم الوراثي، والتصرف في بعض شؤون الإدارة، وفرض الضرائب والرسوم الجمركية، واعتماد الإصلاحات، وإنفاذ القوانين العثمانية إنفاذاً، يلائم ظروف البلاد، وممارسة شؤون الحكم الذاتي عموماً، واستبقاء قوة عسكرية على أُهْبتها.

ولكن التسوية، أبقت مصر مقاطعة عثمانية كسائر المقاطعات ومنعتها من إنشاء علاقات سياسية بالدول الأخرى، وعقد معاهدات منفردة معها. وقيدت سلطة واليها، إذ فرضت عليه قبول تنفيذ القوانين العثمانية، وما تبرمه السلطنة مع الدول الأخرى، من اتفاقات؛ إضافة إلى القيود، التي فرضت على قوة مصر العسكرية.

لم تقتصر التسوية، إذاً، على تقييد سلطة والي مصر؛ وإنما خولت الباب العالي التدخل في شؤونها، على إضرار هذا التدخل بتقدمها وبعلاقاتها بالدولة العثمانية. وكان ذلك التدخل حتمياً، إذ ستحين الفرص للحدّ من الامتيازات المصرية أو إلغائها، والعودة بمصر إلى وضعها القديم، ولاية من ولايات الإمبراطورية.

وطالما تسقَّط العثمانيون أسباب التدخل في مصر. فحاولوا ذلك، على عهد عباس حلمي الأول، في أزمة التنظيمات؛ وأيام سعيد، في أزمة قناة السويس؛ وزمن إسماعيل، في مواجهة أزمته المالية. وقد كافح ولاة مصر تلك المحاولات، وأحبطوها. وساعدهم على ذلك مواقف دول أوروبا، التي فرضت تسوية 1840 – 1841، وتدخُّلها للمحافظة عليها، في الأزمات بين الولاة والباب العالي.

لهذه الأسباب، نشط الولاة المصريون، بعد التسوية، في المحافظة على ما كسبته مصر، من امتيازات في الحكم الوراثي، والاستقلال الداخلي، والقضاء على خطر فقدان تلك الامتيازات. واهتموا بتثبيت دعائم الاستقرار، من خلال تعديل نظام الحكم الوراثي، واستبدال نظام فرمان 23 مايو 1841، بنظام الوراثة المباشرة أو الصليبية، من الأب إلى أكبر أبنائه؛ للحؤول دون المؤامرات، داخل الأسْرة الحاكمة؛ وحرمان العثمانيين ذرائع تدخُّلهم.

وعكف الولاة على توسيع نطاق الاستقلال الداخلي، بامتلاكهم حق عقد اتفاقات مع الدول، أيْ أنهم عملوا على ألاّ يبقى للدولة العثمانية سوى سيادة شرعية اسمية على مصر. وكانت تلك خطوة في الطريق إلى الانفصال من الآستانة، وخير وسيلة إلى منعها من التدخل في شؤون مصر. وقد نجح الولاة المصريون في استقلال مصر الداخلي. وفشلوا في استقلالها التام.

لقد رهنت التسوية مصر بوصاية دولية، شرطت على أيّ تغيير أساسي في وضعها موافقة الدول، الموقعة معاهدة لندن. وقد أسفر عن ذلك تغلغل النفوذ الأجنبي والمصالح الأجنبية في مصر. وأسهم في تفاقم التغلغل، أن التسوية نصت على أن تسري في الولاية المصرية كلّ المعاهدات والاتفاقيات، المبرمة بين الدول والباب العالي، ومنها معاهدة الامتيازات الأجنبية، السائدة في الدولة العثمانية؛ والمعاهدة التجارية، التي عقدت بين مصر وبريطانيا والباب العالي، عام 1838.

فقد أدت تلك الأخيرة إلى إلغاء نظام الاستئثار، الذي بدأه محمد علي، في مصر، وفتح أبوابها أمام متاجر أوروبا، التي كانت في حاجة إلى المواد الخام، وأسواق لتصريف منتجات ثورتها الصناعية. وقد أدى ذلك؛ إضافة إلى ضعف الولاة، بعد محمد علي، إلى تزايد امتيازات الأوروبيين، تحت نظام الامتيازات الأجنبية. وتوسعت تلك الامتيازات، نتيجة الأعداد المتزايدة من الأجانب، الذين أخذوا يتوافدون على مصر، بمساعدة قناصلهم.

وقاسى السودان مساوئ تلك التسوية. فقد ظل شطر الوادي الجنوبي مثل شطره الشمالي، مقاطعة من مقاطعات الدولة العثمانية، يسرى فيها ما يسرى في أنحاء السلطنة، من معاهدات، ومنها الامتيازات الأجنبية.

خلاصة القول، إن تسوية 1840- 1841 لم تضع حداً للصراع، بين ولاة مصر والباب العالي؛ وإنما أدت إلى استمراره. ومكنت التسوية الدولية الدول، التي فرضتها، من زيادة نفوذها في مصر والتدخل في شؤونها. وطالما تأزم الوضع بين الولاة المصريين وسلاطين الآستانة. وساعد توالي تلك الأزمات على تزايد النفوذ الأوروبي، واستشراء التدخل؛ بما انتهى إلى احتلال مصر.

رابعاً: تقييم حكم محمد علي

استولى محمد علي على حكم مصر، وهي في حالة من الخراب والفساد، سياسياً وتجارياً وزراعياً وأدبياً. فأصلح شؤونها. وتدبَّر أحوالها. ووضعها في مصافّ الدول الكبرى؛ حتى إن كاتباً من معاصريه، لقبه بمُوْجِد الديار المصرية، أيْ أوجدها من العدم.

إن أكبر أخطاء محمد علي هو حكمه الفردي المطلق، واستبداده بقراراته، وتحويله مساعديه ومستشاريه ونظامه الحاكم إلى منفذين. وأطلق عليه كتاب عصره: "المستبد العادل"؛ لتلافي مصطلح الحكم الاستبدادي، خوفاً من بطشه. زِد على أخطائه الفادحة حروبه الخارجية، التي انعكست، سلباً، على ازدهار الدولة.

1. الإصلاح الإداري

ألَّف محمد علي حكومة، شملت إدارات مختلفة. وأنشأ دواوين أو نظارات (وزارات).

قسم الدولة بين سبع مديريات، على رأس كلّ منها مدير. وكلّ مديرية مكونة من مراكز. والمديرون جميعاً عثمانيون. والمآمير مصريون.

كما نظم الشرطة. وعيَّن لكلّ مدينة "حكمداراً"، يأتمر له ضباط منتشرون فيها؛ لحفظ الأمن والنظام.

2. المالية

اعتمد إصلاحات عدة، لتوفير أموال، تفي بحاجة التنمية الداخلية، وبناء الجيش، والحروب الخارجية.

أ. الملكية

عهد إلى الدولة بالقيامة على أراضي المماليك واستغلالها، من دون إلغاء حق ملكيتهم. واستولى على معظم الأراضي الوقف. وحل محل الملتزمين.

كما وزّع بعض الأراضي على الفلاحين، بنظام رقبة حق الانتفاع (حرية الزراعة والتوريث). فأعطى كلاًّ منهم ثلاثة أو أربعة أو خمسة فدادين. وأعفى مشايخ البلاد من الضريبة.

ب. الضرائب

تكفلت الضرائب العقارية بنصف الدخل الحكومي، والضرائب الشخصية بسدسه، والباقي من رسوم التجارة، والماشية والقوارب والحاصلات والنخيل وغيرها.

3. ميزانية الدولة

ناهز دخْل الحكومة، عام 1821، المليون ومائتَي ألف جنيه؛ ما يعادل 36 مليون فرنك فرنسي. منها 30% دخل أرباح تجارية. والمنصرف من الميزانية نحو 70%. أمّا في عام 1833، فكان الدخل العام مليونَين ونصف المليون جنيه. صرف منه مليونا جنيه. أُنفق زهاء نصفهما على الجيش والبحرية والمباني الحربية. وفي عام 1838، بلغ الدخل 4.5 ملايين جنيه. أنفق منه 3.5 ملايين جنيه. وهو ما يشير إلى النمو الجمّ في ميزانية الدولة.

4. الجيش المصري

كان للجيش المصري أثر كبير في تكوين مصر الحديثة. واقترنت إصلاحات محمد علي، في جميع المجالات، ببناء الجيش المصري وتطويره؛ فأُنْشِئَت المدارس الحربية، والصناعات العسكرية؛ وأُعِدَّ القادة إعداداً جيداً.

ارتهن تجهيز الجيش وزيادة أعداده بالحروب الخارجية. فبلغ، عام 1826، إبان الحرب اليونانية، عشرة آلاف جندي؛ وعام 1832، 150 ألفاً؛ وعام 1838، 276 ألفاً، منهم 130 ألف جندي نظامي، و41 ألفاً قوى غير نظامية، و47 ألفاً من الحرس الأهليين، و15 ألفاً من عمال مصانع مدربين، و40 ألف جندي للقوات البحرية. وكان عدد سكان مصر، حينها، 5.532 ملايين نسمة.

5. البحرية المصرية

أنشأ محمد علي، عام 1829، ترسانة بحرية في الإسكندرية، لبناء السفن وإصلاحها. وأمكن إنزال سفينة ذات مائة مدفع إلى البحر، عام 1831. وكان أسطوله البحري، يضاهي أكبر أساطيل العالم.

6. الزراعة والأشغال العامة

اهتم محمد علي بالشؤون الزراعية. فاعتمد، أول مرة، نظام الري الدائم في مصر؛ لتصبح مساحة الأرض المزروعة أربعة ملايين فدان، عام 1840، بعد أن كانت مليونا، عام 1805.

واستجد محاصيل زراعية، كالقطن، الذي استقدمه من الهند، والتيل والقنب؛ لصنع حبال للأسطول. واستجلب عمالاً آسيويين، لزراعة الغابات، التي ستصنع السفن من خشبها. وشجع تربية دود القز؛ لإنتاج الحرير.

وأنشأ ترعة المحمودية، بين فرع رشيد والإسكندرية؛ لتنشيط حركة الزراعة والتجارة، في غياب وجود سكك حديدية، وأنشأ العديد من الجسور والقناطر والهواويس[1]، وكان أبرزها القناطر الخيرية، التي بدأ بإنشائها عام 1835، واكتملت في عصر سعيد باشا، عام 1861.

7. الصناعة

حرص محمد علي على إدخال الصناعات الكبرى إلى مصر. فأنشأ 15 معملاً لغزل القطن؛ و1200 نول نسيج، ناهز إنتاجها السنوي مليونَي قطعة. وكان معمل مالطة في بولاق هو الأكبر في القطر المصري. وانتشرت معامل المنسوجات الكتانية في الوجه البحري خاصة. وكانت تنتج، سنوياً، ثلاثة ملايين قطعة. وكان هناك العديد من المعامل الأخرى، للملابس الصوفية والجوخ وأغطية النوتية، والسكر، والصابون، ومعاصر الزيوت، ومعامل للبارود، وتحضير المواد الكيماوية، ومسابك للحديد، وأخرى للأسلحة، والمطبعة الأميرية.

وتدهورت جميع تلك الصناعات، بعد معاهدة لندن، عام 1840، التي كبحت مطامع والي مصر، وألجمت جيشه؛ إذ إن النشاط الصناعي، كان رهيناً بحاجة الجيش. وانعكس ذلك التدهور على اقتصاد الدولة برمَّته.

8. التجارة

اقترن النشاط التجاري بازدهار الدولة عامة. وكان الوالي هو التاجر الأول.

أسهمت الموانئ والطرق: البرية والنيلية، في الحركة التجارية. ويضاف إلى ذلك إسهام المباني والفنادق الفاخرة في جذب الأجانب، المسموح لهم بالعمل في القطر، حيث تعددت البيوتات الأوروبية العاملة، في القاهرة والإسكندرية.

9. التعليم والمعارف

عُني محمد علي بالتعليم. فابتعث البعثات إلى الخارج. واستقدم معلمين من أوروبا. واستحدث المدارس. ونظم التعليم العام. وبلغ عدد الطلاب المبتعثين إلى أوروبا، في عهده، 319 مصرياً. وأنفق عليهم 224 ألف جنيه.

كان في مصر، عام 1827، 60 مدرسة ابتدائية، ومدرستان تجهيزيتان، في القاهرة والإسكندرية، ومدارس خصوصية عالية، توزعت الطب، والهندسة، والطوبجية، والخيالة، والبيادة، والطب البيطري، والزراعة، والألسن، والموسيقا، والفنون، والصناعات.

وتكفّل والي مصر بكسوة عشرة آلاف تلميذ وطعامهم وسكنهم وتعليمهم؛ بل منحهم مرتبات شهرية لتشجيعهم.

استقصى محمد علي أسباب الحضارة. وأنشأ القصور والمتنزهات. ونظم التلغراف الهوائي، بين القاهرة والإسكندرية. وشجع دراسة الآثار. وأمر بمنع خروج العاديات المصرية، وأسس داراً لها. واهتم بالترجمة من العربية والتركية وإليهما.

10. الأعمال المعمارية

تخيَّر محمد علي نماذج معمارية جديدة، بل تحفاً، خالفت نظائرها في العصرَين: المملوكي والعثماني. وكان أساسها المباني الرومية. واستوفد زهاء 500 عامل بناء من أرمينيا، شاركوا في بناء المباني: المدنية والدينية والعامة، والمنشآت الاجتماعية وغيرها.

(اُنظر ملحق بيان الأعمال المعمارية لأسْرة محمد علي)

11. سياسة محمد علي الخارجية

طالما سعى محمد علي إلى الانفصال من الإمبراطورية العثمانية. ولئن خاب سعيه، فإنه فاز باستقلال داخلي لمصر، كاد يكون كاملاً. وضمن توارث حكمها لأسْرته. وهكذا كرّس دعائم استقلالها. واستقرت أمور الحكم؛ واستقرارها إيذان برقي أي دولة وتقدُّمها. وسيادة السلطان على القطر المصري، والتي أوشكت أن تكون اسمية، لم تمنع نشوء علاقات بين مصر ودول العالم الأخرى؛ وبذلك، أصبح لهذه الولاية كيانها الذاتي، في المجال الدولي؛ ووضعها المتميز عن ولايات الدولة العثمانية.

ولئن نُعي على محمد علي سياسته التوسعية، فإنه يُثْنَى على توحيده مصر والسودان؛ وبذلك أخذت وحدة وادي النيل شكلها الطبيعي، لمصلحة البلدَين. وضم السودان، كان هو المشروع الوحيد، الذي اعتمده الباشا من تلقاء نفسه، من دون طلب من السلطان، ولا تأثراً بعوامل خارجية، أيْ أنه كان استجابة لحاجة حقيقية، وإدراكاً فعلياً لضرورة توحيد شطرَي الوادي.

إن إمعان الباشا في سياسته الخارجية، طاح كثيراً من مكاسبه. نَعَمْ، إن السلطان هو من طلب إليه إخماد الثورة في شبه الجزيرة العربية، وهو الذي طلب إليه الاشتراك في حروب الموره؛ وكان يستجيب له مضطراً. ولكن التوسع في شبه جزيرة العرب، بعد ذلك، كان، أساساً، نتيجة لأطماع الباشا. وطلبه ولاية الشام، تعويضاً عن شبه جزيرة الموره، يوضح أطماعه كذلك.

لا، بل إن تلك السياسة التوسعية، ألقت به وبمصر إلى معارضة مباشرة لمصالح أوروبا، ومصادمة بعض دولها. فاستخفافه بالسلطان العثماني، واقتطاع بعض ولاياته وإخضاعها لحكم الوالي المصري، عارضت سياسة الأوروبيين ومحافظتهم على تكامل الدولة العثمانية. ناهيك من توسع الباشا في اتجاه الخليج العربي ووصول قواته إليه فعلاً، وتوسعه في اتجاه الجنوب، واقتراب قواته من عدن.

يضاف إلى ذلك استيلاؤه على الشام، ووصوله إلى أعالي الفرات؛ ما أوصله إلى الطريقَين الرئيسيَّين القديمَين للتجارة، بين أوروبا والشرق الأقصى: طريق الخليج العربي ونهر الفرات، وطريق البحر الأحمر ومصر؛ وجعله في وضع، يتيح له السيطرة عليهما. وهما الطريقان، اللذان كانت أوروبا تطمع في إعادة الحياة إليهما. وكانت بريطانيا هي صاحبة المصلحة الأساسية فيهما؛ إذ إنهما طريقان إلى إمبراطوريتها الكبرى، في أستراليا والهند. ولذلك، انبرت تتصدى لتهديد محمد علي، وتعمل للقضاء عليه.

آتتها الفرصة في الجولة الثانية من الصراع، بين الباشا والسلطان، في حرب الشام الثانية. وكانت غفلة محمد علي عن هذا الخطر، أو الاستخفاف به، عاملاً في ضياع كلّ أملاكه، خارج أفريقيا؛ وخضوعه لتسوية 1840 – 1841؛ وفرض وصاية دولية أوروبية على مصر، انتهت، في المدى البعيد، إلى الاحتلال البريطاني لتلك الولاية.



[1] الهويس: قنطرة على نهر أو ترعة، ذات حاجز آلي، يحجز الماء الأعلى عن الأدنى؛ حتى تنقل السفن من أحد الماءَيْن إلى الآخر (المعجم الوسيط).