إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / التقوى ... والعلم ... والعمل (تفسير آخر الآية 282 من سورة البقرة، والآية 105 من سورة التوبة)









6

6. أسباب نزول الآيات

تنقسم أسباب النزول، غالباً، إلى قسمين:

أ. آيات يكون سبب نزولها عام، لا يختص بحادثة أو موقف أو تشريع محدد، ولكنها تنزل في ضوء التوجيه العام المناسب لحث الناس على التقوى والصلاح والعمل بما يُرضي الله، وهذا النوع من الآيات هو أكثر ما نزل من القرآن.

ب. آيات تُنزل خاصة بموقف أو حادثة أو قضية أو حُكْم محدد، مثل حادثة الإِفك، أو المتخلفين في غزوة تبوك[1] ، أو بيعة الرضوان، أو انتساب الأبناء بالتبني إلى آبائهم، أو نكاح الآباء لزوجات أبنائهم بالتبني. فمثل هذه الآيات وإن نزلت في موقف محدد، إلاّ أنها تصبح بعد ذلك تشريعاً أو حُكْماً صالحاً لكل زمان ومكان.

والآيات التي يعالجها البحث تُعد من النوع الثاني، فقد ختمت سياق القصة، التي نزلت في شأن النفر المعترفين بخطئهم، في تخلفهم عن الخروج مع الرسول r في غزوة تبوك. وقد كان تخلفهم كسلاً وتهاوناً، وليس كفراً ونفاقاً. يقول الله تعالى في شأنهم: ]وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ (سورة التوبة: الآية 102)، أي أقروا واعترفوا بخطئهم فيما بينهم وبين ربهم، ولهم أعمال أخرى صالحة، خلطوا هذه بتلك. وهذه الآية وإن كانت قد نزلت في أناس بعينهم، وهم: أبو لبابة[2] ، وجماعة من أصحابه، إلا أنها عامة في كل المُذْنبيِن الخطائين، المستغفرين التائبين.

ولمّا قفل الرسول r، راجعاً من تبوك، وجد المتخلفين قد ندموا على تخلفهم عن الخروج، وأوثقوا أنفسهم بالسواري في المسجد. فسأل الرسول r عن شأنهم، فقيل له: إنهم قد عاهدوا الله، ألا يطلقوا أنفسهم، حتى تطلقهم أنت. إلا أن الرسول r أخذهم بالحزم، ورفض إطلاقهم أو قبول عذرهم، حتى يأتيه أمر الله في شأنهم. ولبثوا على تلك الحال، حتى نزل قوله تعالى: ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ[ (سورة التوبة: الآية 103 – 105) (اُنظر ملحق تفسير الجزء الأول من الآية الرقم 105 من سورة التوبة). فأمر الله رسوله r أن يأخذ بعض أموال المتخلفين التائبين، يتصدق بها عنهم، لأن قبول الصدقة منهم، يرد إليهم شعورهم بعضويتهم الكاملة في الجماعة المسلمة، فهم الآن يشاركون في واجباتها، وينهضون بأعبائها، وقبول الصدقة، منهم يتضمن معنى التجاوز والصفح ، بعد أن صحت توبتهم.

وينقسم المتخلفون عن الجهاد في هذه الغزوة (تبوك) إلى ثلاثة أقسام:

·   القسم الأول: المنافقون الذين تخلّفوا عن الغزوة رغبة عنها، وتكذيباً وشكاً. قال تعالى: ]وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ[ (سورة التوبة: الآية 101).

·   القسم الثاني: الذين تأخروا عن الجهاد كسلاً وميلاً إلى الراحة، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق. فقال تعالى: ]وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[. (سورة التوبة: الآية 102). وهم أبو لبابة وأصحابه.

·   القسم الثالث: المتخلفون تهاوناً وليس نفاقاً، ولكنهم لم يسارعوا إلى التوبة مثل الفريق الثاني، وهم كعب بن مالك الأنصاري ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وقد نزل فيهم قوله تعالى: ]وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[ (سورة التوبة: الآية 106). أي أرجأ رسول الله r قبول توبتهم حتى يقضي الله فيهم، فهم تحت عفو الله، إن شاء قبل توبتهم، وإن شاء ردها عليهم.

كما أَمر الله رسوله r أن يصلي على التائبين أي يدعو لهم. وقد منّ الله عليهم، لِما علمه سبحانه من حسن سريرتهم وصدق توبتهم. ثم توجه الله إليهم بالخطاب على لسان نبيه: ]وَقُلِ اعْمَلُوا[ ( سورة التوبة: الآية 105) لأن المنهج الإسلامي منهج عقيدة، وعملٌ يُصّدق العقيدة. فمحك الصدق في توبتهم إذن هو العمل الصادق، الذي يراه الله ورسوله والمؤمنون. وأما في الآخرة فمردهم إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم فعل الجوارح وكوامن الصدور، لأن الندم والتوبة ليسا نهاية المطاف، بل مدار الأمر حول العمل، الذي يعقب الندم والتوبة، فيصدّق أو يكذّب تلك المشاعر النفسية ويعمقها أو يبين زيفها. فالإسلام دين يَصْدقُ فيه القول العمل، ولا تكفي فيه المشاعر أو النوايا وحدها، ما لم تبرز إلى واقع معيش، وتتحول إلى حركة واقعية. وللنية الطيبة مكانها؛ ولكنها في ذاتها ليست مناط الحكم والجزاء. إنما هي تحسب مع العمل، فتحدد قيمة العمل. وهذا معنى الحديث ]‏إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1). فالمقصود الأعمال، لا مجرد النيات.

ومع أن الأعمال بالنيات إلاّ أن النية وحدها لا تكفي. ]‏وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1) فهي مفتاح للأعمال ولكنها ليست الأعمال ذاتها، فمن كانت نيته خالصة وصادقة، عليه أن يَخْرجُ بها إلى مجال العمل لذلك قيل إِن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. وكذلك ورد ]‏إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 3018). وسبب ذلك أنه ترجم نيته إلى عمل فسعى إلى المسجد، وأرفق إيمانه القلبي بإيمانٍ عملي تطبيقي، وهذا لا يتعارض مع الحديث "إنما الأعمال بالنيات" لأن النية هي فاتحة العمل ولكن خواتيم النيات تكون بالأعمال.



[1] غزوة تبوك دارت وقائعها في شهر رجب من العام التاسع الهجري بين المسلمين بقيادة الرسول r، والروم بالشام. ذكر من أسبابها أن هرقل، ملك الروم، جمع جموعاً من الروم العرب الموالية له لحرب المسلمين، فعلم بهم رسول الله r، فخرج إليهم في نحو ثلاثين ألفاً، في سنة مجدبة وحر شديد ورجع عبد الله بن أبي t من الطريق، وتخلف نحو ثمانين من المنافقين كفراً وعناداً. وتخلف عصاة، مثل مرارة بن الربيع وكعب بن مالك الأنصاري وهلال بن أمية، وهم الذين سمّاهم القرآن في سورة التوبة بالثلاثة الذين خُلّفوا. وقد تاب الحق تبارك وتعالى عليهم بعد أن اعتذروا. وعندما وصل النبي،إلى تبوك، هاجم الروم فتفرقوا، فلم يتوغل الرسول، في أرض الروم، ورجع بعد أن صالح القبائل العربية وقذف الرعب في قلوب الروم ورجع من الغزوة في رمضان. وكان لهذه الغزوة أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على شبه الجزيرة العربية.

[2] رفاعة ابن عبد المنذر بن زنبر بن زيد بن أمية بن مالك الأنصاري: صحابي من بني عمرو بن عوف، واستخلفه رسول الله r على المدينة حين خرج إلى بدر وضرب له بسهمه وأجره مع أصحاب بدر، واستخلفه أيضاً رسول الله r على المدينة حين خرج إلى غزوة السويق، وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد، وكان معه راية بني عمرو بن عوف في غزوة الفتح، توفى في خلافة علي بن أبي طالب t.