إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / تطور الأوضاع السياسية، الدولية والإقليمية والعربية، في ضوء تصاعد الأزمة









مقدمة

المبحث السادس

تطور الأوضاع السياسية، في ضوء تصاعد الأزمة، بدءاً من 1 أكتوبر

أولاً : المحاولة السوفيتية للحل السلمي، وبداية مرحلة جديدة

ومع بداية شهر أكتوبر 1990، وتداعي جوانب سلبية عديدة لاحتلال العراق الكويت، خاصة الانقسام العربي، وفشل محاولات الوساطة العربية، وتدهور أحوال الرعايا الأجانب، في كلٍّ من العراق والكويت، ولجوء الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، إلى تدعيم وجودها العسكري في المنطقة، وتصاعد اللهجة الدولية باستخدام القوة المسلحة ضد العراق ـ وجد الاتحاد السوفيتي نفسه في مأزق، خاصة أن العراق، بدا مصرّاً على موقفه، الرافض الانسحاب من الكويت. لذلك، عمد إلى مسعى جديد. إذ أحس الرئيس ميخائيل جورباتشوف، بأن العراق قد يكون مستعداً للانسحاب إذا تأتّى له بعض الضمانات المقبولة. فضلاً عن استشعاره القلق من سياسة الاتحاد السوفيتي تجاه الأزمة كلها، الذي ينتاب بعض القادة العسكريين السوفيت، وقد سمع بنفسه أصوات النقد، التي توجَّه إلى وزير الخارجية، إدوارد شيفرنادزه، متهمة سياسته حيال الأزمة بالتأثر إلى أبعد حدّ بآراء جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكي. فقرر جورباتشوف، كما ظهر من تصرفاته، أن ينقل الاختصاص بالأزمة، من وزارة الخارجية إلى مكتبه مباشرة. وكان قراره إرسال ممثل خاص له، لمقابلة الرئيس صدام حسين، في بغداد، ومقابلة بقية أطراف الأزمة، من العرب والأوروبيين والأمريكان، على السواء. ووقع اختياره على يفجيني بريماكوف[1] عضو المجلس الرئاسي لاتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، الذي يَعُدّه من أصدقائه ومساعديه المقرَّبين.

وقصر بريماكوف جولته، التي شملت العراق والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وفرنسا ومصر والأردن والمملكة العربية السعودية، على هدفَين أساسيَّين، هما: العمل على إبقاء الحل السياسي، كأساس للتسوية، مع تأكيد الموقف السوفيتي، الرافض لاحتلال الكويت. والثاني، هو بحث مشاكل الرعايا السوفيت، العاملين في العراق، والبالغ عددهم 7830 شخص.

وفي مساء 4 أكتوبر 1990، وصل بريماكوف إلى العاصمة العراقية، وكان قد طلب من ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، أن يسبقه إليها، تمهيداً لمهمته. وبالفعل، وصل عرفات إلى بغداد، قبْل وصول بريماكوف إليها بيوم واحد.

وفي اليوم التالي، توجه بريماكوف إلى لقاء الرئيس صدام حسين، حيث سلّمه رسالة الزعيم السوفيتي، جورباتشوف، التي قال فيها: "آمل أن يساعد التبادل الصريح للآراء معكم، على إيجاد الحلول المقبولة، التي ستمكن من التخلص من الخطر المخيم على المنطقة. وأنا على ثقة من أن هذه الفرصة، ستكون مستغلَّة على أتم وجْه، لكي نخرج بإحدى أشد الأزمات، التي نشبت مؤخراً، إلى طريق التسوية السياسية. وأودّ أن أؤكد، أننا نَعُدّ تسوية كهذه، دافعاً حقيقياً لحل المعضلات الساخنة الأخرى، في هذه المنطقة، وفي المرتبة الأولى القضية الفلسطينية" (أُنظر وثيقة الترجمة العربية لنص رسالة الرئيس السوفيتي، ميخائيل جورباتشوف إلى الرئيس العراقي، صدام حسين المؤرخة في 2 أكتوبر 1990 والتي حملها مبعوث الرئيس السوفيتي، يفجيني بريماكوف، إلى العراق في 5 أكتوبر 1990).

وبعد أن قرأ الرئيس صدام حسين رسالة جورباتشوف، بدأت المباحثات مع بريماكوف، الذي أوضح للرئيس العراقي، أن الموقف خطير، وسوف يزداد خطراً، إذا لم يبادر العراق إلى الانسحاب من الكويت، سريعاً. وحاول إقناع الرئيس بالاستجابة لحل سلمي، جوهره الانسحاب التام من الكويت، ثم حل باقي القضايا الأخرى، من تعويضات ورسم حدود، وإنهاء الوجود الأجنبي في منطقة الخليج، أو حل القضايا الأخرى في المنطقة، وفق مراحل زمنية متتالية.

وردّ الرئيس العراقي، صدام حسين، بقوله: "إنك تطلب مني، أن أعلن الانسحاب. وكأن هذه الكلمة هي الكلمة السحرية، التي يمكن أن تحل كل المشاكل، دفعة واحدة. وأنا لن أقول هذه الكلمة، بهذه البساطة. حتى لو انسحبنا من الكويت، فإن ذلك لن يكون كافياً، لجعل الأمريكان يشعرون بالرضا. وأنتم، ليست لديكم ضمانات تقدمونها لنا، ضد أي هجوم أمريكي. لنفترض أنني أصدرت الأمر بالانسحاب. ما الذي يمكن أن تعطوه للعراق من ضمانات؟ ". ثم وجّه إلى المبعوث السوفيتي، بريماكوف، ثلاثة أسئلة محدَّدة:

1. ما هي الضمانات، التي يمكن أن تقدموها من أجْل العراق وأمنه؟

2. ما هي الضمانات، التي يمكن أن تقدموها، من أجْل النظام في العراق؟

3. ما هي الضمانات، التي يمكن أن تقدموها، من أجْل تسوية إقليمية لقضايا المنطقة؟

وردّ بريماكوف "إنني أخشى من ربط عضوي بين الانسحاب والضمانات، مما يجعل الرئيس الأمريكي، جورج بوش، يفسر طلب الضمانات، وكأنه شروط مسبقة للانسحاب. وأخشى، كذلك، من إثارة موضوع الضمانات، الآن، حتى لا يفسرها الغرب، باعتبارها خدعة، يقصد بها العراق أن يدخل في مفاوضات مع الولايات المتحدة؛ وهو أمر أعلن الرئيس بوش رفضه له. كما أن الكونجرس والرأي العام، سوف يمنعانه من القبول به، على افتراض أنه كان مستعداً لذلك".          

ووضح الرئيس العراقي للمبعوث السوفيتي، أن المشكلة تتلخص في أن الأمريكيين مصممون على تدمير العراق. وعلق بريماكوف على ذلك بقوله: "لنفترض أن ذلك هدفهم، فعلاً. فإن انسحاباً عراقياً من الكويت، سوف يقيّد الرئيس بوش، لأنه سيجعل الولايات المتحدة في وضع من يُقبِل على الحرب، من دون سبب". وعلق صدام حسين، بأنه يشك في ذلك.

وانتقل بريماكوف إلى هدف الزيارة الثاني، وهو بحث مشاكل الرعايا السوفيت، والتصريح لـ 7830 خبيراً سوفيتياً، من العسكريين والمدنيين[2] بالسفر إلى بلادهم. ووافق الرئيس صدام حسين على التصريح بسفر السوفيت من العراق، بمعدل 1500 شخص، كل شهر، ورأى في الإلحاح على إعادتهم إلى الاتحاد السوفيتي، دليلاً آخر على أنه حتى الرئيس جورباتشوف، ليس مطمئناً، في قرارة نفسه، إلى النيات الأمريكية.

وهكذا، فإن الجولة الأولى للمبعوث السوفيتي، لم تنجح في إقناع العراق بالحل السلمي، والانسحاب من الكويت. وعلى الرغم من ذلك، لم يفقد الاتحاد السوفيتي حماسته للحل السلمي، ولضرورة استنفاد كافة السُبُل قبْل اتخاذ قرار يبيح الحل العسكري. وهو ما أكده بريماكوف، في واشنطن، في 19 أكتوبر 1990.

ففي 19 أكتوبر 1990، استقبل الرئيس الأمريكي، المبعوث السوفيتي، وعقد اجتماع بينهما، استغرق ساعة ونصف الساعة، أعلن بعده مارلين فيتزووتر، المتحدث باسم البيت الأبيض، أن الرئيس بوش اجتمع مع بريماكوف، لتقديم معلومات عن اجتماعه بالرئيس العراقي، الذي تم في 5 أكتوبر من الشهر الحالي، وأن الرئيس بوش تحدث عن الجهود الدولية قائلاً: "إن التركيز يجب أن ينصب على العقوبات الاقتصادية، وعلى الدبلوماسية من أجل تأمين الانسحاب السلمي للعراق من الكويت. وأن المجموعة الدولية مستعدة لدرس خيارات بديلة في حال فشل الجهود الراهنة. وإن بوش شدّد على أن لا اهتمام لدى الولايات المتحدة، والمجموعة الدولية بأي حل جزئي للعدوان الصارخ، الذي نفذه العراق ضد الكويت. كما أكد أن على العراق الانسحاب من دون شروط". وأشار فيتزووتر، في نهاية حديثه عن ما تم في اللقاء، أن بوش أبدى معارضته لأي ربط بين أزمة الخليج وأي قضية أخرى.

وبعد فشل جهود بريماكوف، في واشنطن ولندن، توجه إلى روما، حيث صرح بأن الرئيس العراقي، صدام حسين، مستعد للتفاوض في التوصل إلى تسوية سياسية لأزمة الخليج، شرط ألا يُصدر الغرب إنذارات نهائية، أو يهدد بعمل عسكري ضد العراق.

وبعد ذلك، عاد بريماكوف إلى بغداد، في 28 أكتوبر 1990، ليلتقي الرئيس صدام حسين، مرة أخرى، قائلاً: "إن الصقور، يتغلبون على الحمائم، في الولايات المتحدة، وفي أوروبا". وردّ الرئيس العراقي، قائلاً: "وأنا أيضاً، عندي صقور وحمائم".

ثم عقد بريماكوف، اجتماعاً، مع الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، الموجود في بغداد. وفي ضوء هذا الاجتماع، أدلى وزير الخارجية السوفيتي، إدوارد شيفرنادزه، بتصريح، قال فيه: "إن هناك أملاً بالتوصل إلى حل سلمي، بشرط انسحاب العراق من الكويت؛ فلا مجال لحل وسط. إن مهمة بريماكوف ليست الأمل الأخير، ولكن من الصعب التكهن بالطريقة، التي سيتم بها الخروج من هذه الأزمة...".

وفي ضوء جهود بريماكوف، في بغداد، فاجأ المندوب السوفيتي في الأمم المتحدة، السفير يولي فورونتسوف (Yuli Vorontsov) ، مجلس الأمن، وقبْل انعقاده بدقائق، لإصدار قرار ضد العراق (القرار الرقم 674) ـ بطلب التأجيل على التصويت إلى يوم الإثنين، 29 أكتوبر 1990، بدل يوم الأحد، 28 أكتوبر.

وألقى المندوب السوفيتي، يولي فورونتسوف، كلمة، في مجلس الأمن، قال فيها: "إن آمالنا عظيمة في نجاح مهمة بريماكوف، في بغداد. وإن الاتحاد السوفيتي، يستثني الخيار العسكري، علماً بأنه سبق أن ترك جميع الخيارات مفتوحة، لقمع العدوان، كما جاء على لسان وزير الخارجية، شيفرنادزه، قبل شهر تقريباً. إننا نعارض ما يسمّى الحل العسكري للأزمة في الخليج. وإذا كانت هناك أدنى درجات الفرص للتسوية السلمية، فعلينا استغلالها كاملة". ووصف الأزمة في الخليج، بأنها "أزمة دولية خطيرة جداً"، سببها "الإجراءات غير الشرعية، التي قام بها العراق". وأشار إلى قلق الاتحاد السوفيتي، الجدي، على مصير الرعايا السوفيت، في العراق، وطالب بوقف الإجراءات العراقية، غير الشرعية. ثم أكد أن بلاده، تدعم مشروع القرار، المطروح في المجلس، وستصوت إلى جانبه. ووصف المشروع بأنه "يحتوي على جرعة قوية لعزم مجلس الأمن على القيام بكل ما هو ممكن، لمنع التوجه نحو إجراء عسكري". وحض على استمرار "نشاط الدول"، من داخل المنطقة وخارجها، في "بحثها عن الحل السلمي".

وأوضح السفير السوفيتي، عقب انتهاء الجلسة، أن طلب التأجيل، جاء من بريماكوف نفسه. كما قال السفير العراقي، عبدالأمير الأنباري، إنه يأمل أنباءً مشجعة من بغداد، وكذلك من أوروبا، حيث يجتمع الرئيسان، ميخائيل جورباتشوف وفرنسوا ميتران. ولوحظ أن السفيرَين، فورونتسوف والأنباري، غادرا قاعة المجلس، متعمدَين مواجَهة الصحافة معاً.

ووافق أعضاء المجلس على التأجيل، بعد ما أمضوا ثلاثة أيام في صياغة مشروع قرار ضد العراق، استعجلت الولايات المتحدة الأمريكية تبنِّيه. إلاّ أن السفيرَين، الأمريكي والبريطاني، لم يخفيا قلقهما من أن يؤدي التأجيل إلى انقسام في صفوف الدول الخمس، الدائمة العضوية في المجلس.

وهكذا حاول الاتحاد السوفيتي، في 28 أكتوبر 1990، وللمرة الثانية، استغلال عملية التصويت على القرار الرقم 674، الذي كانت الدول الخمس الكبرى، قد وافقت على مشروعه، في 18 أكتوبر 1990. وهو القرار المتعلق بالإفراج عن جميع رعايا الدول الثالثة المحتجزين في العراق والكويت، وتحميل العراق أي خسائر أو أضرار أو إصابات قد تنشأ في الكويت، أو أي دول أخرى، لإقناعه بالتجاوب مع الحلول السلمية. وهكذا، لم تستطع رحلة بريماكوف الثانية، إلى بغداد، ومحادثاته المكثفة مع الرئيس صدام حسين، كسابقتها، تغيير الموقف العراقي[3].

لقد أثبت فشل المحادثات، أن الظروف ليست مهيأة لحل سلمي، جوهره انسحاب العراق من الكويت، بإرادته الحرة. الأمر الذي تلاه مباشرة التصويت على القرار الدولي الرقم 674، بعد تأجيل لمدة 24 ساعة.

وعاد بريماكوف يلح على الرئيس صدام حسين في إعلان انسحاب فوري، وتنفيذه فعلاً. ورد صدام حسين بأن "أي انسحاب، دون ضمانات، سوف يكون انتحاراً. فالانسحاب العراقي من الكويت، يجب أن يتزامن مع انسحاب القوات الأمريكية من السعودية، ومع رفع الحصار عن العراق، ومع اتفاق على مخرج، يصل العراق بالبحر".

وبعد انتهاء زيارة بريماكوف إلى العراق، توجّه إلى باريس، لمقابلة الرئيس ميخائيل جورباتشوف، الذي كان، في ذلك الأسبوع (الأخير من أكتوبر)، موجوداً في فرنسا، لمحادثات مع الرئيس ميتران. واستمع جورباتشوف، باهتمام، إلى نتائج زيارات بريماكوف وملاحظاته. وبعد تشاور مع الرئيس فرنسوا ميتران، أعلن الرئيس السوفيتي، في 29 أكتوبر 1990، أثناء زيارته فرنسا، أن الوقت قد يكون ملائماً لدور عربي في الأزمة، يسهل للرئيس العراقي فرصة الانسحاب من الكويت، ثم أضاف جورباتشوف، أن الانسحاب العراقي، غير المشروط، من الكويت، لا بديل منه، كمقدمة لحل شامل للأزمة.

    كان هدف جورباتشوف، في الدرجة الأولى، كما ظهر وقتئذٍ، منع نشوب حرب على نطاق واسع، في الشرق الأوسط، بالقرب من الاتحاد السوفيتي. وربما تصور أن ذلك قد يُحدث آثاراً، ربما تكون خطيرة، في قيادات القوات المسلحة. لم يكن جورباتشوف مشغولاً بالحرب نفسها، وإنما بآثارها المحتملة في الجيش السوفيتي.

    إن فشل المحاولة السوفيتية الثانية لم يكن يعني، من وجهة النظر السوفيتية، أن الحل السلمي، أصبح غير ممكن، بل عنى ضرورة البحث عن صيغ أخرى للحل السلمي. وفي هذا الإطار، يمكن فهْم عدم إشارة السوفيت، صراحة، إلى فشل زيارة بريماكوف الثانية، ودعوة الرئيس السوفيتي، جورباتشوف، الدول العربية إلى الاضطلاع بدور فعال في حل الأزمة.

ثانياً: الخريطة العراقية الجديدة

وفي خلال المحاولات السوفيتية إيجاد حل سلمي للأزمة، أوردت وكالة "رويتر"، يوم الثلاثاء، 16 أكتوبر 1990، نبأ حول خريطة جديدة للعراق، وضعها العراقيون، ووُزِّعت نسخ منها على السفارات العراقية، وأمكن الوكالة الاطلاع عليها. وتُظهر الخريطة الإدارية الكويت المحتلة، بوصفها المحافظة العراقية الرقم 19، وقد اقتُطع منها 40 في المائة من الأراضي، تقدّر مساحتها بنحو 7 آلاف كم2 تقريباً، وضمت إلى محافظة البصرة العراقية. كما تُظهر شريطاً، يوسع الحدود الإدارية للبصرة، أطلق عليه اسم "صدامية المطلاع"، على اسم الرئيس العراقي صدام حسين. وتَظهر في الخريطة، بوضوح، جزيرتا بوبيان ووربة.

ونقلت وكالة "رويتر"عن محللين لشؤون الشرق الأوسط، قولهم، إن هذه الخريطة، يمكن أن تكون مفتاحاً للطريقة، التي سيساوم بها الرئيس صدام، على الرغم من أن العراقيين، يؤكدون أن الكويت كلها، هي جزء من العراق. وقال أحد هؤلاء المحللين، وهو فيليب روبنز، من المعهد الملكي للدراسات الإستراتيجية، في لندن: "من المقصود، أن صدام حسين، يحدد وضعاً للحدّ الأقصى، وآخر للحدّ الأدنى. والحدّ الأقصى، هو الكويت كلها. أمّا الحدّ الأدنى، فهو النصف الشمالي، إلى جانب الجزر وحقول النفط". وربطت "رويتر"بين نشر الخريطة، وما تردد من أنباء من أن العراق "قد يكون مستعداً للتفاوض، بشأن الانسحاب، بصيغة تحفظ ماء الوجه".

ثالثاً: تصاعد قضية الرهائن

طوال شهر أكتوبر 1990، كانت بغداد مجالاً مفتوحاً، لكثير من ساسة العالَم وشخصياته. قصدوا إليها، ليحصلوا على الحرية لمواطنيهم المحتجزين، "رهائن"، أو "ضيوفاً"، على حدّ التعبير العراقي. وربما أراد العراق، أن يبلغ صوته العالم، ممثلاً في عدد من الشخصيات الدولية، وأن يحسِّن صورته، وسط حصار دعائي، أمسك بخناقه في كل محفل دولي، وعلى كل شاشة تليفزيون، وعلى صدر أي جريدة. وفي الوقت عينه، فإن تلك الشخصيات الدولية، رغبت في الاقتراب من وهج أزمة، شدت انتباه كل القارات وشعوبها.

كان بين الذين قصدوا إلى بغداد، كورت فالدهايم رئيس جمهورية النمسا، والأمين العام السابق للأمم المتحدة، وفيلي برانت (Willy Brandt)، مستشار ألمانيا الغربية الأسبق، وياسوهيرو ناكاسوني (Yasuhiro Nakassone)، رئيس وزراء اليابان الأسبق، وإدوارد هيث، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وغيرهم كثير. وإلى جانب ما بذله هؤلاء الساسة من جهد في إطلاق أعداد كبيرة من مواطنيهم، فقد كانت رواياتهم، عمّا رأوه وقالوه وسمعوه، في بغداد، مصادر مهمة، في رسم صورة كاملة لتفكير القيادة العراقية، في فترة من أشد فترات الأزمة خطراً.

ففي يوم الأحد، 21 أكتوبر 1990، استقبل الرئيس صدام حسين رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، إدوارد هيث. وكانت النتائج الأولية للقاء، أن الرئيس العراقي سمح بسفر عدد من البريطانيين المحتجَزين في العراق. وقال هيث، إن الرئيس صدام بحث معه أزمة الخليج. وكان تأكيده "على العمل الدبلوماسي قوياً جداً. وما يريده هو نظام مستقر، في الشرق الأوسط، بوجه عام". وأضاف هيث: "بصراحة شديدة، لا أعتقد أن جهوداً كافية، تبذل على الساحة الدبلوماسية". وفي يوم الأربعاء، 24 أكتوبر 1990، عقب عودته من بغداد، قال "إن العراقيين، لا يريدون الحرب. ولكنهم يقولون إنهم سيقاتلون حتى الموت، إذا هوجموا".

وفي 26 أكتوبر 1990، أعلن بيان عراقي ـ بلغاري، عقب زيارة نائب رئيس بلغاريا إلى بغداد، أن الرئيس صدام حسين، قرر الإفراج عن البلغار المحتجَزين في العراق، وعددهم 690 شخصاً.          

وفي 27 أكتوبر 1990، أعلن أنريك بارون كريسبو، رئيس البرلمان الأوروبي، أنه رفض الدعوة، التي وجّهها إليه رئيس البرلمان العراقي، سعدي مهدي صالح، لزيارة العراق. وعلّل رفضه قبول هذه الدعوة بالقول: "إن أي إمكانية لقيام حوار أو تعاون بين البرلمانَين، الأوروبي والعراقي، غير ممكنة، في هذه الآونة، ما دامت بغداد تحتجز رهائن أوروبيين، وآخرين من جنسيات مختلفة، ضد رغبتهم وإرادتهم، وما دام العراق يتمادى، أيضاً، في احتلال وضم الأراضي الكويتية". وأكد البرلمان الأوروبي، "أنه لا يمكن إعادة الحوار والتعاون البناء بين البرلمانَين، الأوروبي والعراقي، إلاّ بتطبيق القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي". وكان المستشار الأسبق لألمانيا الغربية، فيلي برانت، الرئيس السابق للاشتراكية الدولية (1976 ـ 1992)، قد رفض دعوة مماثلة، وجّهتها إليه السلطات العراقية، لزيارة بغداد، والعودة بعدد من المحتجَزين الألمان. وقد نصح له المستشار هيلموت كول (Helmut Kohl) بعدم قبول هذه الدعوة، "التي تمثل دخولاً في اللعبة الجديدة، التي تريد بغداد تمريرها، هذه الأيام، والقائمة على إطلاق عدد من الرهائن الغربيين، بصفة انتقائية، بهدف إحداث شروخ داخل تماسك الجبهة الدولية، التي تقاطع العراق". وذلك، حتى تذعن بغداد للإجماع الدولي، وتسحب قواتها العسكرية من الكويت، من دون قيد أو شرط.

وفي 28 أكتوبر 1990، أعلن رئيس وزراء إيطاليا، جوليو أندريوتي (Julio Andreiotti)، أن القِمة الأوروبية، التي انعقدت في روما، أكملت أعمالها، وناقشت وأقرت "وثائق مهمة جداً، تتعلق بأزمة الخليج والشرق الأوسط". وأعلن: "إن الجماعة الأوروبية، تؤكد، مجدداً، دعم جهود الأمم المتحدة. وأن قرارات مجلس الأمن، يجب أن تحترم من قِبل العراق. وأن الجهود متجهة نحو إيجاد حل سلمي، وسياسي، للأزمة، وإعادة السيادة للكويت، وأن استخدام القوة العسكرية، يجب أن يكون الخطوة الأخيرة، إذا لم تنسحب القوات العراقية من الكويت، ولم تنجح العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق".

وأقرّ المجلس الأوروبي وثيقة شديدة اللهجة، تتعلق بقضية الرعايا الأجانب، في العراق والكويت، جاء فيها: "إن المجلس يدين العراق، لاحتجازه الأجانب، كرهائن، ووضْع بعضهم في المرافق الإستراتيجية العراقية. ويذكّر المجلس العراق بالالتزامات الدولية، ويعتبر الحكومة العراقية مسؤولة مسؤولية كاملة عن سلامة الرهائن. وتؤكد دول المجموعة، مجدداً، التضامن الكامل فيما بينها، للسماح بإطلاق جميع الأجانب، المحتجَزين في العراق والكويت. وتدين استخدامهم لغرض وحيد، غير مُجدٍ، يهدف منه العراق إلى تفريق الجماعة الأوروبية. وتدين دول الجماعة، من دون تحفّظ، هذه المناورة، التي تنتهك أبسط المبادئ الإنسانية، والتي ليس من شأنها، سوى تعقيد احتمالات حل الأزمة. وتؤكد الجماعة عزمها على عدم إرسال ممثلين حكوميين، على أي مستوى، لإجراء محادثات مع العراق، لإطلاق الرهائن، وتشدِّد على امتناع الآخرين عن القيام بذلك. وتطالب دول الجماعة مجلس الأمن بمواصلة جهوده لإطلاق جميع الرهائن، فوراً، وتدعم الأمين العام للأمم المتحدة، في إرسال ممثل خاص، لتحقيق ذلك. وكلفت رئاسة المجلس الأوروبي، تسليم هذه الوثيقة إلى العراق".

ورأى أندريوتي، "أن احتجاز الرهائن الغربيين، يضر العراق كثيراً، لأنه يخلق، في الغرب، عداءً له". وأكد أن الوثيقة، ستسلم إلى الأمين العام، وإلى الحكومة العراقية، "بالطرق الدبلوماسية"، مستبعداً أن يزور العراق مبعوث للجماعة الأوروبية. واتهم العراق بأنه "حاول شق الموقف الأوروبي الموحَّد". ووصف الموقف الفرنسي، بأنه "معقول"، مشيراً إلى أنه "لم تجرِ أي محادثات مباشرة بين باريس وبغداد، في شأن قضية الرهائن". ولاحظ أن الوجود العسكري الفرنسي، في الخليج، "يؤكد مصداقية موقف فرنسا".

وكان روبرت تينر، مستشار الرئيس الأمريكي بوش، لاستطلاعات الرأي، قد تحدث، مراراً، مع الرئيس بوش عن السياسة الأمريكية في الخليج، خلال شهر أكتوبر 1990. وقال تينر أنه يعتقد أن الإدارة، توجِّه رسائل أكثر مما ينبغي، وأنها تفتقر إلى التركيز. واقترح أن يعود بوش إلى الأساسيات، التي ذكرها في أغسطس. وكانت الرسالتان الأكثر جاذبية، هما محاربة العدوان، وحماية أرواح الأمريكيين، بمن فيهم أكثر من 900 أمريكي، رهائن في العراق والكويت. وكان نحو 100 منهم، قد نقلوا إلى المواقع الإستراتيجية، العسكرية والصناعية، العراقية، ليكونوا "درعاً بشرياً"دون أي هجوم أمريكي.

وظل مستشار الأمن القومي، سكوكروفت، شهوراً، يشعر بالقلق؛ لأن جيمس بيكر، وزير الخارجية، لا يؤيد السياسة الأمريكية في الخليج. كان بيكر يشعر أن أساس هذه السياسة، ليس راسخاً؛ فمحنة الأمير الكويتي وشعبه، والعدوان، والنفط، ليست مقنعة للشعب الأمريكي. وقد أوضحت استطلاعات الرأي، أن الشاغل الرئيسي للناس، كان الرهائن الأمريكيين، في العراق والكويت. وحث جيمس بيكر على تحويل التركيز في السياسة الأمريكية في الخليج، إلى قضية الرهائن، فتلك هي القضية، التي يمكن أن توحِّد الأمريكيين والمجتمع الدولي؛ لأن لكل الدول، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي، رهائن في العراق، وهذه هي القضية، التي يمكن أن تبرر الحرب.

وأراد جيمس بيكر، أن يطرح ورقة الرهائن بنفسه، في خطاب قوي. وأبدى سكوكروفت استعداده لمسايرته. وفي 29 أكتوبر 1990، تحدث بيكر، أمام مجلس لوس أنجلوس للشؤون العالمية. وقال: "إن أكثر من مائة درع بشري أمريكي، يجبرون على النوم على أرض خرسانية، مليئة بالهوام. ويبقون في الظلام، أثناء النهار. ولا يتحركون إلاّ ليلاً. ولا يتناولون سوى وجبتَين، في اليوم. وقد أصيب كثير منهم بالمرض، نتيجة المحنة التي يعانونها. كما أن فكرة استخدام أمريكيين كدروع بشرية، هي نفسها فكرة غير متصورة". "إننا لا نستبعد إمكان اللجوء إلى القوة، إذا استمر العراق في احتلال الكويت".

في اليوم التالي، 30 أكتوبر 1990، دعا الرئيس الأمريكي جورج بوش 15 عضواً من قادة الكونجرس، من كلا المجلسَين والحزبَين، إلى البيت الأبيض. وافتتح الاجتماع بتقرير في شأن الوضع، ملاحظاً أن العراق قد أفرج عن الرهائن الفرنسيين[4]. لكن، يتوالى مزيد من الأنباء عن سوء معاملة الرهائن، الأمريكيين والبريطانيين. وقال إنه كان يقرأ كتاب مارتين جيلبرت، "الحرب العالمية الثانية: التاريخ الكامل"، الذي وصف محاولات تهدئة الديكتاتور، وسلسلة الأحداث، التي أدت إلى النزاع. وقال بوش، في حنق واضح، إنه لن يدع هذا الشيء يحدث ثانية؛ فمعاملة الرهائن بشعة، ووحشية، وتَمَثَّل بأُسْرة أجنبية رهينة، اِقتِيدت إلى أحد المستشفيات، حيث أطلق العراقيون النار على الأبناء، أمام والدَيهم، ثم أطلقوا النار على الوالدَين.

وانتقل الرئيس بوش بالمناقشة، إلى وضع السفارة الأمريكية في مدينة الكويت، حيث بقى عدد قليل من الدبلوماسيين الأمريكيين، يمنع العراقيون عنهم الماء والطعام. وقال إنه ليس أمامه وسيلة عسكرية فاعلة، لحمايتهم، دون غزو كامل. وسأل عمّا يمكن أن يحدث، لو أن العلَم الأمريكي قد أُنزل، وتحوّل الدبلوماسيون الأمريكيون، بدورهم، إلى "ضيوف"، كما يصف صدام الرهائن؟ وأجاب الرئيس، وقد بدا التوتر على عضلات رقبته: لن أجلس ساكناً، لو حدث ذلك.

وأحدث قرار رئيس الاشتراكية الدولية، المستشار الألماني الغربي الأسبق، فيلي برانت، بعد اجتماعه بالأمين العام للأمم المتحدة، دى كويلار، في 2 نوفمبر 1990، السفر إلى بغداد، الأسبوع التالي، ردود فعل متباينة في الصف الأوروبي. وكان الموقف البريطاني حادّاً في معارضته هذه الزيارة. وجاء في بيان للخارجية البريطانية: "علِمنا أن الحكومتَين، الألمانية والإيطالية، اقترحتا على الأمين العام للأمم المتحدة، أن يتوجَّه برانت إلى بغداد، ترافقه شخصيات أوروبية، تحت رعاية الأمم المتحدة، للمطالبة بإطلاق الرهائن". وأضاف "أن للأمين العام ممثله الخاص. وحسب قرارات قِمة روما، يجب عدم تشجيع أي زيارة لبرانت، أو أي سياسي أوروبي". وأكد البيان أن بريطانيا، "التي لديها أكبر عدد من الرهائن (نحو 1400 شخص)، لم تُستشَر في شأن هذه المبادرة الألمانية ـ الإيطالية". وتجدر الإشارة إلى أن رئيس وزراء إيطاليا، جوليو أندريوتي، هو صاحب الاقتراح على دى كويلار، أن يوفد برانت إلى بغداد، في مهمة، تستهدف الإفراج عن المحتجَزين.

وفي يوم 4 نوفمبر 1990، استقبل الرئيس صدام حسين رئيس وزراء اليابان الأسبق، ياسوهيرو ناكاسوني (Yasuhiro Nakassone)، لمدة ساعتين. وكان ناكاسوني قد اجتمع إلى طه ياسين رمضان، النائب الأول لرئيس وزراء العراق، وطارق عزيز، وزير الخارجية. وفي تصريحاته الأولية، قال إنه لم يطلب، بشكل محدَّد، من الرئيس صدام حسين، الإفراج عن أكثر من 300 محتجَز ياباني. وغادر ناكاسوني، رئيس وزراء اليابان الأسبق، بغداد، وفي صحبته 77 شخصاً من اليابانيين المحتجَزين.

وقبْل أن يبدأ المستشار الألماني الأسبق، فيلي برانت، زيارته إلى بغداد، المقررة يوم 7 نوفمبر، ببضع ساعات، صرح متحدث باسمه، أن الزعيم الألماني، حصل من الرئيس صدام على وعد بالإفراج عن الألمان الـ 400، المحتجَزين في العراق والكويت، وعن مائة آخرين من جنسيات مختلفة.

وفي يوم الأربعاء، 7 نوفمبر 1990، استقبل الرئيس صدام حسين، فيلي برانت، الذي كان أجرى محادثات، قبْل ذلك، مع طه ياسين رمضان، النائب الأول لرئيس وزراء العراق، وطارق عزيز، النائب الثاني، وزير الخارجية.

وقالت وكالة الأنباء العراقية، إن الرئيس صدام حسين، أمر بالسماح لمائة ألماني محتجَز بالمغادرة، وكذلك لعشرين غربياً آخرين. وتتابعت الأنباء، وبعضها شبه مؤكد، عن احتمال السماح لمحتجَزين آخرين كُثُر بمغادرة العراق. وطلبت الجماعة الأوروبية، من الأمين العام للأمم المتحدة، دى كويلار، إرسال موفد، في أقرب وقت، إلى بغداد، "لإطلاق جميع الرهائن، من دون شروط...".

وفي مؤتمر صحفي، عقده مستشار ألمانيا الأسبق، فيلي برانت، في بغداد، في 8 نوفمبر 1990، قال إنه حصل من الرئيس صدام حسين على وعد، بالسماح لمائة وعشرين غربياً محتجَزين في العراق، بينهم مائة ألماني، بمغادرة العراق. وأضاف أنه لا يمكن القول، إنه أكثر تفاؤلاً في شأن إحلال السلام في الخليج، بعد محادثاته مع الرئيس العراقي.

ومنذ وصوله إلى العراق، أبدى فيلي برانت، مرات عدة، تأييده عقد مؤتمر موسّع، لإحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط بأسْرها. وقال: "عندما كنت أتحدث عن مؤتمر سلام، كنت أقصد، يقيناً، أنه في إطار مثل هذا المؤتمر، يجب إيجاد حل لمشكلة الكويت".

وفي 10 نوفمبر 1990، وصل فيلي برانت إلى مطار فرانكفورت، عائداً من بغداد، وفي صحبته 174 شخصاً من المحتجزين الغربيين، بينهم 120 ألمانياً، و20 إيطالياً، و12 بريطانياً، و10 هولنديين، و3 بلجيكيين، و3 أمريكيين، إضافة إلى محتجَز واحد من كلٍّ من سويسرا والنرويج واليونان والبرتغال واللوكسمبورج وإيرلندا. وأوضح برانت، أن حوالي 220 ألمانياً، لا يزالون في الكويت والعراق. وأكد أنه سيواصل جهوده، من أجْل الإفراج عن المحتجَزين.

لقد وضع برانت، أمام الرئيس العراقي، صدام حسين، صميم الأزمة. وقال، طبقاً لروايته: "إنه يريد من الرئيس صدام، أن يتذكر قضية خطيرة، واجهها بنفسه، وهي قضية "إيران ـ كونترا"، التي تكشف وقائعها، أن الولايات المتحدة، تدخلت، في الوقت المناسب، في الحرب العراقية ـ الإيرانية، لكي تمنع هزيمة إيران، ولكي تحجّم انتصار العراق. لماذا؟ هناك سبب هام، وهو أن الولايات المتحدة، لم تكن مستعدة لترى صدام حسين جالساً فوق نفط إيران، إلى جانب نفط العراق". ثم يستكمل برانت روايته: "إنني قلت: هل تراهم، وهم الذين لا يقبلون جلوسك فوق نفط إيران، أن يروك جالساً فوق نفط الخليج كله؟".

وفي 20 ديسمبر 1990، دُعي إدوارد هيث، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، إلى التحدث أمام لجنة القوات المسلحة لمجلس النواب الأمريكي، في جلسة خاصة، عقدت برئاسة ليس آسبن، رئيس اللجنة. وفي هذه الجلسة، قال هيث: "دعوني أذكّركم، أولاً، أن قرار مجلس الأمن، الرقم 660، وهو الأساس في كل دور الأمم المتحدة في أزمة الخليج، يحتوي على ثلاث فقرات: الفقرة الأولى، فقرة تدين العراق. وهذه فقرة، لا يختلف عليها أحد منّا، وهي لا تحتاج إلى طول نقاش. والفقرة الثانية، تطلب من العراق سحْب قواته، فوراً، وبدون شرط، إلى المَواقع التي كانت عندها، قبْل الغزو العراقي. وهذه أيضاً فقرة، لا يختلف عليها أحد، ولا تحتاج إلى طول نقاش. وأمّا الفقرة الثالثة في القرار، فهي تطالب العراق والكويت، بأن يبدآ، على الفور، محادثات مكثفة، لحل مشاكلهما. وهذه هي الفقرة، التي تجاهلها الأطراف، ولم تعطها فرصة حقيقية لاكتشاف إمكاناتها".

وتحدث هيث عن السبب المباشر، الذي حمله على الذهاب إلى بغداد، وهو الرهائن البريطانيون، المحتجَزون في العراق. وقال، في هذا الصدد: "إنني قضيت ثلاث ساعات مع صدام حسين، ولم يستغرق موضوع الرهائن من الحديث بيننا، أكثر من فترة وجيزة. وقد أطلق معظمهم. وتحدث صدام حسين معي بصراحة، وتحدثت معه من دون مجاملة:

قلت له: "إنني أريد أن أطرح عليك احتمالات، لأسمع رأيك حيالها".

سألني: "معنى ذلك، أنك ستطرح حالات افتراضية؟".

قلت له: "نعم. وهذه هي الطريقة، التي أريد أن أستوثق بها من آرائك".

سألني: "ما هي الفرضية الأولى؟".

قلت له: "إذا انسحبت من الكويت، فلا يستطيع الأمريكيون أو الإنجليز أو غيرهم، ممن لهم قوات في السعودية ـ إلاّ أن يرحلوا، عائدين إلى بلادهم. وأظن أن هذا، من وجهة نظرك، ومن وجهة نظر عربية، أمر مرغوب فيه بشدة".

رد قائلاً: "نعم. ولكن أي ضمانات تستطيع تقديمها لي، بأنني إذا انسحبت من الكويت، فإن الأمريكان والإنجليز، لن يأتوا بقواتهم إلى مَواقع أفضل وأقرب، ثم يقصفوننا؟ بمعنى أنهم سيهاجموننا من الكويت، بدلاً من السعودية".

قلت له: "ليس عندي ضمانات، أقدمها لك، ومن المحتمل أن يكون هناك جواب لدى دول الجامعة العربية، فهي تستطيع أن تضع قوات بينك وبين الكويت، تعطي درجة من الأمان لكلٍّ منكما. وهذا دور مارسته دول الجامعة العربية، من قبْل. وقد كنت أنا وزير الخارجية البريطانية، حينما حدث ذلك".

ردّ قائلاً: "أن الموقف أصعب مما كان في التجربة الماضية".

قلت له: "إنك تستطيع إبداء مرونة كبيرة. فممّا يبدو أمامي، أعتقد أن شعبك يؤيدك، فأنت توصلت إلى ترتيبات مع الإيرانيين، تختلف كثيراً عمّا حاربت من أجْله ثماني سنوات معهم. وكنا نتصور، أن شعبك سوف يغضب منك، والذي حدث، أنه صفّق لك. وأظن أن نفس الشيء، سوف يحدث إذا توصلت إلى ترتيبات، تؤدي بك إلى الانسحاب من الكويت". وكان رأيه أن "الموقف، بالنسبة للكويت، يختلف عما كان مع إيران".

وانتقل حديثنا إلى الأسلحة الكيماوية. وأبديت معارضتي لهذا النوع من السلاح. وقال لي: "إنني أفهم أسباب اعتراضك. وخشيتي تأتي من أنه إذا احتدم القتال، فإن الأمريكان والإنجليز، قد يستخدمون أسلحة نووية ضدنا. وهكذا ستفعل إسرائيل. والشيء الوحيد، الذي أملكه، هو تلك الأسلحة، التي تعترض أنت عليها". "وقد بدا لي صدام حسين رجلاً، يملك الكثير من العزم والتصميم. وعلى وجه اليقين، فإنه ليس مجنوناً، كما تصوره بعض وسائل الإعلام في الغرب، وهو بالتأكيد ليس هتلر جديداً".



[1] كان بريماكوف على صلات قديمة بكثيرين في العالم العربي، بينهم الرئيس صدام حسين، طارق عزيز، ساعده عليها عمله مراسلاً لجريدة "برافدا"، مقيماً بالشرق الأوسط لمدة خمس سنوات، ومقره يومئذ في القاهرة، وسفره منها إلى بقية العواصم العربية دائم، لا ينقطع.

[2] ذُكر في موسوعة حرب الخليج اليوميات ـ الوثائق ـ الحقائق، أن مصادر سوفيتية أشارت إلى أن بريماكوف بحث خلال محادثاته وضح جدول زمني لمغادرة 5174 سوفيتياً محتجزين في العراق حيث يعملون في قطاع النفط. وقال التليفزيون السوفيتي إن الرئيس صدام حسين أبلغ برماكوف أن في إمكان هؤلاء الرعايا مغادرة البلاد.

[3] التقرير الإستراتيجي العربي لعام 1990 (الصادر في 1991)، ص 55، بتصرف في رقم القرار، حيث ذكر أن القرار 677، والأصح هو القرار 674.

[4] كان البرلمان العراقي قد وافق، في 23 أكتوبر 1990، على الإفراج عن جميع الرهائن الفرنسيين لدى العراق وعددهم 320 شخصاً.