إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / حرب أكتوبر1973، من وجهة النظر المصرية




لواء طيار/ محمد حسني مبارك
لواء/ محمد سعيد الماحي
إنشاء الكباري للعبور
اللواء بحري فؤاد ذكري
اللواء طيار صلاح المناوي
اللواء سعد مأمون
اللواء عبدالمنعم خليل
اللواء فؤاد نصار
المشير أحمد إسماعيل علي
المشير عبدالغني الجمسي
السادات أثناء عرض الخطة
السادات في أحد اللقاءات
السادات في زيارة تفقدية
الفريق محمد علي فهمي
الفريق سعد الدين الشاذلي
الفريق عبدالمنعم واصل
كمائن الصواريخ
علم مصر فوق سيناء
عميد أ.ح/ عبدالحليم أبو غزالة
عميد مهندس/ أحمد حمدي
عميد منير شاش
فتح الثغرات
قوارب المشاة تقتحم القناة

أوضاع القوات 7 أكتوبر
أوضاع قوات الجانبين
إحدى نقط خط بارليف
معركة اللواء 25 مدرع
المناطق المحتلة عقب 1967
النقط المكونة لخط بارليف
التطوير يوم 12 أكتوبر
التطوير شرقاً للعملية بدر
الخطة الإسرائيلية للعبور
حجم وأوضاع القوات الإسرائيلية
خطوط فك الاشتباك الثاني
خطة العمليات الهجومية الأولى
خطة العمليات الإسرائيلية
خطة العمليات جرانيت 2
جغرافية شبه جزيرة سيناء
طبوغرافية الأرض شرق القناة

أوضاع قوات الطرفين 1967
معركة الفردان 8 أكتوبر
الخطة شامل لتصفية الثغرة
تأثير عناصر الدفاع الجوي
حجم وأوضاع القوات المصرية
خطوط فك الاشتباك الأول
طبوغرافية الأرض غرب القناة
طبيعة قناة السويس



حرب عام 1967

المبحث الأول

الخلفية التاريخية

تواصلت الحرب، ما بين نهاية الجولة الثالثة (هزيمة يونيه 1967) وبداية الجولة الرابعة (نصر أكتوبر 1973)، وعُرِفَتْ بحرب الاستنزاف، والتي اتخذت أشكالاً عديدة. بداية من الوضع الذي انتهت إليه قوات الطرفين، العرب في مصر وسوريه والأردن، وإسرائيل، وحتى الأوضاع التي بدأت بها حرب أكتوبر 1973، وشتان بين الوضعين، عسكرياً، وسياسياً، واجتماعياً. أما الوضع الاقتصادي، فكان مازال في صورته الصعبة.

كان المجال السياسي الأسرع في الحركة، لاستعادة الحد الأدنى من الاتزان، وتهيئة المناخ المناسب لباقي المجالات لاستعادة توازنها تدريجياً. لم يكن في الوطن العربي من يدري لماذا؟ وكيف؟. أما لماذا، فكانت عن الماضي، لماذا وقعت الكارثة، والتي خففت فسميت "بالنكسة"، وكان من الممكن تأجيل البحث عن لماذا كانت الكارثة حتى وقت آخر، فقد وقعت وانتهى الأمر. أمّا كيف، فكانت أكثر إلحاحاً، كيف يمكن الصمود في ظل هذا الظلام القائم، وكيف تجنب تداعيات أخرى أكثر حدة؟. أجابت السياسة عن ذلك أولاً في مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، الذي عقد في 29 أغسطس 1967، بمشاركة رؤساء إحدى عشر دولة عربية، هم دول المواجهة الأربع (مصر والأردن وسورية وهي الدول التي هزمت في الحرب، فضلاً عن لبنان الذي لم يشارك في الحرب)، ودول العمق الخمس (العراق والكويت والمملكة العربية السعودية والسودان وليبيا، وتسمى أحياناً دول الطوق)، وثلاث دول من المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب).

كانت قرارات مؤتمر قمة الخرطوم، تمثل أصداء الوطن العربي لرفض النكسة والهزيمة، وتعبر عن الإمكانات العربية وقدراته وآماله. لذلك كانت القرارات ترفض ما نتج عن الهزيمة.

قدمت الدول النفطية، المشاركة في المؤتمر، الدعم المالي للدول المنكوبة، تعويضاً عن خسائر الحرب، ودعماً لها لاستعادة قوتها العسكرية، لمواجهة المرحلة القادمة، والتي وضح أنها "جولة عربية رابعة آتية لا ريب".

كذلك، فإن المجال العسكري، بدأ في استعادة إتزانه، رويداً، رويداً، ووضح عزم القوات المسلحة على الصمود. فبعد أيام قليلة من وقف القتال (أول يوليه 1967)، تصدت قوة محدودة من الصاعقة، في موقع في ضاحية بور فؤاد، شرق بور سعيد، والتي كانت الموضع الباقي في يد القوات المصرية شرق القناة، لرتل من المدرعات والآليات الإسرائيلية، واشتبكت معه بقوة، وأرغمته على الانسحاب شرقاً، متحملاً خسائر جسيمة[1].

في 14 يوليه من العام نفسه، هاجمت الطائرات المصرية المقاتلة القاذفة، التي نجت من الدمار، المواقع الإسرائيلية في عمق سيناء المحتلة، وواجهت الطائرات الإسرائيلية المتفوقة، وأحدثت المفاجأة ارتباكاً للقيادة الإسرائيلية والطيارين كذلك، وتمكنت الطائرات المصرية من تنفيذ مهامها والعودة.

وفي 21 أكتوبر 1967 كذلك، وعقب مؤتمر الخرطوم بأقل من شهرين، تصدي زورقيّ صواريخ سطح / سطح مصرية، لأكبر القطع البحرية الإسرائيلية ـ المدمرة إيلات[2] ـ وأغرقتها في هجوم خاطف، قلب نظريات القتال البحري رأساً على عقب، وغير من الفكر الإستراتيجي لبناء القوات البحرية واستخدامها.

كان من الواضح أن القوات المسلحة المصرية، وكذلك السورية، قادرة على الصمود وتخطي المحنة، وكان يعوزها بعض الوقت لتسترد عافيتها وقدراتها القتالية، وسميت هذه المرحلة "بالصمود" مستهلة حرب استنزاف للعدو على الجبهات الثلاث، بدرجات متفاوتة.

أولاً: الأحوال السياسية السائدة

1. المناخ السياسي الدولي

استمرت حالة الهدوء، في الحرب الباردة التي سادت العلاقات بين الدولتين العظميين، حتى تولى الرئيس الأمريكي الجديد ريتشارد نيكسون مهام منصبه في 20 يونيه 1969، حيث رأى ضرورة تسوية المنازعات الدولية، واحتواء الصراعات القائمة، وتشجيع الاعتدال وحلول الوسط، ونادى بالدخول في عصر التفاوض، بين الدولتين العظميين، وهو نفس ما رآه القادة السوفيت في هذا الوقت، حيث كانوا يرغبون التفرغ للمشاكل الداخلية، التي بدأت تعصف بالاتحاد السوفيتي، وأصبحت أكثر إلحاحاً، وغير قابلة للتأخير.

أدت السياسة الأمريكية الجديدة (عصر التفاوض) والتي وافق عليها السوفيت إلى حالة من الانفراج في العلاقات الدولية، أثرت في نظرة القطبين لمشاكل العالم، بما فيها مشكلة الشرق الأوسط، والتي أضيرت بشدة من جراء تلك السياسة. ففي ظل الحرب الباردة، وسعيّ القطبين العالميين لبسط نفوذهما في العالم، كانت دول العالم تحاول استثمار الموقف لمصلحتها، بما يتيحه موقف الكتلتين من هامش مرونة في العلاقات بينهما، فبعض الدول انحازت تماماً للكتلة الشرقية، والبعض الآخر انضم للكتلة الغربية، وكانت إسرائيل في ذلك الجانب، متمتعة بمساندة أمريكية مطلقة. بعض الدول المستقلة حديثاً، أو تلك التي تبحث لنفسها عن دور في الساحة الدولية، كانت في موقف وسط بين الكتلتين، تحاول استغلال هامش المرونة الضئيل في العلاقات الدولية، للحصول على أفضل المزايا من القطبين، وكانت معظم الدول العربية في هذا الجانب، ومنها مصر وسورية. وقد أضرت سياسة الوفاق الدولي بقضيتهما، حيث اتفقت الدولتان العظميتان، في مؤتمرات التفاوض بينهما (قمة موسكو في 22 مايو 1972، وقمة واشنطن في يونيو 1973) على تجميد الموقف في الشرق الأوسط. وكان بقاء الحال على ما هو عليه، معادلة مستحيلة طرفاها اللاسلم واللاحرب، وهو إن كان يوافق الأغراض الإسرائيلية، فإنه يضر بمصالح الدول العربية التي تحتل إسرائيل أجزاء من أراضيها، فتجميد الأوضاع يعني تكريس الأمر الواقع، ليصبح حقاً مكتسباً بعد حين.

أوضح هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي في تلك الآونة، هدف سياسة الوفاق وجوهرها، "بدفع الاتحاد السوفيتي إلى المرونة والاعتدال في التعامل مع مناطق التوتر الإقليمي، وفي مقدمتها الشرق الأوسط وفيتنام"، والذي من شأنه إقناع القادة العرب، خاصة المعتدلين منهم، بعدم قدرة السوفيت على تحقيق تسوية[3]. تضع تلك العلاقات الجديدة في الساحة الدولية، قيوداً على تحركات الدول العربية الساعية لاستعادة أراضيها، والتي تمثلت في إحجام السوفيت على إمدادها بأسلحة هجومية متطورة، أسوة بما تحصل عليه إسرائيل من الولايات المتحدة الأمريكية.

وضح أن سياسة الوفاق بين القطبين العالميين، قد عكست نتائج سلبية متعددة على قضية الشرق الأوسط، فقد أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية نصيراً علنياً لإسرائيل، ومنحازة انحيازاً كاملاً لها، وضعف دور الأمم المتحدة لسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية عليها. من وجهة أخرى فإن الاتحاد السوفيتي أصبح مقيداً كذلك في إستراتيجيته بالمنطقة، إذ أصبحت القضية الشرق أوسطية جزء من إستراتجية الوفاق الدولي، يجب مراجعة الطرفين فيها، قبل اتخاذ أي خطوات جديدة.

2. الموقف السياسي الأوروبي

كانت الدول الأوروبية الغربية، مشغولة في ترتيبات الاتحاد الأوروبي، وإجراءات الوحدة الاقتصادية. ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الأكبر لأوربا الغربية، منحازة تماماً لإسرائيل، فإن بعض الدول الأوروبية الغربية أبدت تعاطفاً مع القضية العربية. وأدلى بعض المسؤولين الأوروبيين الغربيين بتصريحات مشجعة عن حقوق العرب، وضرورة انسحاب إسرائيل من سيناء والضفة الغربية للأردن والجولان، بما في ذلك فرنسا وبريطانيا، اللتان كانتا تؤيدان، إسرائيل سابقاً ولم يتعد موقف الدول الأوروبية الغربية ذلك.

أما دول أوروبا الشرقية، فقد كانت تبعيتهم أيديولوجيا للاتحاد السوفيتي قيداً على حركتهم سياسياً. فرغم أن معظم دول أوروبا الشرقية كان يورد أسلحة لكثير من الدول العربية، وعلى رأسها مصر وسورية، إلا أن ذلك كان مرهوناً بموافقة الاتحاد السوفيتي، والذي كان يهيمن على السياسة الأوروبيـة الشرقية، ويوجهها، تبعاً لمصالحه. يعني ذلك أن التعاطف الأوروبي الشرقي مع العرب، لا يقدم كثيراً ولا يؤخر، ويتحرك تبعاً لدرجة الانسجام في العلاقات العربية السوفيتية، والتي أضر بها الوفاق الدولي، فهبطت لأدنى درجاتها، بالتسويف في الوفاء بعقود التسليح للعرب، وتوتر العلاقات مع مصر، بعد طردها للخبراء السوفيت في 8 يوليه 1972.

3. الموقف الأفريقي من قضية الشرق الأوسط:

كان لإسرائيل علاقات تجارية قوية مع دول الوسط والجنوب الأفريقي، وكانت تدير وتشرف على العديد من المشروعات الزراعية بدول المنطقتين كذلك، ولم تكن الدول الأفريقية (غير العربية) تهتم بالانحياز لأي طرف، سوى الذي لديها مصالح مشتركة معه.

في الوقت نفسه، كانت الدول العربية ضعيفة الوجود في أفريقيا، واحتاج الأمر إلى مجهود سياسي ضخم لإقناع الدول الأفريقية بعدالة القضية العربية مع إسرائيل، والعمل على إبراز ذلك التحول في العلاقات، إلى خطوات عملية، كان أولها قرارات مؤتمر القمة الأفريقي في يونيه 1971، بتشكيل لجنة من عشر رؤساء أفارقة للسعي لتطبيق قرارات مجلس الأمن، خاصة القرار الرقم 242، والذي يطلب انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها في الحرب عام 1967.

انبثق من لجنة العشرة، لجنة الأربعة، وحددت لها مهمة الاتصال بأطراف القضية، على مرحلتين، الأولى تقصي الحقائق والإلمام بجوانب القضية، والثانية تقديم مقترحات محددة لحل الأزمة. قامت لجنة الأربعة بجولتين خلال نوفمبر 1971، وقدمت في الجولة الثانية مقترحاتها لكل من مصر وإسرائيل للرد عليها، ثم رفعت تقريرها إلى السكرتير العام للأمم المتحدة، بنتائج مهمتها في 3 ديسمبر 1971. وتضمن التقرير رد مصر على نقاط المقترحات.

وجه وزير خارجية السنغال، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1971، نداء إلى إسرائيل، أن تحدد الأسلوب الذي تراه لاستئناف المباحثات، وأن تعلن عدم نيتها ضم الأراضي العربية التي احتلتها بالقوة. وقد امتنعت إسرائيل عن الرد على أي من مقترحات اللجنة الأفريقية، أو نداء الوزير السنغالي. وأوضح ذلك النوايا الإسرائيلية، للاستفادة من نتائج حربها عام 1967، بالتوسع على حساب الدول العربية المجاورة، وهو ما ساعد على تحول الدول الأفريقية إلى الجانب العربي، والذي بلغ مداه في مؤتمر القمة الأفريقي، عام 1973، عندما استجابت الدول الأفريقية لطلب مصر، وقطعت كلها علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، عدا دولة جنوب أفريقيا (وكانت تحت الحكم العنصري في ذلك الوقت)، وإقليمي ناميبيا وشرق روديسيا (دولتي ناميبيا وزمبابوي فيما بعد)، وكانا تحت الوصايا الدولية، بإشراف دولة جنوب أفريقيا عليهما.

4. الموقف العربي السياسي

عقب حرب يونيه 1967، عقد الملوك والرؤساء العرب (أُنظر جدول الشخصيات الدولية والعربية المعاصرة 1970 ـ 1974)، مؤتمر قمة في الخرطوم (29 أغسطس 1967)، والذي مهد له مؤتمر جزئي لملوك ورؤساء ستة دول عربية في القاهرة (11 ـ 16 يوليه 1967)[4]. اتخذت قرارات هامة في مؤتمر الخرطوم، كان لها تأثير مباشر على قدرة دول المواجهة الثلاث على تخطي الهزيمة والصمود، حيث كفلت المملكة العربية السعودية والكويت وليبيا الدعم المالي للدول الثلاث، بما يعوضها عما فقدته من موارد نتيجة للاحتلال إسرائيلي، ويمكنها من إعادة بناء قواتها المسلحة واستعواض خسائرها في الأسلحة والمعدات. وبالإضافة للدعم المالي، اتخذت الملوك والرؤساء العرب قراراً بأربعة مبادئ، يلتزم بها القادة العرب وهي: (أُنظر ملحق قرارات مؤتمر القمّة العربي الرابع)

أ. لا سلام مع إسرائيل.

ب. لا اعتراف بإسرائيل.

ج. لا مفاوضات مع إسرائيل.

د. لا تنازلات عن حقوق الشعب الفلسطيني.

كان أهم نتائج مؤتمر الخرطوم، هو المصالحة العربية، ووضوح إمكانية التعاون العربي / العربي، ولو إلى حين.

شهدت الفترة من بعد حرب يونيه 1967 وقبل حرب أكتوبر 1973 عدة تغيرات في نظم الحكم العربية، بعضها كان له آثار سلبية على العلاقات العربية العربية، وانعكس ذلك على القدرات العربية السياسية في وقت حرج. ففي 5 نوفمبر 1967 أطاح انقلاب برئيس الثورة اليمنية "عبدالله السلال" وَعَدّ الحكم الجديد، السياسة المصرية المحايدة، معادية للنظام الجديد (كانت مصر قد عقدت اتفاق مع المملكة العربية السعودية، في إطار المصالحة العربية في مؤتمر الخرطوم بعدم التدخل في شؤون اليمن)، واستولى انقلاب بعثي بقيادة أحمد حسن البكر، في 17 يوليه 1968، على الحكم في العراق، منهياً حكم عبدالرحمن عارف. وأدت ممارسات النظام الجديد الدموية إلى فتور في العلاقات مع معظم الدول العربية، وخلاف حاد مع البعث السوري الحاكم، والذي استطاع الوصول إلى الحكم، إثر الانقلاب الذي قام به حافظ الأسد، الذي كان قائداً للقوات الجوية السورية ثم وزيراً للدفاع[5]. وكان لهذا التغيير في نظام الحكم السوري أثر إيجابي، بإبعاد القيادة السابقة (نور الدين الأتاسي ـ صلاح جديد ـ يوسف زعين) عن السلطة، وهم المسؤولون عن أحداث حرب يونيه 1967، مع عدم استعدادهم لتصحيح سياساتهم الخاطئة. تغيرت نظم الحكم كذلك في السودان (مايو 1969) وليبيا (أول سبتمبر 1969)، وكان لهذه التغيرات آثار إيجابية، إذ أيد قادة الثورتين دول الموجهة مع إسرائيل.

كان أكثر التغيرات تأثيراً، هو الصراع بين الأردن والفلسطينيين المقيمين في الضفة الشرقية لنهر الأردن، في سبتمبر 1970، والذي بلغ ذروته بالتصعيد إلى حدَّ الاشتباك المسلح بين الجيش الأردني، والقوات الفلسطينية وانتهى بخروج الفلسطينيون من الأردن مما كان له أثره فيما بعد في عدم اشتراك قوات منظمة حركة تحرير فلسطين في أعمال قتال رئيسية بعد ذلك، لابتعادها عن خطوط المواجهة (عدا جنوب لبنان).

ثانياً: الأوضاع الاقتصادية لأطراف الحرب

تأثرت اقتصاديات المنطقة العربية، بالمتغيرات في السياسة الدولية، والتي صاحبت إستراتيجية الوفاق الدولي، الذي بدأ مرحلة من الانفراج في العلاقات السياسية الدولية للقطبين العالميين منذ بداية السبعينات. وكان كلا القطبين ذو علاقات اقتصادية قوية بالمنطقة العربية.

1. العلاقات الاقتصادية الغربية بالمنطقة

كانت العلاقات الاقتصادية في المنطقة بين دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية من جانب، ودول المنطقة من جانب آخر، ينحصر في ثلاثة أشكال رئيسية. أولها، وأهمها، سيطرة الشركات الغربية على إنتاج وتسويق النفط العربي. ثانيها المعونات الاقتصادية والقروض المالية التي تقدمها دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية لبعض الدول العربية. ثالثها العلاقة الخاصة بين الدول الغربية وإسرائيل.

سيطرت شركات النفط الغربية على نفط الدول العربية[6]، وهي شركات أمريكية أو أوروبية، كانت تعمل في حقل النفط العربي، بأسلوب الامتيازات الذي يمنحها حقوقاً مطلقة في الاستكشاف والتنقيب والإنتاج والإدارة والتسويق، مقابل منح الدولة صاحبة الأرض إتاوة محدودة بلغت 6% عام 1961، 9% عام 1972. وكان لتلك الشركات السبع قوة احتكارية، نتج عنها انخفاض سعر النفط العربي الذي تقوم بشرائه، حيث لم يتعدى 1.8 دولار على البرميل الواحد عام 1970، وحوالي 3 دولار عام 1973 للبرميل.

من جهة أخرى، كانت بعض الدول بالمنطقة تتلقى دعماً مباشراً من الولايات المتحدة الأمريكية. كذلك كانت بعض الدول العربية تشتري معظم أسلحتها من الغرب. بينما كانت إسرائيل، ذات علاقة خاصة بأوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص. فهي تتلقى قروض ميسرة، ومعونات لا ترد (هبة)، وتطالبهم بأحدث الأسلحة والمعدات، بأقل الأسعار.

2. علاقة الاتحاد السوفيتي الاقتصادية بالمنطقة

اقتصرت تلك العلاقة على ما يقدمه الاتحاد السوفيتي لبعض الدول العربية (ومنها مصر وسورية) من أسلحة ومعدات حربية، لقاء تغلغل النفوذ الشيوعي في تلك الدول، وهو ما لم يستطع الوصول إليه في كثير من البلاد التي قدم لها معاونته، حيث وقفت العقيدة الإسلامية حائلاً دون انتشار المذهب الشيوعي كما كان يرجو، وتوقف مستوى العلاقة إلى حد النفوذ السياسي مقابل السلاح.

تأثرت العلاقة الخاصة بين الدول العربية والاتحاد السوفيتي، نتيجة لإستراتيجية الوفاق بين القطبين العظميين. فقد خفض الاتحاد السوفيتي من حجم المعونات العسكرية للدول العربية التي كانت تتعامل معه، في إطار إستراتجية الوفاق، وإن ظل داعماً لها سياسياً، ولم يكن له تأثير اقتصادي يذكر. بينما لم تنقص الولايات المتحدة الأمريكية من مستوى دعمها العسكري أو السياسي أو الاقتصادي لإسرائيل.

3. العلاقات الاقتصادية العربية / العربية

أدت هزيمة يونيه 1967، إلى احتلال مناطق هامة، اقتصاديا، من دول المواجهة العربية الثلاث (مصر، سورية، الأردن) حيث تميزت تلك المناطق بأنشطة اقتصادية، تمثل مورد هام لدولها. فقد فقدت مصر، إيرادات رسوم العبور من قناة السويس، بالإضافة إلى دخلها من إنتاج النفط من آبار غرب سيناء، وكذلك دخلها من التدفق السياحي طوال العام والذي توقف بسبب حالة الحرب في المنطقة. وفقدت كل من سورية والأردن موارد زراعية كبيرة في المناطق المحتلة منهما (هضبة الجولان، الضفة الغربية لنهر الأردن).

على جانب آخر، فإن مناطق عديدة أصيبت بأضرار، خاصة البنية الأساسية للمدن القريبة من خطوط وقف إطلاق النار، سواء من نتائج حرب يونيه 1967، أو بسبب تداعيات حرب الاستنزاف. كذلك شكل تهجير سكان المناطق القريبة من جبهة القتال، إلى داخل الدولة عبء إضافي على تلك الدول، خاصة مع توقف الأنشطة الاقتصادية بتلك المناطق سواء زراعية أو صناعية أو تجارية.

كذلك فإن قوات الدول الثلاث، كانت قد فقدت جانب كبير من أسلحتها وعتادها الرئيسي، ومنشآت عسكرية هامة، شملت قواعد جوية وموانئ بحرية، ومعسكرات إيواء وميادين تدريب ومستودعات وغيرها، وكان من الضروري استعواض ذلك. ولتحرير الأرض فإن الأعمال الهجومية ستكون السمة الغالبة في الحرب المقبلة من جانب الدول العربية، ويتطلب ذلك حجم أكبر من القوات، وتسليحاً أكثر تقدماً، وتدريباً مكثفاً. بخلاف ما تقوم به القوات من إنشاء وتجهيز للدفاعات على خطوط وقف إطلاق النار، والتي تتداخل مع المناطق السكنية والزراعية لتزيد التكلفة، ويفقد الاقتصاد الوطني مزيد من الموارد.

على جانب آخر، فإن النتائج الاقتصادية السلبية لحرب يونيه 1967، وانعكاسات إستراتيجية الوفاق بين قطبي العالم، أدى إلى قيام تعاون اقتصادي عربي، بين دول المواجهة، والدول النفطية المساندة لها. كان أبرز صور هذا التعاون، ما قرره مؤتمر القمة في الخرطوم (أغسطس 1967) سواء لدعم دول المواجهة اقتصادياً[7]، أو إنشاء صندوق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي العربي، طبقاً لتوصية مؤتمر وزراء المال والاقتصاد والنفط العرب والذي عقد في بغداد سابقاً. (أنظر وثيقة قرار مجلس الأمن الرقم 242)

من وجهة أخرى فإن دول المواجهة، اتخذت قرارات هامة لتحويل اقتصادها إلى اقتصاد الحرب، والتي شملت:

أ. الاستمرار في التنمية الاقتصادية، ما أمكن، بجانب الإعداد للحرب.

ب. استقطاب جزء من موارد الاستخدام المدني (استهلاك القطاع العائلي والاستهلاك العام) لحساب الاستخدام العسكري.

ج. العمل على تعبئة الاحتياجات الكامنة مثل فرص زيادة الإنتاجية، خاصة في القطاعات السلعية، للمحافظة على التنمية الاقتصادية، وتوفير إمكانات للإعداد للحرب.

د. ضغط الاستهلاك الترفي، وكذلك الاستهلاك العام، مع عدم المساس بالخدمات الأساسية ما أمكن.

هـ. انتهاج سياسة اقتصادية تهدف تقليل التضخم الذي يصاحب اقتصاد الحرب عادة، حتى لا يتأثر الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، ويتحقق ذلك من خلال السياسة النقدية (ضبط خلق النقود)، والسياسات الهيكلية الموجهة لزيادة الإنتاج، بحيث يمكن السيطرة على الفجوة الحادثة بين نمو المعروض النقدي، ونمو الناتج الحقيقي.

و. زيادة المخزون، وحسن التوزيع الإقليمي له، ضمن التكلفة العامة للإعداد للحرب، ويشمل ذلك مختلف السلع والاحتياجات، لكافة القطاعات.

ز. إدارة العلاقات الاقتصادية الخارجية، بما يكفل إمداد الاقتصاد الوطني بما يحتاجه من ضروريات من السلع، حيث يكون المكون الأجنبي في الناتج المحلي عالياً نسبياً، بما تحتاجه من واردات من سلع استهلاكية ووسيطة واستثمارية، خاصة مع صعوبة التوسع في التصدير في وقت الحرب، وفي اقتصاديات دول المواجهة الثلاث أصلاً.

ح. قصر الواردات على السلع الضرورية، في ظل الثبات النسبي للصادرات لتوفير توازن في ميزان المدفوعات.

4. الوضع الاقتصادي المصري

كانت خسائر الاقتصاد المصري أكبر بكثير من مثيلها للاقتصاد السوري أو الأردني، وهو ما أثر على قدراته، وأدائه، رغم السياسة الاقتصادية التي انتهجت للتخفيف من آثار تلك الخسائر، والتي حصرت في:

أ. بفقدان مصر لشبه جزيرة سيناء، التي احتلتها إسرائيل، فقدت الثروة النفطية والتعدينية الطبيعية، بالإضافة لإمكانات السياحة بها، والتي كانت مركزة على السياحة الدينية (زيارة دير سانت كاترين، وجبل موسى). ولم يكن ذلك الفقد مؤقتاً، يزول بزوال الاحتلال الإسرائيلي، وإنما كان فقدان نهائي، بالنسبة للثروات الطبيعية، والتي استنزفتها إسرائيل، مخالفة بذلك الاتفاقيات الدولية.

ب. لم يكن طبيعياً أن تستمر الملاحة في قناة السويس وعلى جانبيها الشرقي والغربي يربض قوات لدولتان، بينها خصومه، اقتربت من ربع القرن. وبإغلاق قناة السويس، فقدت مصر إيراداتها، والتي كانت قد بلغت في العام السابق على الحرب (1966) 95.3 مليون جنيه (تعادل 219.2 مليون دولار بأسعار العام 1966) وهو ما يوازي 4% من الناتج المحلي في هذا العام.

ج. قدر وزير الاقتصاد المصري ما فقدته مصر من إيرادات السياحة، بنحو 100 ألف جنيه يومياً، أي 36.5 مليون جنيه سنوياً، وهو ما يوازي 84 مليون دولار بأسعار العام 1966.

د. نتيجة للدمار والخسائر المادية والبشرية في الحرب، فقدت مصر ثروة بشرية مدربة، "تعتبر العنصر الأكثر حيوية في تحقيق التنمية الاقتصادية"، كما فقدت أصول إنتاجية دمرت أو عطلت، وأثر ذلك سلباً على الاقتصاد المصري الذي كان يمر بوقت عصيب وحرج.

من وجهة أخرى، أدى الإعداد للحرب إلى زيادة في الإنفاق، مقابل عجز في الإيرادات، وبطء في النمو الاقتصادي، واتسمت تلك المرحلة (67 ـ 1973) اقتصادياً، بالسمات التالية:

أ. فرضت ضرائب جديدة، وزادت معدلات الضرائب القائمة، لزيادة إيرادات الدولة، وأدى ذلك إلى رفع حصيلة الدولة من الضرائب والرسوم الجمركية إلى 697.4 مليون جنيه (69/70) وإلى 832.2 مليون جنيه (عام 1973)[8].

ب. تزايد إصدار البنكنوت لتمويل الإنفاق العام (التمويل بالعجز) مما رفع من حجم وسائل الدفع بنسبة 10%، كما زادت قيمة أذون الخزانة بمعدل نمو سنوي 14% في المتوسط، وهو معدل يفوق نمو الناتج المحلي الإجمالي كثيراً (ثماني إضعاف عام 1973).

ج. أدى التمويل بالعجز إلى تضخم مكبوت، بسبب سياسة التسعير الجبري التي فرضتها الحكومة المصرية للسلع الأساسية. وقد أدت تلك السياسة إلى تداعيات خطيرة عقب حرب 1973، كما كان لها انعكاسات سلبية على الهيكل المالي لمؤسسات القطاع العام الإنتاجية والخدمية، أدت إلى انهيار معظمها فيما بعد.

د. قصر الاستيراد على السلع الأساسية، مع وقف التعامل بها على القطاع العام، لمنع التلاعب في هذه السلع، وضمان وصولها إلى الشعب، لتحقيق استقرار سياسي، إلا أن ذلك خلق سوقاً موازية (السوق السوداء) بأسعار مرتفعة، للاتجار بالسلع الأساسية.

هـ. زيادة الاعتماد على التحويل الخارجي، بالقروض والمنح، لمواجهة متطلبات الإنفاق الاستثماري، في ظل العجز الكبير في ميزان المدفوعات الجاري، لزيادة الواردات التي أتسم بها إعداد الدولة للحرب[9].

و. تراجع معدل الادخار المحلي، وقصور المدخرات عن تمويل استثمارات جديدة، مما زاد من الاعتماد على القروض الأجنبية (5.6% من الناتج المحلي الإجمالي)، وأدى التراجع في معدل الاستثمار إلى تراجع أشد في النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي المصري والذي انخفض من 8.3% سنوياً إلى 7.8% سنوياً، ووصل حجم الدين الخارجي 2.7 مليار دولار.

ز. زادت سيطرة الدولة على الأنشطة الاقتصادية، وتوسعت في دورها الاقتصادي، مما أدى لارتفاع مستوى الاستهلاك الحكومي بمعدلات عالية للغاية (120.7% الفترة من 67 ـ 1973) تركزت في استثمارات حكومية للقطاع الصناعي العام، ومشروعات البنية الأساسية الكبرى.

ح. انخفض معدل الاستهلاك السنوي الخاص بمتوسط 7.8%، وهو ما يعكس نجاح سياسة فرض الضرائب والرسوم، والتي لم تقابل بمعارضة أو تذمر، حيث ساد شعور عام لدى المواطنين بضرورة ترشيد الاستهلاك إلى أقصى حد، والتضحية من أجل استعادة الأرض والكرامة.

ط. أدى زيادة فترة الخدمة العسكرية الإلزامية، وتجنيد خريجي الجامعات (المؤهلات العليا)، والتزام الدولة بتعيين خريجي النظام التعليمي، إلى انخفاض معدل البطالة نسبياً، وتحول بعضها إلى بطالة مقنعة (زيادة عدد الموظفين بالمصالح الحكومية عن الحاجة الفعلية).

ي. زيادة عجز الميزان التجاري من 267 مليون دولار عام 1970، إلى 429 مليون دولار عام 1973. وفي طفرة مستثناه حقق ميزان المدفوعات التجاري عام 1968 فائضاً بلغ 5 مليون دولار (لتوقف الاستيراد منذ الحرب في منتصف عام 1967)، ثم عاد ليحقق عجزاً متزايداً تعدى الأرقام القياسية السابقة، حتى وصل عام 1973 إلى 558 مليون دولار.

5. الوضع الاقتصادي لإسرائيل

اعتمدت إسرائيل دائماً على المنح والمعونات والتبرعات السخية، من الدول الغربية المساندة لها، واليهود الأثرياء، وظل اقتصادها معتمداً على ذلك في الفترة من 1967 إلى 1973، لمواجهة نفقات إعداد المناطق المستولى عليها، وتجهيزها للحرب، باعتبارها خطوط المواجهة الجديدة. كذلك كان عليها تمويل إنشاء مستوطنات جديدة في تلك المناطق.

تكن المناطق المحتلة تمثل عبئاً اقتصادياً على إسرائيل، فهي مناطق اقتصادية منتجة، فالضفة الغربية لنهر الأردن منطقة زراعية خصبة، ذات إنتاج وفير، كان يعتمد عليها الأردن في المحصولات الزراعية، كما أن هضبة الجولان، أرض زراعية كذلك، ويوفر ذلك لإسرائيل متطلبات الأمن الغذائي، مما يقلل ما تستورده من الخارج، بل ويعطيها الفرصة لزيادة صادراتها. وفي قطاع غزة مزارع كبيرة للموالح. بينما تزخر سيناء بالعديد من الموارد الاقتصادية، فمن مصائد الأسماك، ذات الشهرة في أوروبا، كانت إسرائيل تصدر أسماك بحيرة البردويل، وتضيف مزارع العريش ورفح والشيخ زويد إمكانات جديدة لتصدير الفاكهة، وعلى الساحل الغربي لسيناء (على خليج السويس) آبار نفطية جاهزة للاستغلال الفوري، ويقبع دير سانت كاترين في أحضان جبال سيناء والتي يقصدهما محبي السياحة الدينية والطبيعية في أوروبا وأمريكا، وفي الجنوب كانت أجمل بقاع الأرض والبحر بين مفترق خليجي العقبة والسويس حيث يقصدهما محبي السياحة الترفيهية.

وقد استغلت إسرائيل كل ذلك جيداً، إلى حد الاستنزاف، بل أنها سحبت مياه الآبار حتى أملحت، وزرعت الأعشاب الطبية وصدرت زيوتها للخارج، ولم تترك مجالاً للاستثمار في تلك الأراضي إلا ونفذته، مقيمة بنية أساسية ضخمة وكأنها باقية أبداً[10].

حصلت إسرائيل على منح لا ترد من الدول الأوروبية، كما استمرت في الحصول على التعويضات الألمانية[11]، وقد وصلت المساعدات الأمريكية إلى 4312 مليون دولار في الفترة من 67 ـ 1974، منها 1655 مليون دولار لا ترد، والباقي قروض ميسرة، وبلغ حجم الدين الخارجي لإسرائيل 6792 مليون دولار عام 1973، بزيادة 4726 مليون دولار عن عام 1967، مما يوضح حجم ما تلقته إسرائيل في هذه الفترة.

ثالثاً: الأوضاع العسكرية عشية الهزيمة في يونيه 1967

بدأ تنظيم الدفاع غرب القناة، يوم 8 يونيه 1967، بوصول أولى الوحدات المنسحبة من الشرق، وتوالى تكليف القوات بالمهام الدفاعية، بمجرد وصولها للغرب، بصرف النظر عن حالتها فنياً ومعنوياً، وضعف قدراتها القتالية. كان من المهم أن يتم بناء دفاع عاجل، بالاستفادة من قناة السويس كعائق يعطل القوات الإسرائيلية عن التدفق للغرب.

كان لا بد من التغيير، في كل شئ، وكان بداية التغيير من القمة، من القيادة العليا للقوات المسلحة. استقال نائب القائد الأعلى المشير عبدالحكيم عامر، ووزير الدفاع شمس بدران يوم 10 يونيه، كما قبلت استقالة قادة القوات البرية الفريق أول عبدالمحسن مرتجي، والجوية الفريق أول صدقي محمود، والبحرية الفريق أول سليمان عزت، وكذلك رئيس هيئة العمليات ومساعدي نائب القائد الأعلى يوم 11 يونيه، وأحيل بعضهم وقادة التشكيلات للمحاكمة، كما أحيل للتقاعد عدد كبير من الضباط الذين على صلة وثيقة بالمشير عامر، وأعتقل كل الضباط خريجي عام 1948، دفعة وزير الحربية شمس بدران، والذي كان قد عين أغلبهم في قيادات رئيسية لضمان السيطرة الآمنة على القوات المسلحة.

في 11 يونيه تعين الفريق محمد فوزي قائداً عاماً للقوات المسلحة، كما تعين الفريق عبدالمنعم رياض رئيساً للأركان، وعين أمين هويدي وزيراً للدفاع في 22 يونيه لفترة، قبل أن يتولى محمد فوزي الوزارة كذلك. وفي الجبهة كان اللواء أحمد إسماعيل قد أعيد للخدمة من التقاعد (ولم يكن قد مضى على تقاعده سوى وقت قصير) وعين قائداً للمنطقة العسكرية الشرقية، التي تقود كل القوات في الجبهة، وعين محمد عبدالغني الجمسي رئيساً لأركانه، وبدأ الأثنان في إعداد دفاعات القناة الأولى لصد العدو إذا حاول العبور غرباً. (أُنظر خريطة أوضاع قوات الطرفين 1967)

كان وصول القوات الإسرائيلية شرق القناة يعطيهم ميزات عسكرية كبيرة، حيث تتيح لها إتباع إستراتيجية دفاعية قوية، بأقل حجم من القوات، وتوقف أي هجوم للقوات المصرية من الغرب، مسببه لها مصاعب جمة. من جهة أخرى فإن وجود القوات الإسرائيلية شرق القناة مباشرة يتيح لها التأثير على مدن القناة الثلاث (بورسعيد، الإسماعيلية، السويس) بالإضافة إلى قرب قواتها من الكثافة السكانية في الدلتا، وعلى مرمى أقل من ساعتين من القاهرة. أهم المميزات كان ابتعاد القوات المسلحة المصرية وقواعدها الجوية عن الحدود الدولية مع إسرائيل، وهو ما يتوافق مع العقيدة الإسرائيلية، الرامية لإبعاد الخطر عن حدودها، بالقدر الذي يمكنها من تعبئة وحشد قواتها الاحتياطية التي تعتمد عليها لشن الحرب، في الوقت المناسب وهي نفس المميزات التي اكتسبتها إسرائيل على خطوط وقف إطلاق النار في الجبهة الأردنية، والجبهة السورية كذلك. (أُنظر شكل المناطق المحتلة عقب 1967)

كانت خسائر القوات المسلحة للدول الثلاث كبيرة وقاسية، فقد فقدت مصر حوالي 85% من الأسلحة الرئيسية، وأكثر من ذلك بالنسبة لقواتها الجوية، وتأثر الجيش الأردني كذلك بخسائره الكبيرة، وكانت خسائر سورية أقل منهما، إلا أنها فقدت معظم قواتها الجوية[12].

تسببت القرارات السياسية، الغير منسقة مع القيادة العسكرية، وسوء حالة القوات تسليحاً وتدريباً، في تلك الهزيمة. ولم يكن هناك هدف سياسي واضح، أو إستراتيجية عسكرية محددة. وبدلاً من إعداد القوات والخطط، انصرفت القيادة العسكرية إلى مشاكل بعيدة عن اختصاصاتها الأساسية بتنفيذ قرارات الإصلاح الزراعي، والإشراف على لجان تصفية الإقطاع، والإسكان والنقل الداخلي، ومباحث أمن الدولة، والسد العالي، وكرة القدم، وكثير من الاتجاهات البعيدة تماماً عن الجانب العسكري.

كذلك فإن المجالس والمؤسسات المسؤولة عن إعداد الدولة للحرب كانت غائبة تماماً ولا وجود لها، وهي مجلس الدفاع الوطني الذي يرأسه رئيس الجمهورية، ووزارة الحربية والتي يسيطر عليها نائب القائد الأعلى، والمجلس الأعلى للدفاع الذي ينفذ قرارات مجلس الدفاع الوطني، ويرأسه كذلك نائب القائد الأعلى. لذلك لم يكن هناك أي ترتيبات أو تجهيزات لإعداد الدولة للحرب أو الدفاع، رغم أن أحداث حرب 1956 ودروسها لم تكن بعيدة[13].

كان أمام القادة الجدد، وهم من محترفي العسكرية، ومعظمهم أعيد للخدمة من الوظائف المدنية التي كانوا قد نقلوا لها، تحديات كبيرة لإعادة بناء قوات مسلحة منهارة، وخطوط دفاعية عارية في آن واحد، والعمل على إعداد الدولة للحرب، وتجهيز قوات مسلحة أكثر احترافاً من الخصم، في ظل ظروف دولية، وإقليمية، بل ومحلية بالغة التعقيد والسوء.

كانت أهم الموضوعات التي وجب على القيادات الجديدة التصدي لها:

1. إعادة تسليح وتنظيم القوات المسلحة لتفي بغرضين في آن واحد، الدفاع الصلب على الخطوط الجديدة غرب القناة، واسترداد الأرض المحتلة بالهجوم.

2. إعداد الدولة، ومسرح العمليات للأعمال الحربية المقبلة دفاعاً وهجوماً.

3. إعادة الانضباط للقوات المسلحة، مع عودة القوات التي كانت مازالت في اليمن.

4. إعداد خطط الهجوم بدءً من عبور القناة واقتحام دفاعات العدو على الجانب الشرقي، وحتى تحقيق الهدف من الحرب، والذي لم يكن قد تبلور بعد، هل هو تحرير كامل لسيناء أم عمل عسكري محدود، ولأي مدى؟.

5. التصدي لاستفزاز القوات الإسرائيلية، وغرورها، بما يلاءم الموقف، ويردعها.

كان هذا التحدي الأخير، الأكثر أهمية، وهو الذي مهد لحرب أكتوبر 1973 جيداً، وأعطى الجندي والضابط والقيادة العسكرية الثقة، التي كانت هزيمة 1967 قد زعزعتها.

بدأ التصدي لغطرسة العدو واستفزازه قبل أن يمر شهر على الهزيمة، بمعركة رأس العش (1 يوليه 1967)، حتى قبول مبادرة روجرز، لوقف إطلاق النار والتي وافقت عليها مصر في 8 أغسطس 1970، بينما رفضتها سورية، وكانت مصر قد حققت أهدافها من حرب الاستنزاف التي أدارتها بنجاح طوال ثلاثة أعوام تقريباً، لتنتقل بعدها إلى وضع اللمسات الأخيرة لحرب التحرير واسترداد الكرامة العسكرية، بعد أن تمرس الجنود على القتال، والضباط على القيادة، والقيادات على التخطيط وإدارة المعارك.

خلال اشتباكات حرب الاستنزاف، وكذلك بعدها، كانت القيادات العسكرية تنتقل إلى مناصب أعلى، وتتولى قيادات رئيسية، كما تبدلت القيادة العليا عدة مرات، نتيجة لمواقف سياسية متباينه، سواء في سوريه أو مصر، بينما كان للأردن اعتبارات أخرى أسقطته من حسابات المواجهة القادمة.

بينما تولى حافظ الأسد رئاسة الدولة السورية في عام 1971، عقب نجاح الانقلاب الذي قاده عام 1970، فإن القيادة العسكرية المصرية تغيرت أكثر من مرة، تولى فيها الفريق أول محمد فوزي وزارة الحربية ومعه الفريق عبدالمنعم رياض رئيساً للأركان، واستطاعا معاً إعادة بناء قوات عسكرية محترفة في وقت قياسي. وباستشهاد الفريق رياض في 9 مارس 1969، تولى اللواء أحمد إسماعيل علي قائد الجبهة مكانه، إلا أنه عزل بعد 6 شهور في 9 سبتمبر 1969، نتيجة لنجاح إغارة إسرائيلية بمنطقة الزعفرانة على ساحل البحر الأحمر، وعين بدلاً منه اللواء محمد صادق، وكان مديراً للاستخبارات العسكرية، كما أعفى قائد البحرية المصرية من منصبه كذلك. وبوفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر (28 سبتمبر 1971)، تولى نائبه محمد أنور السادات رئاسة الجمهورية، وبعد ثورة التصحيح التي قادها في 15 مايو 1972، تخلص بها من بقايا عهد الرئيس عبدالناصر من الوزراء، بما في ذلك وزير الحربية الفريق أول محمد فوزي، وعين خلفاً له رئيس أركانه اللواء محمد صادق، واللواء سعدالدين الشاذلي رئيساً للأركان، وما لبث أن أعفى صادق من منصبه لخلاف على عمق الحرب القادمة (محدوده أم شاملة) وعين أحمد إسماعيل علي مكانه، وكان قد أعاده للخدمة وعينه مديراً للمخابرات العامة على أثر حركة 15 مايو السابقة، وظل أحمد إسماعيل، والشاذلي على قمة الجهاز العسكري يعملان بهمه ودأب على إكمال ما كان قد بدأه آخرون من تخطيط للحرب، وإعداد لمسرح العمليات، وتدريب للقوات استعداداً ليوم طال انتظاره، لقتال حقيقي، قد يكون للمرة الأولى، مع عدو سبق أن انتصر في جولات ثلاث بالخديعة، والدعم من الدول الكبرى. (أُنظر جدول الشخصيات والقيادات المصرية 1970 ـ 1974)

 



[1] عرفت باسم معركة رأس العش.

[2] كانت إيلات إحدى مدمرتين تملكها إسرائيل، كما أنها كانت في رحلة تعليمية تحمل على ظهرها هيئة التدريس وطلبة الكلية البحرية العسكرية الإسرائيلية، وكانت تبحر في استفزاز سافر داخل المياه الإقليمية المصرية، وكانت هذه المدمرة في الأصل المدمرة المصرية إبراهيم والتي أسرها الإسطول الفرنسي خلال حرب 1956 أثناء عودتها لقاعدتها بعد إنتهاءها من مهمتها في قصف ميناء تل أبيب الإسرائيلي، ثم سلمتها فرنسا إلى إسرائيل، والتي أصلحتها وضمتها لقواتها البحرية.

[3] سعىّ الأمريكيون لذلك منذ بيان قمة موسكو، لتحقيق تطبيع للموقف في الشرق الأوسط، وإتاحة النظر في خطوات أكثر لإحداث استرخاء عسكري Military Relaxation بالمنطقة.

[4] ضم حكام مصر وسورية والأردن، بالإضافة إلى العراق والجزائر والسودان.

[5] سميت حركة تصحيح.

[6] كانت تسمى الشقيقات السبع، وهم شركات أكسون، شل، موبيل تكساس، شركة البترول البريطانية، ستاندر أويل كاليفورنيا، الخليج ( جلف)، شركة البترول الفرنسية.

[7] بلغ الدعم المالي لدول المواجهة 135 مليون جنيه إسترليني سنوياً، منها 55 مليون جنيه من الكويت، 50 مليون جنيه من المملكة العربية السعودية، 30 مليون جنيه من ليبيا، إبتداء من منتصف أكتوبر 1967، ولحين إزالة آثار العدوان، خصص منه لمصر 95 مليون جنيه، للأردن 40 مليون جنيه، ولم يخصص شيئ لسورية، لعدم حضورها المؤتمر.

[8] بلغت نسبة الضرائب الغير مباشرة فيها 73.4% تقريباً، وهي الضرائب التي يتحملها السواد الأعظم من الشعب على السلع والخدمات.

[9] بالإضافة للدعم العربي، فقد حصلت مصر على قروض أجنبية، من الإتحاد السوفيتي بشروط ميسرة، حيث كان السداد يبدأ بعد عام من انتهاء المشروع المخصص القرض لتمويله، وبأجل حتى 12 عام، وبفائدة 2.5%، وهو ما مكن مصر من إستكمال مجمع الحديد والصلب بقيمة تجاوزت 165 مليون دولار.

[10] أنشأت إسرائيل فندقاً سياحياً عالي المستوى ( خمس نجوم) في طابا المصرية على الحدود مع إسرائيل في رأس خليج العقبة، تعدى إنشاؤه عدة مئات الملايين من الدولارات، وشقت طريقاً له من ميناءها ايلات وأوصلت له المياه العذبة والكهرباء.

[11] كانت ألمانيا الغربية تدفع تعويضات لإسرائيل، عوضاً عن خسائر اليهود الألمان والأوروبيون الذين أضطهدهم الحكم النازي، وكأنها الوريث الشرعي لهم‍‍.

[12] بلغت خسائر القوات المصرية في الأفراد ما بين شهيد ومفقود، 10 آلاف جندي، 1500 ضابط، 40 طيار. وفي المعدات الرئيسية نحو 800 دبابة ، 450 مدفع، 10 آلاف مركبة متنوعة الأغراض، ومعظم الطائرات مقابل 275 قتيل، 800 جريح، 3 طيارين أسرى، 61 دبابة مدمرة لإسرائيل. وتمثل الخسائر المصرية في الطائرات 100% من القاذفات، 85% من المقاتلات والمقاتلات القاذفة. وبلغ خسائر الأردن 6092 شهيد ومفقود، 792 جريح، 463 أسير، وتدمير 175 دبابة، 150 مدفع. كما فقدت كتيبتي المغاوير (الصاعقة) المصريتان في عملياتهما في عمق إسرائيل (رام الله، الرملة) 40 شهيد، 40 أسير من قوتهما البالغة 240 مقاتل مقابل 302 قتيل، 1453 جريح، 100 دبابة بين مدمرة ومعطبة لإسرائيل. أما خسائر السوريون، فقد كانت ألف شهيد، 560 أسير، 110 دبابة ( منها 40 سليمة)، مقابل 152 قتيل، 306 جريح، وحوالي 100 مركبة ودبابة بين مدمرة ومعطبة لإسرائيل.

[13] لم تكتمل دراسة أخطاء حرب 1956، ودروسها المستفادة، إلا عام 1969، أي بعد 13 عاماً من الحرب نفسها، وبعد هزيمة 1967 بعامين، وقد ثبت أخطاء القيادة العسكرية القاتلة، والتي استمرت في مناصبها حتى هزيمة 1967.