إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / الدولة السعودية الثانية (1240 ـ 1309هـ) (1824 ـ 1891م)






الدولة السعودية الثانية



الفصل الثاني

الفصل الثاني

فترة حكم الإمام فيصل بن تركي

 

حينما وصل خبر اغتيال الإمام تركي، إلى ابنه فيصل، في القطيف، جمع كبار القادة في جيشه. ومنهم صديقه عبدالله بن علي بن رشيد، وتركي الهزاني رئيس الحريق، وعبدالعزيز بن محمد بن حسن رئيس بريدة، وعمر بن عفيصان أمير الأحساء، وغيرهم، وأطلعهم على ما وقع، فبايعوه بالإمامة. واستقر رأيهم على العودة إلى الرياض، لاسترداد الحكم من مغتصبه.

وفي 19 محرم 1250هـ/1834م، أي بعد 18 يوماً، من حادثة الاغتيال، وصل فيصل بن تركي بقواته إلى الرياض، وتمكن من دخولها. وضبط رجاله أبراجها. وباغت خصمه مشاري بن عبدالرحمن، الذي تحصن في قصر الحكم، ومعه مائة وأربعون رجلاً. وقدم أهالي الرياض المساعدة لفيصل، لما كان لأبيه من مكانة في نفوسهم. وبعد عشرين يوماً (9 صفر 1250هـ/ 18 يونيه 1834م) من الحصار، دب اليأس في نفوس المحاصرين فنزلوا من القصر، وبقي مشاري بن عبدالرحمن، ومعه حليفه، أمير بلدة جلاجل، المعزول، سويد بن علي. وجرى اتصال، بموافقة فيصل بن تركي، بين كل من سويد بن علي وعبدالله بن رشيد، نتج منه اتفاق، يسهل فيه سويد لابن رشيد، وعدد من الجنود، مهمة تسلق الأسوار إلى داخل القصر، وأن يقف معهم ضد مشاري بن عبدالرحمن، في مقابل أن يوليه فيصل إمارة بلدته، جلاجل، وأن تكون إمارتها لذريته من بعده. وهذا ماحدث، بالفعل، فقد تسلق عبدالله بن رشيد القصر، وأصبح مع الجنود في وسطه، وانضم إليهم سويد بن علي وأتباعه. ثم دارت بينهم وبين مشاري وأتباعه معركة، انتهت بمقتل مشاري وستة من رجاله. وكان ذلك بعد أربعين يوماً فقط، من اغتيال الإمام تركي بن عبدالله.

واستعاد فيصل بن تركي السيطرة على الأمور في العاصمة، وتتابعت الوفود عليه، مبايعة ومؤيدة لحكمه.

وأول ما قام به الإمام الجديد، أن دعا قضاة بلدان حوطة بني تميم والخرج والوشم وغيرهم، إلى الرياض، وأكرمهم، وألقى فيهم خطاباً، حثهم فيه على التعاون على البر والتقوى ومماشاة أوامر الشرع الحنيف، والحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (اُنظر ملحق نصيحة الإمام فيصل بن تركي إلى عامة المسلمين)، ووجوب أداء الزكاة. ووفدت عليه أمراء البلدان والقبائل، للمبايعة. وأمر عماله أن يركبوا مع رؤساء القبائل، في عودتهم من الرياض، لجباية الزكاة، التي تُعَدّ أهم مصدر للدخل في الدولة.

ولكن الأمور، لم تستقم للإمام فيصل بن تركي، على الصعيد الداخلي. فقد وقع خلاف بين سكان وادي الدواسر، تسبب باضطراب أمني. كما امتنعت بعض القبائل عن أداء ما عليها من الزكاة إلى عمال الإمام. وسيّر الإمام فيصل بن تركي جيشاً إلى وادي الدواسر، بقيادة حمد بن عبدالله بن عياف آل مقرن، لإنهاء الخلاف الناشب هناك. وهاجم من تسببوا بالمشكلة، وأثاروا الشغب، ثم عاد إلى العاصمة، بعد أكثر من شهر، من دون تحقيق مهمته بالكامل.

وسار الإمام فيصل بنفسه، ومعه قواته، وهاجم فريقاً من الدواسر في العرمة، وأخضع زعماءهم. ومن هناك، انطلق إلى بلدة تمير، حيث وفد إليه بعض من قواته. ومنها توجه إلى بلدة الشعراء في عالية نجد، وقام بمهاجمة القبائل، التي لم تؤد الزكاة، حتى دفعتها، وهي طائعة له.

وفي أثناء إقامته في بلدة الشعراء، في أوائل عام 1251هـ/ أبريل 1835م، عين صديقه الحميم، عبدالله بن علي بن رشيد[1]، أميراً على جبل شمر، بدلاً من صالح بن عبد المحسن بن علي. وبذلك، انتقلت إمارة جبل شمر، من آل علي إلى آل رشيد، وهي الأسرة التي أصبح لها تأثير كبير في تسيير دفة الأحداث، في منطقة نجد، في الفترة التالية.

وبعد أن أظهر الإمام فيصل بن تركي قوته أمام القبائل في نجد، وأخضع من عصى منها، عاد إلى الرياض، وأخذ في حل مشكلة الخلاف القائم في المنطقة الشرقية، منذ أواخر عهد أبيه. وتوصل، عام 1251هـ/1835م، إلى اتفاق مع أبناء عبدالله بن خليفة، تخلوا، بموجبه، عما استولوا عليه من قبل، من سواحل المنطقة، وتعهدوا بدفع الزكاة إليه، مقابل مساعدته لهم ضد أي عدوان خارجي.

الغزو المصري لنجد، ونهاية الفترة الأولى من حكم الإمام فيصل بن تركي

كان الإمام فيصل بن تركي يعمل على توطيد حكمه، في الوقت الذي كان فيه والي مصر، محمد علي باشا، يحقق أحلامه في تكوين دولة كبرى، على حساب الدولة العثمانية، فضم السودان والشام وأجزاء من بلاد اليونان والأناضول إلى سيطرته. وكان يعد شبه جزيرة العرب من المناطق التابعة لدولته، ولهذا لم يكن غافلاً عما يجري في نجد، من حركة لإعادة الدولة السعودية.

ووجد أن مما يسهل عمل الحملات العسكرية، أن يترأسها أحد أفراد الأسرة السعودية. وأراد محمد علي باشا التخاطب مع الإمام فيصل بن تركي، فأرسل إليه دوسري بن عبدالوهاب أبو نقطة[2]، مبعوثاً ليكون وسيطاً بينهما. وطلب من الإمام إرسال الخراج إليه، وتزويد القوات المصرية، المحاربة في شبه الجزيرة العربية، ببعض ما تحتاج إليه. ولكن الإمام، لم يشأ أن يلبي هذه الطلبات، ربما لأنه خشي أن تستعمل ضده، مستقبلاً. وفي الوقت نفسه، اتخذ موقفاً ليناً، تجاه حكومة محمد علي، فأرسل هدايا ثمينة إلى أحمد باشا، ممثل محمد علي في الحجاز، مع أخيه جلوي بن تركي، على أمل أن يكون في ذلك تعبير عن حسن نيته تجاه الدولة. وأبدى استعداده لتلبية بعض طلبات القوات المصرية من الإبل. لكن محمد علي، لم يقتنع بذلك الموقف. ورد على هذا، فجهز حملة عسكرية، بقيادة إسماعيل بك، ووضع على رأسها، من الناحية الشكلية، خالد بن سعود بن عبدالعزيز ـ الشقيق الأكبر للإمام عبدالله بن سعود ـ وكان خالد بن سعود، قد أسره إبراهيم باشا، عند سقوط الدرعية، وأرسل إلى مصر مع بقية آل سعود. ووصلت الحملة إلى ينبع، في عام 1251هـ/ 1835م.

وحاول الإمام فيصل أن يتفادى الصدام مع القوة الموجهة إليه، إذ لا قبل له بها. فأرسل الهدايا مع مبعوث منه إلى قائدَيها خالد بن سعود وإسماعيل بك، إظهاراً لحسن نيته. ولما عاد المبعوث أطلع الإمام على نيات محمد علي باشا، وهي مهاجمة البلاد. وواصلت الحملة تقدمها من المدينة المنورة إلى الحناكية، ومنها إلى القصيم. واستنفر الإمام فيصل قواته في الأحساء، وجنوب نجد وسدير، ورأى أن يتقدم من الرياض إلى القصيم، لملاقاة القوات المصرية، والدفاع عن المنطقة. فغادر الرياض في شوال عام 1252هـ/ يناير 1837م.

ولدى وصول الإمام فيصل بقواته إلى القصيم، نزل على ماء الصريف، بالقرب من التنومة، وعلم أن القوات المصرية وصلت بلدة الرس. فانتقل بقواته إلى عنيزة، ووجد من أميرها وأهلها الدعم. واستنفر أمير بريدة، فسانده. وبعد ذلك، انتقل بحشوده التي انضم إليها أهالي القصيم، نحو بلدة رياض الخَبْراء.

وأقام الإمام فيصل هناك عشرين يوماً. ولكنه وجد أن لا قبل له بذلك الجيش، فانسحب إلى عنيزة، ومنها عاد إلى الرياض.

وبوصول الإمام فيصل إلى عاصمته، وجد أهلها قد دب الوهن والفشل في نفوسهم، وأنهم غير مستعدين لمواجهة الحملة، بل إن قسماً منهم، كان مهيأ للانضمام إلى تلك الحملة، وجاهر بالعداوة، إما لأنهم رأوا أحقية خالد بن سعود في الحكم، أو لأنهم خشوا بطش القوات المصرية.

ولهذا، رأى الإمام فيصل، أن الموقف ليس في صالحه، فغادر الرياض، واتجه إلى الخرج. ولحق به أربعمائة فارس من رجاله. ومن هناك، قصد الأحساء.

ووالت الحملة المصرية تقدمها، بقيادة خالد بن سعود وإسماعيل بك، في نواحي القصيم. واستولت على بلدان الإقليم، وأخضعته بعد أن أعلنت وفوده الولاء.

وأرسل قائدا الحملة فرقة، مكونة من أربعمائة فارس تركي، ومائة رجل من أهل عنيزة، يقودهم أميرها يحيي بن سُلَيْم، ويصحبهم عيسى بن علي ـ أحد أفراد أسرة آل علي، حكام جبل شمر السابقين ـ إلى جبل شمر، لانتزاع الإمارة من أمير الجبل، عبدالله بن رشيد. وحينما علم هذا الأخير بقدومهم هرب، وذهب إلى جبّة ـ إلى الشمال من حائل ـ ودخلت الفرقة حائل دون مقاومة. وبعد أن أدت مهمتها، عادت إلى عنيزة، وبقي عيسى بن علي، ومعه مائة جندي، في حائل.

وسارت القوات المصرية نحو الرياض، وهي تجد التشجيع من سكانها، الذين قدم منهم وفد، ليعلن ولاءهم للجيش المصري. وفر منها المعارضون من آل الشيخ، إلى جهات الحلوة والحريق وحوطة بني تميم، في جنوبي نجد. ودخل خالد بن سعود وإسماعيل بك، بقواتهما، الرياض، دون قتال، في 7 صفر 1253هـ/مايو 1837م.

وأراد خالد بن سعود، أن يخضع المناطق الجنوبية من نجد، بالقوة، بعد أن رفضت طاعته، فأنزلت به هزيمة ساحقة، قرب بلدة الحلوة، في 15 ربيع الثاني عام 1253هـ / يوليه 1837م، وعاد بفلوله إلى الرياض.

وبناء على هزيمة خالد بن سعود، في بلدة الحلوة، سارع الإمام فيصل بن تركي، من الأحساء إلى الخرج، وانضم إليه أهل الخرج والحوطة والحريق والفرع، الذين هزموا خالداً. وانطلق بهم نحو الرياض، وحاصرها في جمادى الآخرة عام 1253هـ/سبتمبر 1837م. ولكنه اضطر إلى فك الحصار والتراجع نحو منفوحة، في شعبان من تلك السنة، بعد أن زحفت حشود من قبيلة سبيع، بقيادة فهيد الصييفي؛ ومن قبيلة قحطان، بقيادة قاسي بن عضيب، لنجدة خالد بن سعود. وشنوا الغارة على الإمام فيصل وجنوده. وهناك جرت محادثات للصلح، أول مرة، بين الإمام فيصل بن تركي وخالد بن سعود، في شعبان 1253هـ/ نوفمبر 1837م، انتهت بالفشل، ودارت الحرب مجدداً بين الفريقَين مع وصول قوات جديدة من مصر.

وقد أرسل محمد علي حملة عسكرية، بقيادة واحد من أمهر قادته العسكريين، وهو خورشيد باشا[3].

وأول ما فعله وهو في طريقه إلى نجد، أن أرسل رسالة وهدايا إلى الإمام فيصل، مع الشريف عبدالله، صاحب ينبع، وأذن للإمام أن يأخذ ما أراد أخذه من ممتلكاته، الموجودة في الرياض، ووعده "بالتقرير في ملكه، ولا عليه منازع"، كما ذكر ابن بشر.

وربما كان قصد خورشيد باشا من هذا الوعد، هو أن يبقي الإمام فيصلاً حاكماً على جنوبي نجد والأحساء، وهما المنطقتان اللتان لا تزالان مواليتَين له. وربما سعى إلى كسب الوقت، حتى يصل إلى العارض، قبل أن ينال الإمام فيصل من خالد.

وعلى العموم، فإن الإمام فيصل، رحل عن منفوحة في ذي القعدة 1253هـ/فبراير 1838م. وتراجع إلى الدلم، وأرسل بهدية من الخيل والمطايا العُمانية، إلى خورشيد باشا، وهو في المدينة المنورة، مع أخيه جلوي بن تركي. وظل جلوي بن تركي مرافقاً لحملة خورشيد باشا، في مسيرتها من المدينة حتى وصل القصيم. وسواء كان بقاء جلوي مع خورشيد، شرطاً من شروط خورشيد، ليبقى رهينة حتى لا يهاجم الإمام فيصل خالد بن سعود، أم كان رغبة من الإمام في كسب ثقة خورشيد باشا، وإظهار حسن نيته تجاهه ـ فإن جلوي بن تركي، حانت له الفرصة، في عنيزة، فهرب، ولحق بأخيه فيصل، وأطلعه على نيات خورشيد باشا ضده.

وفي هذه الأثناء، حدث تغير في سير الأمور، في جبل شمر. فقد ترك أمير جبل شمر، المعزول، عبدالله بن علي بن رشيد، بلدة جبّة ـ قرب حائل ـ واتخذ من منطقة قفار، المجاورة لحائل، مركزاً لنشاطه ضد عيسى بن علي، الذي تولى الإمارة، من قبل خالد بن سعود. ورأى أن يتصل بخورشيد باشا، ويتعاون معه، في مقابل أن يساعده الباشا على استرداد إمارته. وبالفعل، توجه إلى خورشيد باشا، في المدينة المنورة، ووقع الاتفاق بينهما. ولكن في فترة وجوده مع خورشيد باشا، تمكن أخوه، عبيد بن علي بن رشيد، من الاستيلاء على حائل، وأخرج منها عيسى بن علي. وعاد عبدالله بن رشيد إلى إمارة حائل، وباركه خورشيد باشا.

وصل خورشيد باشا إلى القصيم، وأقام بها خمسة أشهر، وأطاعه زعماء القبائل، وقدموا له الولاء. وأعلن له عبدالله بن علي بن رشيد الولاء.

ووصلت حملة خورشيد باشا إلى الرياض، في رجب 1254هـ/ سبتمبر 1838م. وطلب من الإمام فيصل بن تركي ـ الموجود في الدلم ـ الاستسلام، وإلا فإنه سيواجه الحرب. ولما رفض الإمام فيصل الإنذار، وقع القتال بين الطرفَين في معركة الخراب، في جهة الدلم، تغلبت فيه قوات خورشيد باشا على الإمام فيصل وأتباعه. وانتهى الأمر باستسلام فيصل بن تركي، في رمضان 1254هـ/ نوفمبر 1838م، بعد أن حصل على الأمان للبلدة. وفي اليوم الثاني من شوال، أُخِذ إلى مصر، ومعه ولداه، عبدالله ومحمد، وأخوه، جلوي بن تركي، وابن أخيه، عبدالله بن إبراهيم بن عبدالله، حيث انضموا إلى بقية آل سعود هناك. وكانت تلك نهاية الفترة الأولى، من حكم الإمام فيصل بن تركي.

فترة الفوضى، بعد نفي الإمام فيصل بن تركي

بدأ خورشيد باشا بإخضاع المناطق، التي كانت تابعة للإمام فيصل بن تركي، ومنها الأحساء. فدخلتها قواته، في شوال 1254هـ/ ديسمبر 1838م، بعد فرار أميرها، عمر بن عفيصان وتركه المنطقة، على الرغم من عرض خورشيد باشا الأمان عليه، والتجأ إلى آل خليفة، ثم إلى الكويت. وعين خورشيد باشا أحمد السديري أميراً على الأحساء، وعيسى بن علي، الذي طرده آل رشيد من إمارة جبل شمر، أميناً لبيت المال فيها.

ودخلت قوات خورشيد باشا القطيف وسيهات، وأطلت على ساحل الخليج. ومن هناك، سعت إلى بسط سيطرتها على البحرين وعُمان. وعُقد اتفاقٌ بين خورشيد باشا وبين آل خليفة، حكام البحرين. كما أجبر سلطان مسقط على الخضوع له، وأقام علاقات طيبة بحاكم الكويت.

وكان خورشيد باشا، طوال تلك الفترة، مقيماً في الدلم، ثم انتقل إلى ثرمدا، في عام 1256هـ/1840م.

وكان نجاح خورشيد باشا، في مد نفوذ محمد علي باشا إلى منطقة الخليج العربي، مثار تخوف من بريطانيا، فوجدت في هذه السيطرة المصرية تهديداً لمصالحها. وبدأت تقف ضد طموحه، وساندت الدولة العثمانية على حربها ضد قوات محمد علي، حتى اضطر إلى توقيع معاهدة لندن في 15 يوليه 1840م، وسحب قواته من بلاد الشام والجزيرة العربية. وبذلك، لم تطل إقامة قوات خورشيد باشا في منطقة الخليج ونجد، فوصلته الأوامر من مصر بالعودة. وبدأ الانسحاب إلى الحجاز، ومنها إلى مصر، بعد أن ترك حاميات صغيرة، لتدعم حكم خالد بن سعود، في الرياض.

وواجهت خالد بن سعود مشكلات عديدة؛ إذ خرجت عن طاعته المناطق النائية عن الرياض. ووقع قتال بين زعيم جبل شمر، عبدالله بن علي بن رشيد، ومن تابعه، من شمر وحرب، وبين أمير بريدة، عبدالعزيز بن محمد آل عُليان، ومن تابعه من أهل القصيم وعنزة. وذلك في بلدة بقعاء، في جمادى الأولى عام 1257هـ/ يوليه 1841م.

ولكن التطور الأهم، هو قيام عبدالله بن ثنيان بن إبراهيم آل سعود، بتمرد على خالد بن سعود. فقد استطاع عبدالله بن ثنيان، عام 1257هـ، الهرب من خالد بن سعود، الذي توجه إلى الشنانة ـ بالقصيم ـ ليودع القائد خورشيد باشا، وهو يتأهب للعودة إلى مصر. وواصل عبدالله بن ثنيان فراره إلى المنتفق، في جنوبي العراق. والتجأ إلى عيسى بن محمد. وفي رجب 1257هـ/أغسطس 1841م، عاد من هناك إلى نجد، ونزل بلدة الحائر، جنوب الرياض، واتخذها مركزاً لنشاطه. وكاتب أهل الحريق والحوطة والحلوة، وجمع أنصاراً له، ضد خالد بن سعود. وبين لهم عزمه على طرد الحملة المصرية من نجد. وفي المقابل، كاتب خالد بن سعود أهل المناطق النجدية، يستحثهم على الغزو. ولكنه لم يجد منهم استجابة. ولما فشل خالد بن سعود في مواجهة ابن ثنيان، قرر الابتعاد عن نجد، وتوجه إلى الأحساء، في شعبان 1257هـ/ سبتمبر 1841م، وترك حمد بن عياف أميراً على الرياض. وخلال هذه الفترة، استولى عبدالله بن ثنيان على ضرما، وزحف مع أتباعه إلى عرقة. ووصلته هناك إمدادات، بقيادة سعد بن تركي الهزاني، صاحب الحريق، مما قوى من عزمه، فاحتل عرقة، عنوة. وانطلق إلى منفوحة، فدخلها، وتوجه إلى الرياض، وبعد قتال مع أهلها، في شوال 1257هـ/ نوفمبر 1841م، هاجمها، وخاض قتالاً مع جنود الحملة المصرية فيها، وقد كانوا اعتصموا بالقصر، ثم دخلها، عنوة، وأجبر الحامية العسكرية فيها على مغادرتها، بعد أن أمّنهم. وتوافد زعماء المنطقة على ابن ثنيان، في الرياض، يبايعونه ويعلنون له ولاءهم.

وأراد خالد بن سعود، أن يجهز جيشاً من الأحساء، ويزحف به نحو الرياض. ولكن الوهن دب في نفسه، فغادر المنطقة إلى الكويت، ومنها عاد، سراً، إلى القصيم، ثم رحل إلى مكة المكرمة.

ولما علم عبدالله بن ثنيان بهروب خالد بن سعود من الأحساء، بعث، في محرم 1258هـ/فبراير 1842م، طليعة من أتباعه، بقيادة عبدالله بن بتال المطيري، استولت على قصر الحكم هناك. وبعث عمر بن عفيصان أميراً على الأحساء، ووفد زعماؤها ليبايعوا ابن ثنيان، في الرياض. وعين أحمد ابن محمد السديري أميراً على القطيف. وبذلك، شمل نفوذه المنطقة الشرقية ونجداً، باستثناء القصيم وجبل شمر.

ولكن عهد عبدالله بن ثنيان، كان قصيراً. فقد تمكن فيصل بن تركي، بمساعدة من عباس باشا ابن طوسون ـ أي حفيد محمد علي باشا ـ أن يغادر مصر، في بداية عام 1259هـ/فبراير 1843م، ووصل إلى جبل شمر، ومعه ابنه، عبدالله بن فيصل، وأخوه، جلوي بن تركي وابن أخيه، عبدالله بن إبراهيم بن عبدالله. وبدأت الفترة الثانية من حكم الإمام فيصل بن تركي.

الفترة الثانية من حكم الإمام فيصل بن تركي

لما استقر المقام بالإمام فيصل بن تركي، في حائل، لدى صديقه، أمير جبل شمر، عبدالله بن علي بن رشيد، أخذ من هناك يكتب لأمراء مناطق نجد وزعمائها، يخبرهم بوصوله، ويطلب منهم الانضمام إليه.

وحينما علم عبدالله بن ثنيان بوصول فيصل بن تركي إلى حائل، استنفر قواته، ونزل بها في بنبان ـ شمال الرياض ـ في طريقه إلى القصيم، لملاقاة فيصل بن تركي. ووصلته هناك رسائل منه، ففر بعض رجاله، ولحقوا بفيصل بن تركي. وبعث أمير ضرما إلى فيصل، في حائل، حاملاً هدية منه ليثنيه عن عزمه.

وانطلق فيصل بن تركي إلى القصيم ـ المنطقة الأولى، في طريقه من جبل شمر ـ وحينما وصلها، اختلف زعماء المنطقة فيما بينهم حياله، فانضم إليه أمير عنيزة، عبدالله بن سُلَيْم وأيده، بينما اختار أمير بريدة، عبدالعزيز بن محمد آل عُليان، الوقوف إلى جانب عبدالله بن ثنيان، الذي وصل إلى سدير. ويرجع السبب في هذا الاختلاف، فيما يبدو، إلى ما وقع بين أمير بريدة وأمير جبل شمر، عبدالله بن رشيد ـ حليف فيصل بن تركي ـ من عداوة سابقة. فظن أمير بريدة أنهم صاروا يداً واحدة. ورحل ابن ثنيان بأتباعه إلى بريدة، ونزل بهم خارج البلدة، فخرج له أميرها وبايعه. وكان فيصل قد أرسل أخاه، جلوي بن تركي، وعبيد بن رشيد، إلى محمد بن فيصل الدويش، زعيم مطير، في الحمادة، وكان على عداوة مع عبدالله بن ثنيان.

وعلى هذا الوضع، وصل فيصل بن تركي إلى عنيزة، قادماً من حائل، يرافقه أمير جبل شمر، عبدالله بن رشيد. ووجد فيها غاية الترحيب، وبايعه أميرها وأهلها، مما عزز موقفه ضد عبدالله بن ثنيان، الذي انفصل عنه بعض أتباعه، وانضموا إلى فيصل في عنيزة. وهنا، آثر عبدالله بن ثنيان العودة أدراجه، منهزماً نحو الرياض. وحينما علم بذلك محمد بن فيصل الدويش، شن غارته على جنود عبدالله بن ثنيان، ولحق بهم، قرب الوشم حيث تفرق عن ابن ثنيان جنوده. ومكث الدويش في ثادق، ينتظر قدوم فيصل وأتباعه.

وواصل فيصل بن تركي تقدمه نحو العاصمة، في ربيع الأول 1259هـ/ أبريل 1843م، وقد أذعنت له البلدان التي مر بها. وكتب، وهو في حريملاء، إلى عبدالله بن ثنيان، يدعوه للمصالحة، وحقن الدماء، وأن يخرج من الرياض، بما عنده من الخيل والركاب والسلاح والأموال والرجال، وليس له معارض، وينزل أي بلد يشاء في نجد أو غيرها، وله، مع ذلك، الخراج، كل سنة، ما يكفيه. فأبى عبدالله بن ثنيان. وهنا، توجه فيصل بن تركي وأتباعه إلى الرياض، ولم يقع بينه وبين أهلها قتال. واستطاع، أخيراً، أن يدخلها، في ربيع الثاني عام 1259هـ/مايو 1843م، بفضل المساعدة التي قدمها له أهلها. وحاصر عبدالله بن ثنيان، في قصر الحكم، مدة ثلاثة أسابيع. وجرت مفاوضات بين الطرفَين، تولاها عبيد بن رشيد. وعلى أثر فشل المفاوضات، تسلل عبدالله بن ثنيان من القصر، بقصد الهرب. لكنه وقع في قبضة أعوان فيصل بن تركي، وسلموه له، فأمر بسجنه. وبقي شهراً واحداً في السجن، حيث وافته المنية، في منتصف جمادى الآخرة 1259هـ/14 يوليه 1843م.

وبذلك، انتهت فترة عبدالله بن ثنيان، التي دامت عامَين. وبدأت الفترة الثانية من حكم الإمام فيصل بن تركي، التي استمرت ثلاثة وعشرين عاماً.

توحيد نجد والأحساء

وكان على الإمام فيصل بن تركي، أن يستعيد سيطرته على كامل البلاد، التي مزقتها النزاعات، ويقضي على الفتن والقلاقل، التي تثيرها القبائل.

وبالفعل، قدمت إليه وفود من بلدان نجد المختلفة، لمبايعته، وإظهار الطاعة والولاء. وساعده على ذلك الحس الديني الكبير، الذي تميزت به شخصية الإمام فيصل، وما كان يوجهه من نصائح إلى أتباعه؛ كما فعل عند توليه الحكم، أول مرة (اُنظر ملحق نصيحة الإمام فيصل بن تركي إلى عامة المسلمين). وعين ابن عثيمين أميراً على وادي الدواسر. وأقر كل أمير في بلده.

ولتحقيق سيطرته على الأحساء، بعث قائده، عبدالله بن بتال المطيري، ليتولى الأمور فيها، فضبطها. ولكن بعد أشهر قليلة، هاجمت قبيلة المناصير[4] قافلة للحجاج، ونهبتها، مما يعد إخلالاً بالأمن، وعدواناً على الأبرياء. فاستشاط الإمام فيصل غضباً، وقاد بنفسه حملة، توجه بها إلى القطيف، لتأديب القبيلة المعتدية، فأنزل بها العقاب الصارم. كما هاجم آل مرة، ثم أغار على قبيلة بني هاجر، وألحق بهم خسائر فادحة. وهاجم الدمام، وانتزعها من يد عبدالله بن خليفة وأولاده ـ رؤساء البحرين ـ الذين استسلموا له. وخلصت لنفوذه المنطقة كلها، وعين أمراءه على الأحساء والقطيف.

وما أن انتهي من أمر قبيلة المناصير، حتى برزت له، وهو في الأحساء، عام 1260هـ/ 1844م، مشكلة أخرى أثارتها قبيلة العجمان وقبائل أخرى. فقد أغارت فئات من هذه القبيلة، بزعامة محمد بن جابر الطويل، ومعهم أخلاط من قبيلة سبيع، على زعيم قبيلة مطير، محمد بن فيصل الدويش وعربانه، ونهبوا أموالهم. وكان الدويش قد اشترك مع الإمام فيصل، في حربه ضد عبدالله بن ثنيان، كما تقدم. ولهذا، قدم إلى الإمام فيصل يسترفده، وهو في الدمام. فأعطاه مساعدة، مالية وعينية، ولم يتخذ أي إجراء عسكري ضد المعتدين.

وفي عام 1261هـ/1845م، وقعت عدة اضطرابات وفتن أخلت بالنظام، فقد وقع خلاف بين أهالي الأفلاج، واضطر للقيام بحملة عليهم لحل النزاع. وحبس أهل الخلاف. ثم عاد إلى الرياض.

ولما وقع خلاف آخر بين أهل وادي الدواسر، أرسل جيشاً بقيادة أخيه، جلوي بن تركي، للقضاء عليه. وفي العام نفسه، استولى أمير عنيزة، عبدالله بن سُلَيْم، على إبل لأمير جبل شمر. ورداً على ذلك، قام عبيد بن رشيد، في رمضان 1261هـ/سبتمبر 1845، بغارة على عنيزة، وقتل أميرها.

وفي آخر العام نفسه، اعتدى زعيم قبيلة العجمان، فلاح بن حثلين، على قافلة للحجاج، قادمة من العجم والبحرين والقطيف والأحساء، وقتل كثيراً من رجالها، ونهب أموالهم.

لقد زادت هذه الفتن والاضطرابات من تعقيد الوضع الداخلي. وتفاقم هذا الوضع وتحول إلى مشكلة حقيقة بوقوع مشكلة العجمان.

مشكلة العجمان

اشتهرت قبيلة العجمان بشدة الشكيمة وصعوبة المراس، على الرغم من قلة عددها. وكان لزعمائها مكانة لدى الإمام تركي بن عبدالله، الذي أنزلهم في بعض ديار بني خالد، في الأحساء وشرقي شبه الجزيرة العربية، ومكن لهم هناك. وكان من مشاهير زعمائها فلاح بن حثلين، الذي ظل زعيماً، من عهد الإمام تركي بن عبدالله، حتى عام 1262هـ/1846م. ومر، فيما سبق، هجوم فئات من هذه القبيلة على زعيم قبيلة مطير، محمد الدويش، وقيام فلاح بن حثلين، عام 1261هـ/1845م، بالاعتداء على قافلة للحجاج، وقتْل كثير من رجالها ونهب أموالها، ومات من الظمأ من نجا من القتل.

وهنا، قام الإمام فيصل بن تركي بتجهيز جيش كبير، لتأديب المعتدين على ما اقترفوه، من إخلال بالأمن وقتل للحجاج الآمنين، وهم من رعايا دول أجنبية، وما يمكن أن يؤدي إليه هذا الأمر، من تعقيدات سياسية. وتوجه الإمام بجيشه ذاك، من الرياض إلى المنطقة الشرقية، في ذي القعدة عام 1261هـ/ نوفمبر 1845م. ولما رأى العجمان قوة الجيش القادم لمحاربتهم، علموا أن الخطر محدق بهم، فسارع رؤساؤهم إلى تقديم الاعتذار عما وقع من ابن حثلين، وتبرأوا مما صنع. فقبل الإمام منهم ذلك، وعفا عنهم، وأمرهم بالخروج من ديارهم ـ وهي في الأصل لبني خالد ـ في مهلة عشرة أيام. وأحل زعيم مطير، الدويش، وأتباعه، محلهم. وتمكن زعيم العجمان، فلاح بن حثلين، من الهرب، والتجأ إلى محمد بن هادي بن قرملة، في العرمة، وظل يتنقل من مكان إلى آخر، مختفياً، حتى قبض عليه، وقتل في الأحساء، عام 1262هـ/1846م.

وتولى راكان بن فلاح بن حثلين زعامة العجمان، بعد مقتل والده، وهو شاعر وفارس مشهور، تروى حوله قصص بطولية. واستمر سنوات، لا يصدر منه ما يعكر صفو الأمن، أو يثير مشكلات لحكومة الإمام فيصل. ولكنه، في عام 1276هـ/1859م، أغار على إبل للإمام فيصل نفسه، وأخذها، ثم ارتحل إلى الصبيحية، القريبة من الكويت. وقام بغارات على أطراف العراق. فجهز الإمام فيصل جيشاً وضع على رأسه ابنه، عبدالله بن فيصل، في شعبان 1276هـ/مارس 1860م. وفي طريقه إلى الصبيحية، وجد جماعة من العجمان عند ماء الوفراء، وهاجمهم وفتك بهم. وكان زعيمهم راكان، قد توجه إلى الجهراء، فتعقبه عبدالله بن فيصل إلى هناك، حيث وقعت معركة انتهت بهزيمة العجمان، وقتل حوالي سبعمائة رجل منهم، وفرت بقاياهم إلى داخل بلدة الكويت، واحتمت بها. وتخلصت البصرة والزبير من غارات راكان وقومه، وكان ذلك في 17 رمضان 1276هـ/أبريل 1860م.

لكن الهزيمة التي حلت بالعجمان في الجهراء، لم تقض على رغبتهم في الانتقام، فتحالفوا مع فئات من قبيلة المنتفق. وشن المتحالفون الغارات على القوافل، في شمال شرقي شبه الجزيرة، وجنوبي العراق، في البصرة وما حولها. واتخذوا من الجهراء مركزاً لنشاطهم. وألحقوا الأذى بالناس.

وحين علم الإمام فيصل بأعمالهم وخططهم، التي يدبرونها ضده، جهز جيشاً بقيادة ابنه، عبدالله بن فيصل، مرة أخرى، لمحاربتهم، في شعبان عام 1277هـ/فبراير 1861م. وسار حتى وصل الجهراء ـ بالقرب من الكويت ـ وحاربهم وانتصر على جموع المتحالفين، في رمضان من تلك السنة، وحصرهم بين قواته وبين البحر. ومات قسم كبير منهم غرقاً. وعرفت تلك السنة بسنة (الطَبْعَة) أي الغرق. على أن راكان بن حثلين. استطاع أن يخترق صفوف المهاجمين، وينجو بنفسه هرباً. وبهذه الهزيمة، كسرت شوكة قبيلة العجمان.

مشكلة القصيم

برزت مشكلة القصيم بسبب تطور العداء، الذي وقع بين زعمائها وزعماء جبل شمر. فقد حدث أن لجأ أنصار زعماء جبل شمر السابقين، من آل علي، إلى بريدة. وقد حاول أمير جبل شمر الجديد، عبدالله بن علي بن رشيد، عام 1254هـ/ 1838م، أن يعتدي على أحد أنصار آل علي، في البلدة، ففشل في مسعاه. وخرج أمير بريدة، عبدالعزيز بن محمد آل عُليان، فقتل ستة من رجال ابن رشيد، وأخذ كثيراً مما كان معهم من السلاح والركائب. ثم أخذ ابن رشيد إبلاً تابعة لأهل بريدة.

وتطور العداء بين الطرفين إلى وقوع معركة بقعاء الشهيرة، عام 1257هـ/ 1841م، التي هزم فيها أهل القصيم، ومن حالفهم من قبيلة عنزة، وقتل فيها أحد أبناء أمير بريدة، كما قتل صبراً أميرعنيزة، يحيى بن سُليم، بعد انتهائها.

وفي عام 1261هـ/ 1845م، أخذ أمير عنيزة، عبدالله بن سليم، إبلاً لعبدالله بن رشيد. وفشلت المفاوضات في ردها إليه. فأغار عبيد أخو ابن رشيد، على غنم أهل عنيزة. وخفّ أهل هذه البلدة مع أميرها، إلى استرجاع الغنم. لكن عبيداً انتصر عليهم، وأسر الأمير عبدالله بن سُليم، ثم قتله صبراً.

ويبدو أن أهل عنيزة، كانوا يعتقدون أن الإمام فيصلاً، سيقوم بمعاقبة عبدالله بن رشيد على ما فعله أخوه عبيد. لكن الإمام اقتنع بالأسباب، التي ذكرها له أمير الجبل لما حدث.

وفي ربيع الثاني سنة 1263هـ/مارس 1847، جهز شريف مكة، محمد بن عون، حملة عسكرية ضد نجد، بعد أن زين له غزوها أناس من أهلها. واصطحب معه خالد بن سعود، الذي كان فر إلى مكة. وتوغل في أراضي نجد، حتى وصل القصيم، وأطاعه أهلها بأجمعهم، وقدموا العون للشريف. واستنفر الإمام فيصل قواته، وجمع حشوده، في جمادى الأولى عام 1263هـ/1847م. وحينما علم الشريف محمد بن عون مقدار قوة الإمام فيصل، داخله الذعر، فمال للصلح. وأهدى إليه الإمام هدية من النجائب العُمانيات، وأطايب الخيل. وعاد من عنيزة إلى مكة المكرمة، في منتصف رجب من السنة عينها.

وبادر الإمام فيصل بن تركي إلى عزل أمير عنيزة، في عام 1264هـ/1848م، لاعتقاده بأنه أغرى الشريف بغزو نجد، وفتح له أبواب بلدته. وعين مكانه ناصر بن عبدالرحمن السحيمي. وناصب آل سليم، أسرة الأمير المعزول، أسرة السحيمي، أسرة الأمير الجديد العداء. وحاولوا بزعامة عبدالله بن يحيي بن سليم، اغتيال السحيمي، والاستيلاء على قصر الإمارة، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل. فهربوا من عنيزة، واحتموا بأمير بريدة، عبدالعزيز بن محمد آل عُليان. وألزمهم الإمام فيصل بالقدوم إليه في الرياض، ليرى رأيه فيهم. وقتل السحيمي أميرَ عنيزة السابق، إبراهيم بن سليم، وجرح أخاه. وقتل شقيقه مطلق السحيمي، أحد أعوان آل سليم. فأمر الإمام فيصل السحيمي بالحضور إليه، ليحاكم مع عبدالله بن يحيى ومن معه، عند قاضي الرياض.

ورأى الإمام فيصل، أن من المصلحة إبعاد الأسرتَين عن إمارة عنيزة، وتعيين أحد رجاله فيها. فبعث عبدالله المداوي. لكن أخا السحيمي، رفض تسليمه قصر الإمارة، وأظهر أهلها بوادر العصيان. ولما علم الإمام فيصل بذلك، سأله السحيمي، أن يعيده إلى إمارة البلدة، لكي يقضي على عصيانها. فسمح له الإمام فيصل بالعودة إلى عنيزة. لكنه ما أن وصل إليها، حتى انضم إلى الثائرين فيها. وقد نجح أولئك المتمردون في كسب أمير بريدة، ليصبح رئيساً لثورة عامة، في القصيم.

وبعد أن عمت الثورة أنحاء القصيم، وعلى رأسها عبدالعزيز بن محمد آل عُليان، قاد الإمام فيصل بنفسه قوات كبيرة، وتوجه إليها للقضاء على التمرد، بالسلم أو بالحرب. وحينما وصل بلدة المذنب، بعث إلى زعماء القصيم يدعوهم إلى حل سلمي، فاستجابوا لدعوته، واتفقوا معه على أن يعودوا إلى طاعته، ويلتزموا بما التزم به سكان دولته. وبدأت الأمور تعود إلى مجاريها. لكن حادثة وقعت، فبددت كل أمل في الهدوء؛ إذ قبل أن يعود الإمام فيصل إلى الرياض، علم أن عربان الدهامشة، من قبيلة عنزة، قد اجتمعت على ماء الطرفية في القصيم. وكانت هذه القبيلة، حينذاك، حليفة لأهل القصيم. ويبدو أن الإمام فيصلاً، قد رأى أن اتفاقه مع زعماء القصيم، لا يشمل القبيلة المذكورة، فأمر ابنه، عبدالله، أن يغير عليهم. فهاجمهم، وغنم منهم كثيراً من الإبل والغنم. فقدم زعيمهم ثلاب الفنتشة إلى عنيزة، التي كان بها عبدالعزيز آل عُليان، واستصرخه وبعض أتباعه، لينتقموا من عبدالله بن فيصل. وانتهز عبدالعزيز الفرصة، وهب مع نحو ألف وخمسمائة مقاتل، وسار بهم من عنيزة. وحينما تجاوزوا بريدة، قابلهم بدو من أصحاب عبدالله بن فيصل، ومعهم شيء من أغنام الغنيمة، أرسلها معهم إلى أبيه، فأخذوا الأغنام، وأمسكوا بالرجال. وقال بعضهم لعبدالعزيز: ارجع بهذه الغنيمة. ودع عنك السرية، فإن الشر لا يأتي إلا بشر مثله. وقال الآخرون: سر بنا إليهم نقاتلهم ونناجزهم (أي مناجزة عبدالله بن فيصل وأتباعه). وتقابل الطرفان في النفود، المسماة اليُتيّمة، بين الشماسية والطعمة. فانتصر عبدالله بن فيصل على أهل القصيم انتصاراً ساحقاً، وفتك بهم. وكان لهذه المعركة، التي جرت عام 1265هـ/1849م، وقع ثقيل على أهل القصيم.

وبعد معركة اليُتيّمة، هرب عبدالعزيز آل عُليان إلى عنيزة. وقد رأى سكانها غير متحمسين لدعوته لقتال الإمام، لشناعة ما حل بهم. فهرب منها عائداً إلى بريدة. وهرب من عنيزة، أيضاً، ناصر السحيمي إلى طلال بن رشيد، حاكم جبل شمر. واجتمع رؤساء أهل عنيزة، بعد هروب عبدالعزيز آل عُليان وناصر السحيمي، وسألوا القاضي المعروف، عبدالله أبا بطين، أن يركب إلى الإمام فيصل، ويطلب منه العفو عنهم. فاستجاب الشيخ عبدالله سؤالهم، بشرط أن يكفلهم أحد الوجهاء، وهو محمد بن عبدالرحمن البسام، الذي كان مسموع الكلمة فيهم، على أن لا ينكثوا بعهد أو يخلفوا وعداً. وتم له ما شرط عليهم، وذهب إلى الإمام فيصل، وهو في المذنب، وحصل منه على العفو لهم. وتقدم الإمام فيصل بمن معه إلى عنيزة، فدخلها، وأعطى أهلها الأمان، وجددوا البيعة له.

ثم بعث الإمام فيصل إلى عبدالعزيز آل عُليان، في بريدة، وطلب منه الاستسلام له، وإلا فإنه سيحاربه. لكن بعض أقرباء عبدالعزيز، وفدوا على الإمام فيصل، وتفاوضوا معه في شأنه، وبذلوا له أموالاً وسلاحاً وخيلاً، كما تعهدوا بعدم حدوث المخالفات منه مستقبلاً. فعفا الإمام عنه، وأبقاه أميراً على بلدته.

وأراد الإمام إقرار الأمن في القصيم، وتقليل نفوذ عبدالعزيز آل عُليان، فعيّن أخاه، جلوي بن تركي، أميراً عاماً على جميع بلدان القصيم، ويكون مقره في عنيزة.

وفي عام 1266هـ/1850م، خرج الإمام فيصل بن تركي من الرياض، غازياً عربان عتيبة، في أماكن على حدود القصيم. ويبدو أن عبدالعزيز آل عُليان ـ أمير بريدة ـ بات غير واثق بوضعه الجديد؛ فما أن اقترب الإمام فيصل وأتباعه من المنطقة، حتى داخله الوجل، فهرب من بلدته، متجهاً إلى الشريف محمد بن عون، في الحجاز. وحينما علم الإمام بهروبه، ذهب إلى بريدة، وعين شقيق عبدالعزيز، عبد المحسن بن محمد آل عُليان أميراً عليها. وحاول عبدالعزيز أن يغري الشريف بغزو نجد، ولكن تجربة الشريف السابقة أقنعته بعدم الإقدام على أية خطوة عسكرية ضد الإمام فيصل، وبخاصة أنه علم بمسير عبدالله بن فيصل نحو الحجاز، في نهاية العام. ومع ذلك، فقد تشفع الشريف لدى الإمام، بطلب العفو عن عبدالعزيز آل عُليان، حتى أعاده إلى إمارة بريدة، في أوائل عام 1267هـ/نوفمبر 1850م.

ولم تستمر الأمور في القصيم مستقرة. فقد ثار آل سليم، في عنيزة، وأنصارهم، ضد جلوي بن تركي، وأجبروه على مغادرتها، في عام 1270هـ/1854م. وتولى الإمارة، من بعده، عبدالله بن يحيى بن سليم. فجهز الإمام فيصل جيشاً، بقيادة ابنه، عبدالله بن فيصل، لمحاربة البلدة الثائرة ضد حكمه. وحدثت اشتباكات بين عبدالله بن فيصل وأهل عنيزة، توصل بعدها الطرفان إلى اتفاق، أبرم في الرياض، بأن تبقى البلدة تابعة للإمام، ويكون عبدالله بن يحيي أميراً عليها.

على أن مشكلة القصيم، لم تنته فصولها عند الصلح بين الإمام فيصل وأمير عنيزة. ففي عام 1275هـ/1858م، طلب الإمام فيصل من عبدالعزيز آل عُليان، أمير بريدة، أن يحضر إليه، في الرياض. ولما مثل بين يديه، أوضح له المآخذ، التي بدرت منه، وعزله عن إمارة بريدة، وعين بدلاً منه عبدالله بن عدوان آل عُليان. لكن أقرباء عبدالعزيز، قتلوا الأمير الجديد، بعد عام من توليه الإمارة. ومن الغريب، أن الإمام فيصلاً، عين أحد المشتركين في قتل ابن عدوان، وهو محمد الغانم، أميراً على البلدة.

بيد أن إمارة محمد الغانم، لم تدم طويلاً، إذ عزله الإمام عن الإمارة، وأعاد عبدالعزيز آل عُليان إليها، بعد أن تعهد له بإصلاح الأمور في بريدة، وإرسال من قتلوا عبدالله بن عدوان إلى الرياض، أو نفيهم من البلاد.

لكن عبدالعزيز، لم يف بما تعهد به للإمام فيصل، إذ قرب إليه القتلة. وبعد أن انتهت معركة عبدالله بن فيصل، في حملة على العجمان وحلفائهم، عام 1277هـ/ 1860م، اتجه بقواته إلى القصيم. فخاف عبدالعزيز على نفسه، فهرب من بريدة إلى عنيزة. ثم خرج منها متجهاً، مرة أخرى، إلى الحجاز. وتمكنت فرقة من جيش عبدالله بن فيصل، يقودها أخوه، محمد بن فيصل، من اللحاق به، على مسيرة بضعة أيام من عنيزة، فقتلته. وعين الإمام فيصل أميراً جديداً على بريدة، هو عبدالرحمن بن إبراهيم.

وبمقتل عبدالعزيز آل عُليان، تجددت الخلافات بين الإمام فيصل وأهل عنيزة. وتوترت العلاقات، حتى تحولت إلى حرب، بدأت في شوال 1278هـ/ 1862م. وكان عبدالرحمن بن إبراهيم، أمير بريدة، يقود قوات الإمام فيصل. ثم تولى قيادتها محمد بن فيصل، ثم أخوه، عبدالله بن فيصل، في العام التالي.

واستمرت الاشتباكات عاماً كاملاً، جرت خلالها معركتان كبيرتان، إحداهما معركة (رَواق)، انتصر فيها أهل عنيزة. والأخرى، معركة كَوْن المطر (أي معركة المطر)، كاد النصر يكون حليفهم فيها، كذلك، لولا أن الله أنزل المطر، فأبطل أسلحتهم من البنادق، التي تثور بالفتيل. وطالت محاصرة عبدالله بن فيصل لعنيزة، إلا أنه توصل، في نهاية الأمر، إلى صلح مع زعمائها، كان لأمير الجبل، طلال بن رشيد، اليد الطولى في عقده.

وقد صحب أمير عنيزة، عبدالله بن يحيى بن سليم عبدالله بن فيصل، إلى الرياض، فقابلا الإمام فيصلاً، وجددا البيعة له. وعادت العلاقة، بين زعماء بلدة عنيزة والإمام فيصل، إلى مجراها الطبيعي. وبذلك، انتهت مشكلة القصيم، التي شغلت الإمام فيصلاً ردحاً من الزمن، واستنزفت طاقاته المادية.

حدود الدولة السعودية، في عهد فيصل بن تركي

ذكر لويس بيلي (Lewis Pelly)، المعتمد البريطاني في الخليج العربي ـ الذي زار الإمام فيصل بن تركي، في الرياض، في شوال من عام 1281هـ /مارس عام 1865م ـ أن الدولة السعودية، تسيطر على ساحل الخليج العربي، وساحل عُمان. وكانت تأخذ الزكاة، العينية أو النقدية، من شيوخ البحرين وأبو ظبي ودبي وأم القيوين والعجمان والشارقة ورأس الخيمة. ولها مركز حربي في البريمي، الممتدة بين المشيخات المذكورة وسلطنة مسقط، التي تدفع الزكاة، بدورها، إلى الأمير فيصل. ويذكر بيلي في التقرير، أن حدود الدولة السعودية، من الشمال، هي صحراء النفود، وتضم إقليم جبل شمر، الذي يحكمه عبدالله بن رشيد. وأما في الجنوب، فقد وصلت حدود دولة فيصل بن تركي، إلى صحراء الربع الخالي وشمال شرقي عسير. وأما من الغرب، فيمكن تعيين حدود سيطرة السعوديين بحدود جغرافية، مثل جبل حضن، الذي يفصل بين نجد والحجاز، أي نهاية حدود منطقة القصيم، من الغرب.

 



[1] آل رشيد من آل جعفر أحد بطون عَبْدة من قبيلة شمّر. وهذا الرجل هو المؤسس لأسرة آل رشيد التي سيكون لها شأن في القضاء على الدولة السعودية الثانية ومقاومة الملك عبدالعزيز آل سعود في أوائل القرن العشرين الميلادي.

[2] كان إبراهيم باشا نقل دوسري بن عبدالوهاب أبو نقطة إلى مصر، وبقي بها حتى ذلك الحين.

[3] هو محمد خورشيد باشا، ألباني الأصل جاء إلى مصر صغيراً وتعلم في مدارسها المدنية والعسكرية. وكان ضمن حملة أرسلها محمد علي باشا إلى الحجاز. عيّنه محمد علي باشا وكيلاً للجهادية ثم مديراً للدقهلية توفي بالمنصورة عام 1256 هـ.

[4] المناصير ينسبون إلى منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ومنازلهم في ظاهرة عُمان والبريمي ودبي وقطر ويتوصلون في تنقلاتهم إلى الربع الخالي.