إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / البوسنة والهرسك (تاريخياً... وعسكرياً... وسياسياً)





"الليرية" ضمن ممتلكات الإمبراطورية
هجرات الصقالبة ومراحلها
هيكل الرئاسة الثلاثية
أراضي أطراف الصراع
البوسنة أثناء حكم الملك تفريتكو
البوسنة أثناء حكم البان" الدوق" كولين
البوسنة تحت سيطرة القوط
البوسنة في القرن الخامس عشر
البوسنة في القرن العاشر
البلقان 1800ـ 1913
انتشار حضارة كريت
الخريطة العرقية للبوسنة والهرسك
الطبيعة الجغرافية
تراجع العثمانيين في أخر الأيام
تعديل الخطة
خطة أوين ـ استول نبرجر سبتمبر 1993
خطة فانس ـ أوين إبريل 1993
سير الفتوح البحرية
قبائل الإلليريين في المنطقة

أهم مدن البوسنة والهرسك
أوروبا عام 1815
أوروبا عام 1871
موقع يوغسلافيا الاتحادية
مراحل الفتح الإسلامي للبوسنة
الهجوم المضاد البوسني والكرواتي
الهجوم الصربي على المناطق الآمنة
الهجوم الكرواتي الصربي
البوسنة والهرسك، كجزء من يوغسلافيا
الدويلة الفيدرالية البوسنية والصربية
توزيع مناطق المسلمين والكروات والصرب
ترسيم الكروات لحدود دويلتهم
ترسيم حكومة البوسنة للحدود
تفكك يوغسلافيا
تقسيم البوسنة بين فيدرالية
جمهورية البوسنة والهرسك
حرب الممرات الثلاثة
خطة احتلال البوسنة والهرسك
شبه جزيرة البلقان



المبحث العاشر

رابعاً: الصرب يستغلون النجاح، ويطاردون اللاجئين

وكما يحدث عقب كل جولة من جولات القتال، جاء دور "الاستنكار العالمي لممارسات الصرب". فبعد استيلاء الصرب على باييستا، أعلن صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة، يونيسيف، فرض هدنة لمدة أسبوع، من أجل مساعدة أطفال البوسنة والهرسك. ولكن الصرب، كعادتهم، لم يحترموا الهدنة، وتابعوا قصف العاصمة سيراييفو بكثافة عالية، مع تنظيم هجمات، وصفتها وكالات الأنباء بأنها "أكثر الأيام دموية"، منذ أسابيع، إذ سُمعت أصوات رشقات راجمات الصواريخ والهاون، من ضواحي المدينة. وأثناء ذلك، كان ألوف اللاجئين المسلمين، الذين شردتهم الهجمات الصربية، والذين فروا من باييستا، يسيرون في صف طويل، وصل طوله إلى 15 كم، وهدفهم الوصول إلى بلدة زينيتسا، جنوب ترافينك. وقد استغرق سيرهم ثلاثة أيام، تعرضوا خلالها لنيران الصربيين وقذائف مدفعيتهم، وسقط منهم عشرات القتلى والجرحى. الأمر الذي لم تستطع الإدارة الأمريكية تجاهل بشاعته، فاستنكرته وزارة الخارجية الأمريكية، وطلبت إلى أطراف النزاع السماح للاجئين، الذين غادروا باييستا، بالتوجه بأمان إلى ترافنيك. وقال بيان الخارجية الأمريكية: "إن اللاجئين، الذين ينتقلون عبر الجبال، سيراً على الأقدام، قد وقعوا بين نارين، وأصبحوا هدفاً للأطراف المتحاربة".

كما استغل الصرب ما حققوه من نجاح، فوجهوا جهودهم إلى الهجوم على مدينة ماجلاي، وقصفها بنيران المدفعية، ومطاردة اللاجئين بالنيران. مما دفع مجلس الأمن إلى إدانة الهجوم الصربي. كما طالب الوسيطان الدوليان زعماء العالم بالانضمام إليهما في الضغط، من أجل إنهاء الأعمال العدوانية، التي يتعرض لها اللاجئون، والذين قدر عددهم بحوالي 25ألف لاجئ.

ولم يتأخر الصرب كثيراً في إعادة تصعيد التوتر، واستئناف القتال بعنف أكبر، ففي 5 نوفمبر 1992، أخذت المدفعية الصربية في تكثيف نيرانها ضد مدينة جورازدي الإستراتيجية، في شرق البوسنة، والتي يقدَّر عدد سكانها بحوالي 50 ألف شخص، 60 بالمائة منهم مسلمون و 15 بالمائة كروات. وقدِّر معدل القصف عليها بحوالي ألف قذيفة، يومياً، شاركت فيه جميع أنواع المدفعية وراجمات الصواريخ والهاونات. مما ترتب عليه تدمير أبنية المدينة، بما فيها المساكن والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس. وفي ما كانت المدفعية الصربية تدكّ هذه المدينة بعنف، كانت طائرات الاقتحام العمودية والشاحنات الصربية، تنقل قوات الدعم الصربية، التي شرعت، على الفور، في الهجوم على قريتَي كارول وتورب، قرب مدينة ترافنيك، وسط البوسنة، حيث لجأ إليهما الألوف من المسلمين، بعد سقوط باييتسا في يد الصرب، على أمل أن يجدوا في ترافنيك ملجأً آمناً. ولكن مع وصول اللاجئين إليها، قامت الطائرات الصربية بالتحليق فوقها، إنذاراً بهجوم جديد عليها. كما كانت المدفعية الصربية، أثناء ذلك، تقصف مدينة بيهاتش، في غرب البوسنة، والتي مضت أشهر متتالية على حصارها، في ما تابعت القوات الصربية تقدُّمها في مرتفعات أولفو، على طريق توزلا ـ سيراييفو.

وأمام هذا الموقف الإستراتيجي الصعب، بالنسبة إلى المسلمين، وجّه قائد جيش البوسنة في المدينة، عريف باشلبتش، نداء إلى الكروات، دعاهم فيه: "لتسوية الخلافات بين القوات الكرواتية والمسلمة، لإحباط المخطط الصربي، الذي يهدف إلى احتلال توزلا ثم برشكو، والتقدم بعد ذلك في اتجاه كوبريس، وبوجونيو، وجورني فاكوف، وبروزور، وبابلانتسا، وصولاً إلى كونيتس، مستغلين في ذلك الخلافات بين المسلمين والكروات، في هذه المناطق".

وقد وجد الطرفان البوسني والكرواتي، أن مصلحتهما المرحلية تتطلب تنسيق التعاون العسكري بينهما. وسرعان ما ظهرت نتائج هذا التعاون على مسرح العمليات القتالية، حيث شنت القوات المسلمة والكرواتية، يوم 8 نوفمبر 1992، هجوماً كبيراً على مواقع الصرب في منطقة الهرسك، واستمرت الأعمال القتالية، بعنف وضراوة، طوال أيام متتالية. وشهدت أعنف المعارك منطقة ستولاتش، الواقعة على بعد 35 كم، جنوب شرق موستار، عاصمة الهرسك. وعمد الصرب، خلال ذلك، إلى قصف موستار نفسها. وبعد خمسة أيام من القتال العنيف، تم الاتفاق على هدنة لوقف إطلاق النار، في 12 نوفمبر 1992. ولكن مصير هذه الهدنة لم يكن أفضل من سابقاتها، إذ عمل الصرب على انتهاكها، واقترن هذا الانتهاك بإعلان رئيس اتحاد الصرب والجبل الأسود، بوبريتسا تشوسيتش، عن استعداده لإرسال جيش لحماية صرب الهرسك الشرقية. ووجّه، بهذا المعنى، رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، هدد فيها بإرسال الجيش اليوغوسلافي، إذا لم يوقف المسلمون والكروات هجومهم. وجاء في رسالته، أن هناك 16 لواءً من الجيش النظامي الكرواتي، بدأ منذ أربعة أيام، في تنفيذ هجوم عام على الهرسك الشرقية، خصوصاً على جبهة موستار ـ نيفيسيسنيا، الواقعة على بعد 80 كم إلى الجنوب من سيراييفو، كذلك على محور دوبروفنيك ـ تريبينيا. واتهم في رسالته الجيش الكرواتي في الوقت نفسه، بارتكاب جرائم إبادة في حق المدنيين الصرب. وكان واضحاً أن هذا التهديد قد جاء في أعقاب الهزائم التي مُنيت بها القوات الصربية في عدد من المواقع.

وأثناء ذلك، واصل الصرب قصفهم المدفعي لمدينة سيراييفو المحاصرة، كذلك مدينة جراداجاتش، وهي آخر بلدة رئيسية، كان المسلمون يسيطرون عليها شمال البوسنة. ويبلغ عدد سكانها 56 ألف نسمة، يشكل المسلمون فيها نسبة 60 بالمائة. وتكتسب هذه المدينة أهمية بالنظر إلى موقعها الإستراتيجي. ذلك أن سيطرة الصرب عليها، تضمن لهم تأمين اتصالاتهم البرية مع جمهورية صربيا. ولهذا، قامت القوات الصربية، تدعمها المدفعية وراجمات الصواريخ، بهجوم شامل على خطوط الدفاع المحيطة بالبلدة، في 15 نوفمبر 1992، متجاهلة اتفاق وقف إطلاق النار. وفي الوقت عينه، شنت القوات الصربية هجوماً مماثلاً على مدينة بيهاتش، المحاصرة منذ أغسطس 1992، وتبلغ نسبة المسلمين فيها 67 بالمائة. وهي أيضاً ذات أهمية إستراتيجية، لكون موقعها يحتل شريطاً غرب البوسنة، ووسط مناطق يسيطر عليها الصرب. وقد اصطدم الهجوم الصربي عليها بمقاومة ضارية، ودارت اشتباكات بالسلاح الأبيض.

ومع هذين الهجومين الرئيسيين، قامت القوات الصربية بهجوم ثالث على بلدة بوجوينو، الواقعة على بعد 140 كم غرب سيراييفو، علاوة على محاولة الاستيلاء على بلدة توربي الصغيرة، الواقعة على بعد 88 كم غرب سيراييفو أيضاً. هذا في ما كان الهجوم الصربي الرابع موجهاً ضد بلدة ماجلاي، الواقعة على مسافة 110 كم شمال سيراييفو. أما العاصمة سيراييفو، فقد استمرت خاضعة للحصار الشديد، وعرضة للقصف شبه المستمر، حتى أصبحت الحياة فيها لا تطاق.

وبذلك، دخلت حرب البوسنة والهرسك مرحلتها الأخيرة، مرحلة مأساة التصفية. فباستيلاء الصرب على باييتسا، ذات الأهمية الإستراتيجية القصوى في وسط البوسنة، اقترب الصرب من تحقيق هدفهم في الاستيلاء على الأراضي، التي رغبوا في ضمها إلى دولتهم. كما أن الكروات أكملوا، بدورهم، الاستيلاء على بروزور وفوينيتسا وفينز وغيرها من مدن وسط البوسنة. وفي غضون ذلك أكدت القيادتان، الصربية والكرواتية، في أكثر من مناسبة، استعدادهما للاتفاق على تقسيم البوسنة والهرسك، طبقاً للخطة التي سبق أن عرضها كارادازيتش، الذي أبقى للمسلمين ثلاثة كونتونات، محاصرة بواسطة الصرب والكروات في وسط البوسنة.

خامساً: المراوغات الصربية

مارست صربيا، ومعها صرب البوسنة، صوراً عديدة من المراوغة والتحايل، في تعاملها مع المجتمع الدولي، ومع المسلمين في البوسنة، وذلك من أجل تحقيق أهدافها، تمثلت في التناوب بين الحرب والهدنة، والتناقض بين التصريحات العلنية والممارسات العملية والعنف والإرهاب، والتهجير والإبعاد، والنهب والاغتصاب ... إلخ. ومن أمثلة ذلك، الرسالة التي وجّهها زعيم صرب البوسنة، كارادازيتش، إلى الأمم المتحدة وإلى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وروسيا، يوم 15 نوفمبر 1992، جاء فيها: "إن الضغط المستمر على الصرب، لن يؤدي إلى نتائج، من دون ممارسة الضغط نفسه على الكروات والمسلمين. وإن العالم يستطيع إيقاف الحرب بسرعة، إذا اتخذ موقفاً أكثر توازناً. وإن صرب البوسنة يُصِّرون على التمسك بمبدأ حق تقرير المصير، وهو الحق الذي يسمح لهم، بالانفصال عن البوسنة والهرسك، والانضمام إلى جمهورية صربيا والجبل الأسود، في حدود الأراضي التي تمّت لهم السيطرة عليها".

وللالتفاف على العقوبات، التي فرضها مجلس الأمن على جمهورية صربيا، وإبطال مفعولها، قدَّمت الحكومة الصربية الوقود بكميات كبيرة إلى محطات بيع الوقود. وبات يباع بسعر أقل من سعره الرسمي، ولم تظهر هناك حاجة إلى استخدام بطاقات لتقنين استخدامه. كما توافرت المواد الاستهلاكية في الأسواق، وبعضها لم يكن متيسراً من قبل. إذ كان الوقود والبضائع الاستهلاكية، تتدفق إلى صربيا، ومنها إلى صرب البوسنة، من المجر ورومانيا وبلغاريا، حتى من ألمانيا. وهو السبب في عدم ظهور أي آثار لهذه العقوبات في صربيا، طوال فترة الحرب.

ومن الحجج الأمنية، التي كان صرب البوسنة يتذرّعون بها، ما أعلنه كارادازيتش، في 9 نوفمبر 1992، عن خطة جديدة للسلام، اعتبر أنها تشكل أفضل سبيل إلى وقف الحرب، واستمرار المفاوضات لحل مشكلة البوسنة والهرسك. وتشمل هذه الخطة، التي قدَّمها إلى الوسيطين، فانس ـ أوين، سبع نقاط. منها سحب الجيش الكرواتي من البوسنة، وإلغاء قرار مسلمي البوسنة بإعلان حالة الحرب ضد الصرب، ووقف القتال، ونشر مراقبين دوليين على خطوط الجبهة الحالية، واستئناف المحادثات المباشرة بين أطراف النزاع، والإفراج عن المدنيين المحتجزين. وقد تعمد كارادازيتش، في معرض رده على رجال الصحافة، أن يصف جمهورية البوسنة والهرسك بكلمة "السابقة".

إلا أنه أشار إلى قرار سابق لصربيا في شأن الاعتراف بحدودها الخارجية، الذي اعتبره: "أكبر تنازل يمكن أن يقبله الشعب الصربي، في مقابل حصوله على حدوده الداخلية". وأصرَّ على عدم انسحاب الصرب من الأراضي التي يحتلونها خارج مناطقهم، متذرعاً بضرورة بقائها تحت سيطرتهم "لأسباب أمنية"، حتى التوصل إلى سلام نهائي. كذلك، استبعد تخلّي الصرب عن مطالبتهم بحق تقرير مصيرهم، باعتباره حقاً يفرضه الواقع، لأن غاية صرب البوسنة ما عادت هي التقسيم، الذي تحقق فعلاً بإرادة الصرب والكرواتيين، وإنما أصبح هدفها تشكيل نظام جديد لدولة موحدة، أي وحدة على أساس كونفدرالي. وقد علقت الحكومة البوسنية على هذا البيان بقولها: "إن هذه الخطة، ليست أكثر من مناورة لكسب الوقت".

ومن أجل حرمان المسلمين من الحصول على أسلحة للدفاع عن أنفسهم، كان الصرب يحاولون، باستمرار، قطع طريق الإمدادات القليلة، التي كانت تصل إلى المناطق المسلمة وكرواتيا، وذلك بالاتفاق مع الكرواتيين، مما دفع رئيس البوسنة، علي عزت بيجوفيتش، إلى توجيه رسالة، يوم 26 نوفمبر 1992، إلى سايروس فانس، الوسيط الدولي، بعد أن أبدى الأخير معارضته، مجدداً، لتخفيف الحظر على إرسال السلاح إلى البوسنة والهرسك. وقد جاء في رسالة رئيس البوسنة: "يجب أن أبلغك أنني في غاية الدهشة، لأنك لا تزال تعارض رفع الحظر على السلاح، بحجة أنك تعامل الجانبين على قدم المساواة، وهذا ظلم كبير لشعبنا. وإننا نعتقد أنك تساعد المعتدي على القضاء علينا. لقد تركتنا نسقط، لكننا لسنا وحدنا، وسنطلب المساعدة من الأطراف المستعدة لتقديمها. إنني أوجه نداءً إلى الأمم المتحدة، لرفع الحظر عن تصدير السلاح إلى بلادي، لأن هذا الحظر مُجحِف بحقها. إن المنظمة الدولية سمحت بسقوط البوسنة".

وقد اعتبر كارادازيتش أن التفوق القتالي، والاعتماد على القدرات العسكرية، مع توافر الدعم من قبل الدول الكبرى، ولو كان من خلال الصمت على الممارسات الصربية، هو السبيل الأوحد لتحقيق الأهداف الصربية، وفي ذلك قال: "إن التفوق القتالي الصربي، هو الذي جعل خمسين مسلماً يموتون مقابل صربي واحد. فقد ترك الجيش الاتحادي اليوغوسلافي لصرب البوسنة ترسانة ضخمة من أسلحته، التي اختزنها على مدى أربعين عاماً؛ بداية من أفضل البنادق الآلية، ومروراً بأنواع الدبابات والمدافع الثقيلة، علاوة على أربعين طائرة من أحدث طائراته القاصفة والعمودية، من بينها طائرات أوروا، التي تحمل صواريخ مافيريسك. كل ذلك إضافة إلى مصانع الأسلحة، التي سيطر عليها الصرب، منذ بداية الحرب؛ ومنها مصانع طائرات وأسلحة باستريب وشوكو، التي استخدمها الصرب للقضاء على مقاومة مسلمي البوسنة".

سادساً: الهجوم على مسلمي كوسوفو

زعمت القيادة الصربية، أن ألبانيا تدخلت في إقليم كوسوفو، لدعم مسلمي هذا الإقليم. واتخذت من ذلك ذريعة لممارسة التطهير العرقي والقضاء على المسلمين هناك. وقد تناقلت وكالات الأنباء ما يلي: "قامت السلطات الصربية في كوسوفو بتسليح مؤيديها، بمختلف أنواع الأسلحة؛ إضافة إلى تلك التي وزعتها على التشكيلات شبه العسكرية، متذرعة بتهديدات دولة ألبانيا. وقد أخذت الدعاية الصربية تروج، عبر وسائل إعلامها، مزاعم عن قيام ألبانيا بإجراء حشد على حدود إقليم كوسوفو، ضم 40 ألف جندي نظامي، و155 ألفاً من الاحتياطي. وأنه تسلل إلى كوسوفو مائة ألف ألباني، بطريقة غير شرعية. وقام الألبان في كوسوفو بدحض هذه المزاعم، عندما ذكروا أن المعلومات الدولية، تؤكد أن مجموع القوات الألبانية لا يزيد على أربعين ألف جندي، وليس لديهم أكثر من ستمائة دبابة، من طراز سوفيتي قديم، و112 طائرة ميج (15، 17، 21) و8 آلاف من رجال الشرطة و الأمن؛ ودخْل قومي، لا يتجاوز الأربعة مليارات دولار. فهل يمكن ألبانيا وهذا هو وضعها، أن تهدد جمهورية الصرب؟".

المهم في الأمر، هو أنه بينما كانت كل السلطات الصربية في كوسوفو، تختلق الذرائع بوجود خطر خارجي، ألباني، كانت هذه السلطات تمارس كل أنواع القهر والاضطهاد ضد مسلمي الإقليم. وذلك ما تضمّنه تقرير مبعوث الأمم المتحدة تاديوش مازوفيسكي، الذي جاء إلى كوسوفو، على رأس لجنة لتقصّي الحقائق، ضمت 19 مفوضاً دولياً، ثم أعلن أمام الحكومة الصربية في بلجراد، ما يلي: "تنتهك حقوق الإنسان في كوسوفو بصورة فظة، في ما يتعلق بالألبان. ولا يوجد هناك أي تطبيق للمعايير الأساسية للقوانين الدولية في هذا الشأن. ولقد توافرت البراهين على ممارسات السلطات الصربية غير الإنسانية. مما جعل الوضع خطيراً في كوسوفو، حيث بلغت القوانين والإجراءات الصربية حد تقويض المعالم الثقافية الألبانية. ولقد بُذلت محاولات للتأثير في صرب كوسوفو، للتخفيف من إجراءاتهم القمعية ضد الألبان. ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل، لأن الأوامر العليا، الصادرة عن الرئيس الصربي، سلوبان ميلوسيفتش، شخصياً، هي التي توجِّه أعمالهم. ولهذا، تم توجيه طلب إلى الزعيم الألباني "المسلم"، في كوسوفو، إبراهيم روجوفا، للاستمرار في ضبط النفس وتحمّل الاستفزازات الصربية، مع تقديم وعد ببذل الجهود لتحسين الوضع، رغم اقترابه من حالة الانفجار".

ولقد استمر الصرب في تحدياتهم. فعندما عقد الوسيطان الدوليان، فانس ـ أوين، اجتماعاً مع رئيس الوزراء الاتحادي، ميلان بانيش، في مبنى برلمان كوسوفو، نظّم الحزب الراديكالي المتطرف اجتماعاً للصرب، في الساحة المقابلة للبرلمان، تم فيه، عبر مكبرات الصوت، إطلاق خطب التهديد والوعيد للألبان المسلمين. وفي اليوم نفسه، أصدرت محكمة في مدينة بيتش، على بعد تسعين كيلومتراً إلى الغرب من برشتينا، أحكاماً قاسية على 19 مسلماً ألبانياً، بتهمة التحريض على عمليات إرهابية. هذا في ما تتابع الجمعيات الاستيطانية الصربية في كوسوفو، مثل "حركة النهضة" و"الأخوات الصربيات" و"مقاتلو صرب 1991 ـ 1992" … وغيرها، تنفيذ مخططات التطهير العرقي. إذ شملت نشاطاتها إخراج حوالي 300 عائلة من مساكنها، في منطقة سوخاريكا، لإسكان النازحين الصرب من كرواتيا والبوسنة. كما شيدت 33 مسكناً و18 محلاً تجارياً في مدينة بريزرين، للصرب القادمين من مناطق أخرى؛ مع تقديم قروض سخية ومساعدة، إلى كل صربي يريد الانتقال إلى كوسوفو. وامتدت عمليات التطهير العرقي لتشمل المجالات كلها، إذ تم طرد تسعين بالمائة من العمال الألبان من وظائفهم وأعمالهم، بذريعة تعاونهم مع (الانفصاليين).

سابعاً: التطهير العرقي Ethnic Cleansing

لقد برز مصطلح "التطهير العرقي" في المجال السياسي فجأة، بدءاً من عام 1992، مع اتساع نطاق العمليات الوحشية، التي مارستها القوات والميليشيات الصربية والكرواتية، ضد مسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفو. وهو تعبير خطير، يعني أن كل قوة دولية غاشمة، تطمع في أراضي وثروات جيرانها، تزعم أن من حقها تجاوز كل القوانين والحدود والأعراف الدولية، وقتل وطرد واعتقال كل من تعتبرهم دخلاء على قوم وجنس هذه الدولة، وإبادتهم حتى تخلو الأرض فقط لأبناء جلدتها وديانتهم. فباسم التطهير العرقي، اجتاح الصرب أراضي البوسنة ومدنها لتنفيذ خطتهم للاستيلاء على أراضي هذه الجمهورية، وطرد المسلمين منها، حتى تكون خالصة فقط للصرب. (اُنظر خريطة خطة احتلال البوسنة والهرسك).

ومن أجل ذلك، ارتكب الصربيون صنوفاً من أبشع الجرائم، التي لم يشهد لها تاريخ أوروبا مثيلاً. فبالقتل والظلم والذعر، وبالدماء والدمار والاغتصاب ... قتلوا أكثر من 300 ألف شخص من مسلمي البوسنة، وطردوا وشردوا أكثر من ثلاثة ملايين مسلم آخرين، هربوا من المذابح ومعسكرات الاعتقال والتعذيب إلى دول مجاورة، في النمسا والمجر وكرواتيا وسلوفينيا وألمانيا، تاركين أراضيهم وأموالهم وأهاليهم وتاريخهم. كما ثبت اغتصاب الصربيين والكروات لما يزيد على خمسين ألف امرأة وفتاة بوسنية، وهدموا بالمدافع والطائرات وأعمال النسف والتدمير، الكثير من مدن المسلمين وقراهم، مستهدفين أساساً إزالة كل الآثار والمعالم التاريخية، التي تثبت الهوية الإسلامية لهذه البلاد وأهلها، عبر التاريخ. هذا إلى جانب تدمير وتخريب كل ما طالته مدافعهم وأياديهم، من بيوت ومساجد، ومتاحف ومدارس، ومستشفيات وجسور، ومحطات مياه وطاقة كهربائية ومصانع. وقد تكرر ذلك منهم غير مرة (اُنظر ملحق قالوا عن البوسنة والهرسك).

ولم يتورَّعوا عن ذبح نائب رئيس البوسنة، جهاراً نهاراً، وهو في عربة مصفحة، ترفع علم الأمم المتحدة. كما بقروا بطون الحوامل من النساء، وقتلوا الأطفال بالرصاص، أو بالحرق، أو بإغراقهم في مياه البحر والأنهار. هذا غير ما ارتكبوه من صنوف التعذيب الوحشية في حق الشباب من الأسرى المسلمين في معسكرات الاعتقال. وهو ما يفوق ما فعله جنكيز خان و شارلمان و ستالين و هتلر ... وغيرهم من مشاهير الطغاة في التاريخ، بل وصل الأمر بالصربيين إلى حرق مدن وقرى بتمامها، بمن فيها من المسلمين، الذين منعهم الصرب من الخروج منها، حتى يموتوا حرقاً، مثل مدن وقرى هرانكو ودوبانيس وستوبتى دول. ناهيك بما فعلوه في العاصمة سيراييفو، حين حاصروها ومنعوا عن سكانها جميع مقومات الحياة، إلى جانب إمطارهم، يومياً، بآلاف الأطنان من قذائف المدفعية والدبابات، ومنع قوافل الإغاثة الدولية من الوصول إليها، حتى يموت أهلها جوعاً وعطشاً.

فقد أصبح كل سكان سيراييفو (300 ألف نسمة)، يعتمدون بشكل أساسي على المعونات الإنسانية، التي تقدمها إليهم المفوضية العامة للاجئين، وما يسمح به الصرب من مرور قوافل الإغاثة. فلقد أُدرج جميع سكانها على قوائم المعونة، التي توزع عبر 70 منفذاً للتوزيع، تقف أمامها صفوف السائلين، الذين يستجْدون 940 جراماً من الطعام للفرد الواحد، خفضت بعد ذلك إلى 630 جرام، وهو حد الكفاف الذي يبقيهم على قيد الحياة ... ورغم ذلك، فإن ما استطاعت المفوضية العامة للاجئين أن توفره من الغذاء، يراوح ما بين 25 و40 بالمائة من الكميات المقدّرة والمخفضة لسكان البوسنة المحاصرين. وقد ترتب على ذلك، أن كل سكان سيراييفو أصبحوا يعانون سوء التغذية، الذي سبب لهم أمراضاً كثيرة، نتيجة فقْد أجسامهم للمناعة، بعد أن هزلت. وهو أمر كان له تأثير محزن في الحوامل والمواليد، الذين أصيبوا بالكساح ولِين العظام والتشوهات الخلقية، وغيرها من الأمراض التي أصبحت شائعة بين الأطفال المسلمين في البوسنة. وإزاء هذا البؤس المخيم على سكان البوسنة، أصبح النساء يفضِّلن الإجهاض، والتخلص مما في بطونهن، على أن ينتظِرْنَ حتى يلِدْنَ أطفالاً ينتظرهم مستقبل كالح، لا تبدو فيه بارقة أمل ... لذلك، تزايدت معدلات الإجهاض بصورة خطيرة، فمقابل 50 امرأة كانت تجهض نفسها، كانت واحدة فقط تستبقي حملها حتى تلد. والنتيجة أن سيراييفو، التي كانت تستقبل حوالي 10 آلاف مولود سنوياً، لم تستقبل في عام 1992، سوى ألْفٍ فقط، وحتى هؤلاء الذين ولدوا، ازدادت بينهم التشوهات الخلقية بنسبة عالية، وجميعهم يعانون سوء التغذية.

ومن أكبر المدن المسلمة في البوسنة، التي تعرضت لعمليات تطهير عرقي، موستار التي حوصر فيها قرابة 60 ألف مسلم، بواسطة الكروات، بعد أن أجبروا 30 ألف مسلم على الجلاء عنها بالقوة، خلال إغارات ليلية، تعرضت لها المناطق المسلمة من المدينة، بواسطة العصابات الكرواتية، التي مارست عمليات التطهير العرقي بلا أي ضابط. وهو ما شهد به موظفو الأمم المتحدة، الذين منعهم الكروات من إدخال مواد الإغاثة إلى المدينة، كما رَوَوا كيف كان الكروات يجبرون مئات الآلاف من النساء والأطفال والمسنين على السير، عبر جسر يقع في خط إطلاق النار، لكي يصلوا إلى الضفة الشرقية من نهر تيريفا، بصورة بالغة القسوة. أما الرجال والشباب، الذين زجّت بهم السلطات الكرواتية في معسكرات اعتقال، فقد أجبرهم الكروات على العمل في خطوط القتال، في مواجهة نيران القوات المسلحة، بل استخدمهم الكروات أيضاً كدروع بشرية في عملياتهم الحربية ضد المسلمين. هذا في الوقت الذي مارست فيه الحكومة الكرواتية ضغوطاً متزايدة على مئات الآلاف من اللاجئين المسلمين، لكي يهاجروا منها إلى بلدان إسلامية، مثل باكستان وماليزيا. فقد كانت تخرِجهم من معسكرات الإقامة والأماكن الأخرى، التي وجدوا فيها على ساحل الأدرياتيكي، بدعوى أنها مناطق سياحية، لا تصلح لإيواء السائحين.

ولم تقتصر عمليات التطهير العرقي على المدن الكبرى، مثل سيراييفو وموستار، بل كانت أشد عنفاً في مدن مسلمة أخرى، مثل جورازدي في الشرق، التي حوصر فيها 70 ألف مسلم، وماجلاي، وزافيلاديفتش، التي تشكل رؤوس مثلث يقع على بعد 80كم شمال غربي سيراييفو. ويعتبر عزل ماجلاي جزءاً من خطة صربية لإيجاد ممر جنوبي، يشطر البوسنة إلى قسمين، ولربط المناطق التي استولى عليها الصرب في شمال البوسنة مع غربها. وهو ما يؤكد التواطؤ بين صرب البوسنة وكرواتها. ورغم إعلان الأمم المتحدة أن مدينة جورازدي تعتبر إحدى المناطق الآمنة، التي تكفلت الأمم المتحدة بأمن سكانها، فإن الصرب منعوا قوافل الإغاثة من دخولها، ووقع الأمر نفسه، بالنسبة إلى مدن أخرى، مثل ترنوفو التي طرد منها 8500 مسلم، ونوفي ساد في وسط البوسنة، و بركو، وتيسانى، ودوبوي، وسيربرنيتشا، التي تحولت إلى مقبرة جماعية، يضم ترابها جثث آلاف المسلمين، الذين قتلهم الصرب جماعات، وليس فرادى، تحت أعين رجال الأمم المتحدة، وهو ما شهد به موظفو الإغاثة الدولية. وكان مفتي يوغسلافيا السابق، يعقوب فلونسكي، قد صرح بأن خسائر المسلمين، منذ بداية الحرب وحتى نهاية أكتوبر 1992، بلغت 140 ألف قتيل وتدمير 750 مسجداً. وبنهاية أكتوبر 1992، قام الكروات بنزع أسلحة المسلمين، توطئة لطردهم من مدنهم في البوسنة. كما أفادت معلومات عن قيام الصرب بتلقيح نساء البوسنة بأجنة كلاب.

ولقد نقلت وكالات الأنباء، في 10 نوفمبر 1992، وصفاً لعملية إجلاء مسلمي سيراييفو، قالت فيه: "تجمع في عاصمة البوسنة والهرسك، سيراييفو، ألوف السكان، الذين ينوي الصليب الأحمر إجلاءهم عن المدينة، التي يحاصرها الصرب منذ بداية الحرب، ويقدَّر عددهم بحوالي ستة آلاف شخص، معظمهم من المسلمين، وتستثني عملية الإجلاء الذكور من هم في سن الخدمة العسكرية. ولقد شاهد المراسلون الصحفيون مناظر مؤثرة للعائلات، وهي تودّع أفرادها المغادرين. ومن المقرر أن يغادر المدينة المحاصرة ستة آلاف شخص في إطار أكبر عملية تهجير من نوعها".

ومن معالم التطهير العرقي، الذي مارسه الصرب ضد مسلمي البوسنة، محاولة القضاء على كل ما يمتّ إلى الحضارة الإسلامية بصِلة، أو يذكِّر بها. فعندما ترك الأتراك العثمانيون البوسنة والهرسك، بعد حكم دام خمسة قرون، تركوا وراءهم تراثاً ثقافياً وحضارياً، يصعب اقتلاعه أو تناسيه. إلا أن رغبة الصرب في إزالة كل ما يربط البوسنة بهذه الحضارة، دفعتهم إلى تخريب ومحو كل معالم الحضارة الإسلامية. وهي قائمة طويلة، لا يمكن حصرها ... نذكر منها مسجد الباي، وهو من أعظم المساجد في أوروبا.

فقد دمرت المدفعية الصربية مآذنه وجزءاً كبيراً من مبانيه. كذلك مسجد الداز في فوكا، إضافة إلى أكثر من 700 مسجد أثري ضخم، منها 16 مسجداً في بانيالوكا، معقل الصرب، التي كان يقيم فيها 50.000 مسلم، طردوا جميعاً بعد أن أزالوا جميع هذه المساجد من فوق سطح الأرض، ومن بينها ما يرجع تاريخه إلى عام 1630م. كما أكلت النيران مكتبة سيراييفو العظيمة، التي كانت تضم مخطوطات تاريخية ترجع إلى العهد العثماني. كما تعرضت مكتبة "خسرو بك" للقصف أكثر من خمسين مرة، والتي تحوي أكثر من 9000 مخطوطة إسلامية، إضافة إلى 3000 وثيقة تركية، وأكثر من 10.000 كتاب. هذا إضافة إلى معالم تاريخية مهمة تعرضت للتدمير، منها برج الساعة في دوبروفنيك، تلك المدينة التاريخية التي أقيمت على الساحل الدلماسي على الأدرياتيكي، في القرن السابع الميلادي، حيث تسببت قنابل الصرب والكروات بتدمير 653 أثراً حضارياً من بين 842 أثراً توجد فيها. كما دمَّر الصرب والكروات كذلك جسر موستار العريق، إضافة إلى تخريب 800 مركز ثقافي ديني في موستار، منها المركز التاريخي المحيط بالجسر القديم.

وقد قام الكروات بتدمير الأبراج الأربعة المحيطة بـ "ستاري موست" لكي يحولوا المدينة بعد ذلك إلى عاصمة الهرسك، بعد طرد المسلمين منها. والغريب في الأمر، أن هذه الآثار التاريخية، لم يمسها سوء طوال الحرب العالمية الثانية. والغريب أيضاً، أن تجري هذه الأعمال التخريبية ضد المعالم الحضارية الإسلامية، في الوقت الذي شهد فيه المراقبون الدوليون، بأن المسلمين حرصوا، أثن اء قتالهم، على عدم التعرض لأي كنيسة، سواء كانت أرثوذكسية أو كاثوليكية. وكان وزير خارجية فرنسا، قد وصف الأساليب الوحشية التي استخدمها الصرب والكروات ضد المسلمين في البوسنة، بقوله: "إن أقل ما يقال عنها، أنها أساليب وحشية بشعة، لا تمتّ إلى الإنسانية بِصِلة".

وكانت تقارير خاصة بدأت تظهر في الصحف الغربية، في عام 1993. أعدتها لجان دولية، قامت بالتحقيق في عمليات التطهير العرقي، التي مارسها الصرب والكروات في البوسنة خلال عام 1992. فقد كشف النقاب في لندن عن تقرير سري، رفعته بعثة تحقيق إلى المجلس الوزاري التابع للمجموعة الأوروبية، ذُكر فيه أن القوات الصربية في البوسنة والهرسك، قد عملت على تنفيذ وممارسة الاغتصاب المنظم لما لا يقل عن ثلاثين ألفاً من النساء والفتيات المسلمات، وأن مقاتلي الصرب يستخدمون الاغتصاب "سلاحاً في الحرب". وجاء في التقرير: "إن الاغتصاب أو التهديد بالاغتصاب، لا يزال مستخدماً لتنفيذ سياسة التطهير العرقي، بإشاعة الرعب وسط مسلمي البوسنة والهرسك، لتهجير المدنيين المسلمين من ديارهم. وإن حجم المعاناة التي يعيشها المسلمون يفوق الوصف. ولقد قضى الكثير من ضحايا عمليات الاغتصاب الجماعي نحبهم، وكان بينهم أطفال لم يتجاوزوا السادسة أو السابعة من العمر. كما لا يزال الناجون يعانون آثار الصدمة النفسية، التي خلفتها الاعتداءات البشعة. كما وجد المحققون أنه غالباً ما كان يتم اغتصاب الفتيات أمام آبائهن وأمهاتهن، والأمهات أمام أطفالهن، والزوجات أمام أزواجهن.

وقال وزير الخارجية الأيرلندي، ديفيد أندروز، الذي شارك في بعثة التحقيق، في تصريح له في دبلن: "إن من الواضح أن بعض عمليات الاغتصاب، يُرتكب بطريقة سادية للغاية، كي يُلحق بالضحايا أكبر قدر من المهانة. لذلك، أصبح الاغتصاب أداة حرب وليس نتاجاً جانبياً لها". وكانت قمة أدنبرة لدول المجموعة الأوروبية، قد طلبت من أندروز المشاركة في التحقيق، الذي ترأسه الدبلوماسية السابقة آن داربرتون. وتم توزيع التقرير على وزراء الخارجية، كما أرسل أيضاً إلى الأمم المتحدة، التي شكلت "هيئة للتحقيق في جرائم الحرب"، مقرها جنيف.

وكان المحققون الأوروبيون قد استمعوا، في العاصمة الكرواتية، زغرب، إلى شهادات حية لضحايا الاغتصاب. كما تلقوا تقارير لمسؤولين في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، جاء في إحداها: "وجَّه خبراء كرواتيون، يبحثون في جرائم الحرب في البوسنة والهرسك، اتهامات إلى صرب البوسنة باغتصاب ثلاثين ألف امرأة من المسلمات. وذكروا أسماء (15) معسكراً صربياً، أُنشئت خصيصاً لارتكاب هذه الجرائم.

وقد وجّه اختصاصيون في علم النفس وعلم الاجتماع وأطباء نساء ومحامون، اتهامات الاغتصاب الجماعي إلى الصربيين في البوسنة. كما وجّه هذه الاتهامات أيضاً "مركز أبحاث جرائم الحرب والإبادة ـ التابع للجمعية الكرواتية للضحايا"، حيث أشارت تقديرات المركز، نقلاً عن شهادات هيئات حكومية وخيرية، أجرت مقابلات مع ضحايا الاغتصاب، إلى أن ثلاثين ألف امرأة من المسلمات، اغتُصبن من جانب الصرب، منذ تفجرت الحرب الأهلية في البوسنة، في أبريل 1992. وقال رئيس المركز، زنوينمبر سبباروفيتش ـ وهو أيضاً وزير خارجية سابق في كرواتيا ـ إنه من المتعذر ذكر تقديرات دقيقة، نظراً إلى طبيعة المشكلة، إذ إن معظم النسوة لا يرغبن في التحدث عن حالتهن، ولا بكشف وضعهن إلا عندما يستنجدن بأطباء النساء أو يحاولن الانتحار. وقالت نينا كاديتش، من جماعة النساء الكرواتيات، تريسنيفكا، إنها جمعت أقوالاً من حوالي سبعين امرأة من ضحايا الاغتصاب، أفادت أن من بين 15 معسكراً أقامها الصرب لتنفيذ عمليات الاغتصاب، يعتبر معسكر ترينبولي من أسوأ تلك المعسكرات، وتراوحت أعمار المحتجزات فيه بين 12 و17 سنة. وقد تعرضت المحتجزات للاغتصاب مراراً، وبطرائق وحشية. وكان المتطرفون الصربيون يأتون ليلاً، ويقتادون الفتيات إلى منازل في المنطقة ومراكز أُعدَّت لهذا الغرض في فنادق ومنتجعات، استولت عليها قوات غير نظامية من الصرب. وقد أقيم معظم المعسكرات في مناطق، طردت منها هذه القوات جماعات من المسلمين في إطار حملة "التطهير العرقي.

واعتبر رئيس مركز أبحاث جرائم الحرب الكرواتي، أن عمليات الاغتصاب الجماعي، من أشكال الإبادة الجماعية، التي لم تتعرض لها الاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان بالبحث كما يجب، في حين أنها، واقعياً، تشكل جريمة خاصة، ويجب أن تشملها معاهدة جنيف" 

ثامناً: استغاثة الحكومة البوسنية

يلخص نائب رئيس البوسنة، سالم شابتش، الموقف في حديث له، جاء فيه: "إن ما يجري في عاصمة الصرب، بلجراد، هو ممارسة لعبة سياسية، تمثل عقلية القيادة الصربية، القائمة على الخداع والكذب. لقد سبق للرئيس البوسني، علي عزت بيجوفيتش، أن التقى رئيس يوغسلافيا السابقة، دوبريتسا تشوسيتش، واتفق معه على اعتراف جمهورية الصرب بجمهورية البوسنة والهرسك.

إلا أن الجانب الصربي عاد فتنكر لوعوده، وسار على طريق التقسيم، واعتقد أن جمهورية البوسنة ستبقى قطعة واحدة، ولن تقسم. فالتقسيم الذي يدعو إليه زعيم صرب البوسنة رادوفان كارادازيتش، وزعيم كروات البوسنة، ماتي بويان، سيجعل صرب البوسنة يدفعون ثمناً غالياً، هو الخضوع لجمهورية الصرب وعقليتها المتخلفة. وعلينا أن نذكر أن في جيش البوسنة مقاتلين من المسلمين والصرب والكروات. وأما بالنسبة إلى موقف أوروبا من الصراع، فقد سقطت أوروبا في هذا الامتحان، إذ سمحت بتنفيذ عملية إبادة للمسلمين في البوسنة، رغم كونهم جزءاً من المجموع الأوروبي، وذلك بالسكوت وعدم التدخل. وأعتقد أن الصرب حصلوا على ضوء أخضر من أوروبا للقيام بجريمتهم، ولا أجد سبباً لذلك سوى أننا مسلمون.

إن الذين وقفوا ضد رفع الحظر عن إرسال السلاح إلى البوسنة، قد أعطوا بذلك إذناً للصرب بالقيام بحربهم هذه، وأخص بالذكر الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن. إذ تجري هذه المذابح تحت حماية الرئيس الأمريكي، جورج بوش، وستكون قضيتنا العادلة امتحاناً حقيقياً للرئيس الأمريكي الجديد، بيل كلينتون، ولقد اتصلنا به ونتوقع منه موقفاً جديداً، لأن أمريكا أدركت أن الوضع خطير، ويمكن أن يؤدي إلى حرب واسعة، وربما عالمية. وفي ما يتعلق بمواقف الدول الإسلامية، فإن هذه الدول جميعها لم تقف معنا كما ينبغي. نحن لا نريد أن نبني مركزاً إسلامياً في وسط أوروبا، لنتلقى عدة ملايين من الدولارات؛ إنما نريد أن ننقذ دولة تدمر بالكامل، وشعباً يشرد ويقتل.

ونحن نحاول، منذ بداية الحرب، الاتصال بالدول الإسلامية. وإنني أشعر بخيبة أمل كبيرة. إن لتركيا مثلاً مسؤولية تاريخية، ولكنها لم تفعل شيئاً يذكر. وأعطتنا البلدان الإسلامية مساعدات في حدود مائة مليون دولار، إلا أن الشعوب الإسلامية كانت أكثر حماسة وتفاعلاً من الحكومات. فعلى سبيل المثال، لا يوجد لدينا وقود لتدفئة مستشفياتنا المكتظة بالجرحى، ونحلم برؤية عشرات السفن الناقلة للنفط آتية لنصرتنا، لكننا لا نرى شيئاً. زارتنا عشرات الوفود الشعبية، ولم يصلنا وفد رسمي واحد. لم أتحدث هكذا من قبل، ولكن الوضع صعب، وأبناء شعبي يموتون قتلاً أو برداً أو جوعاً. إنني أشعر بمرارة شديدة … لقد بات من الضروري أن تحصل البوسنة على ما تحتاج إليه من مساعدات إنسانية، إضافة إلى السلاح الذي نحتاج إليه لتحرير أراضينا والدفاع عنها".

تاسعاً: حرب الممرات، في نهاية 1992

أدى الموقف الغربي، الرافض للتدخل العسكري في البوسنة، إلى تشجيع الصرب، في نهاية عام 1992، على استئناف عدوانهم على مسلمي البوسنة. ففي الأول من شهر ديسمبر 1992، وهو يوم افتتاح اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي، في جدة لبحث قضية البوسنة ـ تناقلت وكالات الأنباء أخباراً عن اشتداد المعارك في البوسنة والهرسك، حول ما سمي، آنذاك، بـ "حرب الممرات". حيث ذكرت: "دخلت ـ حرب الممرات ـ كما يسميها المعلقون مرحلة ضارية جديدة في البوسنة، فقد واصلت قوات الصرب شن هجماتها على مدينتَي جراداجاتش في الشمال الشرقي، وبيهاتش في الغرب، في محاولتها لتأمين ممرات تربط بين المناطق التي يحتلها الصرب في البوسنة ومثيلاتها في جمهورية كرواتيا المجاورة، كذلك مع جمهورية الصرب. وأصبحت مدينة جراداجاتش محاصرة من كل الاتجاهات، باستثناء طريق واحد يصلها بمدينة توزلا، ويسمح بمرور المساعدات إليها. وهي تتعرض لقصف مدفعي كثيف ومستمر، في الليل والنهار. ويركز الصرب نيرانهم على المعالم التاريخية والحضارية في المدينة، وأولها المساجد، إضافة إلى المستشفيات و المدارس.

واختلف الوضع، هنا، عنه في مدينة باييتسا، التي سقطت من قبل فيقبضة الصرب، إذ إن القوات الإسلامية، هنا، أوفر عدداً، وأمكنها إحباط هجمات الصرب، على الرغم من ضعف التسلح، وتفوق الصرب عدداً وعدة، وعلى الرغم من دعم الطائرات العمودية باستمرار للقوات الصربية، متحدية بذلك الحظر الجوي، الذي فرضته الأمم المتحدة على البوسنة والهرسك. وقد تبّين أن القتال في الشمال قد ألغى الهدنة، التي عقدت بإشراف الأمم المتحدة، بين الصرب والكروات، والتي نصت على وقف القصف المدفعي، لكي يتمكن الكروات من الانسحاب عبر الحدود، غير أن الصرب خرقوا الاتفاق من طريق استخدام المدفعية بكثافة في كل المناطق. أما مدينة بيهاتش المحاصرة في الغرب، فقد تعرضت، بدورها، لقصف مدفعي شديد.

كما دفع الصرب إليها وحدات من المشاة في محاولة لتدمير خطوط الدفاع، إلا أن المحاولة فشلت، وتمكنت القوات المسلمة من محاصرة جيب لقوات الصرب في ضاحية جرايتش الشمالية. ويستمر الصرب في محاولاتهم، في ما يسمى بحرب الممرات، لتأمين ثلاثة محاور برية، تنطلق من مدينة بانيالوكا، التي يعتبرها صرب البوسنة عاصمتهم: فينطلق المحور الأول شرقاً، في اتجاه مدينتَي جراداجاتش وبرتشكو المسلمتَين، واللتين ترتكز عليهما قوات البوسنة في تهديدها للطريق الموصل إلى مدينة بيلينا، التي يحتلها الصرب، والواقعة على حدود البوسنة مع جمهورية الصرب.

أما المحور الثاني، فيمتد من بانيالوكا غرباً إلى بيهاتش، التي يعني سقوطها فتح الطريق إلى كنيف، عاصمة إقليم كرايينا، الصربي في جمهورية كرواتيا. ويتجه المحور الثالث نحو العاصمة سيراييفو. وقد نجح الصرب، في هذا المحور، في احتلال مدينة باييتسا. وهم يهددون، الآن، مدينة ترافنيك، التي يدافع عنها المسلمون والكروات، وهي ملجأ عشرات الآلاف من سكان وسط البوسنة المسلمين، والذين شردهم العدوان الصربي وسياسة التطهير العرقي". (اُنظر خريطة حرب الممرات الثلاثة)

عاشراً: انتقال التطهير العرقي إلى كوسوفو

شرعت القوات الصربية، وقد شجعتها الانتصارات التي حققتها، توسع نطاق عمليات التطهير العرقي. وقد ظهرت شواهد هذا التطور في مقدونيا، كما في إقليم كوسوفو. وهذا ما دفع القائم بأعمال وزير الخارجية الأمريكي، لورنس إيجلبرجر، إلى توجيه تحذير إلى الصرب في 29/11/1992، جاء فيه: "إن أي محاولة صربية لتنفيذ ما يسمى بالتطهير العرقي، في إقليم كوسوفو بجمهورية الصرب، ستتحول سريعاً إلى صراع دولي. وإن مثل هذا العمل، سيكون مختلفاً اختلافاً نوعياً عن الوضع في البوسنة والهرسك. وإن السياسة الأمريكية ستكون بإزائه مختلفة. وإذا ما حدث انفجار للوضع في كوسوفو، فلن يلبث أن يصبح دولياً، بمعنى تورط ألبانيا واليونان ومقدونيا وبلغاريا فيه. وأعتقد أننا سنضطر إلى اتخاذ موقف مختلف منه".

وقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، في اليوم نفسه، عن وصول مجموعة من مراقبي الأمم المتحدة إلى مقدونيا، لتقويم الأوضاع هناك، وسط معلومات عن التوتر الطائفي المتصاعد في هذه الجمهورية. وقد كُلِّف الفريق المكون من 14 مراقباً دولياً بإعداد تقرير في شأن نشر قوة أكبر من العسكريين والشرطة، التابعين للأمم المتحدة، لتعزيز الأمن والثقة في هذا البلد، الذي لا يطل على البحر، ويعيش فيه نحو مليونَي مسلم. كما وجهت الولايات المتحدة الأمريكية، تحذيراً جديداً إلى الصرب، في يوم 14/12/1992، عندما طلب وزير خارجيتها، لورنس إيجلبرجر، إلى وزراء مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيين، العمل على: "تحديد مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في يوغسلافيا السابقة، بالاسم، وأن يحالوا شخصياً إلى المحاكمة، أسوة بما حدث لشركاء هتلر في محاكمات نورمبرج (عقب هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية). والعمل كذلك على توسيع نطاق مهام مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، للمساعدة على تعزيز العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة، ومن ثم، زيادة الضغوط على الذين يواصلون الحرب".

ولقد أدت التفرقة في المعاملة الغربية بين ممارسات الصرب في البوسنة، وممارساتهم في كوسوفو ومقدونيا، إلى بروز كثير من التساؤلات بين المراقبين في العالم، إذ أرجعوا ذلك إلى تخوف الدول الغربية من أن تكون كوسوفو ومقدونيا، في حالة انتقال الحرب إليها من البوسنة، سبباً في توسيع نطاق الحرب، لتشمل باقي دول البلقان المملؤة ببؤر بالتوتر، مما يهدد الدول الأوروبية الأخرى، بالنظر إلى وجود مشاكل أقليات لا حصر لها، من الممكن أن تفجِّر حروباً إقليمية وداخلية، لا نهاية لها.

ومن ثم كشفت هذه التفرقة عن رغبة غربية في إبقاء الصراع الدائر في البوسنة داخل إطارها، محاصراً، يحرق أطرافها، حتى لا يكونوا قادرين على توسيع أنشطتهم، سواء في ذلك الصرب أو الكروات أو المسلمون، إلى خارج نطاق البوسنة والهرسك. وقد عبَّر عن هذا الرأي تقرير، نشرته صحيفة "تشرين" السورية، في عددها بتاريخ 8/12/1992، نقلاً عن الأمين العام لاتحاد أوروبا الغربية، قالت فيه: "تتجه معظم المبادرات الأوروبية والدولية حيال الأزمة في يوغسلافيا السابقة، حتى الآن، اتجاهاً مغايراً لما يجري على أرض جمهوريات هذه الدولة، التي كانت اتحادية.

واقتصرت في معظمها على معالجة سطحية لنتائج ما أسفرت عنه عملية الاقتتال والتهجير العرقي، وبعيدة في مضمونها عن وضع مسار صحيح لإنهاء هذه المسألة، مما دفع أوروبا إلى إعلان خوفها من توسع رقعة هذه الحرب لتشمل منطقة البلقان، وربما امتدادها نحو أوروبا كلها؛ وهي على أبواب الإعلان عن وحدتها الاقتصادية والنقدية والسياسية. إذ يرى الأمين العام لاتحاد أوروبا الغربية، فيسيلليم فان إيكيليني، في هذا النسق: "أن الأزمة اليوغوسلافية تهدد السلام في أوروبا، وعليها واجب استخدام القوة، إذا لزم الأمر، حتى تتمكن من استعادة مصداقيتها. إن الواجب يملي على الأوروبيين الانتقال من الأقوال إلى الأفعال، لمواجهة توسع صربيا، التي تغتنم فرص خرق اتفاقيات وقف إطلاق النار، وتبسط نفوذها لتعلن، بعدئذ، عن اكتمال مشروع دولة صربيا الكبرى … وأعتبر أن التدخل الإنساني قد بلغ أقصى حدوده الممكنة، وبات من الضروري التحرك بسرعة لفرض الالتزام بالحصار، بحراً وبراً وعلى نهر الدانوب، مع رومانيا وبلغاريا، والإعلان بعد ذلك عن الأهداف في ما يتعلق بالمساعدة الإنسانية، وفعل كل شيء لتحقيقها؛ أي مواكبة القوافل واستخدام القوة، بما فيها القوة الجوية إذا لزم الأمر. وأخيراً إقامة مناطق أمنية (محمية) .. قد يكون من المؤسف تخوف الأوروبيين من المجهول ومن التصعيد. ولكن هل لدينا أي خيار؟ إن على أوروبا استعادة مصداقيتها، وإلا فإننا سنواجه حرباً تتسع رقعتها إلى منطقة البلقان كلها؛ وانهيار كل مبادئ مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، التي كانت وراء كل تقدم تم تحقيقه في أوروبا منذ سنة 1975".

ويمثل ما جاء في تقرير وزير الدفاع الهولندي، فيسيللم فان إيكيليني، إلى حد كبير، الموقف الأوروبي تجاه أحداث البوسنة والهرسك في هذا العام، حيث ينصب الاهتمام الأوروبي على أوروبا في الأساس. ومن ثم، فإن توسع دائرة الصراع، قد يزجّ ببلدان إسلامية (ألبانيا وتركيا)، وقد يترتب على ذلك انتقال الصراع إلى ما وراء أوروبا، أو دفع دول إسلامية أخرى، مثل إيران، إلى دائرة الصراع في البلقان. إذاً، فالحصار المفروض على البوسنة والهرسك، يهدف، في جملة ما يهدف، إلى عزل المسلمين في البوسنة والهرسك عن العالم الإسلامي. وقد يكون ذلك هو التفسير المقبول لمحاولة المنظمات "الإنسانية" الأوروبية المتكررة الحصول على مساعدات من الدول الإسلامية، وتقديمها باسم تلك التنظيمات الغربية إلى البوسنة. كذلك الأمر بالنسبة إلى الموقف الأوروبي من تسليح مسلمي البوسنة والهرسك، أو التصدي الأوروبي الحازم لمحاولات إرسال متطوعين من الدول الإسلامية، للقتال إلى جانب إخوانهم المسلمين في البوسنة.

حادي عشر: إلقاء القنابل في مساجد بلجراد

وقد استمر الصرب في استفزازاتهم المسلمين. من ذلك ما تناقلته وكالات الأنباء، مع اقتراب عام 1992 من نهايته، من تصعيد للأعمال العدوانية، عن قيامهم بإلقاء قنبلة في باحة مسجد البيرق، بعد صلاة العشاء يوم 8/12/1992، وهو المسجد الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن السابع عشر، والمسجد الوحيد الذي بقى من أصل أكثر من خمسين مسجداً وتكيّة، كانت في بلجراد أيام الحكم العثماني. وقد علق الشيخ حمدي يوسف سباهيتش، إمام المسجد على ذلك بقوله: "إن الله وحده هو الذي أنقذ المصلين، الذين كانوا قد غادروا المسجد لتوهم، بعد صلاة العشاء". وكانت قد وقعت عملية إجرامية مماثلة، قبل ذلك بأيام، استهدفت مسجد مدينة نيش، الواقعة على مسافة 200 كم من بلجراد. إلا أنه تم، بعون الله، إبطال مفعول اللغم المتفجر، قبل دقائق معدودة من موعد انفجاره. وتتحمل الجهات الأمنية الصربية مسؤولية مثل هذه الأحداث، بسبب عدم حماية المسجد، على الرغم من أنها أحيطت علماً بالتهديدات المتصاعدة ضد المسلمين.

ولقد جاءت هذه الأحداث في إطار حملة مسعورة ضد المسلمين، شنتها جهات متعصبة في جمهورية الصرب، خصوصاً أن الاعتداء على المسجد، قد جاء بعد يومين متتاليين، عرض فيهما تليفزيون بلجراد برامج تستهدف المعتقدات الإسلامية، وتضع الجهاد الإسلامي في إطار الإرهاب والقتل والاغتصاب.

ثاني عشر: كارادازيتش يهدد بنشوب حرب عالمية ثالثة

في الوقت الذي كانت تتعرض فيه سيراييفو لحصار طويل وقصف مستمر وتجويع، مما حمل هيئات الإغاثة الدولية على بذل جهودها للسماح للمدنيين، من شيوخ ونساء وأطفال، بمغادرة المدينة. وتم بالفعل تنظيم عملية الإخلاء تحت إشراف دولي، ولم يبقَ فيها إلا الرجال المدافعون عنها، الذين أمكنهم إحباط كل المحاولات التي قام بها الصرب للاستيلاء على المدينة، مستهدفين إزالة آخر رمز لجمهورية البوسنة والهرسك من الوجود ـ في هذا الوقت عينه، كان كارادازيتش يصرح بأن في استطاعة الصرب الاستيلاء على المدينة في أي وقت، ويتهم حكومة البوسنة بأنها لا تسمح للسكان بمغادرتها، ومن ثم، فهي المسؤولة عما يتعرضون له من معاناة.

وقد أرسل كارادازيتش، في الوقت نفسه، رسالة إلى الوسيطين الدوليين، فانس وأوين، جاء فيها: "إن استمرار الأسرة الدولية في ممارسة ضغوطها على الصرب، هو عمل يحمل خطر حرب عالمية ثالثة. وإذا لم توقف الأسرة الدولية ضغوطها من جانب واحد على القسم الصربي، فإن الأحداث ستتسارع وتقرِّبنا من حرب عالمية ثالثة. وإن الأسرة الدولية تتحمل مسؤولية هذا التطور المحتمل، باعتبار أنها تشجع الكروات والمسلمين على مواصلة الحرب ضد الصرب، والذين يحضرون لهجوم واسع على المواقع الصربية، في الربيع القادم".

وفي الوقت الذي كان فيه كارادازيتش، زعيم صرب البوسنة، يرسل هذه المذكرة مهدداً بحرب عالمية ثالثة، إذا لم تتوقف الضغوط على الصرب ـ كان رئيس صربيا، ميلوسيفتش، يعلن أن الحصار الاقتصادي والضغوط الدولية لا تؤثر في الصرب.