إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث الثالث

المبحث الثالث

البلقان في العصر الحديث

أولاً: طلائع العثمانيين في البلقان

يرجع الفضل الأكبر في التمكين بالإسلام في بلاد البلقان إلى العثمانيين، أولئك القوم الذين اعتمدوا الجهاد سبيلاً لفتح تلك البقاع، وحمل راية الإسلام إلى شرق أوروبا ووسطها. وإذا كان التاريخ لم ينصف هذه الأمة، فذلك لأن الذين حرروه من المؤرخين الأوروبيين، قد عمدوا إلى تزييفه، فجاء متحيزاً إلى أعداء الدولة العثمانية من الأوروبيين، يجرد التاريخ العثماني من معظم عناصر العظمة والتميز. ويكفي لبيان عظمة هذه الإمبراطورية العثمانية، ما سنورده من مقولات أعدائها أنفسهم، وما شهدوا به. منهم المؤرخ الفرنسي المعاصر،Pemeherpin، الذي قال عن عظمة الدولة العثمانية : "تفوق قدرة تركيا، اليوم، (عام 1629) قوة مجموع دول العالم أجمع".   ويقول الفيلسوف الإنجليزي توينبي: "إن أيّاً من الدول الأوروبية الاستعمارية، التي أخذت مكان الدولة العثمانية، سواء إنجلترا أو فرنسا أو إيطاليا أو روسيا، لم تتمكن من إدارة هذه الأقطار مدة طويلة، وبطريقة مستقرة، كما أدارتها الدولة العثمانية" (اُنظر ملحق أبرز الأحداث في تاريخ البلقان).

فارتبط تاريخ هذه المنطقة بالإمبراطورية العثمانية، منذ نشأة الدولة العثمانية، على يد عثمان، الذي خلف أباه، أُرطغرل، في رئاسة إحدى العشائر التركية، عام 1285م، ووسّع إمارته في شمال شرق الأناضول، وكون، لذلك، جيشاً جيد التنظيم والتدريب والتسليح، على خلاف جيوش أوروبا القديمة. وبهذا الجيش استولى عثمان على مدينة بورصة في الأناضول، جنوب شرق الدردنيل، عام 1326م، ومنها اكتسح كل منطقة آسيا الصغرى، وحررها من الحكم البيزنطي. وعندما توفي، عام 1332م، خلفه ابنه أورخان، الذي أنشأ، باقتراح من أخيه علاء الدين، وزير الدولة، نظام الجيش الجديد "يني نشار"، الذي عُرف، عند العرب، بـ "الإنكشارية"[1]. ويعتمد نظام هذا الجيش على أخذ أبناء النصارى، الذين يتم أسرهم في الحروب، وتجري تربيتهم تربية دينية إسلامية، عسكرية، بعيداً عن النزعات القبَلية وغيرها، فلا يعرفون لهم أباً، إلا السلطان، ولا حرفة، إلا الجهاد. وقد تطور هذا الجيش، وازداد عدده، حتى صار لا يُعوَّل إلا عليه في حروب الدولة وجهادها، بخاصة في بلاد البلقان.  فوصلت حدود الدولة، في عهد أورخان، إلى بحر مرمرة، واستقرت، كقوة ضاربة، بعد إتمام سيطرتها على مناطق شمال غرب الأناضول. وإذ تطلع أورخان إلى القسطنطينية، على الشاطئ المقابل، فإنه لم يفكر أن يقدِم على فتحها، ريثما يوطد دعائم دولته، ويتحين الفرص الملائمة لذلك.

ودانت بلاد البلقان، على تمزقها، لملك الصرب، دوشان، الذي سيَّر الجيوش، فأخضع لسيطرته البوسنة، ومقدونيا، وألبانيا، وتساليا، والبلغار. وكوَّن إمبراطورية ضخمة، ثم اتحد مع جمهورية البندقية، الكاثوليكية، مستغلاً عداءها المذهبي، ليحارب باتحاد بقايا مملكة الروم الأرثوذكسية، ويستولي على القسطنطينية. فخاف إمبراطور بيزنطة، جان باليولج، على شعبه، ولم يجد مفراً من طلب العون من العثمانيين. فأرسل، عام 1355م، وفداً إلى السلطان أورخان، يطلب منه المساعدة على صد غارات ملك الصرب، دوشان، الذي وحَّد قبائل الصقالبة، وزحف نحوه بجيش ضخم، مقابل أن يزوجه ابنته. فأجابه السلطان بإرسال عدد عظيم من جيشه. ولكن، قبْل أن يصل الجيش العثماني إلى القسطنطينية، مات دوشان، فتفرق جيشه، وانقسم شعبه، وارتاح بذلك قائد الروم. وعاد الجيش العثماني، من ثم، إلى الشاطئ الآسيوي بتمام أفراده، وقد تحققوا من ضعف الجانب الأوروبي، وخبروا مسالكه ودروبه. أما ممالك الصرب، فإنها تفرقت، إذ استقل البلغار، وانزوى الصرب، بعد أن أحسوا بفراغ كبير، عقب أن تولى الملك فيهم أوروك الخامس. في حين استمر السلطان أورخان في توطيد دعائم ملكه وتوسيع جيشه، ورفع مستواه النوعي.

هكذا، تسلسلت الأحداث في مصلحة العثمانيين، في طورهم المبكر والمتنامي. فبعد أن أحسوا بضعف البيزنطيين، تطلعوا إلى النزول على الساحل الأوروبي، آملين فتح القسطنطينية، التي استعصت على المسلمين، منذ أيام معاوية، يحدوهم تزايد الضعف البيزنطي، وتفكك ممالك البلقان، وبروز الأطماع المحلية، واشتعال الأحقاد في أنحاء هذه البلدان. في حين تضاعفت قوة الجيش الإنكشاري، الذي كان في عنفوان شبابه، ودخل كثير من القبائل النصرانية في الإسلام، بعد أن أفتى الفقهاء، بأن كل من أسلم مع أهله من السكان، صار في جماعة أهل الدولة، ينعم بخيراتها، ويأمن على أملاكه. إزاء ذلك، اندفع العثمانيون نحو أوروبا.

تمكن القائد سليمان باشا، ابن السلطان أورخان، عام 1357م، من النزول على الساحل الأوروبي، في ثلاثين ألف مقاتل، بعد أن استولى على كل ما في ميناء "تزنب" من قوارب، ثم سيطر على مدينتَي غليبولي[2]. وأبسالا[3].

وبعد أن تولى السلطان مراد الأول السلطة، فُتحت أدرنة، شمال غرب القسطنطينية، عام 1361م، ونقلت العاصمة إليها، لأهمية موقعها الجغرافي، إذ تشرف على ثلاثة أنهار، كما أن السلطان العثماني، كان يريد أن يكون على مقربة من الفتوح في أوروبا، ليتابع عملية الالتفاف من حول الدولة البيزنطية. كما فُتحت أيضاً قيلبة  وغيرها. وبذلك، أصبحت القسطنطينية محاطة بالعثمانيين، فبادر إمبراطورها إلى دفع الجزية طواعية. بينما قلبه مملوء بالأحقاد.

حيال التقدم السريع المذهل للقوات العثمانية، خاف الأمراء الأوروبيون المجاورون للقوات المندفعة، وكتبوا يستنجدون ملوك أوروبا وبابا روما، الذي توسل إليه إمبراطور بيزنطة، راكعاً يقبّل يدَيه وقدَميه، ويرجوه نصْرته، مقابل أن تتحد الكنيستان. فوافق البابا، واستجابت الملوك، وبدأت الاستعدادات لحملة، تطرد العثمانيين من أوروبا. فتكوّن تحالف، سياسي وعسكري، بتحريض من البابا أوربان الخامس، يضم المجر والصرب والبوسنة وبعض الأمراء الرومانيين، بهدف مواجَهة الزحف العثماني. وكانت قوات هذا التحالف تضم 100ألف مقاتل، بقيادة لايوش الأول ملك المجر. أما قوات العثمانيين، فكانت تضم عشرة آلاف مقاتل فقط، بقيادة الحاج إيل بك.

بدأ ملك الصرب أروك الخامس، خليفة دوشان، فاستعجل الأمر، واستنهض أمراء البوسنة النصارى. وكان هذا أول لقاء حربي بين البشانقة والعثمانيين، وكذا أمراء الأفلاق[4]، وجنود المجر، إضافة إلى جيشه، وسار صوب أدرنة، العاصمة العثمانية، مستغلاً غياب السلطان عنها، منشغلاً بالحرب في آسيا الصغرى. ولكن الصرب هُزموا هزيمة نكراء، على نهر ماريزا[5]، إثر مفاجأة العثمانيين لهم في هجوم ليلي، فانتصروا عليهم، رغم قِلة عددهم، مقارنة بأعدائهم. وقد وقعت هذه المعركة عام 766هـ/1363م، وعرفت في التاريخ بـ "صنديقية الصرب".

ثانياً: مرحلة المعاهدات والمناوشات

حاولت الدول النصرانية تقبّل الوضع الجديد مكرهة. فها هي إمارة "راجوزة"، التي تقع إلى الجنوب الغربي لبلاد البوسنة، ترسل وفداً إلى السلطان مراد، عام 1365م، ليوقع معاهدة، وُدِّية وتجارية، تدفع بموجبها راجوزة جزية سنوية، قدرها 500 دوك ذهبي، وكانت هذه أول معاهدة، يبرمها العثمانيون مع الدول النصرانية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الجمهورية الواقعة على ساحل الأدرياتيكي، المحاذي لجنوب غربي البوسنة من موقع مدينة دوبروفنيك، الآن، كانت عاصمة لإمارة، أثْرت ثراءً فاحشاً، خلال التجارة مع العثمانيين، عبر البحار. وكانت سفنها تنقل الرصاص الخام إلى الإسكندرية، وتعود بالتوابل والمنتجات الشرقية. كما كان لها قنصلياتها فيها كذلك. ويوجد عشرون وثيقة عربية، في محفوظات دوبروفنيك، من القرن الخامس عشر، تفيد أن سفنها كانت تنقل الحجاج إلى مكة، مبحرة من موانئ شمالي أفريقيا .

في عام 1372م، عبرت الجيوش العثمانية نهر فارادار، وشنت غارات كثيفة على كلٍّ من الصرب والبوسنة ودلماسيا، ووصلت، للمرة الأولى، إلى البحر الأدرياتيكي. كما عبرت من تساليا، ووصلت إلى منطقة "أتيك"، في اليونان. وفي عام 1375م، أدرك صقالبة الصرب والبوسنة، أنهم أصبحوا في خطر داهم، نتيجة اقتراب الحدود العثمانية منهم، بعد أن وصل العثمانيون إلى نهر مورافا، خاصة أن التحالف، الذي عقده زعيم الصرب الجديد، لازار بليناتوفيتش، مع البلغار، لم يفلح في إيقاف التقدم العثماني، وأيقنا عجزهما عن بلوغ مرادهما، فرضخا للواقع، وأبرما صلحاً مع العثمانيين، عام 1379م، يدفعان بموجبه الجزية، سنوياً. ولكنهما ما لبثا أن تخلّفا عن الدفع، فتوجهت إليهم الجيوش العثمانية، وفتحت بعض المدن الصربية، كما فتحت، عام 1383م، عاصمة البلغار صوفيا، بعد حصار استمر ثلاث سنوات. كما فتحت مدينة سالونيك اليونانية، الواقعة على بحر إيجه. وبعد ذلك، احتدمت المواجهة بين العثمانيين، من جهة، والصرب والبلغار، من جهة أخرى.

ثالثاً: فتح بلاد الصرب

ما أن انشغل العثمانيون بالقتال في الأناضول، حتى ثار الصرب محرزين بعض التقدم، فأسكتهم الجيش العثماني، وفتح مقدونيا، عام 1386م، وبنى فيها القائد خيرالدين باشا الجامع الكبير،"أسكي جامع". وكان الجيش العثماني قد أحكم السيطرة على صوفيا، قبل هذا العام، مما دفع ملك البلغار، سيسمان، إلى عقد صلح وتحالف مع كل من زعيمَي الصرب، لازار، والبوشناق، تورتكو، ضد العثمانيين. فكوّنوا جيشاً، قوامه 30 ألف مقاتل، وبادروا بالهجوم على العثمانيين، في منطقة بلوشنك، بوادي توبليكا. وتمكن هذا الحلف من هزيمة العثمانيين، عام 1387م، وقتل 15ألف مقاتل عثماني. وكان من نتيجة هذه المعركة، أن ارتفعت الروح المعنوية لدى التحالف البلقاني، الذي استهدف طرد العثمانيين من البلقان. إلا أن المنهزمين، ردوا على ذلك بالكرِّ على جيوش سيسمان، عام 1388م، ومحاصرته في مدينة نيكوبلي[6]، وإبادة معظمها. وكان في إمكانهم، بعد أن أسروا ملك البلغار، أن يقتلوه، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، على الرغم من خطر أعماله، بل أحسن إليه السلطان مراد، فأطلقه، وأبقاه أميراً على نصف بلاده، بعد أن ضم النصف الآخر إليه، وخصص له مرتباً يلائم مقامه.

وفي الوقت نفسه، عمل السلطان مراد على تفكيك هذا التحالف، إذ حثّ الألبان على التحلل من اتفاقهم مع ملك الصرب، بل ضمهم إلى جانبه. إلاّ أن لازار، ملك الصرب، لم يتعظ بما حل بحليفه البلغاري، فاستمر في محاولاته استبقاء التحالف البلقاني، من دون بلغاريا، وحرك جيوشه الصربية، مع قوات النصارى البوسنيين، أتباع تورتكو، مع أمراء ألبانيا، الذين لم يستجيبوا لدعوة السلطان مراد، وهم من الأرناؤوط، إلى منطقة كوسوفو، استعداداً لمعركة فاصلة، أعدّ لها 100ألف مقاتل.

ولكن السلطان العثماني، تنبه إلى ذلك. فلم يمهله، بل أعدّ له جيشاً من الإنكشارية، قوامه 60 ألف مقاتل، سار به إلى المنطقة، التي اختارها لتكون ميداناً للمعركة، وهي السهل الواسع، المسمى "قوص أوه"، أو كوسوفو. وكانت المعركة الشهيرة في تاريخ البلقان، التي جرت في 8 أغسطس 1389م (791هـ).

التحم الفريقان في معركة كوسوفو، وطال القتال بينهما. إلاّ أنه انتهى بهزيمة الصرب هزيمة قاسية، حين فرَّ صهر ملك الصرب، المدعو فوك براتكوفيتش، بعشرة آلاف مقاتل، وانحاز إلى جانب العثمانيين، مما رجح كفة المسلمين، وأُسِر ملك الصرب، لازار، ثم قتل، وتشتت جيشه. وكان من أبرز نتائج هذه المعركة الحاسمة، زوال مملكة الصرب، التي كانت قوة عاتية في المنطقة، واتساع رقعة الدولة العثمانية حتى تلك الأراضي. كذلك تمهيد الطريق للعثمانيين إلى ألبانيا ومناطق وسط البلقان، واليونان. ناهيك من ارتفاع الروح المعنوية للعثمانيين، واشتهار دولتهم بالجهاد بين أوساط الشعوب الإسلامية. كما أصبح الغرب يحسب لها ألف حساب، بوصفها دولة أثبتت وجودها، كقوة ضاربة.

إلاّ أن المسلمين خسروا، في هذه المعركة، سلطانهم مراداً الأول، الذي طعنه رجل صربي بخنجر مسموم، بعد أن أعطاه الأمان. وفاضت روحه إلى بارئها في 15/8/791هـ ـ 9/8/1389م، بعد أن قال لمن حوله، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: "لقد كنت، طيلة حياتي، أتضرع وأدعو الله العلي القدير، أن يمنحني فرصة الاستشهاد في سبيله. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . أطيعوا ابني بايزيد، ولا تعذبوا الأسرى، ولا تؤذوهم، ولا تسلبوهم".

هكذا، أرغم الصرب على موالاة العثمانيين وسارع الكثيرون منهم إلى الدخول في الإسلام، مفضلين الخضوع للسلطة العثمانية، في الشرق، على الخضوع للسلطة الغربية المجرية، في شمال غرب البلقان، حيث كان يسود الخلاف المذهبي بين الصرب الأرثوذكس والمجر الكاثوليك، وما يترتب على ذلك من اقتتال بين الطرفين، يكون الشعب هو ضحيته. في حين، كان العثمانيون يمنحون الناس الحرية الدينية التامة، ويؤمّنون الناس على حياتهم وممتلكاتهم.

ولمّا تولى السلطان بايزيد الحكم، خلفاً لأبيه السلطان مراد، استأنف حركة الفتوح العثمانية، بسرعة خاطفة، حتى سمي بـ "الصاعقة". إذ تقدمت جيوشه، وأكملت فتوحاتها في رومانيا وألبانيا واليونان والبوسنة. وكانت المرة الأولى، التي تدفع فيها مملكة البوسنة الجزية إلى الدولة العثمانية، في عهد السلطان بايزيد الأول. أمّا مملكة الصرب، فكان السلطان بايزيد الأول، قد رأى ألاّ يضم الصرب إلى بلاده، واكتفى بأخذ الجزية منهم، لأنه كان على ثقة من همجيتهم، وسرعة ثورتهم. فعيَّن عليهم أستفان بن لازار ملكاً، عام 1390م، على أن يحكم بنُظُمهم وشرائعهم، مقابل جزية سنوية، وتقديم عدد من المقاتلين، يؤازرون الجيش العثماني، وقت الحرب. ولكي يضمن السلطان خضوع ملك الصرب، ويأمن شرّه، تزوج أخته، "أوليفبير"، كعادة العثمانيين في مصاهرة ملوك الدول. وهكذا هدأت بلاد الصرب، ووفت بوعودها، إلى حين. إذ أرسلت فرقة من مقاتليها، يعاونون العثمانيين ضد الحملة الأوروبية، التي حاصرت مدينة نيكوبلي، الواقعة في شمال بلغاريا. وتمكن العثمانيون من دحرها، عام 1396م، وإحراز النصر في معركة سميت باسم المدينة. وكانت قوات الحملة تزيد على ستين ألف مقاتل، تحت قيادة هوهنزلون، بينما القوات العثمانية، لا يزيد عددها على أربعين ألفاً، ومعهم خمسة آلاف مقاتل من الصرب، بزعامة أميرهم لازار. واللافت في هذه المعركة، أن البوشناق، أهالي البوسنة، قد شاركوا في التحالف الأوروبي، المكون من قوات من المجر، وفرنسا، وإنجلترا، وبولندا، وإسكتلندة، وفاستيليا، وآراجون، وفرسان القديس يوحنا من جزيرة رودس. وعندما فرت جيوش التحالف الأوروبي، عبر نهر الدانوب، كان العثمانيون في انتظارهم على الجانب الآخر، فأطبقوا عليهم من الجانبَين، وأسروا منهم أعداداً كبيرة. وفي هذه المعركة، برزت الحكمة من عدم تسرع السلطان بايزيد الأول في ضم بلاد الصرب، مع أنه كان في مقدوره ذلك. لأنه لو فعل، لكان قد كسب مزيداً من الأعداء، الذين يمكن للقوات الأوروبية، أن تستثمرهم في مصلحتها، وتَعِدهم بالاستقلال.

أدى انشغال بايزيد بحروبه ضد التتار، الذين كان يقودهم تيمورلنك، في الأناضول[7]، إلى تشتتت جهود الدولة العثمانية وتأخر فتوحاتها في البلقان، خاصة بعد أن أسْر التتار بايزيد، ومات عندهم، وما ترتب على ذلك من تفرق أجزاء الدولة، واستقلال بعض إماراتها، بسبب الخلاف الذي دب بين أبناء بايزيد. وهو الوضع الذي استغله الصرب والبلغار، فأعلنوا استقلالهم عن الدولة العثمانية.

إلاّ أنه بتولي مراد الثاني السلطة في الدولة العثمانية، عام 824هـ ـ 1421م، واستقرار الأوضاع في الدولة، أصبح في مقدور العثمانيين الوقوف على أرجلهم من جديد، فسارع أمير الصرب، جورج برنكوفيتش إلى عقد معاهدة معهم، يدفع، بمقتضاها، الجزية، ويقدّم فِرقة من جنوده، لمساعدة السلطان مراد، ويقطع علاقته بملك المجر، ويتنازل للعثمانيين عن عدة مواقع وسط بلاد الصرب. ثم زوج السلطان مراداً بابنته "مارا" ليوشج الروابط. فارتاح العثمانيون من بلاد الصرب، وتفرغوا للفتوح في ألبانيا واليونان. وحاولوا بسط نفوذهم على بلاد البوسنة والهرسك، وأخذ جزية منها، فلم يسَع أمراؤها الكاثوليك إلا المراوغة، وإظهار الولاء. فقد أدرك ملك البوسنة تيفرنكو الثاني، عام 1439م، أن الزحف العثماني قد اقترب منه، وأراد أن ينقذ موقفه، فطلب هو نفسه، أن يزيد الجزية المفروض عليه دفعها إلى العثمانيين، من 20 ألف دوقة ذهب في السنة، إلى 25ألفاً.

وما لبث الصرب أن نقضوا عهودهم. فاستأنف السلطان مراد الثاني الحرب ضدهم، وفتح مدينة سمندرية، القريبة من عاصمتهم بلجراد، وتقدم إلى العاصمة نفسها، وحاصرها ستة أشهر، عام 844هـ/1440م، لكنه تراجع عنها لاستماتة دفاعاتها. وكان أمير الصرب قد فر إلى بلاد المجر، قبل ذلك، محتمياً عند ملكها الذي كان بتحريضه ووعوده وراء نقض الصرب لعهودهم. ولكن الأوضاع ساءت، بعد ذلك، بالنسبة إلى العثمانيين، إذ هُزموا في غير موقعة، على يد القائد المجري، جان هوينداي، في إقليم ترانسلفانيا[8]. ثم هبط هذا القائد إلى بلاد الصرب، وقد انبعثت روح صليبية جديدة، نتجت من تشجيع البابا على التوفيق بين إمبراطوريتَي: هابسبورج والمجر. كما ألهب حماس النصارى ضد الدولة العثمانية، فاحتشدت جيوش بولونيا والمجر والألمان والتشيك والبوشناق والفرنسيين، وغيرهم، لطرد العثمانيين من أوروبا. (اُنظر خريطة مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة).

هزمت الحشود الصليبية الضخمة، السلطان مراداً، في ثلاث معارك، مما اضطره إلى التراجع عن مدينة سمندرية وغيرها من المدن، التي كانت في يده. وأبرم هدنة، مدتها عشر سنوات، وكان ذلك عام 848هـ/1444م، وتخلى عن البوسنة. كما استقلت ألبانيا. وتراجعت القوات العثمانية إلى الخط المار من الدانوب، شمال غرب صوفيا، عاصمة بلغاريا، إلى حدود مقدونيا الشرقية، وحدود ألبانيا الشرقية، وحتى الجزء الشمالي من شبه جزيرة المورة.

قبِل الصرب هذه الهدنة. أما المجريون، فلم يقبلوها، ونكثوا عهدهم، فهزمهم العثمانيون في معركة فارنا، على البحر الأسود، حيث باغتهم السلطان مراد بهجوم لم يتوقعوه، مما أدى إلى فرار قادتهم، وعلى رأسهم زعيمهم هوينداي، وكان ذلك في عام 848هـ/1444م. إلاّ أن القائد المجري، أراد أن يثأر لهزيمته. فكان أن هزمه العثمانيون هزيمة منكرة، عند وادي كوسوفو، وهي المعركة الثانية في هذه المنطقة، والتي وضعت حدّاً للهجوم المجري، عام 852هـ/1448م. (اُنظر شكل تراجع العثمانيين في آخر الأيام).

وعند وفاة السلطان مراد الثاني، عام 855هـ/1451م، كان العثمانيون قد توصلوا إلى إبرام صلح مع أمراء الصرب والبوسنة، وأخذ الجزية منهم. وذلك بعد أن أوغلوا في أراضي الصرب، وسيطروا على نصفها، قبل أن يرجعهم التحالف الأوروبي. وقد أيّد العثمانيون زعماء البوسنة في حروبهم ضد المجر، فاكتسبوا رضاهم، ثم أبقوا فِرقة من العثمانيين في الجنوب الشرقي للبلاد، مع أخذ الجزية من زعمائها، منذ عام 1415م. ولكن العثمانيين لم يضموا تلك البلاد إليهم ضماً كاملاً، حتى هذه الفترة، لأن هدفهم الأكبر، كان فتح القسطنطينية. وقد سعوا إليها من خلال الالتفاف عليها من البر الأوروبي. لذلك، لم يهتم العثمانيون كثيراً بفتح بلاد الصرب وغيرها، حتى لا يضيفوا إلى أعبائهم عبئاً، هم في غنى عنه.

رابعاً: البوسنة في مطلع القرن الخامس عشر

عندما تولى السلطان محمد بن مراد الثاني، الملقب بـ "محمد الفاتح"، حكم الدولة العثمانية، عام 1451م، كان يتقاسم البلقان قوّتان كبيرتان: العثمانيون في شرقيه، و لهم هدف واضح ومحدد، يتمثل في فتح القسطنطينية أولاً، ثم الاندفاع، بعد ذلك، غرباً، لفتح باقي بلدان البلقان. أمّا القوة الثانية، فقد كانت قوة المجريين، في الشمال الغربي من البلقان، وهم ورثة إمبراطورية قديمة، عاتية، تريد أن تستعيد مجدها، بعد طرد العثمانيين من البلقان. وبين هاتَين القوّتَين شراذم من الشعوب الصغيرة، تطمح إلى الرقي بمستواها، بعد أن هُزم البيزنطيون وخفت صوتهم. وكانت هذه الشراذم تتألف من شعوب الصرب والبوشناق (البوسنة) والألبان واليونان. وكان المجريون يمدون سيطرتهم على هذه الشعوب، لإقامة تحالف صليبي، يرعاه البابا، يمكِن أن يواجهوا به العثمانيين. وقد أدرك السلطان الجديد، محمد الفاتح، حقيقة أن الصرب قوم متخلفون، وأن وراءهم المجريين والبشانقة الكاثوليك والتشيك. ومن الممكن أن يرهقوا الدولة العثمانية، إذا ما اتجهت إلى فتح الصرب أولاً. وهو ما تطلب تأخير فتح الصرب، في المخطط العثماني، إلى ما بعد فتح القسطنطينية. ولكي يأمن السلطان محمد الفاتح جانب الصرب والمجر، حرص على وجود حاجز يفصل بين العثمانيين ومملكة المجر، إلى حين استكمال فتح القسطنطينية. فاستقرت الأوضاع، في مجملها، على سيطرة العثمانيين على جزء من شرقي بلاد الصرب، وخضوع الباقي لها، من طريق دفع الجزية السنوية. (اُنظر شكل البوسنة في القرن الخامس عشر).

أمّا البوسنيون، فكانوا خلال تلك الفترة، كغيرهم من الشعوب المتناثرة وسط البلقان، إذ كانت المصالح تدفع أمراءهم إلى التصالح مع القوة العظمى المنتصرة بين القوّتَين السالف ذكرهما (العثمانيين والمجر). ولكن شعب البوسنة والهرسك، أعطى ولاءه، منذ البداية، للمجر، عندما توسعت الإمبراطورية المجرية صوب الجنوب، وضمت إلى نفوذها شعوب الكروات، بعد اغتيال الكرواتيين ملكهم زفونومير، الذي تولى الحكم عام 1089م، ونشوب الحرب الأهلية، التي أدت إلى خضوع البلاد للمجر، فصار النفوذ المجرى، بذلك، مؤثراً في البوسنة، من جهتَي الغرب والشمال. ثم دخل البوسنة، قسراً، إبّان عهد الملك كولومان المجري (1096م ـ 1116م)، وشملها في عهد أسلافه. وقد هيأ لاستمرار هذا الولاء، سواء كان مباشراً أو غير مباشر، أيام إعلان مملكة البوسنة المستقلة، في عهد تورتكو، عام 1377م، جملة عوامل، أبرزها قرب البوسنة من المجر، إذ هي أقرب إلى المجر، منها إلى العثمانيين، والاتفاق المذهبي بين زعماء البوسنة الكاثوليك والمجر. وإن كان ذلك لم يمنع المجريين ومواليهم من الزعماء المحليين، من محاربة شعب البوسنة البوشناقي، لما كان يدين به من ديانة البوجوميل. وعلى الرغم من انصراف ولاء البوشناق البوسنيين إلى المجر، إلا أنهم خضعوا للصرب، في عهد دوشان (1322 ـ 1355م)، ثم استقلوا بعد وفاته، وأعلنوا الملكية المستقلة، عام 1377م.

ولكن هذا الاستقلال الذاتي للبوسنة تضعضع، لتهاوى مقوماته، ووهن القيادة، الذي حمل الملك البوسني، أستفان دبشة، عام 1395م، على إعلان التبعية لسكسموند، ملك المجر، الذي هزمه العثمانيون غير مرة. وهكذا، سارت الأوضاع حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي. إلا أن تغيراً في موازين القوى، طرأ على ساحة البلقان، كان له أثره في مجريات الأمور، بعد ذلك. تمثل هذا التغير في تصاعد القوة العثمانية، وامتداد مساحة سيطرتها على معظم أراضى الدولة البيزنطية، باستثناء عاصمتها القسطنطينية، مع ابتلاعها الإمبراطورية البلغارية، وجزءاً كبيراً من مملكة الصرب. ويقابل هذا الصعود في قوة الدولة العثمانية، ظهور ضعف ووهن في قوة الدولة المجرية. لذلك، لم يكن غريباً أن يتحالف الأمراء النصارى في البلقان، مع العثمانيين، لكسب ودهم، وللثأر من المجر، نتيجة أحقاد قديمة. أمّا البوسنة، فقد انتهى القرن الرابع عشر الميلادي، بمعاهدة يدفع، بمقتضاها، ملك البوسنة الجزية إلى الدولة العثمانية، في مقابل أن يحظى بحمايتها. وكان هذا هو أول عهد بين البشانقة والعثمانيين.

مع بداية القرن الخامس عشر الميلادي، أصبح تدبير الأوضاع في البوسنة بيد رجلين: أحدهما في الشمال (البوسنة)، هو هرقوجة، دوق أسيلاتو، عام 1416م. وأما الثاني، فهو سندلج هرانيج، من الأسرة التي تحدر منها الأمراء المستقلون، الحاكمون للهرسك، في الجنوب، عام 1435م. وكان هذا التفكك في مصلحة العثمانيين. غير أن البلاد، كانت مطمعاً للمجريين، في الشمال. لذا، وجد ملوك البوسنة في هذا الوضع المعقد إشكالية صعبة. فهم يريدون الاستقلال، ولكن معاهداتهم مع العثمانيين، من ناحية، وضعفهم وتفرقهم، من ناحية أخرى، يعوقان ذلك. كما أن التخوف من هجوم مجرى مرتقب، يعيد البوسنة إلى تبعية المجر، قسراً، وينتزعها من العثمانيين، يُعَدّ عائقاً، من ناحية ثالثة. وسرعان ما وقع الهجوم المجري. فاستولى سكسموند، ملك المجر، على قلعة "دبر" البوسنية، عام 1408م، بعد قتال عنيف. ثم نودِيَ، لإنهاء الوضع، بهرقوجة، حاكم البوسنة والياً من قِبل ملك المجر. ولكن الرجل آثر الابتعاد عن المجر، وفضل بقاءه في حماية العثمانيين، مقابل دفع الجزية. لذلك، عمد إلى تعبئة جيوشه، وهاجم جيش المجر، الموجود في البوسنة. وبذلك، تخلص هرقوجة من نفوذ المجر، عام 1415م. ومنذ ذلك الحين، توطد نفوذ العثمانيين في البوسنة، وبقيت فِرق من جيشهم في جزء من الجنوب الشرقي لإقليم سراييفو الحديث، تشارك في المعارك المصيرية للبلاد.

واستمر الضعف والانقسام بين أجزاء بلاد الصرب، في تفاقم وازدياد. ولو استغله العثمانيون، لأمكن فتح باقي هذه البلاد، وفرض النفوذ العثماني عليها. ولكن أوان ذلك، من وجهة نظر السلطان محمد الفاتح، لم يكن قد حان، بعد، فما زال الصرب يدفعون الجزية، إضافة إلى أن اهتمامات العثمانيين، كانت مركزة حول القسطنطينية، وضرورة إسقاطها، لأن في ذلك زلزلة لسائر بلدان البلقان، وإخضاعاً لها، بسهولة،وربما من دون فتحها.

أمّا بالنسبة إلى الهرسك، فقد مات حاكمها سندلج هرانيج، عام 1435م، ثم ظهر ابن عمه أستفان فوكتش، وأعلن نفسه، عام 1448م، دوقاً عاماً لـ "سان سافا". واعترفت به البوسنة في الشمال، وعُرِفَت بلاده، من ذلك التاريخ، باسم الهرسك. واستمرت أوضاع البلاد في تدهور، بسبب تفرق كلمة الزعماء الكاثوليك، إضافة إلى توافد المبشرين النصارى على البلاد، لإرغام البوجوميل على الدخول في الكاثوليكية، وما رافق ذلك من اضطهاد ديني شديد، كان امتداداً لما جرى منذ القرن الثالث عشر الميلادي، بل أشد عنفاً. إذ إنه في القرن الخامس عشر، وبعد استقلال الأحزاب الكاثوليكية بدوقياتها ومناطقها، تفرغ ملوك الكاثوليك لاضطهاد أهالي البوسنة (البوشناق)، فصارت آلامهم لا تطاق. حتى إنهم استغاثوا بالأتراك، لتخليصهم مما هم فيه من بؤس وشقاء. وهرب عدد كبير منهم، يقرب من أربعين ألفاً، من البوسنة إلى البلاد المجاورة. أمّا الذين لم يوفَّقوا للهرب، فقد أُرسلوا إلى روما مكبلين في السلاسل. وكان العثمانيون منشغلين بالتحضير لفتح القسطنطينية، قبل أن يصبح ضمهم لبلاد البوسنة مسألة زمن، لا أكثر.

خامساً: فتح القسطنطينية

عندما تولى محمد الفاتح الحكم في الدولة العثمانية، عام 1451م، كان عمره اثنين وعشرين عاماً. وكان واضحاً أنه مصمم على فتح القسطنطينية. لذلك بنى قلعة حصينة على الضفة الأوروبية من البوسفور، مقابل القلعة، التي بناها جده بايزيد (الصاعقة)، على الضفة الآسيوية منه، ليحكِم بذلك قبضته على المضيق، فلا يمرّ منه أحد إلاّ بإذن العثمانيين. وهو يُعَدّ، بهذا، مؤسس نظام التحكم في المضايق، الذي عرِف لاحقاً ، ثم جهز مدافعه في مدينة أدرنة الأوروبية، التي كانت لا تزال عاصمة الدولة، ثم شق منها طريقاً إلى القسطنطينية، بوساطة 250 عاملاً، ليجر عليه مدافعه، وأشهرها المدفع العظيم[9]، الذي اخترعه مصلح الدين وأوربان المجري. وقد غيَّر هذا الاختراع الإسلامي مجرى التاريخ، ومنحى الحروب وإستراتيجيتها، وهيأ لدخول العصر الحديث. لأن فكرة التحصن خلف الحصون والقلاع، قد زالت فائدتها بهذه القذائف الأفقية، المقوسة في خط مرورها إلى أهدافها، والتي كانت تعلو الأسوار، فتطاول وسط المدينة، وتدك الأرض دكاً. وإذا كانت الحصون والقلاع، قد استطاعت أن تصمد أمام رماح المهاجمين وسيوفهم، عبر تاريخها، فما كان لها أن تحتمل مدافع العثمانيين.

وعندما أدرك إمبراطور القسطنطينية، أن هجوم العثمانيين على عاصمته صار وشيكاً، بحث عمّن يمكن أن يتحالف معهم، ليواجه بهم العثمانيين، فلم يجد سوى النصارى الكاثوليك، الذين أرسلوا إليه مبعوثاً، تعمد فعل المراسيم الكاثوليكية في كنيسة "آيا صوفيا" فأغاظ الأهالي، وأثار حفيظتهم، حتى إن أحد أفراد حاشية الإمبراطور قال: "إنني أفضل رؤية العمامة التركية في القسطنطينية، على رؤية القبعة اللاتينية". ومهما يكن من أمر، فقد أحكم العثمانيون حصار المدينة، العاصمة، وعرض "الفاتح" على إمبراطورهم تسليمها، كي لا تصاب بأذى، مع كفالة الأرواح. إلا أن الإمبراطور رفض هذا العرض، الذي كرره السلطان محمد الفاتح عدة مرات، وتكرر من الإمبراطور الرفض. فما كان من "الفاتح" إلا أن أمر بالهجوم التاريخي العام، الذي اضطلع به ربع مليون جندي عثماني، مع إشراقة شمس 10 جمادى الأولى 857 هـ/29 مايو 1453م. وأضحى الجنود وسط المدينة، وظهر السلطان العثماني ظافراً، فمنع أعمال السلب المستشرية، وحوَّل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد. ورفض الفاتح أن ينتقم لما سبق أن فعله البيزنطيون بالمسلمين من اضطهاد وتنكيل، خاصة عندما دمروا حي المسلمين، القابع في إحدى ضواحي القسطنطينية، وأبادوا سكانه، بعد أن علم إمبراطورهم بانتصار تيمورلنك التتري على بايزيد، في موقعة أنقرة، عام 1402م. كذلك لما فعله أهلها عندما قتلوا الأسرى العثمانيين، وكان عددهم 260 أسيراً، إبّان الحصار الأخير، ورموهم من فوق الأبراج. ولم يكتفِ السلطان الفاتح بالعفو عن كل هذه الجرائم الوحشية، التي ارتكبها البيزنطيون في حق المسلمين، بل أمر بإطلاق الأسرى، كذلك. ولم يبِح المدينة، فمنع اغتصاب النساء، أو المساس بالشيوخ والأطفال والرهبان، وحافظ على صوامعها وأديرتها ومبانيها. كما أبقى للبيزنطيين نصف كنائسهم، وحوَّل الباقي إلى مساجد، وسمى المدينة، "إسلام بول"، أي مدينة الإسلام. وأعلن أن "لا إكراه في الدين"، وأعطاهم حق انتخاب بطريرك لهم، يوحد صفوفهم، ويقيم تعاليم الدين، ويرعى شؤونهم وفق تلك التعاليم. ثم شرع يعمر المدينة، واتخذها عاصمة له.

ولقد أدى فتح القسطنطينية إلى نتائج، داخلية وخارجية، مهمة:

1.     فعلى الصعيد الداخلي، أحكمت الدولة العثمانية سيطرتها على أطرافها، بكسب موقع دائم للعاصمة ، كما ارتفعت معنويات الجيش العثماني وقادتِه، فضلاً عن ارتفاع معنويات الشعب العثماني. وبذلك، تفرغت الدولة العثمانية لمهمة استكمال الفتوحات في البلقان ووسط أوروبا. وظهرت كقوة عالمية، فرضت وجودها وعظمتها على العالم.

2.     أما على الصعيد الخارجي، فقد عمّ الفرح والاستبشار ربوع العالم الإسلامي، من مشرقه إلى مغربه، حين أذيعت أنباء هذا الفتح العظيم، في مصر والحجاز وفارس والهند، كما التفَّت الدول الإسلامية الأخرى حول الدولة العثمانية، وانضمت تحت لوائها، ولا سيما المماليك. أمّا الملوك والباباوات في أوروبا، فقد صعقتهم أنباء الانتصار الإسلامي العظيم، وأصابهم الفزع والخوف، وعمّ الحزن شعوبهم، لإدراكهم أن فتح القسطنطينية، سيكون إيذاناً بفتح باقي بلاد البلقان، خاصة الصرب والبوسنة وباقي شبه جزيرة المورة. ناهيك من وصول المسلمين إلى طريق التجارة بين البحرين، الأحمر والأبيض.

سادساً: فتح باقي بلاد الصرب والبوسنة

حرص السلطان "الفاتح" على أن تفصل بلاد الصرب بينه وبين المجر، ريثما يفتح القسطنطينية. فلم يطلب منهم أكثر من الجزية السنوية، وكانت علاقته طيبة بأميرهم، جورج برنكوفيتش. غير أن الأمير الصربي، تنكر لهذه العلاقة، فتحالف مع المجر، إذ جاءه رسول القائد المجري، هيوينداي، يعرض عليه الاشتراك في الحلف الأوروبي، الذي تشكل عقب سقوط القسطنطينية لمهاجمة العثمانيين، الذين أصبحوا يشكلون خطراً داهماً على أوروبا بأسرها، فوافق برنكوفيتش، من الفور.

وكان بابا روما، بيوس الثاني، قد دعا، عقب سقوط القسطنطينية، إلى شن حرب صليبية، لمنع تقدم العثمانيين داخل أوروبا. فاستجاب لدعوته قادة الصرب، والبوسنة، والبندقية، والهرسك، وبولندا، والمجر، وبوهيميا، وجنوى. وبدأ التجمع الصليبي يتشكل لمهاجمة الدولة العثمانية. إلاّ أن ذلك لم يكن خافياً على السلطان محمد الفاتح، خاصة بعد امتناع ملك البوسنة عن دفع الجزية. وأدرك أنه لا ينبغي له الانتظار داخل حصونه في القسطنطينية ليدافع عنها، انتظاراً لوصول جيوش أعدائه، بل عليه أن يبادر إلى التحرك نحوهم، ويدهمهم قبل أن يستكملوا حشدهم، واضعاً، بذلك، المبدأ الإستراتيجي المعروف، "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، موضع التنفيذ، ومستفيداً من المفاجأة التي ستصيبهم. فاتخذ قراره باستكمال فتح البلقان. إلاّ أن حربه مع رومانيا، عام 1458م، أخرت تنفيذ ذلك القرار.

وبعد أن انتصر السلطان "الفاتح" على الرومانيين، زحف بجيش، يتألف من 150ألف مقاتل، و300 مدفع، وتغلغل في البلقان. فحاصر بلجراد، وكان أمير الصرب، برنكوفيتش، قد لجأ إلى المجر، طالباً العون. وتدفقت القوى الصليبية لمواجهة العثمانيين. واندلع القتال، عام 860هـ/1456م. وجرح السلطان "الفاتح" في فخذه، وكاد يؤسر، لولا بسالة جنوده. ودافع المجريون، بقيادة هوينداي عن المدينة دفاعاً شديداً، فتخلى عنها السلطان "الفاتح"، بعد أن أبرم مع الصرب صلحاً، يدفعون بموجبه جزية، قدرها ثمانون ألف أوقية ذهب. وجُرح قائدهم هوينداي ثم مات، في هذا الحصار. وأرسل السلطان، "الفاتح" "صدره الأعظم" محمود باشا، فأتم، عام 1460م، فتح بلاد الصرب كلها، في مدة سنتين. وبقيت بلجراد محمية، يتخذها المجريون قلعة منيعة في وجه العثمانيين، حتى اشتهرت، في أوساط النصارى، بأنها "الحصن الخارجي للمسيحية"، فلم تسقط نهائياً، إلا أيام السلطان سليمان القانوني، عام 1521م.

صار العثمانيون، بعد فتح بلاد الصرب، على مشارف البوسنة مباشرة. وكانت هذه تعاني التمزق والخلافات، فضلاً عن اضطهاد الأغلبية، التي كانت تدين بالبوجوميلية. وتشير المصادر التاريخية إلى أن زعيمَي البوجوميل، فوكجيج وبافلوفيج، قد استغاثا بالعثمانيين لنصرة قومهما وإنقاذهم من الاضطهاد الذي يلاقونه. وكان العثمانيون قد ساعدوا الأمراء البوسنيين على التخلص من هيمنة الحكم المجري، كما كانوا يحتفظون بمراكز لهم في أعالي البوسنة وفي جنوبيها الشرقي، ونظموا ولايتَي، سراي أواسى وهوديد، الواقعتَين على الثغور الحدودية البوسنية، بعد عام 1451م.

وفي عام 1460م، وجّه السلطان محمد الفاتح جيوشه نحو مناجم البوسنة الشرقية، الواقعة خلال نهر درينا، ودخلت قواته مدينة سربرنيتشا، في شرقي البوسنة. وبعد ذلك بعامين أو أقلّ قليلاً، تمكنت القوات العثمانية من دخول مدينة ذقرينك بسهولة. وقد أتاح للجحافل العثمانية وجودها على مشارف البوسنة، أن تعرف أوضاع البلاد، وتستثمر اضطراباتها، من كثب. فقد اشتعلت الحرب الأهلية، وتضعضع مركز الملك أستفان توماشيفنج، آخر ملوك البوسنة، وتفككت وحدة البلاد. فاضطر البابا إلى التدخل لتثبيت العرش، وإبقاء الملك راعياً للنصرانية. فزار البوسنة، عام 1461م، وحرَّض الأهالي والرقيق ـ وأغلبهم من البوجوميل ـ على الدفاع عن وحدة البوسنة، ومنَّاهم الأماني ووعدهم بالحرية. وقال البابا لأهالي البوسنة، إن هدف السلطان "الفاتح"، ليس هو البوسنة، وإنما المجر والبندقية وإيطاليا، وحتى روما. ولكن الأهالي البوجوميليين، لم ينخدعوا بذلك، لما ذاقوا من اضطهاد على يد حكام البوسنة، وإن كان ملك البوسنة، توماشيفنج، قد اغتر بوعود البابا له بالمساعدة، فامتنع عن دفع الجزية إلى العثمانيين. ولما جاءه رسول السلطان، "الفاتح" يستوضح الأمر، أخذه وأراه كنوزه، وبيّن أنه لا يستطيع التنازل عنها للأتراك.

عندئذٍ، زحفت جيوش العثمانيين، واقتحمت القلعة الرئيسية، وسط البوسنة، بوبو واتز، عام 1463م، بعد أن سلم حاكم البوجوميل مفاتيحها، طواعية، إلى العثمانيين. وسرعان ما حذا باقي الحصون حذوها، وأعلنت استسلامها للعثمانيين، فأصبحت أغلب مدن البوسنة في قبضة العثمانيين، بلا عناء (اُنظر ملحق هوية المدن في البوسنة والهرسك في العهد الإسلامي (نموذج من القرن 17 الميلادي ـ 12 الهجري) بوسنة سراى (سيراييفو)). وكان ملك البوسنة قد اختبأ في حصن بايجه المنيع، وأرسل رسله، أنه سيدفع الجزية، ويطلب هدنة، مدتها 15 سنة. ولكن ما كان لهذه الخدعة لتنطلي على السلطان "الفاتح"، الذي اقتحم عليه حصنه، وقتله.

وكان من أوائل ولاة المسلمين على البوسنة، إسحق بك، الذي عُيِّن عام 1418م. واستمرت البوسنة، بعد ذلك، إقليماً يحكمه والٍ عثماني، "بك"، حتى عام 1573م، ثم صار يحكمها "الباشوات" (اُنظر ملحق حكام بلاد البوسنة والهرسك في العهد الإسلامي أمراء السناجق وأمراء الأمراء والولاة) و (ملحق أسماء قادة الأساطيل العثمانية من أبناء البوسنة والهرسك) و (ملحق أسماء الوزراء العظام والصدور العظام في الدولة العثمانية من أبناء البوسنة والهرسك)، بعد ذلك.

إلاّ أن هذا الاستقرار، لم يكتب له الاستمرار. إذ انتزع ملك المجر، ماتياس، شمالي البوسنة من العثمانيين، عام 1463م، وزحف، بعد ذلك، نحو قلعة بايجه، يريد الاستيلاء عليها نهائياً. ولكنه لم ينجح، فتراجع إلى المنطقة، التي استولى عليها وهي بانة البوسنة القديمة، في الشمال الشرقي، وعيَّن عليها أحد أعيانها الأثرياء، نيقولا أويلاكى، عام 1471م. غير أن العثمانيين اكتفوا، آنذاك، بإدارة منطقة وسط البوسنة وجنوبيها، إضافة إلى شمالي الهرسك، ولم يأبهوا كثيراً بتلك المنطقة الشمالية. ويعتقد المؤرخون، أن العثمانيين رضوا بذلك لأسباب إستراتيجية، تتمثل في إبقائهم هذه المنطقة حاجزاً، يفصلهم عن حدود المجر، من تلك الجهة، حتى لا يقعوا في استنزافات ومنازعات، وتبقى آخر حدودهم آمنة. وقد تكون هذه الأسباب نفسها، ما أراده المجريون. إلاّ أن العثمانيين تشبثوا بوسط البوسنة وجنوبيها، عندما حاول ملك المجر أخذها، ثلاث مرات، في أعوام 1465، 1471، 1479م، ولكن باءت محاولاته كلها بالفشل.

أمّا جنوب الهرسك، فلم يخضع تمام الخضوع للعثمانيين، إلا بعد فتحهم البوسنة بعشرين سنة. إذ غزا بايزيد الثاني (1481 ـ 1512م) جنوبي الهرسك، وأحكَم سيطرته عليه، عام 1483. غير أن بلاد البوسنة والهرسك، لم تنتمِ إلى الدولة العثمانية انتماءاً كاملاً، إلا بعد أن اجتاح العثمانيون مملكة المجر، عام 1526م. وبذلك، تكون البوسنة آخر ولايات الدولة العثمانية وحصنها، من جهة الغرب.

وقد أعلن العثمانيون، منذ سيطرتهم على البوسنة والهرسك، عام 1463م، كعادتهم، أنه "لا إكراه في الدين"، فمن شاء أن يدخل في الإسلام، ومن شاء أن يبقى على مِلّته، فله ذلك. ولكنهم بيَّنوا أحكام الإسلام، وتمثلوا أخلاقه، ولا سيما الإنكشارية. فرأى فيهم البوجوميليون، الذين تقارب عقيدتهم الإسلام، أناساً صادقين، فأقبلوا على الإسلام بمحض إرادتهم، كما أسلمت جموع من الكروات البوجوميليين. وعاد إلى البوسنة كل الذين هجروها، فراراً من بطش حكامها السابقين واضطهادهم. فأسلمت أغلبية البلاد طوعاً، واشتدت وشيجة الإسلام، فطغت على الوشائج العِرقية الأخرى. أمّا متعصبو البوسنة الكاثوليك، فهجروها غير مُكرَهين. وإذا كان المستشرقون، يرجعون إسلام أهل البوسنة إلى تعهد العثمانيين الإبقاء على أراضيهم وممتلكاتهم، كما يقول في ذلك بطرس البستاني، في دائرته: "والمسلمون من نسل الصقالبة، الذين أسلموا لكي يحافظوا على أملاكهم"، فإن تعهد العثمانيين المحافظة على ممتلكات الناس وتأمين حرماتهم، لم يكن مقتصراً على المسلمين فقط، بل شمل كل أبناء البوسنة بمن فيهم غير المسلمين.

وارتقى أهالي البوسنة من المسلمين في مناصب الدولة العثمانية، بعد ذلك. وأصبح مسلمو البوسنة من المدافعين عن حدودها الغربية، وحصنها الغربي في وجْه القوى الصليبية. كما استقرت الأحوال في هذه البلاد، ونعمت بفترة من الأمن والسلام والرخاء، وانصرف الناس إلى الإعمار والبناء والزراعة والتجارة. وارتفعت مآذن المساجد في المدن والقرى، تنادى بكلمات الله تعالى، فيتواتر المصلون إلى المساجد، يقيمون شعائر الله. وشيّد العثمانيون المساجد والمدارس الإسلامية، وبنوا عاصمة جديدة لدولة البوسنة، أطلق عليها "سراي بوسنة"، وهي سيراييفو، اليوم.

سابعاً: فتوحات ما بعد الصرب والبوسنة

ونتج من فتح العثمانيين لبلاد الصرب والبوسنة، أن وقعت مستعمرات دولة البندقية، على الساحل الأدرياتيكي، تحت التهديد العثماني، الأمر الذي تولّدت منه الحرب العثمانية ـ البندقية، عند قيام التحالف المجري ـ البندقي. وخلال عشر سنوات فقط، تمكن السلطان "الفاتح" من القضاء على عشر دول، كبيرة وصغيرة، أبرزها بقايا الإمبراطورية البيزنطية، ومملكة الصرب، وإمبراطورية طرابزون الرومية، ومملكة البوسنة، وإمارة رومانيا، ودوقية جنوى، ودوقية أثينا، ومملكة ألبانيا، ودوقية الهرسك ... وغيرها.

وخلال الفترة من عام 1463 إلى عام 1479م، دار ما عرف في التاريخ بحروب البندقية، التي دامت 16 عاماً، براً وبحراً. وخلالها، تغلبت الدولة العثمانية على دول التحالف الأوروبي، الواحدة تلو الأخرى. وكان أشد هذه الدول خطراً، البندقية، بالنظر إلى حساسية موقعها الإستراتيجي، القريب من المقر البابوي. وفي عام 1471م، أغار إسحق بك، أمير أمراء البوسنة، بقوة تقدر بـ 25 ألف مقاتل، على كرواتيا، وأسَر نحو 20 ألف كرواتي. وهي الإغارة العثمانية الكبرى، التي أرعبت دول أوروبا، وكانت تمهيداً لباقي الفتوحات العثمانية في أوروبا.

تمكن السلطان محمد الفاتح، بعد ذلك، من إقامة "رأس شاطيء"، على الجانب الشمالي للبحر الأسود، كان قاعدة للاستيلاء، بعد ذلك، على شبه جزيرة القرم، في الفترة من 1475 إلى 1478م. وبذلك، لم يبقَ أمامه من الدول، المعادية له، والقريبة منه، سوى ممالك المجر والنمسا وإيطاليا. ولكن المنية وافته، عام 1481م.

وفي عام 1493م، أغار أمير البوسنة، يعقوب باشا، على أوستريا، بقوة ضخمة، قوامها 8 آلاف مقاتل، وغنم مغانم كثيرة وأسرى كثيرين. ثم أعقبها معركة أخرى كبرى، بين جيشه والجيش المجري، في موقع يسمى فاراتوفا، أحرز فيه جيش يعقوب باشا انتصاراً مؤزّراً. وقتل في هذه المعركة 25 ألف جندي مجري، وأسر العثمانيون قائد الجيش. وكان ذلك في سبتمبر 1493م، في عهد السلطان بايزيد الثاني، الذي خلف السلطان محمداً الفاتح.

وفي عام 1496م، احتل المجريون بعض القلاع، في المناطق الحدودية من بلاد الصرب والبوسنة، ما أدى إلى سلسلة من الاحتكاكات والحروب بين العثمانيين والمجريين. وتبادل الجانبان المواقع، حتى نجح العثمانيون في استرداد القلاع، في نهاية 1496م، ولم يبقَ سوى قلعتَين، استعيدتا في عام 1502م. ثم شن العثمانيون هجوماً شديداً، في أكتوبر 1499م، على دولة البندقية، حيث دمَّروا 132 مدينة وقرية، وتقدموا بجيوشهم، حتى اقتربوا من البندقية نفسها، واستولوا على مغانم كثيرة، واقتادوا 6 آلاف أسير. وكانت هذه هي الإغارة الحادية والعشرين، في قائمة الهجمات العثمانية الكبيرة على أراضي البندقية، خلال ثلاثين عاماً.

وفي عام 1512م، تولى السلطان سليم الأول الحكم، وهو فاتح مصر والبلاد العربية. واتّبع سياسة المهادنة المؤقتة مع الدول الأوروبية المعادية، بسبب تصدي الدولة العثمانية للخطر الفارسي. فعقد معاهدة مع المجر، لمدة ثلاث سنوات، انتهت في عام 1516م، ثم جُدِّدت لمدة عام آخر. إلاّ أن النمسا (كانت تشكل مملكة واحدة مع المجر) غدرت، وخرقت المعاهدة، حين قامت بشن إغارة مباغتة على بلاد البوسنة. الأمر الذي دفع السلطان سليماً إلى اتخاذ تدابير أشد قوة، على الحدود البوسنية مع النمسا، لمنع تكرار ذلك. وفي عام 1520م، توفي السلطان سليم الأول، الذي امتدت في عهده الدولة العثمانية، من البحر الأحمر حتى شبه جزيرة القرم، ومن كردستان إلى البوسنة. وبذلك، أصبح كلٌّ من البحر الأحمر والبحر الأسود وبحر قزوين والخليج العربي بحاراً إسلامية خالصة. إضافة إلى بسط الدولة العثمانية سيطرتها كاملة على مضيقَي الدردنيل والبوسفور، وشرقي البحر الأبيض المتوسط وبحر العرب.

ثامناً: فتح المجر

في عام 1520م، تولى السلطان سليمان القانوني الحكم. فأرسل سفيراً إلى ملك المجر، يطالبه الالتزام بمعاهدات الصلح المعقودة مع الدولة العثمانية. فما كان من ملك المجر، إلا أن أمر بقتل السفير. فأعَدّ السلطان حملة قوية، تتكون من 100ألف مقاتل و300 مدفع و800 سفينة في نهر الدانوب، لنقل الجيوش من بر إلى آخر، نظراً إلى كثرة الأنهار والقنوات المائية، التي تشكل عوئق أمام تقدم الجيوش. واجتاح بلاد الصرب، وفتح العاصمة بلجراد، وصادف ذلك يوم الجمعة 25 رمضان 932هـ. فدخل السلطان سليمان إحدى الكنائس، وأقام فيها صلاة الجمعة، وأمر بتحويلها إلى مسجد، فكان ذلك أول مسجد أقيم في بلجراد، وكان ذلك في عام 1521م. ليصبح الطريق ممهداً، بعد ذلك، أمام العثمانيين إلى وسط أوروبا. وفي عام 1522م، فتحت جزيرة رودس، في البحر الأبيض المتوسط، التي كان يحتلها فرسان القديس يوحنا، وكانت تشكل عائقاً بين إستانبول ومصر. كما كان أسطولها يعترض سفن الحجاج، القادمة من تركيا.

خرج جنود المجر من بلاد الصرب. وتوقفت الجيوش العثمانية عن الحرب على هذه الجبهة، فترة خمس سنوات، لانشغالها بالحرب على جبهات أخرى. وفي عام 1526م، تحرك السلطان العثماني بجيشه نحو المجر، بعد أن انضمت إليه الحاميات العثمانية، التي كانت مقيمة ببلاد الصرب (بلجراد)، التي جعلها قاعدة إدارية لجيشه. وبعد أن فتح عدة قلاع على نهر الدانوب، وصل الجيش بأجمعه، في 28 أغسطس 1526م، إلى وادي موهاتش (أو موهاج أو موهاكس)، حيث دارت كبرى المعارك وأعنفها وأقساها في تاريخ الدولة العثمانية، ضد جيش المجر، بقيادة مليكهم، لويس الثاني، الذي انهزم في هذه المعركة شرّ هزيمة، وانتهت بقتله وتمزيق جيشه. ومردّ ذلك إلى حُسن استخدام العثمانيين لمدفعيتهم وفرسانهم، في الإطباق على الجيش المجري من جميع الجهات. وبتقهقر بقايا الجيش المجري في اضطراب، طاردته القوات العثمانية حتى اقتربت من أبواب عاصمة المجر، "بودا"، التي بادرت إلى تسليم مفاتيح المدينة إلى السلطان العثماني، فدخلها منتصراً، في 10 سبتمبر 1526، وجمع كبار رجالها، واستشارهم في تعيين أمير ترانسلفانيا، جان زابولي، ملكاً عليهم، فوافقوا. وبذلك، انتهت المملكة المجرية، وأصبحت بلاد المجر تابعة لحماية الدولة العثمانية. وفي عام 1526م، وقع جزء كبير من كرواتيا تحت سيطرة الدولة العثمانية. وقد ضمنت معاهدة "كارلوفيتز" احتفاظ الأتراك بكرواتيا.



[1] يذكر أن الحاج بكطاش، شيخ طريقة البكطاشية، هو أول من أطلق على أفراد هذا الجيش تلك التسمية، إثر دعائه لهم بالبركة والنصر

[2] مدينة مهمة وميناء كبير، يطل على عنق مضيق الدردنيل، في الجانب الأوروبي، تبعد عن مدينة أدرنة مسافة 140كم

[3] مدينة شمال الدردنيل، في الجانب الأوروبي

[4] هم: الفلاخ، وإمارتهم عند الدانوب، جنوبي رومانيا، اليوم

[5] نهر ينبع من غرب بلغاريا، ويصب في بحر إيجه، ماراً بمدينة أدرنة.

[6] مدينة بلغارية على الحدود الشمالية لرومانيا

[7] هو تيمور الأعرج، ولد سنة 1336م، بسمرقند. يتصل نسبه بجنكيز خان التتري. كان أميراً على إمارة `كيس`، ثم وَسَّع أملاكه، وسيَّر الجيوش التي ليس لكثرتها عدد، في الآفاق. فسيطر على الهند والصين وبلاد خوارزم وإيران والأناضول والشام. حارب بايزيد، وأخذه أسيراً، ثم توفي سنة 1405م بعد أن أفنى الحرث والنسل

[8] يقع إقليم ترانسلفانيا إلى الغرب من دولة رومانيا الحالية

[9] كان في مقدور هذا المدفع أن يقذف كرات من الحجر والبارود. وزن القذيفة الواحدة 150كجم. وذلك لمسافة 1600متر. وكان من الضخامة إلى درجة يلزم معها لجره أكثر من 700 شخص