إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / التاريخ السياسي المصري الحديث: حكم أسْرة محمد علي في مصر (1805 ـ 1952)






الاحتلال البريطاني لمصر
الحملة الفرنسية على مصر
حدود مصر في عهد إسماعيل
حدود الدولة المصرية ومعاركها



الفصل الأول

المبحث الرابع

عهدا توفيق وعباس حلمي الثاني

(1879 – 1914)

أَنِسَت المعارضة بخلع إسماعيل، وتولية توفيق، في 26 يونيه 1879، إذ كان الابن، الخلف، قد انضم إلى صفوفها، في أواخر عهد أبيه؛ وأبدى ميولاً، طمأنت إلى تمشيه مع مطالب الأمة. غير أن ظروف توليه، كانت أقوى منه فلم يكن ترحيب السلطان العثماني بعزل إسماعيل إلا تمهيداً للتدخل في شؤون مصر؛ واسترداد الامتيازات، التي منحها إياها فرمان 1873. ولكن إنجلترا وفرنسا، أحبطتا مسعاه، إذ تشبثتا باحتفاظ الخديوية المصرية بحقوقها كافة، التي اكتسبتها، في عهد إسماعيل. وسرعان ما انكشف توفيق، إنه ضعيف الرأي، متردد، قليل الشجاعة والحزم.

أولاً: عهد الخديوي توفيق باشا

1. ضعفٌ وترددٌ وتناقضٌ

استشعر الخديوي توفيق الخوف من النفوذ الأوروبي، منذ بداية حكمه؛ إذ إن خلع والده، أفهمه أن خير وسيلة إلى المحافظة على عرشه، هي التمشي مع مطالب إنجلترا وفرنسا؛ فضلاً عن أنه مدين لهما برفعه إلى هذه المكانة. ولم يكن مؤمناً بالنظام الدستوري، فأضمر الحكم المطلق. ومن ذلك تولدت، في عهده، الأزمات والمشاكل، التي جاوز خطرها وعقباها ما حدث في عهد أبيه، ولا سيما الاحتلال البريطاني، عام 1882.

وقد رأت إنجلترا وفرنسا، بعد أسبوع من توليه العرش، أن ينحي شريف باشا عن رئاسة الوزارة، ويقضي على الحياة النيابية، ويعيد نظام الإدارة الأوروبية. فاستقال رئيس الوزراء؛ ودفن مع استقالته مشروع "اللائحة الدستورية"، الذي طالما شُغل بإعداده. وعطلت الحياة النيابية. وطرد جمال الدين الأفغاني من مصر. وتولى الخديوي بنفسه رئاسة الوزارة. وأعيد الوزيران الأجنبيان، ليشغلا نظارتَي المالية والأشغال. وخُوِّلا سلطات واسعة في التفتيش. ولا يقال أيّ منهما إلا بإذن حكومته. وهكذا أصبحا الحاكمَين الفعليَّين في مصر.

اتسم الخديوي توفيق بالتردد والضعف، والتناقض وتقلّب الرأي؛ فلم يستطع أن يعالج الأزمات في مهدها بالحزم والشدة، ولا بالعدل ورفع المظالم، التي عاناها الضباط؛ بل كان يقابلهم تارة باللين، وطوراً بالشدة، وحيناً بالتراخي. لا، بل اتخذ بطانة من المنافقين، الذين أوقعوا بينه وبين الضباط.

وفي 17 يوليه 1880، صدر قانون "التصفية"، الذي قسم دخْل مصر قسمَين: أحدهما خاص بالديون، والآخر خاص بنفقات الحكومة المحلية. وأوضح موارد كلّ منهما.

2. وزارة رياض باشا والثورة العرابية

تولى رياض باشا الوزارة، بناءً على نصيحة فرنسا وبريطانيا. وأبدى ميلاً إلى الخضوع للنفوذ الأجنبي. وفي عهد وزارته، عُطلت الحياة النيابية، زهاء سنتَين. وكان ذلك سبباً من أسباب ثورة، عرفت باسم قائدها: أحمد عرابي، الذي اختير لتزعم الأمة، في ثورتها على السلطة الخديوية المتهاوية، والمستسلمة للنفوذ الأجنبي. والثورة العرابية هي أصدق تعبير عما يقاسيه المجتمع المصري، من ظلم، وحكم مطلق، وإرهاب. ولم تقتصر على العسكريين فقط؛ وإنما طاولت الشعب كذلك، فالتقى الجميع على مكافحة الحكم الخديوي المطلق، وتسلط بريطانيا وفرنسا.

3. أهم عوامل الثورة العرابية

بدأت بوادر الثورة العرابية، بعد سنتَين من تولي الخديوي توفيق الحكم، حين توافرت أسبابها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

أ. الأسباب السياسية

طالما تذمر المصريون على نظام الحكم القائم، ورغبوا في التخلص منه؛ لاضطهادهم والاستبداد بهم. فلا عدل، ولا قانون؛ وإنما ضرب بالسياط؛ لتحصيل الأموال، أو للقمع والتعذيب؛ على الرغم من أن رياض باشا أبطل استخدامها، إلاّ أن أوامره لم تنفذ تنفيذاً تاماً. وكانت السخرة مفروضة على البلاد. ولم تكن مقصورة على المنافع والأعمال العامة، بل تعدتها إلى استصلاح أطيان ذوي السلطة والجاه، من الحكام والأمراء.

وأدرك المصريون المثقفون، أن إصلاح النظام، يكون بوضع دستور، وإنشاء مجلس نيابي، يوطد مبادئ العدل والحرية، ويراقب الحكام، ويحول دون ارتكاب المظالم. وشاركهم في رؤيتهم الضباط الوطنيون.

سارع رياض باشا إلى معارضة إنشاء مجلس نواب. وانحاز انحيازاً تاماً إلى النفوذ الأوروبي. وأصر على قمع كلّ معارضيه، من صحفيين وأعيان. وعقدت الاجتماعات السرية في منزل محمد سلطان باشا؛ لتنظيم الحزب الوطني. وقويت الروابط بين منظميه، وفي مقدمتهم سلطان باشا وأحمد عرابي وعبدالعال حلمي وعلي فهمي ومحمود سامي البارودي.

ب. الأوضاع الاقتصادية

وهي من العوامل المباشرة في الثورة. تمثلت في ديون الخديوي إسماعيل المتراكمة. وتذرُّع النفوذ الأوروبي بحماية حقوق الأجانب امتيازاتهم. واستشراء ذلك النفوذ، وتدرُّجه من "لجنة صندوق الدين"، إلى "المراقبة الثنائية"، فإلى "وزيرَين أجنبيَّين" في الوزارة المصرية، ثم إعادة نظام المراقبة الثنائية، في عهد الخديوي توفيق؛ وصدور قانون "التصفية"، وإلغاء دين المقابلة، الذي آثار أعيان المصريين وكبار ملاّكهم.

يضاف إلى ذلك الضرائب الباهظة، التي كان يدفعها الفلاحون، لاستيفاء أقساط الديون؛ وسوء أوضاع الموظفين، من إنقاص رواتبهم وتأخر صرفها، وعدم مساواتهم بالموظفين الأوروبيين؛ وإنقاص عدد الجيش إلى 12 ألف جندي؛ لتوفير مال الديون. فالثورة العرابية، إذاً، كانت ثورة على التدخل الأجنبي في شؤون مصر، والذي بدأ بتدخل اقتصادي، ثم تحول إلى تدخل سياسي سافر؛ وهو ما كان يُعَد استهانة بالكرامة الوطنية. ولذلك، طالب عرابي بزيادة عديد الجيش، ليبلغ 18 ألفاً، وفقاً للفرمانات السلطانية؛ إيماناً منه ومن قادة الثورة، أنه لا بدّ من جيش قوي، لمواجهة إنجلترا وفرنسا.

ج. الأوضاع الاجتماعية

تأتَّى للثورة العرابية نظام تعليمي، وضعه محمد علي؛ وبعثات وحركة علمية، ازدهرت في عهد إسماعيل؛ وازدهار الأدب والشعر والخطب والصحافة. وأسهم في الثورة جمال الدين الأفغاني بدروسه، التي تهافتت عليها فئات كثيرة، ومتنوعة، من المصريين، إذ أَنِسوا إلى أسلوبه وطريقته في العرض. وكان من أشد الزعماء الدينيين مقاومة للاستبداد والتدخل الأجنبي في شؤون الشعوب: الشرقية والإسلامية.

انفجرت الثورة العرابية، وتأججت، بين عامَي 1881 و1882. ونجحت مظاهرة 9 سبتمبر 1881، في حمل الخديوي على عزل رياض باشا، وتأليف وزارة وطنية، برئاسة شريف باشا. ثم عزل عثمان رفقي، وإسناد نظارة الحربية إلى محمود سامي البارودي. إلا أن الثورة فشلت؛ واحتلت إنجلترا مصر، عام 1882.

4. أسباب فشل الثورة العرابية

أ. العامل الخارجي: يتمثل في التدخل الدولي والبريطاني. وهو العامل الرئيسي في إخفاق الثورة. فقد سال لعاب إنجلترا، منذ مدة طويلة، للسيطرة على وادي النيل. وبيتت الاستيلاء على مصر. مصداق ذلك المنافسة الشديدة، بينها وبين فرنسا، إثر حصول هذه على امتياز حفر قناة السويس؛ واستطراداً، علو مقام السياسة الفرنسية ونفوذها في مصر؛ وسعي لندن، لدى الباب العالي، إلى إلغاء ذلك الامتياز. وقد خاب سعيها. ولكنها اعتاضت عنه، عام 1875، بشراء نصيب مصر من أسهم القناة. ومنذ تلك اللحظة، تحولت السياسة الإنجليزية إزاء مصر، من المراقبة إلى التدخل. ومن ثَم، اختلقت الذرائع، في مؤتمر الآستانة، وضربت الإسكندرية. وادعت حماية الأجانب، فاحتلت مصر، عسكرياً، عام 1882.

ب. العامل الداخلي: يتمثل في عجز المجتمع المصري، بإمكانياته المحدودة، عن التصدي لأقوى دولة استعمارية، عرفها التاريخ. يضاف إلى ذلك انقسام قيادة الثورة بين "معتدلين" مدنيين، من أمثال محمد شريف؛ "وعسكريين"، من أنصار عرابي؛ وارتماء بعضهم في أحضان الخديوي، واستنجاد آخرين بالإنجليز؛ خشية الطرفَين من ضياع ممتلكاتهما.

وهكذا نجحت بريطانيا في احتلال مصر، التي أصبحت مستعمرة بريطانية؛ ولكنها ظلت تابعة، من الناحية الاسمية، للدولة العثمانية.

5. أحداث الثورة العرابية

أ. واقعة قصر النيل، أو فبراير1881

أسخط العسكريين المصريين القانون الخاص بعدم ترقية الضباط من تحت السلاح. فاجتمعوا في منزل أحمد عرابي[1]، حيث أعدوا عريضة، تضمنت مطالب متعددة: وطنية وعسكرية، حظيت كلّها بالموافقة. وأهمها: زيادة مرتبات الضباط والجنود؛ سن قانون جديد، يمثل حالات الترقي والتقاعد والمكافآت والإجازات؛ زيادة عدد الجيش العامل على 18 ألف جندي؛ إنشاء حصون جديدة، تكفي لحماية البلاد؛ إنشاء مجلس نيابي كامل.

ب. قِمة الثورة (9 سبتمبر 1881)

سطع نجم عرابي، بعد واقعة قصر النيل، التي أعادت الثقة إلى المصريين، وشجعت كثيراً منهم على الانضمام إلى الثورة. وما إن أحس عرابي، أن الجيش أصبح تحت سيطرته، وأنه يحظى بتأييد الأمة برمّتها، حتى طفق يخطط أمر الخديوي بنقل الفِرق العسكرية، الموالية لعرابي، من العاصمة. فاندفع، على رأس الجيش إلى "سراي عابدين"، في تظاهرة عسكرية؛ لإملاء إرادتهم على الخديوي، وفرض رغباتهم، بالقوة، على الحكومة.

احتشدت الفِرق العسكرية في ساحة "ميدان عابدين"، حيث نزل الخديوي، لمقابلة عرابي. وفي المقابلة التاريخية الشهيرة، قدِّمت طلبات الجيش والأمة إلى الوالي، الذي اضطر إلى الموافقة عليها. وعُهد برئاسة النظارة إلى شريف باشا.

وهكذا حققت الثورة أحد أهم أهدافها. وأُلفت نظارة وطنية، برئاسة شخصية، تتمتع باحترام الجميع، وتحترم الدستور، وتقدس النظام النيابي، ألا وهي شريف باشا. واستبشرت الأمة خيراً بزوال عهد الاستبداد، وبداية عصر الحرية.

وقد حظيت وزارة شريف باشا بترحيب المصريين، والأتراك القدامى، والقنصليتَين: الإنجليزية والفرنسية، وزعماء الجيش.

6. أهم إنجازات وزارة شريف باشا

حفلت وزارة شريف باشا الثالثة، على قِصر عمرها، بكثير من الأعمال الجليلة. فقد حرصت على منع التدخل الأجنبي؛ مع رغبتها في استمرار العلاقات الودية، بين مصر ومختلف دول العالم. أضف إلى ذلك الإصلاح الإداري، ورفع المظالم، وإطلاق مسجونين وعفو عن المبعدين. غير المذنبين. واعتزمت الحكومة إصلاح القوانين العسكرية، واستحداث أخرى، تلبي مطالب العرابيين بتحسين حالة الضباط والجنود. وطلب شريف باشا إقرار "قانون الإجازات العسكرية، وقانون تسوية حالة الضباط المحالين إلى الاستيداع، وقانون معاشات الجهادية: البرية والبحرية، وقانون القواعد الأساسية للترقي، وقانون الإعانات العسكرية".

سرعان ما صدرت مراسيم خديوية، استهدفت تحسين حالة الضباط والجنود، وكفالة حقوقهم في الترقيات والمرتبات؛ وتنظيم التعليم في المدارس الحربية.

بيد أن الأعيان، رغبوا عن استرضاء جيش، قِوامه فلاحون. وكذلك تنكّر قادة الجيش لأولئك الأعيان. ولا شك أن تناقض الطرفَين، أثر تأثيراً واضحاً في مسيرة الحركة الوطنية، وساعد على انشقاقهما.

7. أزمة يناير 1882

أعلنت فرنسا وبريطانيا عدم السماح بأيّ حركة، تغير حالة مصر السياسية، وأرسلتا مذكرة إلى الخديوي، في الثاني من يناير 1882، تتضمن اتفاقهما "على احتلال مصر، بقوات عسكرية مختلطة، عند الحاجة".

شكر الخديوي للدولتَين عزمهما على نصرته. ولكن المذكرة، أسخطت مجلس النواب. واستثارت الجيش. واجتمعوا في سراي قصر النيل، حيث أعلنوا ثورتهم على استزادتها من التدخل الأجنبي، وجعل مصر تحت الحماية الفرنسية ـ الإنجليزية. ولم يهدئهم إلا حضور ناظر الجهادية، محمود سامي؛ ففوضوا إليه الرأي.

واستُنكرت المذكرة استنكاراً عاماً. وأدرك قادة الحركة الوطنية، من العسكريين، أنها موجهة إليهم. وما لبثت إنجلترا وفرنسا أن طلبتا من شريف باشا، ألا يخول مجلس النواب حق تقرير الميزانية؛ فآذنتا بأزمة جديدة. فقد استقالت نظارة شريف باشا. وأُلِّفت نظارة جديدة، برئاسة محمود سامي البارودي، أحد أعضاء الثورة العرابية؛ ما يعني أن الثورة قد فرضت نفسها على النظام المصري، بل الخديوي نفسه.

لا ريب أن تأليف النظارة الجديدة انتصار مبين للثورة، وانهيار مهين للسلطة الخديوية؛ إذ إن الخديوي، لم يستشر في اختيار الوزراء الجدد؛ فسقطت هيبته تماماً. وسطع نجم عرابي، في أوروبا، عقب سقوط الوزارة، إذ تبين أن له النفوذ الفاعل في مجلس النواب.

وقد قوبلت وزارة البارودي، "وزارة العرابيين"، بالابتهاج العام، في مختلف الدوائر: العسكرية والمدنية. وزادها بهجة إسناد نظارة الحربية إلى عرابي. ورُقّي عرابي وأحمد عبدالعال إلى رتبة باشا (لواء). وأمكن التخلص من الضباط: الشراكسة والأتراك (600 ضابط) في وزارة الجهادية، بإحالتهم إلى المعاش، أو نقلهم إلى السودان؛ لتكون بذلك الجهادية وطنية خالصة.

وقد تعاونت الوزارة ومجلس شورى النواب والحزب الوطني المصري تعاوناً كاملاً. فتحققت عدة إصلاحات، مثل الاهتمام بالأوضاع الاقتصادية، وخاصة في مجالَي الزراعة والري؛ وتنظيم التجارة؛ وإصلاح القضاء؛ وجعل التعليم إلزامياً؛ وتنظيم الإعانات؛ وإقرار قانون انتخابي جديد، أكثر ديموقراطية.

سرعان ما بدأت المشاكل، بين الخديوي والنظار، ولا سيما الخلاف في شأن الضباط الشراكسة المتآمرين.

أرسلت إنجلترا وفرنسا أسطولَين، في 19 مايو 1882، إلى ميناء الإسكندرية، حيث أُنزلت عربة مدرعة بريطانية واثنتان فرنسيتان؛ ما أثار الشكوك في النيات الأجنبية. وبادرت الدولتان، في 25 مايو 1882، إلى إرسال مذكرة إلى الخديوي، تتضمن إقالة وزارة البارودي؛ وإبعاد عرابي خارج مصر؛ وإخراج علي فهمي وعبدالعال من العاصمة.

رفض النظار هذا الأمر. وعَدُّوْه تدخلاً أجنبياً. وأعلنوا استعدادهم للمقاومة.

عمد جماعة عرابي والقناصل في القاهرة إلى تداول المشكلة؛ حتى إنهم فكروا في خلع الخديوي، وتولية الأمير حليم باشا. ولكن توصية فرنسية، قطعت قول كلّ خطيب؛ فاستقالت بموجبها وزارة البارودي، في مايو 1882. وعُهد إلى شريف باشا بتأليف الوزارة الجديدة.

8. الاحتلال البريطاني لمصر (1882) (اُنظر خريطة الاحتلال البريطاني لمصر، عام 1882)

أ. مذبحة الإسكندرية (11 يونيه 1882)

بلبلت المصريين استقالة البارودي ونظارته. وأوجسوا شراً من الأسطولَين: الإنجليزي والفرنسي. أمّا الأجانب، فطفقوا يهاجرون من القاهرة والأقاليم إلى الإسكندرية، حيث يستظلون بحماية الأسطولَين. فغصت المدينة بهم. وكان احتشادهم باعثاً على تفاقم الهياج.

أمّا المذبحة، فكانت شرارتها شجاراً بين مصري وأحد المالطيين، من رعايا الإنجليز، انتهى إلى طعن المالطي خصمه طعنة قاتلة. فهرع رفاق القتيل إلى مكان الحادث، يريدون أن يمسكوا بالقاتل. ولكنه فر إلى أحد المنازل المجاورة. وما لبث الاصطدام بين المصريين والأجانب أن اتسع. وعاشت البلاد حالة من الفوضى والاضطراب، إذكاها عدم وجود حكومة. وسرعان ما أُلِّفت نظارة جديدة، هي نظارة راغب باشا. وفي غضون ذلك، سعت بريطانيا إلى حشد رأي عام عالمي، يسوغ احتلالها مصر؛ تمثل في:

ب. مؤتمر الآستانة

دعا دي فرسينيه، رئيس وزراء فرنسا، الدول الأوروبية الكبرى إلى عقد مؤتمر، للنظر في المسألة المصرية. ولبت الدعوة إنجلترا، وألمانيا، وروسيا، وإيطاليا، والنمسا. ولم تستجبها الدولة العثمانية. وأصدرت الدول المؤتمرة، في 23 يونيه 1882، ما يسمى: "ميثاق النزاهة". وفيه تتعهد الحكومات بأنها، في كلّ اتفاق على تسوية المسألة المصرية، لا تبحث عن احتلال أيّ جزء من أراضى مصر. ثم قرر المؤتمر، في جلسته الثالثة، في 27 يونيه؛ وقد انضمت إليه الدولة العثمانية، وجوب التدخل في البلاد، لإخماد الثورة. وهكذا شغلت إنجلترا الناس بالمؤتمر عن نياتها العدائية في الأراضي المصرية.

ج. ضرب الإسكندرية (11 يوليه 1882)

أوعزت إنجلترا إلى الأميرال سيمور، قائد الأسطول البريطاني، أن يستفز مصر؛ لتسويغ الحرب عليها. فتذرع بترميم المصريين بعض حصون الإسكندرية؛ وأنهم ينصبون بطاريات جديدة، في مواجهة بوارجه.

(1) في 9 يوليه، أعلن الإنجليز للخديوي عزم الأميرال البريطاني مباشرة القتال، صباح 11 يوليه. وألحوا عليه بمغادرة سراي رأس التين إلى سراي الرمل، ففعل. وفي 10 يوليه، أُخْلي رجال القنصلية الإنجليزية. وقطعت العلاقات الدبلوماسية. ومساء اليوم نفسه، تراجع الأسطول الفرنسي عن سواحل الإسكندرية؛ تاركاً سفينتَين فقط.

(2) في 11 يوليه، دك الأسطول الإنجليزي حصون الإسكندرية، بعد أن استماتت دونها القوات المصرية؛ إلا أنها اضطرت، في 13 يوليه، إلى إخلائها.

(3) في مساء اليوم عينه، عبث الرعاع بمدينة الإسكندرية، بتحريض من بعض الأطراف. فنهبوا، وسلبوا، وأحرقوا كلّ ما طالته أيديهم. ففر من المدينة سكانها.

(4) قُدرت الخسائر بستمائة مصري، وخمسة بريطانيين. زِد على ذلك مذابح أخرى، في طنطا وسمنود والمحلة الكبرى.

د. معارك كفر الدوار

بعد سيطرة القوات الإنجليزية على الإسكندرية، تحصنت قوات عرابي في كفر الدوار. وبادرت، في 5 أغسطس، إلى هجوم محدود على أطراف الإسكندرية؛ إلا أنها أُجبرت على التراجع إلى قواعدها.

بدأت المعارك، في 20 أغسطس. واستمرت ثلاثة أيام. وكانت الغلبة للإنجليز؛ لأنهم فاقوا العرابيين تدريباً وتسليحاً؛ لا، بل وصلتهم تعزيزات، في اليوم الثالث، غيرت الموازين. أمّا عرابي، فقد عمد إلى تحصين التل الكبير، في مديرية الشرقية.

هـ. المعارك في الجبهة الشرقية

حَسِب العرابيون، أن إنجلترا ستحترم حيدة قناة السويس؛ فتجنِّبها الأعمال الحربية. أمّا الخطة الإنجليزية، فارتأت أن يكون الهجوم الرئيسي من بورسعيد ـ الإسماعيلية، وليس الإسكندرية؛ لأن الزحف من الإسماعيلية إلى القاهرة هو أسهل من المرور عبر الدلتا.

وبدأت إنجلترا باحتلال بورسعيد والإسماعيلية، في 20 أغسطس 1882. وأمر الجنرال وولسلي قواد الفِرق بالاستعداد لمغادرة الإسكندرية. وأقلع الأسطول من المدينة، بقيادة الأميرال سيمور. ثم شرعت السفن الحربية الإنجليزية تقتحم قناة السويس. ونزلت كتيبة إلى بورسعيد، فاحتلتها. ثم احتلت القنطرة والإسماعيلية.

و. معركة التل الكبير (13 سبتمبر 1882) ودخول القاهرة

حفلت معركة التل الكبير بسلسلة مواجهات، انتهت إلى هزيمة الجيش المصري. بيد أنه لم يحدث قتال قتال؛ وإنما هو أشبه بمأساة. وما إن انتهت معركة التل الكبير، حتى بدأت القوات البريطانية تزحف إلى القاهرة، حيث احتلت ثكنتَي قصر النيل وعابدين. ودخل الجنرال وولسلي العاصمة في 15 سبتمبر؛ فأصبحت مصر تحت سيطرة الاحتلال البريطاني.

أُوْدع عرابي ومحمود سامي سجن العباسية. وحُشر الأسرى العرابيون في سجن الجهادية، في القلعة. أمّا عبدالله النديم، الملقب بخطيب العرابيين، فقد هرب إلى كفر الدوار، حيث اختفى، طيلة عشر سنوات، قبل أن يقبض عليه.

أُلِّفت في 28 سبتمبر 1882، لجنة لمحاكمة العرابيين؛ ترأسها إسماعيل باشا أيوب. وأصدرت أحكاماً مختلفة. شملت صرف العساكر، وتنظيم الجيش، ونفي أحمد عرابي وطلبة عصمت وعبدالعال حلمي ومحمود سامي وعلي فهمي ومحمود فهمي ويعقوب سامي. وقد نُفُوا، في 27 ديسمبر 1882، إلى جزيرة سيلان، حيث بقوا إلى أن صدر عفو خديوي بعودتهم، عام 1902.

أنعم الخديوي بالنيشان العثماني على 52 ضابطاً إنجليزياً. وأهدى القادة هدايا فاخرة، وأسلحة مرصعة بالجواهر والألماس، تقديراً لجهودهم في إخماد الثورة المصرية.

9. أسباب خيبة الثورة العرابية

عوامل شتى، خَيَّبت الثورة العرابية. لعل أبرزها هو التفاوت في ثورية جناحَيها: المدني والعسكري. فقد كان الأخير هو الأكثر اندفاعاً؛ ويُعْزَى ذلك إلى الجذور الاجتماعية الريفية لضباط الجيش المصري وجنوده الراغبين في التغيير الجذري لأوضاع المجتمع المصري, أمّا الجناح المدني، فينتمي إلى كبار ملاك الأراضي الزراعية. وهدفهم من الثورة تحقيق أكبر قدر من المشاركة في المؤسسات السياسية، لتحقيق مصالحهم؛ فاختلاف الجناحَين، إذاً، أمر طبيعي.

ومن عوامل الهزيمة، كذلك، إحجام عرابي عن سد قناة السويس؛ وضعف القوات المصرية، مقارنة بالقوات الإنجليزية؛ فضلاً عن الفارق الحضاري، بين مصر وإنجلترا، القوة الدولية الأولى، في القرن التاسع عشر، الراغبة في احتلال خصمها. واستطراداً، فإن الثورة العرابية، لم تكن هي سبب الاحتلال البريطاني؛ بل كان الاحتلال هدفاً بريطانياً، سيان قامت الثورة العرابية أمْ لم تقم؛ إذ إن لمصر أهمية كبيرة، بالنسبة إلى إنجلترا؛ إضافة إلى المصالح البريطانية فيها: السياسية والمالية.

10. وضع الاحتلال البريطاني في مصر

دخلت إنجلترا مصر، باسم حماية الخديوي والمصالح الأوروبية، وبذريعة سحق "عصيان عسكري"؛ مؤكدة للجميع أن الاحتلال مؤقت. ولم يَحُلْ احتلالَها دون إبقاء العلاقات الرسمية بين مصر والدولة العثمانية، ولا عدم المساس بالإدارات الدولية المختلفة، التي فرضت على البلاد. فقد اقتضى هذا الواقع المستجد، أن تنتقل السلطة العامة من والي مصر إلى ممثلي إنجلترا، وأن تسلك هذه الدولة في مصر مسلكاً، يوافق وضعها الجديد؛ إضافة إلى اهتمامها بإرضاء الدول والمصريين؛ مع استمساكها بالسلطة الحقيقية.

كان على بريطانيا رسم دعائم الحكم، وفقاً لِما تمليه الضرورات الآنفة؛ وانتهاج خطة إصلاحية وئيدة، لا حباً بالإصلاح، ولا شهامة ومروءة، كما يزعم مؤرخو الاستعمار البريطاني وفقهاؤه؛ وإنما توخت أمرَين: خدمة التجارة الإنجليزية، من خلال الاهتمام بالأحوال السياسية؛ وسيطرة الإمبراطورية البريطانية على أهم طريق إستراتيجي إلى مستعمراتها، في الشرق.

وحين دخل الإنجليز مصر، لم تكن فيها سلطة قوية. فالأوتوقراطية الخديوية، التي زعزها خلع الخديوي إسماعيل، قد حطمتها الثورة المصرية. والبرلمان المصري، ضعضعته مذكرة 6 يناير1882، التي قدمتها إنجلترا وفرنسا؛ مساندة للخديوي توفيق. أمّا الظروف العسكرية، المتمثلة في التدخل الأجنبي، والمراقبة الثنائية "الإنجليزية ـ الفرنسية"، التي هزمتها الثورة المصرية ـ قد قضى عليها انفراد إنجلترا بالعمل العسكري في مصر.

أ. تقرير دوفرين

أرسلت بريطانيا، في نوفمبر 1882، أحد خبرائها، اللورد دوفرين، إلى مصر؛ لدراسة أحوالها، والإشارة بوسائل تحسين شؤونها. وحاول التوفيق بين طول أجل سياسة الإصلاح والوعود بالجلاء القريب. ورأى، في تقرير، أرسله إلى لندن، في 6 فبراير 1883، القضاء على الثورة، من خلال محاكم ولجان تحقيق؛ وإعادة تكوين الجيش المصري، الذي سُرِّح بمرسوم خديوي؛ على ألاّ تضم صفوفه مَن سبق لهم الاشتراك في الثورة؛ وأن يوضع تحت قيادة إنجليزية[2].

كما أوصى بإنشاء شرطة، ترعى النظام في الأقاليم، تحت إشراف إنجليزي كذلك؛ وحل المراقبة الثنائية؛ وتعيين مستشار مالي إنجليزي يضطلع بالسلطات، التي كان يتولاها المراقبون؛ فيضع الميزانية، ويكون له حق حضور جلسات مجلس الوزراء[3]. وأشار بتعيين مستشار ومفتشين إنجليز في وزارة الأشغال، يشرفون على تحسين أحوال الري. ويضبطون موارد البلاد الأخرى؛ لزيادة قوّتها الإنتاجية؛ فتتمكن من الوفاء بديونها، من دون إثقال كاهل الأهالي بضرائب جديدة.

والقانون الأساسي، الصادر في الأول من مايو 1883، والذي أشرف دوفرين على وضعه، نص على ما يلي:

(1) إنشاء مجالس للمديريات، يراوح قِوام كلّ منها بين ثلاثة وثمانية أعضاء. يرأسهم المدير. ويختارون بالانتخاب المباشر. مهمتهم بحث الشؤون المحلية، كتعبيد الطرق، وشق القنوات، وإنشاء الأسواق.

(2) إنشاء مجلس تشريعي، يتكون من ثلاثين عضواً. تعين الحكومة 14 منهم، بمن فيهم الرئيس؛ وهم أعضاء دائمون. وتختار المجالس المحلية مثل هذا العدد، من بين أعضائها. وتنتخب القاهرة عضواً. وتتولى الإسكندرية، وبعض المدن الأخرى، التي تقلّ عنها أهمية، انتخاب العضو الثلاثين.

(3) إنشاء جمعية تشريعية، تتكون من 82 عضواً. هم: الوزراء الستة؛ وأعضاء المجلس التشريعي؛ وستة وأربعون نائباً، ينتخبهم السكان، شريطة ألاّ يقلّ النائب عن 20 سنة؛ إضافة إلى معرفته القراءة والكتابة، ودفعه ضريبة سنوية مباشرة، لا تقلّ عن 30 جنيهاً. ورُهن فرض أيّ ضريبة مباشرة جديدة بموافقة الجمعية، كما اشتُرطت استشارتها في القروض العامة، وحفر القنوات، ومد السكك الحديدية، وترتيب ضرائب الأراضي حسب أنواعها. وخولت الجمعية التعبير التلقائي عن رأيها في المسائل: الاقتصادية والإدارية والمالية.

ب. تشويه الجيش المصري

دخل الإنجليز البلاد، على وفاق بينهم وبين الخديوي توفيق. فألغوا الجيش المصري. ثم استبدلوا به جيشاً، ضباطه بريطانيون. ثم مسخوا المدرسة الحربية، إذ قصروها على تخريج ضباط، ليس لهم أن يكونوا إلا مرؤوسين. وامتنعوا عن أي إصلاح اجتماعي، على مستوى واسع. وتحاشوا التدخل في كلّ ما يمس التقاليد القومية والنظُم الدينية. ولا عجب، فهُم ما دخلوا مصر إلا لتوطيد العرش، ثم تنظيم الإدارة المصرية تنظيماً، يكفل دفع الديون. ولم يستهدفوا خير المصريين، ولا تدريبهم على حكم أنفسهم.

ج. تعيين كرومر معتمداً بريطانياً في مصر

قطب رحى السياسة البريطانية هو السير أفلن بيرنج (لورد كرومر، في ما بعد) [4]. لم يكن له ، على ما يتمتع به من سلطة، ركيزة قانونية، تميزه عن القناصل العموميين الآخرين[5]. وقد عُني بتوصيات دفرن، ولا سيما المشكلة المالية، المتمثلة في ما أسفر عن الثورة العرابية، من إفلاس الدولة؛ وما استلزمته قلاقل السودان، من نفقات؛ إضافة إلى نفقات جيش الاحتلال، والتعويضات المبالغ فيها، التي رُئي دفعها إلى منكوبي اضطرابات الإسكندرية وحريقها؛ علاوة على اضطرابات الأقاليم، أثناء الثورة. زِد على ذلك الكوليرا، التي أصابت مصر، عام 1883. وكان لا بدّ من المساس بقانون "التصفية"، الذي وضع في أوائل عهد الخديوي توفيق، وقَسّم الميزانية المصرية قسمَين: أحدهما خاص بنفقات الحكومة، والآخر خاص بفوائد الديون واستهلاكها.

وقد رأى كرومر أنه لا بدّ من استيلاء الحكومة المصرية على بعض ما خصص لصندوق الدين، وتمتد إلى احتياطيه. لهذا، اضطرت إنجلترا إلى الدعوة لمؤتمر دولي، في لندن، عام 1885؛ يبحث تلافي إفلاس مصر. وقد تمخض بتعديل بعض شروط قانون "التصفية"؛ مع بقاء فاعليته الأصلية، وشكله الدولي؛ وضم عضوَين إليه: أحدهما ألماني، والآخر روسي. وخوّل التعديل الحكومة المصرية اقتراض تسعة ملايين جنيه، وفرض الضرائب على الأجانب، كضرائب المنازل والتمغة والرخص. وأبطأت ميزانية صندوق الدين، مدى عامَين، على شكل قرض بفائدة؛ مع إعطاء الحكومة المصرية حقاً في احتياطيه.

11. الموقف في السودان

بعد أحداث الثورة العرابية، في مصر، ظهرت الثورة السودانية، بزعامة محمد أحمد المهدي، والمعروفة بالثورة المهدية (1882-1899).

كان السودان جزءاً من الولاية المصرية، منذ عهد محمد علي، إذ افتتحه ابنه، إسماعيل باشا، عام 1820. وتولت الحكومة المصرية تعيين ولاته، وسُمِّي: حكمدارية السودان (اُنظر ملحق ولاة السودان في عهد أسْرة محمد علي).

بعد سيطرة الثورة المهدية على معظم أراضي السودان، أرسلت مصر وبريطانيا إليه حملة عسكرية، في سبتمبر 1883؛ ترأسها هيكس باشا، الإنجليزي. وكان معظم جنودها عرابيين. إلا أن الحملة خابت، وقُتل أغلب جنودها، بمن فيهم قائدها. كما أرسلت حملة أخرى إلى شرقي السودان، في أوائل 1884، برئاسة بيكر باشا. ولم تفلح هذه كذلك.

في 8 يناير 1884، أمرت الحكومة البريطانية الجيش المصري، والموظفين المصريين، بمغادرة السودان.

خلال الحقبة نفسها، استبق الأوروبيون إلى استعمار إفريقيا. فاحتلت إنجلترا أوغندا، ومنطقة البحيرات الاستوائية، والجزء الجنوبي من خط الاستواء، ومديريتَي زيلع وبربرة. واحتلت إيطاليا مصوع وإريتريا والرأس الأخضر. واحتلت فرنسا تاجورة وجيبوتي.

12. الإيجابيات، في عهد الخديوي توفيق

كانت قرارات مؤتمر لندن مؤذنة بتحسن الأحوال. فسرعان ما ازداد دخل البلاد. وانخفضت الضرائب، وتحددت مقاديرها، وانتظمت وسائل جمعها. وازدادت مساحة الأراضي المزروعة، إثر تنفيذ مشروعات الري المختلفة، كإصلاح القناطر الخيرية، وإنشاء قناطر أسيوط وزفتى، وحفر الرياحات والترع والمصارف؛ فضلاً عن خزان أسوان. وألغيت السخرة. وأنشئت المستشفيات والصيدليات. وكوفحت الأمراض. وانتظمت أحوال السجون. وقضي على تجارة الرقيق. وأصلح القضاء[6].

ولم يشجع الإنجليز التعليم. فاقتصرت مصر، عام 1914، على 68 مدرسة حكومية: ابتدائية وثانوية. أمّا المرافق العلمية الخاصة، فبلغت 739 مدرسة، تحتضن 99 ألف تلميذ؛ و338 إرسالية وسواها، ينضوي إليها 48 ألف تلميذ.

13. نهاية الخديوي توفيق

توفى الخديوي توفيق، فجأة، في أوائل عام 1892، بعد ثلاثة عشر عاماً من توليه العرش، اتسمت بالسلبية، ولا سيما احتلال بريطانيا لمصر.

ثانياً: عهد عباس الثاني

1. تولِّي عباس الثاني خديوية مصر

استدعي عباس الثاني من النمسا، حيث كان يتعلم، في أوائل عام 1892؛ ليعتلي كرسي الخديوية، ولَمّا يزل شاباً صغيراًً. بيد أنه كان جريئاً، واسع الأمل، مصرياً بحتاً، شديد الإعجاب بجده، الخديوي إسماعيل، دفين الاحتقار لوالده الضعيف، المستسلم، الخديوي توفيق. وما إن هبط مصر، حتى زيّن له مستشاروه التمتع بالسلطة كاملة، وتخطي إرادة المعتمد الإنجليزي، بالاعتماد على مساندة فرنسا وروسيا لاستقلال مصر الذاتي. فحجم عن كرومر، منذ لقائهما الأول. وأذكى، في مصر، شعلة الوطنية الخامدة. وجرّأ المصريين على مناهضة الاحتلال. فقد سارع إلى تغيير مَن استشف تواطؤهم من حاشية والده. وبادر إلى التودد إلى الشعب، وكرَّه إليه الإنجليز. فأحبه المصريون. واستبشروا به خيراً؛ حتى إن كرومر اعتقد أن المبادئ العُرابية، قد بعثت، باسم جديد: الخديوية؛ وباتت الليلة أشبه بالبارحة، باستثناء قيادة الخديوي الحركة، هذه المرة.

تنبه كرومر على خطر الخديوي الجديد. فَتَسَقَّطَهُ ليهديه سبيل السلطة. وآتته الفرصة، في أواخر عام 1892، حين أقال عباس الثاني، من دون استشارته، مصطفى فهمي من رئاسة الوزارة؛ وولى مكانه فخري باشا. لم يَسْتَبْقِ كرومر الرئيس المقال، ولكنه ألحّ في تنحية الرئيس الجديد، وأن يُستبدل به رياض. وكان له ما أراد. وأمعن في استغلال الحادثة، فاستصدار نصيحة من الحكومة البريطانية للخديوي، بألاَّ يُجري تعديلاً وزارياً، من دون استشارة المعتمد البريطاني.

أججت هذه الحادثة العداء بين الطرفَين، فامتد إلى فروع الإدارة. وساعد على إذكائه ما حظي به عباس الثاني، من عطف الرأي العام؛ فضلاً عن تصلُّب الخديوي وتشبثه بموقفه، ثم محاولته الاحتماء بالدولة العثمانية، في مواجهة الإنجليز؛ ما سيدفع الحركة الوطنية المصرية إلى أحضان الجامعة الإسلامية. وأسفر عن ذلك محالفته المد الوطني، وتناصر الطرفَين على الاحتلال، على غرار ما كانت عليه الأحوال، في أواخر عهد الخديوي إسماعيل.

لهذا، اصطفى عباس الثاني كثيراً من الشبان، ممن توسم فيهم الذكاء والإقدام، ولاسيما مصطفى كامل؛ فعاونهم على دراساتهم. وأوفدهم إلى أوروبا في مهمات سياسية، يؤيد بها سلطته ومركزه، بصفته حاكم مصر "الشرعي". أمّا الكهول، ممن عاصروا الخديوي إسماعيل ومظالم حكومته، وواكبوا الثورة العرابية وفشلها، فقد ترددوا في مشاركة عباس الثاني في اتجاهاته.

2. التيارات: الفكرية والسياسية، في مصر

في عهد الاحتلال، ازداد اتجاه مصر نحو الغرب. وانحسرت التقاليد العثمانية، لتتدفق مؤثرات: فرنسية وإنجليزية، استرشدها التفكير المصري، حتى استقل بذاته، في أوائل القرن العشرين، على صفحات "الجريدة". لقد طمح المثقفون المصريون، من المحامين والأطباء، والمهندسين وشباب الضباط، والكتاب والصحفيين، والمعلمين، إلى الإسهام في الحياة السياسية؛ محملين الأوتوقراطية الخديوية مسؤولية عثرات البلاد.

ومن ثَم، رغبوا في تحديد السلطة الخديوية؛ لأن ذلك هو أفضل وسيلة إلى التخلص من التدخل الأجنبي. وهكذا امتزجت الليبرالية وطلب الدستور بالحركة الوطنية، ورغب المطالبون بهما في انكماش الأوتوقراطية الخديوية، وإجلاء المحتل.

ولم تقتصر الثقافة على طلاب الأزهر، المتأثرين بالبيئة الدينية، التي كان لها إسهامها في ثورة (1881 – 1882)؛ بل تعدتهم إلى أعضاء البعثات العلمية، وخريجي المدارس الأميرية، المتأثرين بالاتجاهات الغربية، وبخاصة الفرنسية؛ أولئك الذين أحسوا بفَوْق الغرب، وحاولوا اللحاق به؛ فجافوا تراثهم، وتشبثوا بتراثه. فخالفوا الرعيل الأول، من رجال النهضة الفكرية، في القرن التاسع عشر، من أمثال رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك، أولئك الذين وقفوا على الحضارة الغربية، وتأثروا بها؛ واتجهوا إلى الإصلاح من الداخل إصلاحاً، يمكِّن البلاد من مواجهة الخطر الأوروبي، إن لم يمكّنها من ردّه كلية.

أكبر المثقفون الجدد الاتجاهات الغربية. واستلهموها في النواحي: السياسية والفكرية، وتحدثوا بالوطن حديث العقل والمصلحة. فحاولوا إقناع الناس بالنفع المادي، والمصلحة المشتركة، التي تجمع بين بنيه. وسفَّهوا الرابطة الدينية؛ لأنها مصدر شر وتفرقة بين المواطنين. ومن ثَم، كانت دعوتهم إلى الوطنية المصرية، مجردة من كلّ ما عداها.

3. اشتداد الحركة الوطنية، في عهد عباس الثاني

مصطفى كامل

هو باعث الوطنية المصرية، إثر الاحتلال. والمعيد إلى المصريين ثقتهم بأنفسهم، في أعقاب معركة التل الكبير. فقد تصدى للقنوط، الذي اعترى المصريين؛ فعمد إلى تذكيرهم بماضيهم وجلال تاريخهم.

اتسم مصطفى كامل بأسلوب سهل، كتابة وخطابة، لا يشق فَهْمه على العامة، وأنصاف المتعلمين وأشباههم. ولولا عاطفيته ورقّته، لَمَا تأتَّى له التأثير الشديد في النفوس، ولَمَا رددت خطبه الألسن، أناشيد وأغاني. فقد صِيغت ألفاظه مواقف، صدحت بها المجامع والمحافل. إن زعيم الحركة الوطنية، يعتقد مخلصاً، ولو تأدباً، أن الدين والوطنية متكاملان؛ فلا صدام بينهما. كما أنه سخَّر كل جهوده لاستثارة العاطفة الوطنية وتمجيدها.

ليس لمصطفى كامل أيّ علاقة بالأزهر. فقد تلقى تعليمه في المدارس الأميرية. ثم استكمله في فرنسا. ويذكر الدكتور محمد حسين هيكل، في مذكراته، أن عباس الثاني هو الذي أرسل مصطفى كامل في بعثة إلى فرنسا. وقد يكون ذلك صحيحاً، استناداً إلى احتضانه إياه، منذ أن كان تلميذاً في المدارس الثانوية؛ ودأب الخديوي في الحث على الاتصال بالوطنيين القدامى؛ وتشجيعه الجيل الجديد على محاربة الإنجليز.

لقد أفاد مصطفى كامل من أخطاء العرابيين. فحاول رأب الصدع الداخلي، الذي نفذ منه المستعمر. كما حاول أن يوفق بين المسلمين والأقباط. وحرص على نشر التعليم، إدراكاً منه أنه أداة نشر الوعي القومي الصحيح، والقضاء على النعرات الدينية، التي كان هو يحاربها بكلّ قوّته. كما نعى على اتفاقية 1899 تضييعها السودان؛ على الرغم من جهود مصر في الفتح والاسترجاع؛ إضافة إلى ما أنفقته، من مالها ودماء أبنائها، في شطر الوادي الجنوبي. وروج تعليم البنت، حتى تستطيع أن تكوِّن المواطن الصالح. وحث على تشجيع التعليم: المهني والفني. وحض الأغنياء على بناء المدارس. ونشط للاكتتاب في الجامعة، التي اشتدت المطالبة بها، في أوائل القرن العشرين.

وأصدر مصطفى كامل، عام 1907، جريدتَين باللغتَين: الفرنسية والإنجليزية، هما، على التوالي: الإنتدار جيسيان والأستاندر، بمعنى اللواء. وهما صورتان لجريدة "اللواء"، الصادرة باللغة العربية؛ مع تعديل فحواهما تعديلاً، يلائم المستوطنين الأجانب في البلاد. وتوج جهوده، في عام 1907، قبيل وفاته، بإنشاء الحزب الوطني؛ رداً على إنشاء حزب الأمة؛ وذلك على الرغم من أنه كان لا يؤمن بإنشاء حزب رسمي؛ لأنه سيؤدي إلى انقسام الأمة. فما إن أُسِّس حزب الأمة، حتى أرسل مصطفى كامل إلى صديقه، محمد فريد، يذكر له أن الحزب الوطني، الذي واصل العبء الرئيسي للنضال ضد الاحتلال، طيلة ثلاثة عشر عاماً، يحب أن يظهر بصفة رسمية؛ لتعلم الدنيا كلّها جمعاء، أن في مصر حزب، يطالب بالجلاء الناجز؛ وأن لا سبيل إلى الاستقلال، بالتعاون مع المحتل؛ على طريقة حزب الأمة؛ بل انتقد على ذلك الحزب سياسة التدرج، التي دعا إليها.

4. موقف مصر من حادثة طابا

أرادت الدولة العثمانية، حين تولى عباس الثاني حكم مصر، عام 1892، أن تخرج سيناء من ولايته؛ ولكن معارضة إنجلترا، حالت دون ذلك. وفي يناير 1906، أمرت الحكومة المصرية مفتش سيناء بوضع خفر من الشرطة في نقب العقبة؛ لمراقبة الحدود، منعاً لتهريب الأسلحة. فلم يسمح له قائد الحامية العثمانية في العقبة بذلك. فبادرت الحكومة إلى الطلب من السلطان تعيين لجنة، من العثمانيين والمصريين، ترسم الحدود بين سيناء والشام. فلم يحرك ساكناً. حينئذٍ، أرسلت الحكومة المصرية قوات، لاحتلال وادي طابا؛ على الرغم من معارضة العثمانيين. ثم أرسل هؤلاء جنوداً، لاحتلال رفح. وكان هدف الدولة العثمانية هو مد خط السكك الحديدية من عمان إلى العقبة، والاستيلاء على سيناء. أُزعج هذا الإجراء الإنجليز؛ لأنه يجعل حدود مصر تنكمش من خط العريش ـ العقبة إلى خط العريش ـ السويس. ورأوا في قبول مطالب الآستانة خطراً على حرية قناة السويس، وسلامة مصر والأسْرة الخديوية.

تعلل كرومر بالمحافظة على حدود مصر. وأرسل طراداً بريطانياً إلى طابا. كما أنكرت إنجلترا على العثمانيين فعْلتهم، من طريق سفيرها لديهم. وبدأت المحادثات بين الدولتَين. وطالت كثيراً. وكانت الآستانة تظن أن بعض الدول تؤيدها على إنجلترا. ولكن فرنسا كانت مقيدة بالوفاق الودي، الذي كانت مادته التاسعة تحتم عليها تقديم المساعدة اللازمة لإنجلترا، في ما يتعلق بتنفيذ أحكام ذلك الاتفاق. وعملاً بهذه المادة، عمد السفير الفرنسي في الآستانة إلى مساع رسمية؛ ليحمل الباب العالي على الإذعان لمطالب إنجلترا.

وبذل السفير الروسي كذلك مساعٍ مماثلة، من دون طلب إنجلترا. فقد أفهم حكومة الباب العالي، أن موسكو غير مستعدة لتأييد الآستانة. وأعلن الساسة الألمان، أنهم لا يساندون الدولة العثمانية في هذه الأزمة. فاضطر العثمانيون، والحالة هذه، إلى التسليم. وتكونت لجنة "إنجليزية ـ مصرية ـ تركية"، لتحديد الحدود المصرية. وأتمت أعمالها، في الأول من أكتوبر 1906. وعينت الحدود بتحديد خط إداري، يفصل بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس وشبه جزيرة سيناء، جعل كلّ هذه الأخيرة، بما فيها طابا، ملكاً لمصر، باستثناء خليج العقبة.

5. حادث دنشواي، واشتعال مشاعر المصريين

في 27 يونيه 1906، أصدرت المحكمة، المعنية بمحاكمة المصريين المتهمين في حادث دنشواي، حكماً لا يقبل الطعن، يقضي على أربعة بالإعدام، وعلى اثنَين بالأشغال الشاقة المؤبدة، وعلى واحد بالسجن 15 سنة، وعلى ستة آخرين بالسجن سبع سنوات، وعلى ثلاثة بالحبس سنة، مع الشغل، وجلد كلّ منهم 50 جلدة؛ وعلى خمسة بجلد كلّ منهم خمسين جلدة. وفي 28 يونيه، نفذت أحكام الإعدام والجلد، في وقت واحد، في قرية دنشواي.

وأثارت الإجراءات القاسية سخطاً عميقاً، في مصر والخارج. وألبت المشاعر على الإنجليز. كما قربت بين المصري العادي ومصطفى كامل. وجعلت الزعماء الوطنيين أقرب إلى فهْم مشاكل الشعب والاهتمام بها. وانتهزت الجرائد هذه الفرصة، فطفقت تنشر آراءها في الجامعة الإسلامية، وتتناول بؤس الفلاحين. كما انضم الأقباط إلى الممتعضين من الاحتلال البريطاني. وبذلك، حقق مصطفى كامل الوحدة الوطنية، التي طالما صبا إليها.

6. نشأة الأحزاب المصرية، في ظل الحركة الوطنية

أ. الحزب الوطني

كانت الحركة الوطنية حركة سياسية، قبل أن تصبح حزباً رسمياً؛ ادّعى في بداية أمره، أنه هو وحده من يمثل القوى الوطنية. فالتف حوله جمهور الفلاحين والتجار والطلاب والموظفين (أيْ أبناء الطبقتَين: الفقيرة والوسطى). وكان برنامجه الوطني واسعاً، يغرى أصحاب النفوس الطامعة، ويرضي المتطرفين والشبان.

ب. حزب الإصلاح

أنشأه على المبادئ الدستورية عباس الثاني، حين ساءت علاقاته بالحزب الوطني، بعد وفاة مصطفى كامل. كان لسانه هو الشيخ علي يوسف، صاحب جريدة "المؤيد". وموقفه من الإنجليز معتدلاً؛ لأنه من أبناء الفلاحين، الذين لم ينسوا حكم العثمانيين ومظالمه. أُسِّسَت جريدته عام 1889. واتسمت بالرجعية والتعصب. وكان صاحبها مؤيداً للجامعة الإسلامية، مناهضاً للحركات: القومية والتقدمية. ولم يكن يفرق بين الاستعمار وإرساليات التنصير، بل كان يدعو إلى محاربتهما معاً، بسلاح مشترك، من الجهاد: الديني والوطني.

ج. الحزب الوطني الحر

أنشأه محمد وحيد الدين الأيوبي. مالأ الإنجليز. ودافع عن سياستهم دفاعاً مكشوفاً. وانضم إليه عدد قليل من العمَد والمشايخ. طالب بعلاقات حسنة بين المصريين وسلطات الاحتلال، والتعاون بينهما على إصلاح البلاد؛ ونشر التعليم في مصر، حتى تصبح قطعة من أوروبا، متنكرة لشرقيتها. وقد تأسس هذا الحزب في رحاب جريدة "المقطم"، وكان معظم أعضائه من الشاميين، المتعاونين مع الاحتلال، أو من المصريين، الذين رشاهم الاستعمار؛ للحدّ من نشاط مصطفى كامل.

د. حزب الأعيان

غضب الخديوي على حزب الإصلاح، فأوعز، أواخر عام 1908، بتأسيس حزب جديد، ينطق بلسان القصر. فتأسس حزب الأعيان؛ إذ إن معظم أعضائه، وهم قلة، كانوا من أعيان البلاد، وخاصة فلول النخبة الأرستقراطية، من العثمانيين المقيمين بمصر. وجاء في مبادئ الحزب، أنه يعمل لمصلحة مصر، في ظل الدولة العثمانية؛ ويتعاون مع سلطات الاحتلال، لمصلحة مصر كذلك.

هـ. حزب المصريين

أنشأه الدكتور أخنوخ فانوس، عام 1908؛ ليناهض الحزب الوطني. وسُمِّي: "حزب المصريين المستقلين". وكان معظم أعضائه من الأقباط، وقلة من المسلمين المتعاونين مع الاحتلال. أمّا مبادئه، فحُصرت في وحدة مصر والسودان، والاعتراف بالجنسية المصرية لمن أقام بمصر مدة كافية، وصداقة مصر مع إنجلترا، وحماية الأقليات والأجانب، وفصل الدين عن الدولة. ولأخنوخ فانوس عدة مقالات وأبحاث في القومية المصرية الفرعونية، وإعادة بناء مجد مصر القديم. وكان شعاره، ورمز حركته: "مصريون، قبل كلّ شيء".

و. حزب الأمة

هو أبرز الأحزاب المناوئة لمصطفى كامل والحزب الوطني. شجعت على تأسيسه الدوائر الإنجليزية. تكوّن في سبتمبر 1907[7]. ورأسه محمود سليمان باشا، عضو مجلس شورى القوانين، وأحد كبار أثرياء الصعيد. وتولى وكالته حسن باشا عبدالرازق؛ ثم خلفه فيها علي باشا شعراوي. وكان أولهما صديقاً حميماً لمحمد عبده، ونصيره في مجلس شورى القوانين. كما كان من كبار ملاك الصعيد. ومن أعضاء الحزب حمد الباسل وعبدالخالق ثروت وطلعت حرب وفخري عبدالنور وسينوت حنا.

ضم حزب الأمة كثيراً من الشباب المثقفين ثقافة غربية؛ ففاق تأثره بروح الغرب وتقدميته تأثر الحزب الوطني بهما. واستطراداً، فقد كان أكثر من الوطنيين ترحيباً بالتطورات الاجتماعية، وأقلّ تمسكاً بأهداب التقاليد. والكثيرون، ممن نقم عليهم الأزهر، في ما بعد لتقدمية أفكارهم، كانوا من أعضاء حزب الأمة أو من المتتلمذين له، مثل: أحد لطفي السيد وطه حسين ومحمد حسين هيكل ومصطفى عبدالرزاق. ولئن شُغل الحزب الوطني بالجلاء: العسكري والسياسي، عن مصر؛ وجعله محور عمله؛ فأغضى على حقوق الشعب الدستورية، إذ هادن الخديوي، من أجل تحقيق الجلاء، بتعاون الشعب مع حكومته؛ فإن حزب الأمة، نشط إلى بناء الإنسان بناء قومياً اجتماعياً؛ فقدمه على الانهماك في استقلال مصر السياسي، إذ هادن الإنجليز، من أجل تحقيق ذلك البناء؛ حتى إنه اتُّهم بصِلاته القوية بكرومر.

وكان لحزب الأمة جريدته، المسماة: "الجريدة". أشرف على تحريرها أحمد لطفي السيد. وسُخِّرت للتبشير بالقومية المصرية، المستندة إلى الفهم الصحيح للشعب ومقوماته، ومُثُله الخاصة، وتفكيره الخاص، واتجاهه النابع من أصوله. وقد اشتركت "الجريدة" و"اللواء" في طلب الدستور والاستقلال.

7. رحيل كرومر، وتعديل السياسة البريطانية

غادر كرومر مصر، في مايو 1907. وخلفه السير ألدون جورست، صاحب سياسة السلطتَين: الشرعية (الخديوي) والفعلية (الاحتلال)، والتي نجم عنها انقلاب جوهري في توازن القوى في مصر. وكان جورست قد اطلع شؤون مصر، من كثب، خلال خدمته فيها، مدة، ليست بالقصيرة، ألمّ خلالها باللغة العربية. وقد رشحه كرومر لخلافته، على أمل أن يواصل سياسته الدكتاتورية المعتدلة. إلا أن ظروف مصر وإنجلترا، لم يساعدا على تحقيق تلك السياسة. ففي إنجلترا، تولى حزب الأحرار الحكم، بعد انقطاعه طويلاً. وداخلت سياسته الخارجية مَسْحَة ليبرالية؛ تعويضاً عن توسعه الاستعماري السابق، ونزعاته الإمبراطورية السالفة. فأولت حكومته اهتماماً خاصاً معاقل عديدة للرجعية، في بلاد، مثل تركيا وفارس وروسيا، التي أعلنت دساتيرها، ما بين عامَي 1905 و 1908.

استشف الأحرار يقظة الشرق وتقديره للمُثل السياسية الغربية. فوافقوا على امتداد التجربة الدستورية إلى مصر، حيث لا بدّ من صياغة نظُمها صياغة جديدة ليبرالية. وأقروا بأن التعليم، لم يلق العناية الكافية؛ فضلاً عن اعترافهم بضرورة توسيع مشاركة المصريين في حكم بلادهم.

بادر جورست إلى توسيع سلطات المجالس النيابية المصرية. وعدَّلها تعديلات شتّى. وفي عام 1909، تقرر أن يعقد مجلس شورى القوانين اجتماعاً مستمراً، ما بين منتصف نوفمبر ونهاية مايو من كلّ عام، بدلاً من اجتماعه شهراً، وانقطاعه آخر. كما تقرر أن يستعد الوزراء للرد، في المستقبل، على كلّ الأسئلة الإدارية، ذات الأهمية العامة. وكان المجلس والجمعية العمومية، قد طالبا، عام 1908، بدستور للحكم الذاتي، يوسع اختصاصاتهما، ويعيد إلى البلاد حياتها النيابية، التي قضى عليها الاحتلال. وكان تعليق جورست أنهما لا يمثلان إلا طبقتَي الباشوات والبكوات؛ ولذلك، لا يستحقان الدستور.

8. سياسة الوفاق

تمخضت سياسة كرومر الوفاقية باهتزاز دعائم النظام، وهددته بالانهيار. فقد أتاحت للخديوي التدخل في الحياة السياسية المصرية، ولم ترسم له حدوداً. كما أعطت المجالس النيابية المصرية، باليمين، ما سلبته منها، بالشمال. وأغرت العداوة بين الخديوي والوطنيين والدستوريين. وصرفت هؤلاء عن محاربة المحتل إلى المطالبة بالدستور. واشتدت المعارضة، في مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية.

لم تكن الحكومة متمرسة بمعالجة المعارضة، ولا هي مستندة إلى التأييد الشعبي. ولم تكن المجالس النيابية المصرية ذات حظ، من الثقافة والشعور بالمسؤولية، يمكّنها من التمييز بين المسائل: التشريعية والتنفيذية، أو بين الانتقاد وعرقلة الأمور، ومن ثَم، افتُقِدَت الصلة المرجوة بين الحكومة والرأي العام؛ فازداد شلل أولاهما، التي كانت الحركة الوطنية تنال منها بانتظام.

لهذا، أفلت زمام الموقف من جورست، على نجاحه في بذر الشقاق بين الخديوي والأعيان والوطنيين، من رجال الطبقة الوسطى، بعد ما أوشكوا أن يتحدوا، في مواجهة الاحتلال. وحسب عباس الثاني اتجاه جورست إزاءه دليلاً على الضعف. وحاول أن يظهر بمظهر صاحب السلطة الحقيقة في البلاد. وظن محمد فريد، خليفة مصطفى كامل[8]، أن سياسة الوفاق إنما هدفها إضعاف الحزب الوطني، سواء بإسكاته عن المطالبة بالجلاء، أو بإفساد ما بينه وبين الخديوي. فآثر أن يغضب الخديوي على أن يتوهم الناس، أن الحزب الوطني يعمل لحساب عباس الثاني لا لحساب مصر. ولذلك، لم يلحّ في الجلاء.

أمّا حزب الأمة، فلم يرحب بإباحة عباس الثاني شؤون الإدارة المصرية؛ بل رأى أنها تعرقل التطور الدستوري، الذي طالما آمن به الحزب. ولم يفرق بين انزعاج الأجانب المقيمين بمصر وانزعاج حزب الأمـة والحزب الوطني من سياسة الوفاق. فلقد عارض الموظفون الإنجليز الاتجاه إلى تحديد نفوذهم، في الدوائر الحكومية المصرية. ورأى التجار الأجانب، في السياسة الجديدة، تهديداً لمصالحهم وامتيازاتهم، التي كانت مضمونة، إبّان حكم كرومر الصارم.

9. الموقف في السودان

في مارس 1896، وجهت بريطانيا إلى السودان حملة إنجليزية ـ مصرية؛ لإخضاع الثورة المهدية، واسترجاع أراضي السودان، وسد طريق وادي النيل أمام التوسع الفرنسي، في الجنوب. وقادها اللورد كتشنر باشا، الإنجليزي، الذي مولها، من خلال استيلائه على 500 ألف جنيه من الخزينة المصرية. ونجحت الحملة في استعادة السيطرة على السودان، في نوفمبر 1899.

خلال حملة كتشنر، أرسلت فرنسا حملة عسكرية، وصلت في يونيه 1898، إلى منطقة فاشودا، في أعالي النيل الأبيض، قرب التقائه نهر السوباط. فاحتجت بريطانيا، باسم مصر، لكونها أرضاً مصرية؛ بل أرسلت حملة عسكرية، وصلت في سبتمبر 1898. وكاد الطرفان يقتتلان، لولا أن حُلت الأزمة دبلوماسياً. وغادرت فرنسا فاشودا، في ديسمبر 1898.

وفي 20 يناير 1899، وقعت بريطانيا ومصر اتفاق الحكم الثنائي للسودان، الذي قرر اشتراكهما في حكومته، بحق الفتح؛ وتولّي الخديوي تعيين الحاكم العام، بعد موافقة إنجلترا؛ وإخراج السودان من نظام الامتيازات، حتى لا يكون للدولة العثمانية، أو الدول الأخرى، أيّ ذريعة للتدخل في شؤونه (اُنظر ملحق اتفاق السودان، 19 يناير 1899).

10. تعيين كتشنر مندوباً سامياً بريطانياً في مصر

في عام 1911، اعتل جورست. وبدا أنه لن يبرأ. حينئذٍ، عمد كرومر، في لندن، إلى التدخل، لاختيار المعتمد الجديد، تدخُّل المستبد الخيِّر، من دون تأثر بالتيار الديموقراطي، مهما تكن قوّته. واختير اللورد كتشنر، الذي خدم في الجيش المصري. ثم كان قائداً عاماً لذلك الجيش، الذي قضى على الثورة في السودان.

كان كتشنر عسكرياً صرفاً. يحتقر السياسة والساسة. ويؤمن بضرورة إيجاد حكومة قوية، تماشي دعاة القوة، سيان في مصر وإنجلترا، وخاصة بعد أن لأمت سياسة الوفاق بين الخديوي والوطنيين. وكذلك، كان على كتشنر أن يَسْتَنَّ بسياسة كرومر؛ وإنما بروح عسكرية بحتة، وبخاصة في ما يتعلق بعباس الثاني، الذي كان قد صادمه، عام 1894، في ما عرف باسم: حادثة الحدود، حين كان كتشنر سرداراً (قائداً عاماً) للجيش المصري.

علّل أنصار الاحتلال موقف كتشنر من عباس الثاني بمسلك الخديوي وفساد اتجاهاته، في ظل الوفاق. ولقد حجر عليه المندوب السامي أراضي الأوقاف، والتجوال في الأقاليم والمدن. وقصر مقابلته إياه على التشريفات فقط. وبدأ عباس الثاني بالامتعاض من إسراف حكومته في اضطهاد خصوم الاحتلال، وإمعانها في التنكر للمعتدلين، ومنهم سعد زغلول وقاسم أمين.

تنكّر كتشنر لتجربة الحكم الذاتي. وآثر الرجوع إلى خطة الإشراف الإنجليزي، المتسم بالنشاط واليقظة؛ وحكم المصريين لأنفسهم. فأصبحت الحكومة جد أوتوقراطية، إذ أخضعها لإرادته تماماً، وتوسع في توظيف الإنجليز في الإدارة، وركن إلى فئات، لا عضد لها، ولا تمثل إلا نفسها. زِد على ذلك تحوُّل الموظفين الإنجليز إلى بيروقراطية جامدة، مجافية للشعب، غافلة عن ميوله، غير مبالية بها. بيد أن هذه السياسة، ربما لا تكون ناجمة عن فشل سياسة الوفاق فقط؛ وإنما هي رهينة الموقف الدولي، الذي كان ينذر بالخطر، بعد ظهور ألمانيا قوة عالمية، وتدخلها في شؤون مراكش، وتغلغل نفوذها في الدولة العثمانية؛ الأمر الذي أبرز أهمية قناة السويس، ودعا الإنجليز إلى تشديد قبضتهم على مصر استعداداً لكلّ الاحتمالات.

لا، بل شاع، آنئذٍ، احتمال ضم مصر إلى الإمبراطورية البريطانية. كما أن إنجلترا سارعت إلى الحصول على موافقة فرنسا وإيطاليا وباقي الدول المعنية على إلغاء الامتيازات الأجنبية. ولم يعلق كتشنر أهمية على هذه المسألة. ولكن وزير الخارجية البريطانية، طلب منه أن يؤلف لجنة، لبحث مسألة المحاكم برمّتها، واضطلعت اللجنة ببحث أحوال جميع أنواع المحاكم القائمة في مصر. وقدمت تقريراً مفصلاً في شأنها، وشان تعداد الأجانب كذلك.

11. عزل عباس حلمي الثاني، وبداية الحماية البريطانية لمصر

حينما نشبت الحرب العظمى، في صيف 1914، كان كتشنر يتمتع بإجازته، في إنجلترا. وكان عباس الثاني في رحلته المعتادة إلى الآستانة. ولم يَعُد أيّ منهما إلى مصر، بعد ذلك. فقد تولى الأول وزارة الحرب البريطانية. وخُلع الثاني. وفرض الإنجليز حمايتهم على البلاد؛ مُعبرين بذلك عن نياتهم الحقيقة، وواضعين حداً لغموض سياستهم.

فقد سافر الخديوي إلى مصيفه، في الآستانة، في بداية صيف 1914. وسرعان ما أعلن الإنجليز، إثر اشتعال الحرب العالمية الأولى، عزله، ومنعه من العودة إلى مصر. كما أعلنوا الأحكام العرفية. ثم فرضوا، في 18 ديسمبر 1914، الحماية على مصر، التي أصبحت قاعدة للعمليات الحربية، في البحر الأبيض المتوسط.

لجأ البعض إلى الاغتيالات، تعبيراً عن سخطهم على ما حدث، قبل الحرب وأثناءها. ومنها محاولة اغتيال كتشنر؛ ولكنها لم تفلح، وكذلك محاولة اغتيال السلطان حسين، الذي ولاه الإنجليز حكم مصر.



[1] يذكر أحمد عرابي، في مذكراته، أن الاجتماع ضم كلاًّ من الأميرلاي عبدالعال بك، قائد آلاي طرة؛ والبكباشي خضر أفندي خضر، من ضباط الآلاي الأول حرس الخديو بقشلاق عابدين؛ والبكباشي محمد أفندي عبيد؛ والبكباشي ألفي أفندي يوسف، من ضباط الآلاي الرابع، الذي كان أحمد عرابي قائداً له؛ وأحمد بك عبدالغفار، قائمقام آلاي الفرسان.

[2] كان معظم ضباط الجيش، في عهد الاحتلال، من الإنجليز. وظل الإشراف الإنجليزي مفروضاً على الجيش المصري، بصورة أو أخرى، حتى بعد توقيع معاهدة 1936.

[3] كان منصب المستشار المالي، يلي في أهميته منصب المعتمد البريطاني نفسه. وعلى الرغم من عدم تحديد سلطاته، إلا أن حضوره جلسات مجلس الوزراء، كان يتيح له الاشتراك في مناقشة المسائل غير المالية. زِد على ذلك أنه كان هو أداة الاتصال بين المعتمد ومجلس الوزراء المصري.

[4] ظلت رتبته الرسمية قنصلاًً عاماًً، ووزيراًً مفوضاًً. وسُمِّي، في ظل الاحتلال: معتمداً أو عميداً British–Agent. وبعد إعلان الحماية، عُرف بالمندوب السامي.

[5] منح بيرنج لقب لورد، في 24 مايو 1892. ومنذئذٍ، سُمِّي: لورد كرومر.

[6] في عام 1895، عقدت اتفاقية في هذا الصدد استكمالاً لمعاهدة 1877 الخاصة بإلغاء الرق. ونصت الاتفاقية الجديدة على أن التعرض لعبد، حصل على حريته، يُعَدّ جريمة، يعاقب عليها القانون. بيد أن مقاومة استيراد الرقيق من الخارج، كانت قد سبقت عقد تلك الاتفاقية الأخيرة. وكذلك الحال، بالنسبة إلى القوانين، التي نظمت مكافحة الرق، في داخل البلاد.

[7] كان كرومر قد غادر مصر، في مايو من العام نفسه.

[8] توفي مصطفى كامل، في فبراير 1908. وحزنت عليه مصر كلّها جمعاء.