إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / منظمات وأحلاف وتكتلات / حركة عدم الانحياز





الهيكل التنظيمي




المبحث الثامن

المبحث الثامن

حركة عدم الانحياز والنظام العالمي الجديد

    بدأت تتغير صورة النظام الدولي في بداية الثمانينيات، عبر عن ذلك انتصار الغرب في الحرب الباردة الجديدة على الشرق أكثر مما عبرت عنه حقيقة الوفاق العالمي، وكان من المتوقع أن يتبلور نمط جديد للعلاقات الدولية في إطار توازن المصالح، إلا أن النمط الفعلي ابتعد كثيراً عن هذا المبدأ، حيث بدأت عملية تهميش دول العالم الثالث، ومنذ الإعلان عن انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م، واشتعال أزمة الخليج الثانية، بدأت معالم نظام عالمي جديد في الظهور، تستند على انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالسيطرة والهيمنة على الساحة الدولية، إلا أن الاختلافات في العلاقة بين أمريكا والدول الغربية واليابان بدأت تظهر، وأوضحت هذه الحقيقة حتمية الانتقال إلى نظام توازن قوي أو نظام متعدد الأقطاب، إلا أن التطورات الدولية أكدت انفراد الولايات المتحدة بالنفوذ في الساحة العالمية تقريباً، ومن ثم فإن نمط علاقات القوة كشف عن وجود أزمة فيما يتعلق بموقع الهيمنة ويرجع ذلك للآتي:

1. الانتشار النسبي لموارد القوة وخاصة القوة الصناعية، حيث ظهرت اليابان ودول الجماعة الأوروبية كقوة اقتصادية تمتلك قاعدة صناعية كبيرة، كما حققت معدلات نمو أعلى من الولايات المتحدة.

2. لقد كان تطور وتنامي وانتشار القوة العسكرية في العديد من الدول من عوامل رفض الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة.

3. قيام التكتلات الإقليمية ومن أبرزها الجماعة الأوروبية، إضافة إلى وجود تكتلات سياسية عديدة قد لا تتوافر لها قاعدة اقتصادية اندماجية، ولكنها تتمتع بقدرة على المناورة السياسية في نطاقها الإقليمي يمكنها من مواجهة النفوذ الأمريكي.

4. عدم انسجام مكانة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أنه رغم امتلاكها لقوة عسكرية متقدمة تكنولوجياً، إلا أن مكانتها الاقتصادية بدأت تتراجع بصورة واضحة مما أدى إلى حالة عدم توافق خاصة وأن التراجع في المكانة الاقتصادية يؤدي إلى تقييد المكانة في المجال العسكري.

    من تحليل التطورات التي ارتبطت بالنظام الدولي على مستوى الخصائص والوظائف لا يمكن التأكيد على انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالسيطرة على النظام الدولي الجديد خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الثانية، كما لا يمكن التأكيد على أنه جرى التحول من النظام الثنائي المرن إلى نظام القطب الواحد، وذلك لعدة اعتبارات فالولايات المتحدة ليست هي المركز الوحيد لعملية صنع القرارات الدولية، فهناك مراكز أخرى ليست تابعة للولايات المتحدة، كما أن مفهومها للأمن ليس مفهوماً عالمياً، ولكنه مفهوم خاص يتعلق بحماية المصالح الحيوية الأمريكية في الداخل والخارج، كما أن الولايات المتحدة لم تعد تستطيع بصورة مطلقة اتخاذ قرارات تمس النظام الدولي والتفاعلات العالمية دون أن تسبغ عليها الشرعية الدولية سواء بموافقة الحلفاء الرئيسيين لها أو موافقة الأمم المتحدة، مؤدي ذلك أن النظام العالمي بعد انهيار النظام الثنائي لم يتحول إلى نظام القطب الواحد بل بدأت تتضح مظاهر التعددية خاصة بعد وضوح أهمية دور الدول الصناعية الكبرى، كذلك بروز قوي جديدة لها تأثيرها في النظام العالمي الجديد وهي ألمانيا واليابان والصين، وخاصة أن كل منها تسعى إلى دعم وزنها الإقليمي والدولي من خلال بناء قوة اقتصادية عالمية تدعمها قدراتها العسكرية.

    تحاول حركة عدم الانحياز منذ انتهاء الحرب الباردة إعادة تكييف دورها ليتواءم مع المستجدات العالمية، حيث تبلورت مقترحات ومشروعات مختلفة بدأت من تغيير اسمها وصولاً إلى إدماجها في هياكل أخرى، مروراً بتغيير أهدافها الأساسية، ولذلك تعتبر المهمة الرئيسية لحركة عدم الانحياز في المرحلة الراهنة هي البحث عن دور جديد وهوية جديدة، خاصة أن المشكلات التي تواجهها ليست مشكلة دور وفعالية، وأن النظام العالمي الحالي يجمع تيارات متناقضة بعضها مؤيد لحركة عدم الانحياز وبعضها مناهض لها، حيث بدأت تظهر التوجهات العالمية، وأخرى تسعى نحو التكتلات الاقتصادية سواء كانت في إطار إقليمي أو عالمي، وإذا كانت هذه التوجهات تجميعية، إلا أنه يوجد توجهات تفتيتية تتمثل في الصراعات العرقية والنزاعات الأهلية والعنصرية وتعدد الثقافات، وكل ذلك يمثل تحديات لدول العالم الثالث وعلى صعيداً آخر هناك محاولة لإعادة رسم الخريطة السياسية والاقتصادية الدولية، فبعض الدول التي كانت في الماضي من دول حركة عدم الانحياز، أصبحت دولاً صناعية متقدمة ومنها الصين والهند ودول شرق آسيا، وماليزيا وإندونيسيا، وهذه الدول بصفة عامة تشكل تكتلات اقتصادية إقليمية مثل الآسيان والآبيك وينعكس ذلك سلباً على أهمية الدور الاقتصادي لحركة عدم الانحياز.

    لقد وضح مدى تخوف حركة عدم الانحياز من النظام العالمي الجديد منذ عام 1991م، حيث بحثت خلال اجتماعاتها المختلفة عن مخاطر التوجهات الجديدة التي بدأت تعمل على تأسيس نظام عالمي أحادي القطبين يتسم بعناصر جديدة يحد من إمكانات حل المشاكل العالمية المعاصرة، بما فيها مشاكل الدول النامية والدول غير المنحازة، ومن ثم يقل الاهتمام الذي تلقاه المسائل والمشاكل التي تعني البلدان غير المنحازة، وما لم يتغير هذا الوضع، ويتركز الاهتمام نحو القضايا التي تهم قطاعات العالم الجغرافية كافة، ستظل أهداف حركة عدم الانحياز دون تحقيق، ولقد عكس المؤتمر العاشر أهمية التعامل مع النظام العالمي الجديد، وكذلك الحاجة الماسة إلى اتخاذ تدابير محددة من أجل تعزيز قدرة الحركة على التصدي للتحديات التي يطرحها النظام العالمي الجديد، ولذلك بدأ تجدد الاهتمام بمدى الدور الذي يمكن أن تؤديه حركة عدم الانحياز في إطار العلاقات الدولية، ولذلك شُكلت اللجنة الوزارية للمنهجية لحركة عدم الانحياز منذ عام 1989م، وتحددت مهمتها في دراسة تطوير أساليب الحركة وتحسين أدائها وتعزيز قدرة حركتها على التصدي للتحديات التي يطرحها النظام العالمي الجديد، إلا أن عمل اللجنة والتوصيات التي خرجت بها لم تعكس مفهوماً للتصدي للتحديات التي يطرحها النظام العالمي الجديد بقدر ما عكست اهتماماً عاماً بضرورة تحديث أدوات وأساليب حركة عدم الانحياز، بهدف اكتساب الفعالية المنشودة في العلاقات الدولية، وهو لم يخرج عن توصيات محددة أقرت خلال مؤتمرات وزراء خارجية دول عدم الانحياز. وكان منها إنشاء جهاز دائم للحركة، وكذلك إنشاء لجنة مشتركة للتنسيق بين حركة عدم الانحياز من جانب ومجموعة السبعة والسبعون من جانب آخر، وكذلك تعزيز دور مكتب التنسيق التابع للحركة في نيويورك، وتكثيف التنسيق بين دور عدم الانحياز الأعضاء في مجلس الأمن.

    وتتمثل أهم التطورات التي أثرت في أسلوب تناول حركة عدم الانحياز لتطورات النظام العالمي واتجاهه نحو نظام أحادي القطبية، ولم يقتصر مخاوف دول حركة عدم الانحياز على اختلال ميزان القوى في العالم، وإنما أدى إلى تغييرات هامة في التوجهات السياسية لعدد من دول حركة عدم الانحياز ذات الارتباط الخاص بالاتحاد السوفيتي السابق، سعياً إلى إعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية المحيطة بها، بهدف تحقيق التوائم مع التغيرات الجوهرية في العلاقات الدولية، ولقد كان لانهيار الاتحاد السوفيتي انعكاساً على العديد من دول حركة عدم الانحياز وخاصة ذات التركيب الإثني المتعدد[1]، ولقد وضح ذلك في انهيار وتفتت يوغسلافيا وهي من الدول المؤسسة لحركة عدم الانحياز، وألقت هذه الأزمة بآثارها السلبية على تماسك الحركة والذي كاد أن يطيح بالبعد الأوروبي للحركة. وكان من شأن انهيار وتفتت الكتلة الشرقية بصفة عامة والاتحاد السوفيتي بصفة خاصة أن تباينت ردود فعل دول عدم الانحياز إزاء هذا الانهيار وانعكاسه على ميزان القوى العالمية، وتقليص حرية الحركة لدول عدم الانحياز في إطار معاملاتها الدولية.

    في إطار المتغيرات الدولية وتأثيرها السلبي على العديد من الدول كان لزاماً على دول عدم الانحياز أن تتخذ موقفاً أكثر تحديداً إزاء النظام العالمي الجديد، وكان ذلك خلال مؤتمر القمة العاشرة لحركة عدم الانحياز والذي عقد في جاكرتا خلال الفترة من 1 - 6 سبتمبر 1992م حيث حددت رسالة جاكرتا الصادرة من المؤتمر ما يجب أن يكون عليه النظام العالمي الجديد من حيث تحقيق العدل، واستناده إلى سيادة القانون ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة والمشاركة المتكافئة في تحمل المسؤولية، والالتزام المشترك بالتعاون والتضامن العالمي والشامل، ويجب أن يتميز تصميم بنيان النظام العالمي الجديد بالشمولية، وأن يكرس لتحقيق السلام والعدل والأمن والتنمية والديموقراطية بين الدول وداخلها، كما أكدت الرسالة على أهمية أن يكون النظام العالمي الجديد مكرساً للنهوض بالحقوق والحريات الأساسية للشعوب والأمم سواءً بسواء، كما يجب أن يكون هناك ضمان لسيادة الأمم والالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وعدم المساس بها تحت أي ذريعة كانت، ومن ثم فقد عكست رسالة جاكرتا مخاوف دول عدم الانحياز من اتجاه النظام العالمي نحو الاتجاه لتأسيس نظام عالمي أحادي القطبية.

    حددت قمة جاكرتا عام 1992م، دور حركة عدم الانحياز في النظام العالمي الجديد، حيث أكد بيان القمة على أن التغيرات التي شهدها النظام العالمي أكد صلاحية دور حركة عدم الانحياز وأهميتها، بالنظر إلى أن نهاية مرحلة الحرب الباردة والنظام ثنائي القطبية قد دعمت مطالب حركة عدم الانحياز بأهمية إعلان النوايا الحسنة وإقامة تعاون دولي شامل من أجل القضاء على الخوف وكافة أشكال التعصب، كما أكدت وثيقة البيان الختامي للمؤتمر إلى أن التغيرات العالمية دلت على أن مبادئ عدم الانحياز تبقى كما هي دون تغيير، بل أن الحاجة إليها قد تزايدت ولم تتناقص إلا أنه يجب على الحركة أن تعمل لمواجهة التحديات المختلفة التي ترتبت على تلك التغيرات الدولية وأهمية وحدة الحركة وتفادي انقسامها وتفتتها، كذلك كلفت وثيقة جاكرتا مكتب التنسيق التابع لحركة عدم الانحياز في نيويورك بإيجاد آلية لتسوية المنازعات بين الدول غير المنحازة. ولقد انتقدت قمة جاكرتا ممارسات بعض الدول التي تعوق إيجاد نظام عالمي مثالي كالذي طالب به زعماء دول عدم الانحياز في مراحل نشأتها الأولى، ولذلك يجب أن يكون المجهود الأساسي هو لإحلال السلام والأمن الدوليين ونزع السلاح والتسوية السلمية لكافة المنازعات وتحقيق علاقات اقتصادية أكثر تكافؤ، ويتطلب ذلك وضع استراتيجيات ومبادرات قائمة على أساس الجهود المستمرة من أجل دعم حركة عدم الانحياز حتى تكون أكثر فعالية تجاه التطورات العالمية وكذلك ذات قدرة لإدارة الشؤون الدولية.

    كان مؤتمر قمة دول عدم الانحياز الثاني عشر الذي عقد في ديربان بجنوب أفريقيا عام 1998م بمثابة منعطف بارز لمسيرة الحركة، خاصة بعد أن بدأت المتغيرات العالمية تعصف بالنظام الدولي على كافة مستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما تأكد انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقمة النظام العالمي بعد أن صارت أكبر قوة سياسية واقتصادية في العالم، وأصبحت الرأسمالية والاقتصاد الحر وآليات السوق هي أساسيات النظام الاقتصادي، وتحددت مفاهيم جديدة منها الديموقراطية وحقوق الإنسان، وأوجدت هذه التغيرات السياسية نظاماً عالمياً جديداً مختلف تماماً عن النظام الذي كان سائداً عند نشأة حركة عدم الانحياز، فلقد تقلص حجم ودور الاستعمار التقليدي وظهور أنماط جديدة تهدف إلى السيطرة وزيادة التبعية، وتزايد مشاكل وصعوبات جديدة للدول التي حصلت على استقلالها، الأمر الذي حد من حرية حركتها وقدرتها على المواجهة القوية للسياسات المعادية لمصالحها القومية، فضلاً عن الفشل النسبي الذي لحق بدور حركة عدم الانحياز وعدم فعاليتها في السياسة العالمية وهو الوضع الذي استمر في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فلقد عجزت الحركة عن تنفيذ أي من القرارات الاقتصادية التي اتخذت، بالإضافة إلى عدم تنفيذ القرارات السياسية، وبدأ تباين الاتجاهات لدول عدم الانحياز حول مستقبل الحركة، فهناك اتجاه مؤيد لاستمرار حركة عدم الانحياز مع ضرورة تنشيط دورها، كما وضح ذلك في مؤتمر القمة الثانية عشر، ويسود هذا الاتجاه داخل الحركة، ويرى ضرورة أن تبقى وتستمر للتعامل مع قضايا الدول النامية وتحديد الدور الذي يجب أن تقوم به حركة عدم الانحياز في إطار الحوار بين الشمال والجنوب، خاصة وأن الطابع الاقتصادي أصبح يطرح نفسه، إلى أن أصبحت المشكلة ليست فقدان الدور وإنما تغيير طبيعته من أجل إحياء دور الحركة في النظام العالمي، والتحول من وضعية الحياد بين أقطاب النظام العالمي إلى وضعية تمثيل أحد أقطابه، وهو ما يحقق المشاركة في تشكيل ملامحه والحد من الضغوط السياسية والاقتصادية التي تواجهها، كذلك يوجد اتجاه يطالب بضرورة دمج الحركة في مجموعة السبعة والسبعون من أجل تجنب الازدواجية لضمان فاعلية الحركة.

أولاً: حركة عدم الانحياز والنظام الاقتصادي العالمي الجديد:

    بعد أن أصبحت حركة عدم الانحياز آلية رئيسية للدبلوماسية الجماعية للعالم الثالث، أُنشئت آلية أخرى هي مجموعة السبعة والسبعون، حيث تبنت دول عدم الانحياز المبادرة التي أدت إلى عقد مؤتمر القاهرة الذي تشكلت فيه المجموعة عام 1964م، وأعضاء مجموعة السبعة والسبعون من الدول النامية اتفقت على إنشاء هذه المجموعة في إطار مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وكانت المجموعة تضم عند إنشائها سبع وسبعين دولة، وكان غالبية أعضاء المجموعة من دول حركة عدم الانحياز، والتي كانت عند تكوينها ذات طابع وأهداف سياسية، سعت إلى أن تكون رابطة فعالة فيما بين دول الجنوب حيث تعمل على إيجاد بيئة دولية لا تعيق التحرر الاقتصادي وتنمية البلدان النامية، ولقد اعتبرت حركة عدم الانحياز أن المؤسسات الاقتصادية التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية وهي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والجات قد أخفقت في تنمية الجنوب، ولذلك جرى خلال مؤتمر القمة الرابع لدول حركة عدم الانحياز بالجزائر عام 1973 توجيه الانتقادات الحادة للنظام الاقتصادي العالمي القائم حينذاك، كما طالبت القمة الرابعة بتحويل التجارة بين دول الجنوب والمشروعات المشتركة فيما بينها إلى جزء متكامل من إستراتيجية الإنماء الاقتصادي لدول عدم الانحياز، ولقد قررت القمة أن يكون لها دوراً محورياً داخل مجموعة السبعة والسبعون، بهدف دفع التعاون الاقتصادي فيما بين دول الجنوب إلا أنها لم تحدد المشروعات اللازمة لتحقيق ذلك، إلا أنه يحسب للمجموعة أنها لم تتخلى عن مهمة صياغة الخطوط الأساسية، والالتزام العام للدول النامية لتحقيق هذا التعاون، كذلك بدأت حركة عدم الانحياز في تنمية علاقاتها مع الدول النامية غير الأعضاء في الحركة.

   تجسد التعاون بين حركة عدم الانحياز والعديد من الدول النامية المختلفة في اجتماع نيويورك الوزاري عام 1978م، الذي كان تعبيراً عن الغضب تجاه نتائج مفاوضات الدول النامية مع الدول المتقدمة حول مفهوم وتوجهات النظام الاقتصادي العالمي الجديد الذي كان مطروحاً آنذاك، حيث كان يحتوي هذا المؤتمر على اتهاماً واضحاً للدول المتقدمة بإعاقة تنفيذ هياكل التعاون الاقتصادي بين الدول النامية وبعضها البعض، كما اتفقت الدول النامية خلال المؤتمر بإنشاء نظام إقليمي للمعلومات التجارية، كما طالبت بالبدء في المرحلة التمهيدية للنظام الشامل للمفاوضات التجارية بين الدول النامية. وفي مؤتمر القمة السادس لحركة عدم الانحياز الذي انعقد في هافانا عام 1979م، ربطت الحركة بين مفهوم الاعتماد الجماعي على الذات وبين فكرة النظام الاقتصادي العالمي الجديد، كما أدانت حركة عدم الانحياز غياب العدالة في العلاقات الاقتصادية الدولية، إضافة إلى إدانة الإجراءات الحمائية التي تتبناها دول الشمال، كما اتهمت القمة السادسة لحركة عدم الانحياز الدول التي تسعى لفرض نظم اقتصادية على الدول النامية، كما وجهت القمة السادسة النقد لمواقف حركة عدم الانحياز لعدم تعاون دول الحركة فيما بينها، حيث اعتبرت غياب الإرادة السياسية لدى بعض دول الحركة سبباً رئيسياً في عدم تحقيق التعاون.

   خلال مؤتمر القمة الثامن لحركة عدم الانحياز الذي عقد في هراري عام 1986م، حُدد النظام الشامل للأفضليات التجارية فيما بين الدول النامية، باعتباره برنامجاً مركزياً كوسيلة أساسية لإقامة النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وتجسيداً لإرادة الدول النامية في تبني نمط الاعتماد الجماعي على الذات، ومثالاً يوضح للدول المتقدمة إمكانيات وقدرة الدول النامية على تجاوز خلافاتها فيما بينها لتحقيق التعاون الذي تنشده. وبشكل عام يكون التعاون بين الدول النامية بصفة عامة ودول عدم الانحياز بصفة خاصة قد شكل للحركة ضمان للاستقلال السياسي، ودليلاً على وعي وفهم واستعدادها لتبادل المنافع والتعاون فيما بينها، إضافة إلى عدم إعفاء دول عدم الانحياز للدول المتقدمة من مسؤوليتها تجاه تنمية دول الجنوب، كما أدركت الحركة دائماً الانعكاسات السلبية للوضع الاقتصادي العالمي على التعاون فيما بين دول الجنوب، ولقد تأكد ذلك خلال مؤتمرات قمة دول عدم الانحياز المتعاقبة، حيث عملت الحركة على تدعيم الروابط فيما بين دول الجنوب بهدف دعم موقف الجنوب في عملية التفاوض الدولية مع الشمال في إطار علاقاته الاقتصادية، مع تأكيدها على أن هذا التعاون بين دول الجنوب يكون قادراً على تجنيب الدول النامية من التداعيات السلبية للأزمات الاقتصادية التي تتعرض لها دول الشمال بصفة مستمرة وبشكل دوري.

ثانياً: حركة عدم الانحياز ومبدأ السيادة على الثروات الطبيعية:

    تشكل السيادة على الموارد الطبيعية للدول جزءاً من سيادتها الإقليمية، كما هي حق للدولة في ممارسة سلطاتها السياسية والقانونية والإدارية والمالية والثقافية داخل حدودها الإقليمية، ولذلك فإن ممارسة السيادة على الموارد والثروات الطبيعية أمر حيوي للاستقلال الاقتصادي للدولة ويرتبط بالاستقلال السياسي، ولقد كان الاهتمام بمسألة السيادة الدائمة للدول على ثرواتها الطبيعية من مطالب حركة عدم الانحياز، ولقد كان هناك معارضة من الدول الرأسمالية لتأميم استغلال الدول لثرواتها الطبيعية، وفي المؤتمر التأسيسي لحركة عدم الانحياز الذي عقد في بلجراد عام 1961م جرى التأكيد على مبدأ حق الدول في ممارسة سيادتها على ثرواتها ومواردها الطبيعية، ولإصرار دول العالم الثالث بصفة عامة ودول حركة عدم الانحياز بصفة خاصة على حق الدول في سيادتها الدائمة على ثرواتها ومواردها الطبيعية اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار الرقم 1803 في 14 ديسمبر 1962 (أُنظر ملحق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 1803، الصادر في 14 ديسمبر 1962)، واتسم هذا القرار بنوع من الغموض والعمومية، ويرجع ذلك إلى تفادي الدول النامية لمواجهة ولمجابهة الدول الرأسمالية بشكل حاد، كذلك كان هناك صيغة توفيقية حيث لم يجرى التحقيق الدقيق للشعوب والثروات والموارد الطبيعية، بل كان هناك نوع من العمومية، إلا أن ذلك اعتبر خطوة متقدمة نحو إقرار حق الشعوب والأمم في سيادتها الدائمة على مواردها وثرواتها الطبيعية، وتلي ذلك القرار انعقاد المؤتمر الثاني لدول حركة عدم الانحياز في القاهرة عام 1964م، والذي أكد على حق الشعوب في سيادتها الدائمة على مواردها وثرواتها الطبيعية واستغلالها الحر لهذه الثروات، ولقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في مايو 1974م حقوق الدول وواجباتها الاقتصادية في قراراها الرقم 3281، الذي منح الدول حريتها في ممارسة سيادتها الدائمة على مواردها الطبيعية، وبذلك يعتبر صدور القرار الرقم 1803 وحتى صدور القرار الرقم 3281 لعام 1974م مكملان لبعضهما البعض، ومنذ ذلك التاريخ ودول حركة عدم الانحياز تولي اهتماماً خاصاً بالجانب الاقتصادي في نضالها على كافة الأصعدة والساحات الدولية، حيث أصبحت قراراتها لا تقتصر فقط على الجوانب السياسية، بل أولت اهتماماً خاصاً بالجانب الاقتصادي وخاصة القضايا الاقتصادية العالمية.

ثالثاً: حركة عدم الانحياز ومحاولات دمجها مع مجموعة السبعة والسبعون:

    بعد التنسيق والتعاون بين كل من مصر والهند ويوغسلافيا في تحريك التضامن الآسيوي ـ الإفريقي لإبراز وتفعيل حركة عدم الانحياز أصبحت هي الآلية الدبلوماسية الجماعية لدول العالم الثالث، والتي ساهمت في إنشاء آلية أخرى هي مجموعة السبعة والسبعون حيث تبنت دول عدم الانحياز المبادرة التي أدت إلى عقد مؤتمر القاهرة لتشكيل المجموعة عام 1964م من مجموعة الدول النامية في إطار مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الانكتاد، وكانت المجموعة تضم عند إنشائها سبع وسبعون دولة واستمرت بهذا الاسم رغم زيادة عدد أعضائها على مائة وثلاثون دولة، غير إن معظم دول المجموعة أعضاء في حركة عدم الانحياز ولقد انضم إليها بعض الدول غير أعضاء في الحركة ومنها البرازيل وفنزويلا والمكسيك، ومع المتغيرات الدولية العديدة والمتنوعة التي طرأت على النظام العالمي منذ منتصف الثمانينيات، وتبلورت بصورة واضحة مع بداية التسعينيات، بدأت تتباين رؤى دول العالم الثالث حول جدوى مجموعة السبعة والسبعون في ظل نظام اقتصادي دولي يعمل لصالح الدول الصناعية الكبرى، تأكدت محاولات تهميش العالم الثالث، وعلى مستوى حركة عدم الانحياز تبلور تيار محافظ تمسك بالمفهوم التقليدي لعدم الانحياز، حيث زادت النظرة المتشائمة إزاء المتغيرات الدولية وآثارها، وافتراضها أن هذه المتغيرات في غير صالح حركة عدم الانحياز. ولكن منذ بداية التسعينيات بدأت تزداد الدعوة لتجديد حركة عدم الانحياز وتطوير مفاهيمها، وتوسيع نطاقها حتى يتحقق لها مزيد من تفعيل دورها على الساحة الدولية، وقام مفهوم تطوير حركة عدم الانحياز على الاستقراء الموضوعي لجوانب العلاقات الدولية المعاصرة، بهدف التعرف على إيجابياتها واستثمارها في التعامل مع الواقع الدولي المعاصر، واستخلاص العوامل المساعدة على تعزيز دور الحركة وتحقيق أكبر قدر من فعاليتها والمواءمة مع المتغيرات في العلاقات الدولية.

    منذ عام 1988م وخلال الاجتماع الوزاري لحركة عدم الانحياز في أكرا بدأ تنشيط أعمال اللجنة الوزارية المنهجية، وتحددت مهمة اللجنة في العمل على استجابة حركة عدم الانحياز للمتغيرات الدولية الجديدة والمتجددة لبحث أداء الحركة وفاعليتها وأساليبها وتطورها وتعزيز دورها العالمي، وقامت اللجنة بعقد عدة اجتماعات متعددة، طُرح خلالها عدة تساؤلات حول واقع ومستقبل حركة عدم الانحياز، إلا أنه كان هناك توافق في آراء أعضاء الحركة حول تأكيد استمرارية حركة عدم الانحياز في ظل النظام الدولي الجديد، إلا أن قدرة الحركة على البقاء والاستمرارية كان مجال لتساؤلات عديدة وكان أبرز آليات التطوير التي طُرحت على اللجنة الوزارية المنهجية وكذلك على الاجتماعات الوزارية لحركة عدم الانحياز فكرة دمج حركة عدم الانحياز دون إلغائها مع مجموعة السبعة والسبعون، حيث كان هناك اتجاه يرى ضرورة إقامة جبهة مشتركة، يجري التحرك من خلال مجموعة ذات نطاق أكبر بدمج مجموعة السبعة والسبعون مع حركة عدم الانحياز، ولم تكن رؤية هذا الاتجاه حل حركة عدم الانحياز، بل بهدف دعم قضايا العالم الثالث من منطلق وحدة الهدف وتطابق المصالح، وهذا الدمج يشكل جبهة واحدة للعالم الثالث تمكنها من العمل وسط المتغيرات العالمية المتلاحقة وبذلك يمكن تجنب الازدواجية في الجهود المبذولة، وتوفير مزيد من الكفاءة في تحقيق الأهداف المشتركة بين حركة عدم الانحياز ومجموعة السبعة والسبعون، من خلال استغلال الإمكانيات الضخمة لهذا التعاون بشكل كامل، ومن ثم يمكن اندماج الدول النامية في الاقتصاد العالمي وبشكل يدعم الدور السياسي لحركة عدم الانحياز مع النظام العالمي الجديد، إلا أن هذا الاقتراح لم يتوفر له التأييد اللازم من دول عدم الانحياز، ولذا جرى الاتفاق في الاجتماع الوزاري لمكتب التنسيق لدول عدم الانحياز في عام 1992م على تشكيل لجنة تنسيق مشتركة، وجرى خلال مؤتمر القمة العاشرة في عام 1992م تأسيس لجنة التنسيق وتحديد أسلوب عملها والموضوعات التي سيجري التنسيق بشأنها مع مجموعة السبعة والسبعون.

رابعاً: حركة عدم الانحياز ومجموعة الخمسة عشر:

    تشكلت مجموعة الخمسة عشر خلال اجتماع القمة التاسع لحركة عدم الانحياز في بلجراد عام 1989م، ورغم أن مجموعة الخمسة عشر تكونت من دول أعضاء في حركة عدم الانحياز، وكذلك أعضاء في مجموعة السبعة والسبعون، إلا أنها لا تنتسب إليهما، كذلك لا يوجد رابطة تنسيق بين نشاطهما بل أن مجموعة السبعة والسبعون لم تعترف في أي بيان لها بقيام مجموعة الخمسة عشر، ومما لاشك فيه أن ذلك يعتبر إشكالية تنظيم هامة في الوقت الذي تحاول فيه دول الجنوب تنسيق مواقفها وتوحيد صفوفها من أجل تحقيق التعاون فيما بينها، ودعم موقفها التفاوضي في حوارها مع دول الشمال، وتضم المجموعة في عضويتها من القارة الأفريقية كلاً من مصر والجزائر ونيجيريا والسنغال وزيمبابوي، ومن القارة الآسيوية كلاً من الهند وماليزيا وإندونيسيا، ومن قارة أمريكا اللاتينية كلاً من بيرو والأرجنتين والبرازيل والمكسيك وجاميكا وفنزويلا إضافة إلى يوغسلافيا، وانضمت كل من كينيا وسريلانكا إلى المجموعة عام 1997م ليزيد عدد أعضاء المجموعة ليكون تسعة عشر دولة، ولقد بلورت المجموعة المواقف والمسارات التي تتخذها كممثل للدول النامية في العالم الثالث ولتعاون الجنوب وذلك في إطار التحولات السياسية والاقتصادية في العالم، والتي ترى مجموعة الخمسة عشر إنها توفر فرصة لبدء مرحلة من السلام والرخاء العالمي، وإمكانية قيام نظام لاقتسام ثمار السلام، ويعتبر تجمع مجموعة الخمسة عشر تجمعاً حيوياً وهاماً في المجال الاقتصادي، حيث يزيد الدخل القومي الإجمالي للدول أعضاء المجموعة على أربعة بلايين دولار، ويصل مجموع سكانه أكثر من 1600 مليون نسمة، كما يصل حجم مساهمته في التجارة الدولية إلى 520 مليار دولار، كما تقدم في مجموعها حوالي 28% من المواد الخام للعالم، وتهدف المجموعة إلى تحقيق الاعتماد الجماعي على الذات، وتعزيز التعاون بين دول الجنوب النامية، وتوحيد مواقفها خلال حوارها مع الشمال، كما تركز المجموعة على إقامة مشروعات محددة تحقق من خلالها شراكة دولية من أجل التنمية المتواصلة، مع تأكيدها على ضرورة إصلاح المؤسسات الدولية بما يحقق مصالح الدول النامية، ورغم تعدد اجتماعات مجموعة الخمسة عشر حيث عُقدت عشرة مؤتمرات قمة للمجموعة أكدت خلالها نجاحها في تجاوز أكثر مما كان متوقعاً لها، كما تمكنت من الاستمرار في فاعليتها على الساحة الدولية كعنصر تعاون وتنسيق دون تصارع أو ازدواجية بين نطاق عملها ونشاطها وبين نطاق عمل كل من حركة عدم الانحياز ومجموعة السبعة والسبعون، وإنما يجري العمل في إطار تكاملي بما يدعم مواجهة قضايا دول العالم الثالث في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ورغم وضوح أهمية دور مجموعة الخمسة عشر إلا أنها لا تمثل أي شكل من أشكال التكامل الاقتصادي المعروفة، والتي يتمثل أدنى مراحله في مناطق التجارة الحرة، بل هي تجمع للتنسيق بين الأنشطة المماثلة في دول المجموعة، وتعمل على إيجاد مساحة مشتركة للتعاون على كافة المستويات، خاصة في المجال الاقتصادي والوصول إلى رأي موحد في القضايا الاقتصادية ذات الأبعاد الدولية.

خامساً: عدم الانحياز والأمن الوطني في ظل النظام العالمي الجديد:

    منذ أن عُقدت مؤتمرات التضامن بين الشعوب الأفريقية والآسيوية في العشرينيات من القرن الماضي والتي ارتقت مع انعقاد مؤتمر باندونج 1955، أدركت شعوب القارتين بأنها تعاني من مشاكل واحدة وأن مصيرها وعدوها واحد، لذلك كان يواجه حركة عدم الانحياز منذ نشأتها مشكلة أساسية تتمثل في كيفية تحقيق الأمن لدول عدم الانحياز، خاصة وهي دول تتميز بندرة الموارد، مع الحاجة إلى بناء مؤسسات تعمل على إشباع الحاجات الاقتصادية رغم أن معظم دول الحركة كانت أطرافاً في نزاعات وصراعات إقليمية. وقد دفع النظام العالمي الجديد دول حركة عدم الانحياز إلى أن يكون تحقيق أمنها الوطني هو غايتها الأساسية، والتي تدور في محيطها سياستها الخارجية والداخلية، خاصة وأن النظام الدولي المعاصر يتميز بوجود كيانات إما متعددة الجنسية أو منظمات وهيئات دولية، ولتعامل الدول النامية مع هذه الكيانات يتطلب نمط من التفاعلات يتسم بالحرص الشديد، خاصة وأن الكيانات الدولية والشركات متعددة الجنسيات أو الشركات غير القومية هي التي تتعامل مع السلع الإستراتيجية سواء كانت أسلحة أو تكنولوجيا أو مال وهي عناصر مؤثرة في بناء الأمن الوطني للدول النامية.

    من دراسة وتحليل أسباب عدم الاستقرار ومصادر تهديد الأمن الوطني للدول النامية يتأكد أن مصادر التهديد الداخلية لها الغلبة على مصادر التهديد الخارجية ويتضح ذلك من تعدد سقوط أنظمة الحكم والاستيلاء على السلطة بطرق غير شرعية، ولقد أدى ذلك إلى التحول في فهم وبناء الأمن الوطني من مجرد الدفاع والإعداد العسكري إلى المفهوم الأوسع الذي يتعلق بالتحولات الاجتماعية والسياسية، ولم يعد قاصراً على الجوانب العسكرية فقط، ولقد شهدت الساحة الإستراتيجية الدولية العديد من التحولات الهيكلية، التي لم تعد قاصرة في تداعياتها على شكل واتجاهات توزيع مقومات القوة داخل هذه البيئة الجديدة، بل امتدت كذلك إلى كافة التفاعلات التي تشهدها بما فيها ظاهر الصراع، فهذه الظاهرة كانت تتحدد سابقاً وبدرجة كبيرة في ضوء آليات نظام القطبية الثنائية، لكن الآن أصبحت هناك سيولة أكثر في التعاملات الدولية وتوليد مصادر جديدة للصراع، ولقد ساهم ذلك في فقدان آليات الاستقرار وضبط الصراع، حيث بدأت حالة عدم الاستقرار والاضطراب المصاحبة لعملية التحول في النظام الدولي، تترك تداعياتها المباشرة وغير المباشرة على سباق التسلح بين العديد من دول العالم النامية، ومنها دول عدم الانحياز، حتى كانت النفقات العسكرية في أعلى معدلاتها خاصة بعد حرب الخليج الثانية، رغم إشكاليات ضبط وتقييد عمليات انتقال السلاح والتكنولوجيا العسكرية، بل وكذلك إلى التناقض البين في سياسات معظم الدول المصدرة للسلاح التقليدي، وينبع هذا التناقض من المحددات الاقتصادية الناجمة عن الأزمة التي واجهت شركات صناعة السلاح في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والتدني الملحوظ في النفقات العسكرية العالمية على التسلح، وهي الأزمة التي تشتد وطأتها في حالة دول أوروبا الشرقية، وكذلك وجود دول لا تضع في اعتبارها الجهود الهادفة إلى الحد من تجارة السلاح.

    كان لظاهرة عدم التماثل بين دول العالم الثالث وتجمعاته الجغرافية وزيادة حدة الخلافات والنزاعات، أن جرى التركيز الأساسي للطلب على السلاح، خاصة مع تطورات إستراتيجية الاحتواء بين القوتين العظميين بعد الحرب العالمية الثانية، ولقد انعكس ذلك على معدل نفقات الدفاع للعديد من الدول النامية بصفة عامة، ومنها دول عدم الانحياز، حيث قاربت النفقات الدفاعية للدول النامية المتوسط العالمي في النصف الأول من السبعينيات، ثم بدأ بالزيادة حتى فاق المتوسط العالمي بنسبة بين 7 ـ 15 بالمائة خلال فترة الثمانينيات، وكانت هذه الزيادة بسبب زيادة حدة المخاطر الخارجية والصراعات الإقليمية، كذلك زاد حجم ونوعية الإجراءات الأمنية اللازمة لحماية النخبة السياسية الحاكمة، ونظراً لزيادة عدد الدول المستقلة في العالم الثالث بمقدار ثلاثة أضعاف، ولم يكن للعديد من هذه الدول مؤسسات عسكرية قبل الاستقلال، فقد لجأت كل منها لتكوين جيشها الوطني، ولذا تضاعف حجم الإنفاق العسكري لهذه الدول بشكل ملحوظ، يضاف إلى ذلك انخفاض المنح والمساعدات العسكرية من الدول الكبرى للدول النامية بعد نهاية الحرب الباردة، ولذلك اضطرت الدول النامية للاعتماد بشكل متزايد على قدراتها الاقتصادية.

    وبمقارنة النسب الكلية للإنفاق العسكري للدول النامية بصفة عامة، يتضح وجود فوارق جوهرية بين المناطق المختلفة المكونة له، حيث تخصص دول الشرق الأوسط حصصاً من دخلها لأغراض الدفاع هي الأعلى في العالم، فبعد أن كانت هذه النسبة في مطلع السبعينيات تفوق بمقدار الثلثين عن المتوسط العالمي، إلا أنها ارتفعت إلى قرابة ثلاثة أمثال المتوسط العالمي، ولقد شهدت دول القارة الأفريقية نفس الظاهرة، فلقد شهد الإنفاق العسكري ارتفاعاً كبيراً في السبعينيات بالرغم من الركود الاقتصادي الذي كانت تعانيه الدول الأفريقية، إلا أن الإنفاق العسكري وصل ذروته في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، حيث وصل إلى ضعف مستواه، أما بالنسبة لمعدلات الإنفاق العسكري لدول أمريكا اللاتينية، فلقد كان هناك انخفاض ملحوظ، حيث انخفضت حدة الصراع والمنافسة بين هذه الدول إلى درجة كبيرة، وعلى الرغم من أن دول أمريكا الجنوبية قد استمرت في برامجها التسليحية، إلا أن حصتها من الإنفاق على المؤسسة العسكرية قد نما بمعدلات بطيئة جداً، مقارنة بالدول النامية الأخرى. أما منطقة شرق آسيا كان الإنفاق العسكري أقل من المعدلات التي كانت سائدة في السبعينيات. أما دول جنوب آسيا فهي تشكل بؤر صراع مستمر، حيث تتعدد الصراعات الدينية والعرقية والحدودية، والإنفاق العسكري في هذه المنطقة التي تعتبر من أفقر المناطق في العالم قد زاد بمعدل ثلاثة أضعاف المعدلات التي كانت سائدة في أوائل الثمانينيات، ويتحمل هذه الزيادة كل من الهند وباكستان، وكذلك سريلانكا والتي زاد معدل إنفاقها العسكري إلى 388 بالمائة، ويرجع سبب الارتفاع في الإنفاق العسكري إلى الصراعات العرقية والطائفية التي تهدد الوحدة السياسية للدولة.

    يتضح من تزايد معدلات الإنفاق العسكري للدول النامية بصفة عامة ودول عدم الانحياز بصفة خاصة بازديادها بدرجة عالية عن معدل إنفاق الدول المتقدمة، رغم احتياج الدول النامية إلى مواردها من أجل التحول الاجتماعي، كما يتضح من تدفقات السلاح للدول النامية خلال الفترة ما بين عام 1950م وحتى 1990م، إن إجمالي التدفقات كانت 610.106 مليار دولار، كان نصيب دول الشرق الأوسط منها حوالي 248.458 مليار دولار، وكذلك كان نصيب دول شمال أفريقيا حوالي 45.356 مليار دولار، بينما كان نصيب الدول الأفريقية جنوب الصحراء حوالي 45.593 مليار دولار، أما نصيب دول جنوب آسيا كان حوالي 91.614 مليار دولار، وكان نصيب دول الشرق الأقصى حوالي 113.084 مليار دولار، بينما كان نصيب دول أمريكا الجنوبية حوالي 52.602 مليار دولار، وكان نصيب دول أمريكا الوسطى حوالي 13.399 مليار دولار (أنظر جدول تدفقات السلاح التقليدي للدولة النامية خلال الفترة 1950 - 1990 بالمليار دولار "أسعار 1990"). لذا يتضح الاستنزاف الاقتصادي لسباق التسلح، حيث زادت النفقات العسكرية للدول النامية بشكل واضح، خاصة مع التزايد السريع في نظم التسليح التقليدي الذي أصبح أكثر تعقيداً وتكلفه، كما أن الأسلحة المتطورة هي التي أصبحت مطلوبة بدرجة كبيرة، وتزايدت في مجالات التعاقد ووصلت إلى التدريب وتوفير الصيانة مما رفع معدلات الإنفاق العسكري، ولقد أدى ذلك إلى زيادة مستوى العنف بشكل ملحوظ.

    ولمواجهة تنامي معدلات الإنفاق العسكري زاد عدد الدول المعنية بنزع السلاح، وكان في مقدمتها دول حركة عدم الانحياز، والتي كان لها دور بناء في النهوض بالترتيبات الإقليمية واحتواء العديد من الصراعات إلا أن يبقى دورها الحيوي أساسياً في العمل على تفعيل محادثات الحد من الأسلحة بكافة صورها وتوسيع نطاق الاتفاقيات الدولية، ومنها معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وكذلك الحد من تكنولوجيا الصواريخ، وهناك كذلك مقترحات أكثر جدية لتعزيز الأمن، مع الحد من اقتناء الأسلحة، مثل خطط إعادة التشكيل الدفاعي أو الأمن الجماعي، كما يجب أن تعمل دول عدم الانحياز على التفاهم والتنسيق مع القوى الخارجية من أجل القيام بدور بناء في الترتيبات الإقليمية للحد من الأسلحة، عوضاً عن تقليصها، الأمر الذي لم يطالب به العديد من الدول، ولذلك يجب أن تقوم الدول المتقدمة في إطار النظام العالمي الجديد بضبط مبيعاتها من الأسلحة، على أن يطبق ذلك على جميع أطراف الصراع.



[1] الدولة ذات التركيب الإثني المتعدد: هي الدولة التي يوجد بها العديد من الجماعات التي تقوم الروابط فيما بينها على الدين واللغة وليس الروابط السياسية.