إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / التقوى ... والعلم ... والعمل (تفسير آخر الآية 282 من سورة البقرة، والآية 105 من سورة التوبة)









13

13. معيار العمل

حددت الآية الكريمة معيار العمل المطلوب أداؤه من المؤمنين، في قوله تعالى ]فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ[ (سورة التوبة: الآية 105) (اُنظر ملحق تفسير الجزء الأول من الآية الرقم 105 من سورة التوبة). فعمل المؤمن كله تحت المراقبة الدقيقة، وقد عبرت الآية الكريمة عن هذه المراقبة، بقوله تعالى: (فسيرى)، أما المُراقِبون لهذا العمل فهو اللَّه سبحانه وتعالى، الذي يعلم السر وأخفى، أي أن يكون العمل غير مخالفٍ لِما أمر الله به أو حلله أو شرعه، ثم الرسول r أي أن يكون وفقاً للسنة لا بدعة فيه، ثم المؤمنون، أي غير خارج عن إجماع المسلمين. ذلك أن لا عبرة برقابة غير الملتزمين بمنهج الله، وسنة رسوله، وإجماع أمته. فإذا علم الإنسان أنه مراقب من المولى U، فلن يفعل ما يخالف أوامره، أو يأتي نواهيه، وإذا علم أنه مراقب من رسول الله r فلن يفعل ما يخالف سنته، وإذا علم أنه مراقب من المؤمنين، فلن يفعل ما يضر بمصالحهم، أو يخرج على إجماعهم. إذاً، فالعمل هو الدين والدنيا. وقد بينت هذه الآية مراتب انتظام العمل، فمن أراد عملاً سليماً مقبولاً، فعليه أولاً أن يستحضر الرقيب الرباني، وذلك بعقد النية على إخلاص العمل لله، وأن لا يخالف ما أمر به الله. وتأتي المرتبة الثانية، رقابة الرسول r بأن يتوخى الإنسان، أن يكون عمله غير مخالف للسنة. أما المرتبة الثالثة، وهي رقابة المؤمنين، فتحدث بالضرورة عندما يكف المؤمنون جوارحهم عن الإضرار بمصالح بعضهم بعضاً، لأن كل عمل يؤديه الإنسان، لا بدّ من أن يراه الناس، صالحاً كان أم طالحاً. وبحكم المؤمنين على هذا العمل، يصنف ويُقَيّم.

ونخلص من هذا إلى أن الآية الكريمة، نصت على ثلاثة مستويات معيارية للمراقبة، يمكن أن ترتب من المنظور الإنساني، على النحو التالي:

أ. معيار الشكل

وهو صورة العمل في المنظور الإنساني، أي بمفهوم المجتمع. لأن العمل لا يخلو من أن يكون إمّا من أعمال الجوارح، أو من الأعمال القلبية؛ مثال ذلك: حرص الإنسان على أداء الصلوات في الجماعة، وإخراج المال بقصد الزكاة أو الصدقة، وصوم رمضان، وأداء الحج والعمرة، ومساعدة الضعفاء، والمحتاجين، كالسعي على الأرامل والمساكين واليتامى، والسعي في قضاء حاجات الناس عموماً، بما يفيد المجتمع أجمع، بإعمار الأرض ببناء المستشفيات، والمصحات، وتشييد المدارس، وبناء الدور، وإصلاح الأراضي الزراعية، وفلاحة الأرض، واكتساب المهارات المختلفة في شتى المجالات، بما ينفع الناس، كعلم الطب، وعلم تركيب الأدوية، وعلم هندسة المعمار، والطرق، ومعرفة بناء الجسور، وتطوير مناهج التعليم، وتحسين أحوال المسلمين، بتطوير الصناعات المختلفة، والأعمال التجارية، وغير ذلك من شتى الأعمال، التي لا تقع تحت الحصر، وكل تلك يراها المؤمنون، ولا شيء يخفى عليهم، حتى ما يحاول الإنسان إخفاءه.

فإذا كانت الانفعالات النفسية، والأعمال السرية، لا تخفى على الناس، مهما يكن من محاولات صاحبها لإخفائها، فماذا يقال في الأعمال، التي هي مقتضى العقائد والأخلاق، وما انطبعت عليه النفس من الملكات، ومرنت عليه من العادات. فبعض المؤمنين الصادقين يحاولون إخفاء كثير من أعمال البر، ولكنهم لا يلبثون أن يشتهروا بها. وترى بعض المنافقين يخفون أعمال النفاق خوفاً من الناس، لا من الله، ولكنهم لا يلبثون أن يفتضحوا بها.

فالآية تدلنا على أن مرضاة جماعة المؤمنين، القائمين بحقوق الإيمان، المقررة صفاتهم في القرآن، تلي مرضاة الله ورسوله r. فقد جاء في حديث أنس بن مالك t في الصحيحين، قال: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ r‏ ‏وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ r وَجَبَتْ فَقَالَ ‏عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ t‏ ‏مَا وَجَبَتْ قَالَ r‏ ‏هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ]أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1278). وبتلك الأعمال الظاهرة، يتم تصنيف الإنسان في الدنيا، وقد قال الرسول r ]إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 3018). فليس للناس تمحيص القلوب، ومعرفة ما فيها، فهم لا يعنيهم إلاّ الظاهر، ولا يحكمون على الإنسان إلاّ بظاهر أعماله، لأن الله هو وحده الذي يعلم السر وأخفى، وقد أُطلق على هذا المعيار اسم "الشكلي" بسبب أن كثيراً من أحكام الناس، المؤسسة على المظهر، قد لا تكون مطابقة للواقع، أي قد لا يتفق المظهر مع الجوهر، لكن مع ذلك تبقى لها قيمتها، فيها تتحدد مكانة الإنسان في المجتمع، الذي يعيش فيه. ولكن المعيار الحقيقي هو: هل أراد الإنسان بتلك الأعمال السمعة والرياء والشهرة؟ أم أدّاها وفقاً للمنهج الرباني، ليجمع بين الحسنيين: الدنيا والآخرة.

ب. معيار الضبط

وهو أداء الأعمال وفقاً لمقتضى الشرع أي العمل، بما ثبت بنص القرآن أو السنة، قولاً أو فعلاً، وهذا يقتضي العلم. وهنا يلتقي العمل والعلم في معيار دقيق، إذ يشمل حياة المؤمن بكل تفاصيلها الدقيقة. ففي بيته ـ مثلاً ـ يلزمه معرفة حقوق الوالدين، وحقوق الزوج، وحقوق الأولاد، وحقوق الجار، بما لا يسع المجال لذكر تفاصيله، ثم العمل بمقتضى تلك المعرفة، أي العلم. وفي طريقه إلى عمله، يلزمه معرفة حق الطريق، ككف الأذى، وغض البصر وغيره، سواءً كان ماشياً أو راكباً وأن يعمل بما علم من تلك المعرفة. وفي عمله؛ يلزمه تحسين العمل، والإخلاص فيه وإتقانه. وحتى في الصلاة، فعلى الإنسان أن يعلم أن الهدف من الصلاة عملٌ بالجوارح، يؤدي إلى غاية أسمى، وهي الامتثال لأمره سبحانه وتعالى،وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ، فيتعلم خضوع القلب بقدر الاستطاعة، إذ ]لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[ (سورة البقرة: الآية 286) وفي مجلسه؛ عليه أن يكون عالماً بآداب الحديث، والإعراض عن اللغو. لقوله تعالى ]وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ[ (سورة المؤمنون: الآية 3). فلا يشغل نفسه بتوافه الأمور، وإنْ جادل جادل بالتي هي أحسن. أمّا مع الناس عموماً، فعلى الإنسان أن يكون عالماً بحق المسلم، على المسلم، وأن يعمل بما علم، كما قال الرسول r ]إِيَّاكُمْ، وَالظَّنَّ. فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَافَسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا. وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 4646)، كما يمكنه أن يطبق علمه ]الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَخُونُهُ، وَلاَ يَكْذِبُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، حَرَامٌ عِرْضُهُ وَمَا لُهُ وَدَمُهُ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1850). وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لقول الرسول r ]لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 12). وإذا كان تاجراً فلا بد من أن يكون عالماً بجميع أنواع البيوع الفاسدة، لكي لا يقع في شيء منها. ولأن معظم المظالم تكون في الحقوق المالية، فقد نزلت أطول آية في القرآن الكريم تأمرنا بالتقوى، في ضبط المعاملات التجارية، من دَيْن وبيع وشراء. وفوق ذلك كله، ينبغي أن يكون المسلم متحلياً أبداً بالأخلاق الفاضلة؛ كالصدق والأمانة والوفاء بالعهد، مع سلامة القلب من الحسد، والحقد، والبغض، وكل ما يفسد القلب. وكلها، أعمال تحتاج إلى عملٍ واجتهاد في بلوغ الغاية. وكل هذه المعارف والعلوم، لا قيمة لها في ذاتها، ما لم يعمل الإنسان بموجبها ومقتضاها.

ج. معيار القيمة

وهو قيمة أو ثقل العمل، الذي أداه الإنسان في موازين أعماله يوم القيامة، وذلك بتذكر الإنسان دائماً أن الله ناظرٌ إليه، عليمٌ بمقاصده ونياته، لا تخفى عليه خافية. وجدير بمن يؤمن بعلم الله لعمله، أن يتقنه، وأن يخلص لله النية فيه، فيقف عند حدود ما شرع الله، ويتحرى بعمله الخير لخلقه وتزكية نفسه، فلا يكتفي فقط بترك المعاصي، واجتناب النواهي . قال رسول الله r: ]لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلاَ كُوَّةٌ لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 10798). وتتوقف قيمة العمل، على مدى إخلاص النية فيه لله، لقوله تعالى: ]وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[ (سورة البينة: الآية 5). وقوله تعالى ]فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[ (سورة الكهف: الآية 110). فالعمل الصالح هو المبني على طاعة الله إجلالاً له، وهو ما يؤديه الشخص، ولا يريد أن يحمده عليه أحد. فمعيار قبول العمل، هو خلوه من الرياء، لأن الضابط الشكلي للعمل لا يعجز عنه أحد، فالمؤمن والكافر كلاهما يستطيع أن يأتي بأعمال تكون في ظاهرها أعمالاً صالحة. ولكن المعيار الشكلي الصوري، وإن جاز في دنيا الناس، فإنه لا يجوز على الله سبحانه وتعالى.

ونخلص من هذا، إلى أن الآية الكريمة، جاءت في مقام الحث على العمل، والعمل هو حركة الحياة بأكملها، فلا يخلو الإنسان في وقت من الأوقات، من عمل يؤديه للقيام بوظيفة خلافته لله في الأرض. ويتمثل ذلك في جميع الأنشطة الحيوية، في إعمار الأرض، والتعرف على مخزون طاقاتها، وتحقيق إرادة الله في تنمية الحياة عليها وترقيتها، كما تقتضي الخلافة إقامة الشريعة، وتحكيمها في ذلك كله. فالعمل الصالح، هو العبادة التي هي غاية وجود الإنسان، بل هي وظيفته الأولى. وذلك لقوله تعالى: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ[ (سورة الذاريات: الآية 56).

صلة آخر الآية بأولها

يقول تعالى في تذييل الآية مثار البحث ]وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ (سورة التوبة: الآية 105) (اُنظر ملحق تفسير الجزء الأول من الآية الرقم 105 من سورة التوبة). "وستردون" أي بالبعث بعد الموت، "فينبئكم بما كنتم تعملون" أي من أعمالٍ في الدنيا، ما كان مشهوداً للناس منها، وما كان غائباً عن علمهم منه، ومن نياتكم فيه، ينبئكم به عند الحساب، وما يترتب عليه من الجزاء بحسن الثواب، أو سوء العذاب . وفي قوله تعالى]فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ[ (سورة التوبة: الآية 105). نصٌ على المراقبة، أي مراقبة العمل في وقت حدوثه، بدليل ما عُطف عليه؛ ]رَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ[ (سورة التوبة: الآية 105) (اُنظر ملحق تفسير الجزء الأول من الآية الرقم 105 من سورة التوبة). فالآية تُشير إلى الجزاء المؤجل، في وقت الحساب، كما تشير إلى جزاء الدنيا من قبل المؤمنين المقدرين للعمل، والله بكلٍ عليم، فيجازي الإنسان على عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

ويتضح مما سبق، أن الآية التي نزلت خاصة بموقف محدد، وحكم خاص، تجاوزت هذا الموقف، وذاك الحكم إلى معنى عام، يدخل فيه جميع المسلمين. فأصبح كل مسلم مطالب بالعمل، العمل الذي يعلم أن هناك من يراقبه على أدائه وكيفية هذا الأداء، في الدنيا والآخرة. ولذلك، أصبح العمل مسؤولية يتطلب أداؤه إتقاناً وإحساناً، يتحول بهما إلى ضرب من العبادة والذكر.