إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الحج والعمرة والزيارة





مصور مواقيت الإحرام
مصور منطقة الحرم
مصور مشاعر الحج
مصور المدينة المنورة
خلاصة أحكام الحج




المبحث الثاني

المبحث الثاني

أركان الحج

أولاً: الإحرام

تعريفه ووصفه: هو أول أركان الحج، وهو استعداد نفسي وبدني لأداء النسك، يبدأ بالتجرد من الملابس المعهودة ثم الاغتسال ولبس إزار ورداء، ثم صلاة ركعتين، إن لم يكن إحرامه عقب صلاة مكتوبة، ثم التلبية بالنسك المطلوب: إفراداً أكان أم تمتعاً أم قراناً.

1. أنواع الإحرام

صفة الإفراد: صفته أن يُحرم بالحج فقط، من الميقات، ثم يطوف طواف القدوم، ويبقى على إحرامه، من دون حلق أو تقصير، إلى أن ينتهي من أفعال الحج يوم العاشر من ذي الحجة. أما السعي فله أن يفعله بعد طواف القدوم.

أمّا التمتع: فصفته أن يُحرم في أشهر الحج بالعمرة فقط، ويطوف ويسعى لها، ثم يحلق شعره أو يقصّره، ثم يحل من إحرامه، ويلبس ثيابه. فإذا حلّ اليوم الثامن من ذي الحجة، أحرم بالحج وحده من مكانه، وأدّى جميع أفعاله بما في ذلك الطواف والسعي.

أمّا القِران: فصفته أن يُحرم بالحج والعمرة معاً، فتندرج أفعال العمرة في الحج. ويعمل القارن مثلما يعمل المفرد ما عدا وجوب الهدي عليه، وعدم وجوبه على المفرد.

وقد اتفق العلماء، على جواز هذه الأنواع الثلاثة، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: ]خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ. وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ r بِالْحَجِّ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 4056).

واختلف العلماء في أيهما أفضل: (اُنظر ملحق مناسك الحج على المذاهب الأربعة)

أ. ذهب المالكية والشافعية إلى أن الإفراد بالحج أفضل.

ب. وذهب الحنابلة إلى أن التمتع أفضل.

ج. وذهب الحنفية إلى أن الأفضل هو القِران.

وهناك إجماع بين المذاهب، على أن من تمتع بالعمرة إلى الحج، وجب عليه دم؛ والدليل على وجوبه قوله تعالى: ]فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ[ (سورة البقرة: الآية 196).

ولا يجب الدم على المتمتع، إلا إذا جمع بين الحج والعمرة في أشهر الحج في السنة نفسها، أو إذا نوى التمتع ولم يكن من أهل الحرم بدليل قوله تعالى: ]ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[ (سورة البقرة: الآية 196).

أمّا شرط وجوب الذبح، فهو القدرة عليه: فلا خلاف بين العلماء، أن المتمتع إذا لم يجد الهدي، لا يجب عليه؛ لأنه سبحانه وتعالى، أوجب ما استيسر من الهدي، ولا وجوب إلا على القادر. والعبرة في القدرة على الحال التي هو عليها أيام الحج، وليس بوطنه، فإن لم تكن له القدرة أيام الحج، جاز له الانتقال إلى الصيام، وإن كان قادراً على الذبح في بلده.

فيصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ لقوله تعالى: ]فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ[ (سورة البقرة: الآية 196).

ولصوم ثلاثة الأيام في الحج، وقت جواز ووقت استحباب. أمّا وقت الجواز فقد ذهب أبو حنيفة وأحمد، إلى أنها تجوز إذا انتهى من العمرة. وقال مالك والشافعي: لا يجوز إلاّ بعد الإحرام بالحج.

أمّا سبعة الأيام، فقد اختلف الفقهاء في وقتها، بعد إجماعهم على أنها لا تجوز قبل الفراغ من أفعال الحج، وبعد اتفاقهم كذلك على أنه إذا صام السبعة في أهله أجزأه ذلك. ومحل الخلاف هو، هل يجوز صيامها بمكة قبل الرجوع إلى الأهل؟ أم لا يجوز إلا بعد رجوعه إليهم؟ فبعض العلماء أجاز صيامها بمكة، وآخرون منعوا صيامها إلاّ بعد الرجوع إلى أهله. ولكنهم اتفقوا، على أن التتابع في صيام هذه الأيام، ليس شرطاً.

وإذا كان المتمتع الذي جمع بين النُسُكَين في وقت أحدهما قد وجب عليه دم، فإنه بالقياس، يجب دمٌ كذلك على القارن وقد جمع بين النُسُكَين في إحرام واحد.

وإذا لم يجد القارن الهدي، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع على نحو ما يفعل المتمتع.

2. الحكمة من الإحرام

الإحرام في الحج والعُمرة، بمنزلة التكبير في الصلاة، فيه تجسيد الإخلاص، والتعظيم لله، وضبط عزيمة الحج أو العُمرة بفعل ظاهر، وفيه جعل النفس متذللة خاشعة لله، بترك ما تهواه من الملذّات، والعادات المألوفة، وأنواع التجمل، وفيه تحقيق معاناة الخروج في سبيل الله، والتشعث، والتغبر لله.

والإحرام يوقظ في المسلم الشعور والانتباه لعظمة ما هو مقبلٌ عليه من نُسك وعبادة، خاصة أنه تجرد مما كان فيه، من مظاهر جوفاء، وعظمة زائفة، وأبهة مصطنعة.

والإحرام مشتق من فعله؛ ذلك أن المُحرم يُعطل جوارحه، من اللباس والطيب والنساء، وكذلك في الصلاة يحرم لها أي: يعطل جوارحه من كل شهوة.

3. التلبية

صفتها قول المُحْرم، عقب عَقْدِه نية الحج أو العمرة، وصلاة ركعتين سنة الإحرام، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". والتلبية، مشتقة من قولهم: "ألب في مكان"[1]، إذا أقام، فمعنى قول القائل: "لبيك: أنا مقيم على طاعتك وأمرك، غير خارج عن ذلك، ولا شارد عليك. وثُنيت وكررت، لإرادة إقامة بعد إقامة، كما قالوا: حنانيك؟ أي رحمة بعد رحمة. وقيل: هي مشتقة من قولهم: داري تلب دارك، أي: تواجهها، فمعنى قوله لبيك: اتجاهي لك يا رب. وقيل: هي مشتقة من قولهم: امرأة لبّة، أي: محبة لزوجها أو ولدها، فمعناه: محبتي لك يارب.

واتفق العلماء على استحباب الإكثار من التلبية في دوام الإحرام. ويظل الحاج ملبياً، حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر.

ولعلّ الحكمة في اختيار هذه الصيغة في التلبية، أنها تعبير عن قيام المُحرم بطاعة الله U، وهي تذكير له بذلك، وكان أهل الجاهلية يعظمون شركاءهم، فأدخل النبي r "لا شريك لك" رداً على المشركين، وتمييزاً للمسلمين رضي الله عنهم.

وقد قال النبي r: ]‏‏َأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ[ (موطأ مالك، الحديث الرقم 449). وقد اشتملت التلبية على هذه الكلمات بعينها، وتضمنت معانيها، وقوله: ]وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ (سورة التغابن: الآية 1). لك أن تدخلها تحت قولك في التلبية "لا شريك لك"، ولك أن تدخلها تحت قولك: "إن الحمد والنعمة لك"، ولك أن تدخلها تحت إثبات الملك لله تعالى، إذ لو كان بعض المخلوقات خارجاً عن قدرته وملكه، دافعاً بخلق غيره، لم يكن نفي الشرك عاماً، ولم يكن إثبات الملك والحمد لله عاماً، وهذا من أعظم المحال، فالملك كله له، والحمد كله له، وليس له شريك بوجه من الوجوه.

والحكمة في رفع الصوت بالتلبية، أنها إعلان لشعيرة من شعائر الله تعالى، وفيه تنويه بذكر الله، وكل ما كان من هذا الباب، فإنه يستحب الجهر به، وإعلانه.

والتلبية شعار الحج، وتكسبه فضلاً. عن أبي بكر t أن النبي r سُئل: أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ]الْعَجُّ وَالثَّجُّ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 2924). والعج: هو رفع الصوت بالتلبية، والثج: هو نحر الإبل.

وعن سهل بن سعد t قال: قال رسول الله r: ]مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إلاّ لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ، مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 758).

4. الاشتراط في الإحرام

يستحب لمن أحرم بالحج أو العمرة أو بهما معاً، أن يشترط عند إحرامه، فيقول: إن حبسني حابس، أي منعني مانع من دخول مكة أو الوقوف بعرفة، فمحلّي حيث حبستني، فإن حُبس حلّ من الموضع الذي حُبس فيه، ولا شيء عليه. وهذا الشرط يفيد في شيئين:

أحدهما: أنه إذا عاقه عائق من إكمال نسكه، من عدو أو مرض، أو ذهاب نفقة ونحوه فإن له التحلل. والثاني: أنه متى حلّ به ذلك، فلا دم عليه ولا صوم.

5. مستحبات الإحرام

يستحب لمن أراد الإحرام

أ. الاغتسال غسلاً ينوي به الإحرام، ويصح له التيمم لعدم وجود الماء، أو إن كان به مرض يؤثر عليه استعمال الماء.

ب. التَّطَيُّب ونظافة البدن.

ج. التجرد من المخيط من الملابس، ويلبس الرجل إزاراً ورداء أبيضين، وينتعل نعليْن، أو يلبس الخفين، إن لم يجد نعلين.

د. صلاة ركعتين بنية الإحرام.

6. إحرام المرأة

وعلى المرأة أن تحرم بما تيسر لها من الملابس، على خلاف ما يعتقده بعض النسوة من وجوب الإحرام بلباس أخضر أو أسود أو أبيض، فهذا كله اعتقاد بغير دليل. فالمرأة تُحرم فيما تراه مناسباً من لباس، مع تجنب ما فيه تشبه بالرجال، أو إبراز الزينة.

وإذا حاضت المرأة أو نفست، بعد وصولها الميقات، فعليها أن تغتسل، وتحرم، وتؤدي كل شيء يؤديه الحاج ما عدا الطواف بالبيت، ودليل ذلك أمره r، لأم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، أن تغتسل وتحرم بالحج بعد ما جاءها الحيض، وهي محرمة بالعمرة، وأمره r لأسماء بنت عميس، لما ولدت في ذي الحليفة، أن تحرم بعد أن تغتسل وتستشفر بثوب (أي أن تشد وسطها بثوب).

7. محظورات الإحرام

المحظورات، هي الأعمال الممنوعة، التي لو فعلها الحاج وجب عليه فيها فدية: دم أو صيام، أو إطعام، وتلك الأعمال هي:

أ. ما يحرم على الذكر والأنثى

(1) حلق الشعر (قصّه أو إزالته)، وإن قلّ، وسواء كان شعر الرأس أو غيره، بدليل قوله تعالى: ]ولاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ[ (سورة البقرة: الآية 196).

(2) تقليم أظافر اليدين، أو الرجلين، إلا لضرورة طبية.

(3) قتل صيد البر، أو إيذاؤه بأي وسيلة أو حيلة، بدليل قول الله تعالى: ]وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا[ (سورة المائدة: الآية 96).

(4) الجِماع ومقدماته، من قُبلة ونحوها. بدليل قوله تعالى: ]الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ[ (سورة البقرة: الآية 197). والرفث شامل للجماع ومقدماته.

(5) عقد النكاح، أو الخِطبة لنفسه، أو لغيره، أو لمن هو ولي له، أو وكيل عنه لقول الرسول r: ]لا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ ولا يُنْكَحُ ولا يَخْطُبُ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 2522).

(6) مسّ الطِيب

ب. ما يحرم على الذكر فقط:

(1) تغطية الرأس بما يلامسه، أما ما لا يلامسه كالمظلة، أو ما يقي رأسه من الشمس، أو الحر، أو البرد من دون لمس، فمُباح.

(2) لبس المخيط، إلا إذا لم يجد إزاراً ورداء، فله في هذه الحالة لبس السراويل.

(3) لبس الخفين إذا لم يجد نعلين.

ج. ما يحرم على الأنثى فقط

(1) تغطية الوجه، ما لم يكن ذلك لستره عن الرجال من غير محارمها.

(2) لبس القفازين

فإذا ارتكب المُحْرم شيئاً من هذه المحظورات، لزمته الفدية، ما لم يكن قد فَعَلَها ناسياً أو جاهلاً، أو مكرهاً، فلا حرج عليه، لعموم قول النبي r: ]إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 2033).

وإن ارتكب محظوراً كتقليم الأظافر ولم يفد عنه، ثم ارتكب محظوراً ثانياً، كلبس المخيط، لزمه الفدي مرة واحدة. أما إذا ارتكب محظوراً من جنس واحد كتقليم الأظافر ولم يفد، ثم أعاد الفعل نفسه مرة ثانية، لزمه الفدي مرة واحدة، أما إذا فدى عن الفعل الأول، ثم فعله مرة أخرى لزمه الفدي مرة أخرى. وإن ارتكب محظوراً من أفعال غير متجانسه؛ كلبس المخيط، وحلق الشعر؛ فعليه الفدية لكل منها.

أمّا إذا كان فعله يتعلق بالجماع، فإن ذلك يفسد حجه أو عمرته، ومع ذلك يجب عليه إتمام النُسك على الرغم من فساده، ثم يقضي حجه في عام قابل. ويستوي في هذا الرجل والمرأة، ما لم تكن المرأة قد أُكْرِهَتْ على ذلك.

وفي كل الأحوال، يجب على المحرم ـ ذكراً أو أنثى ـ تجنب الفسوق، والجدال، في أي مظهر من مظاهره سواء أكان ذلك بالكلام، أو بالكتابة، أو بالإشارة، أو بالمباشرة أو بالتحريض بدليل الآية الكريمة ]فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج[ (سورة البقرة: الآية 197)، وقول المصطفى r ]مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1424).

وعلى المحرم أن يدرك أَنَّ اجتناب المعاصي، كبيرها وصغيرها، واجبٌ على المسلم في كل وقت، فكيف بها، وقد أهلّ متوجهاً لله. وأنّ عليه الخشوع لله تعالى والخضوع له، والإكثار من دعائه والتقرب إليه، والالتزام بآداب الحج وقواعده، وما تضعه الجهات المسؤولة عن الحج من قواعد وتعليمات، لتنظيمه وأمنه وسلامته.

د. الإحصار[2]

الإحصار معناه لغة المنع والحبس، وشرعا المنع عن أداء النسك. ويكون الإحصار بكل شيء يحبس عن الكعبة سواء كان عدوا ـ ولو مسلما ـ أو مرضا يزيد بالسفر، أو موت مَحْرَم المرأة أو زوجها عند القائلين بوجوبه، أو هلاك النفقة. وهناك خلاف بين العلماء في تحديد الإحصار، هل هو: بالعدو، أم بغير العدو.

وقد نزلت آية الإحصار في حصر النبي r وأصحابه في الحديبية. وهي قوله تعالى: ]فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ[ (سورة البقرة: الآية 196). وقال ابن عباس t: ]لا حصر إلا حصر العدو[. والراجح أن الحصر، يكون بالمرض، والعدو، وغيرهما؛ لعموم الآية.

ما يُطْلب من المحصر

إذا مُنِعَ المحرمُ لأي سبب عن إتمام العمرة أو الحج، فله البقاء مُحْرِماً حتى يزول سبب الإحصار. ويمكنه إرسال شاة، أو ثمنها لِتُشْتَرَى، وتُذْبَحُ عنه في الحرم (له وقت معين عند أبي حنيفة) ويكفيه سُبْعُ بَدَنَة (أي ناقة)، ويتحلل بعد مضي الوقت الذي عينه الرسول r للذبح، ويكون التحلل بلا حلق ولا تقصير. ولكنه لا يتحلل قبل الذبح.

وثبت أن النبي r، حين أحصر في الحديبية، أرسل هديا فذُبح بالحرم، والكفار بمكة لا يعلمون. فإن لم يجد المُحْصَر ما يذبحه، بقي محرماً، حتى يجد الهدي ويُذْبَحَ في الحرم؛ لأن الهدي هنا لا بديل عنه في الآية. وعن أبي يوسف، أن الهدي يُثمن، ويتصدق بقيمته، لكل مسكين نصف صاع.

وإذا كان المحرم المُحصر قارناً أرسل هدياً للحج، وآخر للعمرة، ويبقى محرما حتى يصل الهدي ويذبح.

ولا يذبح هدى الإحصار، إلا في الحرم لقوله تعالى: ]وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ[ (سورة البقرة: الآية 196)، ومحله الحـرم، لقوله تعالـى: ]ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ[ (سورة الحج: الآية 33). وقوله: ]هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ[ (سورة المائدة: الآية 95). ويصح ذبحه قبل يوم النحر، عند أبي حنيفة. وقال الشافعي وأحمد: يتحلل المحصر بالحج أو العمرة، بذبح الهدي في مكان الإحصار، وبالحلق أو التقصير، ولا يطالب بإرسال الهدي إلى الحرم، لأن ذلك هو الثابت  الصحيح عن النبي r في عمرة الحديبية كما رواه أحمد والبخاري والبيهقي.

وقال المالكية: من منع بعد إحرامه عن الطواف، بمرض أو عدو، أو حبس، فإن له أن يتحلل بالنية ولا دم عليه، والحلق سنة في حقه.

ثانياً: الطواف (اُنظر شكل مصور منطقة الحرم)

هو الدوران حول الكعبة سبعة أشواط، تبدأ من الحجر الأسود، امتثالاً لقوله تعالى ]ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[ (سورة الحج: الآية 29). وينقسم الطواف إلى أنواع ثلاثة:

1. طواف القدوم: ويؤديه الحاج أول وصوله إلى مكة.

2. طواف الإفاضة: ويؤديه بعد الوقوف بعرفات، وهو ركن من أركان الحج.

3. طواف الوداع: ويؤديه قبيل خروجه من مكة.

وللطواف، شروط، وسنن، وآداب، تتوقف حقيقته عليها، وهي:

1. شروطه

أ. الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وعن النجاسة في البدن والثوب، والمكان، كما في الصلاة، فلو طاف الحاج وهو مُحدث حدثاً أصغر، أو أكبر، لا يصح طوافه، بل لابد من الوضوء، لمن به حدث أصغر، ولابدّ من الغسل لمن كان جُنباً أو المرأة إن طهُرت من حيض أو نفاس.

ب. ستر العورة، فلو طاف الحاج مكشوف جزء من عورته، أو طافت المرأة مكشوفة شيء من بدنها، سوى الوجه والكفين، لا يصح طوافهما، روى البخاري ومسلم والنسائي قول النبي r ]لاَ يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ولاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 4290).

ج. النية: عند الشروع في الطواف، إذ الأعمال بالنيات، فكان لابد للطائف من نية طواف وهي: عزم القلب على الطواف، تعبداً لله تعالى، وطاعة له.

د. أن يكون الطواف بالبيت، داخل المسجد ولو بَعُد من البيت (أي كان في الطابق الثاني مثلاً).

هـ. أن يكون البيت على يسار الطائف.

و. أن يكون الطواف سبعة أشواط، وأن يبدأ الشوط بالحجر الأسود، وينتهي به. لفعل الرسول r ذلك، كما ورد في الصحيح.

ز. أن يوالي بين الأشواط، فلا يفصل بينهما لغير ضرورة.

ح. أن يكون الطواف خارج البيت، فلا يطوف في حجر إسماعيل u، لأنه جزء من البيت، ولا يطوف كذلك في الشاذروان (وهو البناء الملاصق لأساس الكعبة، الذي يوضع به حلقة الكسوة).

2. سُننه، وهي:

أ. الرَّمل، وهو سُنّه للرجال القادرين، دون النساء، وحقيقته، أن يسارع الطائف في مشيه مع تقارب خطاه، ولا يُسنَّ إلا في طواف القدوم، وفي الأشواط الثلاثة الأولى منه فقط.

ب. الاضطباع، وهو كشف الضّبْع، أي الكتف الأيمن، ولا يسنّ إلا في طواف القدوم خاصة، وللرجل دون النساء، ويكون في الأشواط السبعة عامة.

ج. تقبيل الحجر الأسود عند بدء الطواف ـ إن أمكن ـ وإلا اُكْتُفِىَ بلمسه باليد، وإذا تعذر أشار إليه بيده اليمنى.

د. أن يقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنّة نبيك محمد r، عند بدء الشوط الأول. 

هـ. الدعاء أثناء الطواف، وهو غير محدد ولا مُعَين، بل يدعو كل طائف بما يفتح الله عليه، غير أنه يسنّ ختم كل شوط بأن يقال، بين الركن اليماني والحجر الأسود ]رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[ (سورة البقرة: الآية 201).

و. استلام الركن اليماني باليد، وتقبيل الحجر الأسود كلما مرّ بهما أثناء طوافه r، لفعله ذلك كما ورد في الصحيح.

ز. الدعاء بالملتزم، عند الفراغ من الطواف. والملتزم هو المكان ما بين الباب والحجر الأسود.

ح. صلاة ركعتين بعد الفراغ من الطواف، خلف مقام إبراهيم u، يقرأ فيهما بسورتي الكافرون، والإخلاص بعد الفاتحة، لقوله تعالى ]وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى[ (سورة البقرة: الآية 125).

ط. الشرب من ماء زمزم بعد الفراغ من صلاة الركعتين، والتضلع منها (أي كثرة الشراب حتى تمتلئ البطن). فقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله r شرب من ماء زمزم وأنه قال ]مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 3053).

ي. الرجوع لاستلام الحجر الأسود قبل الخروج إلى المسعى، إن أمكنه ذلك.

ك. حجر إسماعيل u جزء من البيت، يطاف حوله مع البيت، ولا يُطاف داخله، وتجوز الصلاة فيه نفلاً.

3. آدابه

أ. أن يكون الطواف في خشوع واستحضار قلب، وشعور بعظمة الله U، وفي خوف منه تعالى، ورغبة فيما لديه.

ب. أن لا يتكلم الطائف لغير ضرورة، وإن تكلّم تكلّم بخير فقط، لقوله r ]الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلاةِ، إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلا يَتَكَلَّمَنَّ إِلاَّ بِخَيْرٍ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 883).

ج. أن لا يؤذي أحداً بقول أو فعل، إذ إنَّ أذيّة المسلم محرمة في كل زمان ومكان، ولا سيما في بيت الله الحرام.

د. أن يكثر من الذكر والدعاء، والصلاة، على النبي r، والأصل في الطواف، المشي، فإن عجز الطائف لكبر أو لمرض لا يقدر معه على المشي، جاز له الطواف محمولاً أو على عربة أو ما يشبه ذلك.

ثالثاً: السعي بين الصفا والمروة

تعريفه: هو المشي بين الصفا والمروة، سبعة أشواط ذهاباً وجيئة، بنية التعبد. وهو ركن للحج وللعمرة لقوله تعالى ]إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ[ (سورة البقرة: الآية 158).

وللسعي شروط وسنن وآداب وهي:

1. شروطه

أ. النية: لقوله، ]إنما الأعمال بالنيات[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1)، فكان لابد من نية التعبد بالسعي طاعة لله، وامتثالاً لأمره.

ب. أن يبدأ بالصفا ويختم بالمروة.

ج. الترتيب بينه وبين الطواف، بأن يقدم الطواف على السعي.

د. الموالاة بين أشواطه، غير أن الفصل اليسير لا يضر، ولا سيما إذا كان لضرورة.

هـ. إكمال العدد سبعة أشواط، فلو نقص شوط، أو بعض الشوط، لم يجزئ، إذ حقيقته متوقفة على تمام أشواطه.

و. وقوعه بعد طواف صحيح، سواء كان الطواف واجباً أو سنة، غير أن الأولى أن يكون بعد طواف واجب، كطواف القدوم، أو ركن كطواف الإفاضة.

2. سننه

أ. الخبب، وهي سرعة المشي بين الميلين الأخضرين، الموضوعين على حافتي الوادي القديم، الذي خبت فيه (هاجر) أم إسماعيل عليهما السلام، وهو سنة للرجال القادرين من دون الضعفة والنساء.

ب. الوقوف على الصفا والمروة للدعاء فوقهما.

ج. الدعاء بما شاء من أدعية، وفي كل شوط من الأشواط السبعة.

د. أن يُقال: الله أكبر ثلاثاً عند الرقي على كل من الصفا والمروة في كل شوط، وكذلك قول: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله، وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده".

هـ. الموالاة بينه وبين الطواف، بحيث لا يفصل بينهما من دون عذر شرعيّ.

3. آدابه

أ. خروج الساعي إلى المسعى من باب الصفا، تالياً قول الله تعالى ]إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ[ (سورة البقرة: الآية 158).

ب. أن يكون الساعي متطهراً، فإن لم يتيسر له ذلك، فلا جناح عليه.

ج. أن يسعى ماشياً، إن قدر على ذلك، من دون مشقة.

د. أن يكثر من الذكر والدعاء، وأن يشتغل بهما دون غيرهما. فعن عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ] rإِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ[ (سنن الدارمي، الحديث الرقم 1780).

هـ. ألا يؤذي أحداً من الساعين أو غيرهم من المارة، بأي أذى، قول أو فعل.

و. استحضاره في نفسه ذلَّه وفقره وحاجته إلى الله سبحانه وتعالى في هداية قلبه، وتزكية نفسه، وإصلاح حاله.

ز. أن يغض بصره عن المحارم، وأن يكف لسانه عن المآثم.

وإذا أنهى الحاج سعيه، حلق رأسه، أو قصّر منه إن كان متمتعاً، وبهذا تنتهي متطلبات عمرته، فإن كان قارناً أو مفرداً، بقي على إحرامه من دون تقصير حتى تنتهي أعمال الحج. والحلق أفضل من التقصير؛ فقد بدأ الله بذكر المحلِّقين أولاً في قوله تعالى ]لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ[ (سورة الفتح: الآية 27). فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ ]رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 2294). قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ r؟ قَالَ: ]رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 2294). قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ]رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ[. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ ]وَالْمُقَصِّرِينَ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 2294).

ويجب أن يكون التقصير شاملاً لجميع الرأس؛ بحيث يأخذ من مقدمته ومؤخرته، وجوانبه ووسطه، وإن كان أصلع الرأس، لا شعر له، مرر الموس على رأسه. أمّا المرأة فلا يجوز لها إلاّ التقصير، من كل قرن قدر رأس الإصبع. وإن قصر في العمرة وحلق في الحج فهذا فعل حسن لأنه يجمع بين النُسُكَين. ومن المستحب أن يُحل الحاج أو المعتمر من إحرامه أولاً، بتقصير شعره أو حلقه، قبل أن يُحِلّ غيره بتقصير شعره أو حلقه. لأن الإنسان مطالبٌ بإكمال نسكه قبل نسك غيره.

رابعاً: الوقوف بعرفات

1. صفته

هو الركن الرابع من أركان الحج، لقوله r ]الْحَجُّ عَرَفَةُ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 18023). وحقيقته الحضور بالمكان المسمّى عرفات، لحظة فأكثر، بنية الوقوف. فإذا طلعت شمس يوم التاسع من ذي الحجة سار الحاج إلى عرفة، فينزل "بِنَمرة" ـ كما فعل رسول الله r وهو موضع بقرب عرفات خارج عنها، فيقيم بنمرة، إلى زوال الشمس ـ إن تيسر له ذلك ـ فإن لم يتيسر له ففي أي مكان من عرفة. فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر قصراً وجمعاً، في مسجد نمرة أو في مكانه الذي نزل فيه.

2. زمن الوقوف بعرفات

من زوال شمس يوم عرفة، وهو تاسع ذي الحجة، ويمتد إلى طلوع الفجر، من يوم النحر، ففي أي وقت من ذلك وقف الحاج بعرفة أجزأه.

3. مكان الوقوف

يصح الوقوف في أي مكان من عرفة، فعرفة كلها موقف، إلاّ بطن وادي عُرَنَة. وحدّ عرفة: من الجبل المشرف على وادي عُرَنَة إلى الجبال المقابلة له، إلى ما يلي منطقة البساتين، المعروفة قديماً ببساتين ابن عامر، ومسجد نمرة ليس من عرفة. وقد وضعت علامات دالة على حدود عرفات.

4. سنن الوقوف

أ. الاغتسال.

ب. تأخير الدخول إلى عرفات إلى ما بعد الزوال، وبعد أن يصليّ الظهر والعصر قصراً وجمعاً.

ج. يخطب الإمام خطبتين، قبل صلاة الظهر، يُذَكِّر الحجاج فيهما، بما ينبغي أن يفعلوه في هذا اليوم.

د. تعجيل الوقوف عقب الصلاتين، عملاً بما فعله النبي r.

هـ. الوقوف عند الصخرات الكبار المفروشة في أسفل جبل الرحمة، الذي يقع في وسط عرفات، قَالَ النَّبِيُّ r ]قَدْ نَحَرْتُ هَا هُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 1630). وَوَقَفَ بِعَرَفَة،َ فَقَالَ: ]قَدْ وَقَفْتُ هَا هُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 1630). وَوَقَفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَقَالَ: ]قَدْ وَقَفْتُ هَا هُنَا وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 1630). والحرص على الوقوف على جبل الرحمة، واعتقاد أن الوقوف به أفضل، باطل لا أصل له، ولم يرد فيه حديث صحيح أو ضعيف.

و. ويسن للرجل أن يقف راكباً، اقتداء برسول الله r.

ز. استقبال القبلة، مع الطهارة التامة، وستر العورة اقتداء بفعله r.

ح. الإفطار، فلا يصوم الحاج، لأنه يتقوى بالإفطار على الذكر والدعاء، ومن الثابت أن رسول الله أفطر يوم عرفة. وعن أبي هريرة t قال: ]‏نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r‏ ‏عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 1722). (أي لمن كان على عرفة حاجاً).

ط. حضور القلب، والفراغ من الأمور الشاغلة عن الذكر والدعاء.

ي. الإكثار من الدعاء، وقراءة القرآن، والذكر قائماً وقاعداً، ويرفع يديه في الدعاء، ولا يجاوز بهما رأسه، وأن يخفض صوته، وأن يكثر من التضرع والخشوع، وإظهار الضعف، والافتقار، ويلح في الدعاء مع قوة الرجاء في الإجابة.

قال r ]أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ[ (موطأ مالك، الحديث الرقم 841).

عن علي t قال: "أكثر ما دعا به النبي r يوم عرفة في الموقف ]اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَالَّذِي نَقُولُ، وَخَيْرًا مِمَّا نَقُولُ. اللَّهُمَّ لَكَ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي، وَإِلَيْكَ مَآبِي، وَلَكَ رَبِّ تُرَاثِي. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتَاتِ الأمْرِ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَجِيءُ بِهِ الرِّيحُ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 3343).

ك. الجمع بين الليل والنهار، فيبقى واقفاً حتى تغرب الشمس اقتداء برسول الله r، ففي صحيح مسلم وغيره، عن جابر t: أن رسول الله r لم يزل واقفاً، حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص.

ل. تأخير صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، ليجمعهما تأخيراً بمزدلفة، اتباعاً لما فعله النبي r. وقد سنّ رسول الله r لهذا الموقف خطبته، حيث يعسر جمع الحجاج تحت راية خطيب واحد، إلاّ في هذا الموقف. وكان من شأن هذه الخطبة أن يزيد فيها الإمام على ما بقي من مناسك الحج، وإرشاد الناس إلى ما يصلح أمورهم، في معاشهم ومعادهم. وخطبة الوداع التي خطبها رسول الله r في حجته في السنة العاشرة من الهجرة، كانت بعد أن نزل عرفات عند موضع (نمرة) وضرب قبته فيه، حتى إذا زالت الشمس أمرهم بشد رحل ناقته وركبها، وأتى الموقف بعرفة، ثم خطب الناس. ومما جاء في تلك الخطبة، قوله r ]إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا. أَلا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ. وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا، رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ. فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ، فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ[3]، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا[4]. إِلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 3065). ثم قال r ]لا ترجعوا من بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة، فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. أمّا بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يطمع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم. أيها الناس: إنما النسيء زيادة في الكفر يصل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدّة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحلّ الله، وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم: ثلاثة متوالية، ورجب الذي بين جمادي وشعبان. أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمُنّ أن المسلم أخو المسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس، منه فلا تظلمُنّ أنفسكم. اللهم هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم، وقال r  أيها الناس إن الله قد أدّى إلى كل ذي حق حقه، وإنه لا تجوز وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً[5]. ولا عدلا[6][.

وقد سميت الخطبّة ـ بعْدُ ـ بخطبة الوداع، وكذلك الحجة نفسها، لأنها كانت آخر حجة للرسول الكريم r، وآخر خطبة له في الموقف. أما الحجة ـ بالنسبة للناس ـ فتسمى حجة الإسلام.

وقد قيل إن صوت رسول الله r في خطبته تلك ـ على الرغم من تقدمه في العمر ـ قد أسمع كل من كانوا مكشوفين له، وكل من كانوا متفرقين في الخيام. وقد عدّوا نفاذ صوته إلى كلّ أرجاء الموقف، من غير أداة تساعد على التبليغ حين ذلك، من بعض آياته، وباهر معجزاته.

ثم أمر رسول الله r بلال بن رباح أن يؤذن للصلاة والإقامة، وصلّى الظهر والعصر بالناس جمعاً وقصراً، ثم ركب إلى الصخرات الكبار من عرفات، وأخذ في الدعاء والتضرع إلى أن همت الشمس بالغروب. ومع أنه أقرب الخلق إلى ربه، فقد كان في حال دعائه بموقفه ذاك، رافعاً يديه نحو صدره كالقلق الخائف، والضارع المستكين.

5. فضائل يوم عرفة

أ. أكثر يوم يعتق الله فيه عباده من النار. عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله r قال ]مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْملائِكَةَ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 2402).

ب. وهو يوم يصفد فيه الشيطان، ويدحر، ويحقّر، ويغتاظ لما يرى من تنزل الرحمة، والتجاوز عن الذنوب. عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، أن رسول الله r قال ]مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ ولا أَدْحَرُ ولا أَحْقَرُ ولا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إلاّ لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ[ (موطأ مالك، الحديث الرقم 840).

ج. وهو يوم يباهي الله به أهل السماء: عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r ]إِنَّ اللَّهَ U يُبَاهِي مَلائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ فَيَقُولُ انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 6792). وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كِنَانَةَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ r دَعَا لأمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ فَأُجِيبَ] إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلا الظَّالِمَ، فَإِنِّي آخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 3004). قَالَ ]أَيْ رَبِّ إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 3004). فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّتَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، أَعَادَ الدُّعَاءَ، فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ r أَوْ قَالَ تَبَسَّمَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فِيهَا، فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ، أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ؟ قَال َ]إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ U قَدِ اسْتَجَاب َدُعَائِي، وَغَفَرَ لأمَّتِي، أَخَذَ التُّرَابَ، فَجَعَلَ يَحْثُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَأَضْحَكَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ جَزَعِهِ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 3004).

د. الحج عرفة، وهي الركن الأعظم، فمن فاته الوقوف بها فلا حج له، وإن فعل بقية الأركان. فعَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r ]الْحَجُّ عَرَفَاتٌ، الْحَجُّ عَرَفَاتٌ، الْحَجُّ عَرَفَاتٌ. أَيَّامُ مِنًى ثلاثٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 2901).

6. حكمة الوقوف بعرفة

(1) إن اجتماع المسلمين في زمان واحد ومكان واحد راغبين في رحمة الله تعالى، داعين له، متضرعين إليه، له تأثير عظيم في نزول البركات، وقبول الدعوات.

(2) وهذا المكان متوارث عن الأنبياء عليهم السلام، على ما يُذكر من الأخبار، عن آدم، ومن بعده، والأخذ بما جرت به سنّة السلف الصالح أصل أصيل في باب التوقيت.

(3) وازدحام الخلق في عرفة، وارتفاع الأصوات واختلاف اللغات، والدعاء والتهليل والتكبير، والوقوف على المشاعر، اقتداءً بالسلف الصالح، كل هذا يذكر بعرصات القيامة وساحاتها، واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمة، واقتفاء كل أمة نبيها، وطمعهم في شفاعتهم، وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد، بين الرد والقبول. وذلك أحرى بضراعة القلب، والابتهال إلى الله U، فيحشر الواقف في زمرة الفائزين المرحومين.

(4) وهذا الموقف لا يخلو من الأولياء والصالحين، فإذا اجتمعت هممهم، وتجردت للضراعة والابتهال قلوبهم، وارتفعت إلى الله سبحانه أيديهم، وامتدت إليه أعناقهم، وشخصت نحو السماء أبصارهم، مجتمعين بهمة واحدة، على طلب الرحمة، فلا يخيّب الله تعالى أملهم، ولا يضيع سعيهم، ولا يدخر عنهم رحمة، تغمرهم ومن معهم، في هذا الموقف العظيم. وهذا هو سر الحج وغاية مقصودة، فلا طريق إلى استدرار رحمة الله U، مثل اجتماع الهمم، وتعاون القلوب، في وقت واحد، على صعيد واحد.

(5) كما أن الحجاج لا يرون أنفسهم وقوتهم، أو يراهم غيرهم ويرى قوتهم، إلاّ إذا اجتمعوا متكاتفين في ساحة واحدة رحيبة الجنبات.وهذا كله يتحقق حين الوقوف بعرفات.

7. الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة

فإذا غربت الشمس من يوم عرفة، كان على الحجيج أن يتجهزوا للدفع من عرفات، في رفق وأناة، من غير شدّ ولا سرعة ولا تعجل ولا مزاحمة، كما فعل الرسول ، وأوصى، حتى تظل للموقف روعته وللحج وقاره. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أنه سُئل كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ، قَالَ: ]كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ[7] فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ[8][(سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 3008).

قال أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ r عَشِيَّةَ عَرَفَةَ،فَلَمَّا وَقَعَتْ الشَّمْسُ دَفْعَ رَسُولُ اللَّهِ r فَلَمَّا سَمِعَ حَطْمَةَ النَّاسِ خَلْفَهُ قَالَ: ]رُوَيْدًا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ السَّكِينَةَ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإيضَاعِ[[9] (مسند أحمد، الحديث الرقم 20765).

فإذا وصل الحاج إلى مزدلفة، ابتدأ حال وصوله بصلاة المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، سواء وصل إليها مبكراً أم وصل وقت العشاء. أما إن تأخر وصوله بسبب الزحام، فعليه أن يصليهما قبل دخوله مزدلفة، ولا يجوز له تأخيرهما إلى ما بعد منتصف الليل.

وعليه المبيت بمزدلفة إلى أن يصلي الفجر فيها[10]. ثم يقف عند المشعر الحرام، يذكر الله ويحمده ويكبره، لقول الله: ]فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ[ (سورة البقرة: الآية 198).

أمّا النساء فقد رفق بهن رسول الله r، فأباح لهن أن يسبقن الرجال، إلى رمي الجمار، حتى لا يتأخرن في الليل، أو يتأذين بالزحام، وكذلك رفق الرسول بالضعفاء والسقاة، فأباح لهم أن يسبقوا ليكون الأذى ممتنعاً والماء حاضراً.

8. المبيت بمزدلفة

المبيت بمزدلفة سنة قديمة قبل الإسلام، ولعل أهل الجاهلية اصطلحوا عليها، لمّا رأوا أن رجوعهم من عرفات بعد المغرب مباشرة إلى منى، وكانوا طول النهار في تعب، يأتون من كل فج عميق، يؤدي إلى زيادة تعبهم ومشقتهم.

وكان أهل الجاهلية يدفعون من عرفات قبل الغروب، وهو أمر غير محدد يمكن أن يبدأ في أي زمن يطول أو يقصر قبله، لذلك حدد الإسلام الدفع من عرفات بعد الغروب. وكذلك شرع الإسلام الوقوف بالمشعر الحرام وذكر الله به؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يتفاخرون ويتكاثرون بالآباء والأجداد في هذا الموقف. فأبدل الإسلام فعلهم ذاك بالإكثار من ذكر الله.

9. العودة إلى منى ورمي جمرة العقبة

وإذا وصل الحاج إلى منى رمى جمرة العقبة (الجمرة الكبرى) بسبع حصيات متتالية، كل حصاة في حجم حبة الحمص، ويكبر عند رجمها مستحضراً في ذلك سنة رسول الله r واتباع هديه. ووقت الرمي في ذلك اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها. ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض العامة من الحجاج رمي الشواخص بغير الحصى؛ كالأحذية، أو رجمها بحصى كبير الحجم، لظنهم أن من الأفضل المبالغة في الرمي. ومن هذه الأخطاء أيضاً ما يفعله بعضهم من معاودة الرمي إذا ظن أن الحصاة التي رماها خرجت من المرمى بعد وقوعها فيه. (اُنظر ملحق بيان المسافات بين المشاعر (بالأمتار))

10. النحر والحلق

وإذا انتهى الحاج من رمي جمرة العقبة، نحر هديه، أو ما عليه من دم. ولا يلزم الحاج بضرورة النحر في ذلك اليوم، بل يباح له تأخيره إلى آخر أيام التشريق. وبعد نحر الهدي يحلق رأسه، أو يقصره، والحلق أفضل. وإذا رمى جمرة العقبة، وحلق أو قصر، فقد أبيح له كل شيء كان محرماً إلا الجماع، وهذا هو التحلل الأول أو الأصغر. فحلّ له الطيب واللباس، لأن بهما يتزين الحاج لزيارة المسجد الحرام.

11. طواف الإفاضة

وهو ركن من أركان الحج ولا يصح إلاّ به، امتثالا لقول الله تعالى: ]ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ[11]، وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[ (سورة الحج: الآية 29).

ويسمى هذا الطواف، طواف الركن، ويسمى أيضا طواف الزيارة، وطواف الإفاضة؛ لأن وقته يبدأ من طلوع فجر يوم النحر، أي بعد الإفاضة من عرفات. فإذا رمى الحاج، وحلق أو قصر، وطاف، وسعى، إن كان عليه سعي، حلّ له كل شيء حتى النساء. وإذا رتب أفعاله يوم النحر بالرمي ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف والسعي، لمن هو متمتع أو قارن أو مفرد ـ إذا لم يَسْعَ مع طواف القدوم، فهو الأفضل، لأن النبي r، بعد ما دفع من مزدلفة، أتى جمرة العقبة، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر فيه، ثم أفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر.

وليس على الحاج من حرج، إذا قدّم في يوم النحر بعض هذه الأفعال، أو أخرها، كما لو قدم الحلق، أو التقصير قبل الرمي، أو قدم السعي قبل الطواف، لأن النبي r، مَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إِلاّ قَالَ: ]افْعَلْ وَلا حَرَجَ[ (موطأ مالك، الحديث الرقم 837).

وعلى الحاج أن يبيت بمنى ليلتي الحادي عشر، والثاني عشر من ذي الحجة. فإذا قضى هاتين الليلتين، فله أن يعجل، أو يتأخر، فيبيت ليلة الثالث عشر، لقول الله تعالى: ]وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى[ (سورة البقرة: الآية 203).

12. رمي الجمرات في أيام التشريق

أيام التشريق هي الأيام الثلاثة، التي تلي يوم النحر (أي أول أيام العيد)، وفي هذه الأيام، يرمي الحاج كل يوم، الجمرات الثلاث، يبدأ بالجمرة الصغرى، ثم الوسطى، ويدعو بعد رميهما، ويستحب أن يكون دعاؤه طويلاً؛ فإن لم يتيسر له ذلك، بسبب الزحام، فليدع ولو قليلاً، ثم يرمي جمرة العقبة، ولا يتوقف بعدها.

وقت الرمي: من زوال الشمس إلى غروبها. وقد اختلف العلماء فيما إذا رماها الحاج قبل الزوال؛ فيرى الجمهور أن عليه الرمي بعد الزوال؛ استدلالا بفعل النبي r، حيث كان يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد زوال الشمس.

وروي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها. كما روي عن الإمام أبي حنيفة أن الأفضل أن يرمي في اليوم الثاني والثالث بعد الزوال، فإن رمى قبله جاز. وفي المذهب الحنبلي أقوال تؤيد الرمي قبل الزوال. ولعل هؤلاء الفقهاء، الذين رأوا الرمي قبل الزوال، قصدوا التخفيف عن الحاج، من مشقة الزحام الذي يتأتى من رمي الحجاج كلهم في وقت واحد، كما قصدوا التيسير على المتعجل، إذا كان يريد اللحاق بركبه، أو الرجوع إلى أهله في وقت محدد.

ويجوز لكبير السن، أو الصغير، أو العاجز، ومن في حكمهم، كالمرأة الحامل؛ أن يوكلوا عنهم في الرمي، ولا يجوز التوكيل من غير هؤلاء، ويجب على الوكيل أن يبدأ بالرمي عن نفسه أولاً، ثم يرمي عن موكله ثانياً، وهو في الموقف الذي رمى فيه لنفسه.

وقد ورد في الحديث ]إِنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لإقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ[ وذِكر الله U يقصد به المسلم، الإعلان بانقياده لله U.(سنن اللترمذي، الحديث الرقم 826).

كما ورد في الأخبار، ما يقتضي أنه سنة، سنّها إبراهيم u، حين طرد الشيطان، ففي حكاية مثل هذا الفعل تنبيه للنفس، أي تنبيه. عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي r قال ]‏إِنَّ جِبْرِيلَ ‏‏ذَهَبَ ‏بِإِبْرَاهِيمَ u ‏إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ‏‏فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ‏فَسَاخَ ثُمَّ أَتَى ‏الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى ‏فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ‏‏فَسَاخَ[12] ‏ثُمَّ أَتَى ‏‏الْجَمْرَةَ الْقُصْوَى ‏فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ‏فَسَاخَ‏[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 2573)، قال ابن عباس رضي الله عنهما الشيطان ترجمون، وملة أبيكم تتبعون.

13. طواف الوداع

ومن واجبات الحج طواف الوداع؛ فينبغي للحاج أن يطوف بالبيت، إذا أراد العودة إلى بلاده، ويسقط هذا الواجب عن النَفَسَاء والحائض. وعلى الحاج في هذا الطواف الإكثار من الدعاء، وعندما يفرغ منه، يخرج من دائرة الطواف على النحو الذي يتيسر له، سواء كانت الكعبة أمامه أم خلفه، ولا أصل لما يفعله بعض الحجاج من المشي على خلفهم بعد طواف الوداع. ولو أخر طواف الزيارة (الإفاضة) وهو الركن، وأدخل معه طواف الوداع جاز له ذلك. (اُنظر ملحق إجمالي أعداد الحجاج بين عامي 1390 ـ 1409هـ)

 



[1]. أصل لبيت فَعَّلْت، من أَلبَّ بالمكان، وأيضاً: ألَبّ بالمكان، أقام به ولزمه، وألب على الأمر: لزمه فلم يفارقه، وقولهم لبيك ولبيه منه، أي لزوماً لطاعتك. وفي الصحاح: أي أنا مقيم على طاعتك .. وعن الفراء، معنى لبيك، إجابة لك بعد إجابة.

[2] أحصره .. حبسه عن السفر، وأحصره المرض منعه من السفر أو من حاجة يريدها، قال الله عز وجل "فإن أحصرتم".

[3] أي غير شديد ولا شاق.

[4] النكت القرع، وكأنه يقرع السامعين بإصبعه عندما يشير إليهم ثم يرفعها إلى السماء يشهد الله تعالى.

[5] الصرف التوبة، وقيل النافلة.

[6] العدل الفدية، وقيل الفريضة.

[7] العنق سير بين الإبطاء والإسراع، وقيل المشي الذي يتحرك به عنق الدابة. وفي لسان العرب: "والعنق من السير المنبسط، من عانق مثل أعنق إذا سارع وأسرع". وفي موضع آخر قال: "والعَنَق ضرب من سير الدابة والإبل، وهو سير مسبطرّ، قال أبو النجم: يا اناق سيري عَنَقَا فسيحاً   إلى سليمان فَنَسْتَريحَا". "لسان العرب"، مادة: عَنَقَ.

[8] النّص سير فوق العَنَق، وقيل: هو تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى ما عندها. والمعنى: إذا وجد متسعاً أسرع في السير. وفي لسان العرب ذكر الحديث هكذا أيضاً، وقال: نصّ أي رَفَع ناقته في السير، وقد نصصت ناقتي رفعتها في السير. قال أبو عبيدة: النص التحريك حتى تستخرج من الناقة أقصى سيرها، وفي موضع آخر: السير الشديد والحث، "لسان العرب"، مادة: نصص.

[9] والإيضاع هو أن يعدي بعيره، أي يحملة على العدو الحثيث.

[10] يرى بعض الفقهاء، أنه يكفي لحظة في نصف الليل الأخير من الليل أو بعد الفجر ومقدار حط الرحال وصلاة المغرب والعشاء.

[11] التفث نتف الشعر، وقص الأظافر. وكأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال. وروي عن ابن عباس قال: التفث الحلق والتقصير، والأخذ من اللحية والشارب والإبط، والذبح والرمي.

[12] وكذلك الأقدام تسوخ في الأرض، وتسيخ، تدخل فيها وتغيب، وفي حديث سراقة والهجرة، فاسخت يد فرسي، أي غاصت في الأرض. والمعنى رماه حتى غاص في الأرض واختبأ فيها.