إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الحرب الإيرانية ـ العراقية، من وجهة النظر العربية





مناطق النفوذ في العالم
موقع الجزر الثلاث
منطقة جزر مجنون
إصابة الفرقاطة الأمريكية STARK
مسارح الصراع البرية والبحرية
معركة الخفاجية الأولى
معركة تحرير الفاو
معركة سربيل زهاب
الهجوم الإيراني في اتجاه عبدان
الإغارة الثالثة على دهلران
التشابه بين مضيقي تيران وهرمز
العملية رمضان
العملية فجر ـ 8
العملية فجر ـ 9
الغارة الإسرائيلية الثانية
القواعد البحرية الإيرانية في الخليج
اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916
حادث إسقاط الطائرة الإيرانية
حدود المياه الإقليمية الإيرانية
حرب الناقلات

مناطق إنتاج النفط
أوضاع القوات العراقية والإيرانية
مسلسل العمليات كربلاء (1 – 9)
مسرح العمليات (الاتجاهات الإستراتيجية)
مسرح العمليات (التضاريس)
مسرح العمليات والدول المجاورة
الموقع الجغرافي للعراق وإيران
المنطقة الكردية
الهجمات الثانوية للعملية بدر
الهجوم المضاد الإيراني العام
الأفكار البديلة للعملية خيبر
التواجد الأجنبي في الخليج
التجمع القتالي لقوات الطرفين
العملية مسلم بن عقيل
العملية بدر
العملية فجر النصر
القواعد والتسهيلات الأمريكية
القواعد والتسهيلات السوفيتية
بدء الهجوم العراقي
تضاريس المنطقة الإيرانية
تضاريس العراق
تقسيم إيران
سلسلة العمليات فجر
طرق المواصلات بالشرق الأوسط
فكرة الاستخدام للقوات الإيرانية
فكرة الاستخدام للقوات العراقية



حرب عام 1967

المبحث الرابع عشر

حرب الاستنزاف الثانية

(أبريل 1984 ـ يونيه 1985)

خسرت الدولتان، في خلال السنوات الأربع السابقة، العديد من أفراد قواتهما المسلحة والمدنيين. كما خسر الطرفان كمّاً هائلاً من الأسلحة والعتاد الحربي. وفي حين كان العراق لا يزال يجيد اتخاذ الأوضاع الدفاعية، ليتجنب المزيد من الخسائر في قوته البشرية، نقطة ضعفه التي يضغط عليها الإيرانيون بشدة، فإن إيران فقدت حماستها، ولو مؤقتاً، للاستمرار في الهجوم، إذ لم تحصل، منذ تحولها إلى الهجوم، إلا على مزيد من الخسائر، وقليل من المكاسب.

ضغط العراق على نقطة الضعف في إيران، وهي صعوبة حصولها على الأسلحة والمعدات القتالية. ومارس ضغطاً عنيفاً على الاقتصاد الإيراني المنهوك لينهار، إذ كان يأمل أن يؤدى ذلك إلى قبول القادة الإيرانيين بوقف القتال.

بدأت إيران، بعد علمية "خيبر" الفاشلة، تتحول إلى حرب استنزاف جديدة، من جانبها، لتنهك قوى الجيش العراقي. بينما حاول العراق إلحاق خسائر اقتصادية جديدة بإيران، فوسّع من نطاق حربه الجوية، وحرب المنشآت النفطية والناقلات.

كان العراق أكثر نجاحاً في الحصول على معدات وأسلحة من الخارج، شملت اتجاهات عدة، خاصة فرنسا والاتحاد السوفيتي. وبلغت قيمة مشترياته 18.1 مليار دولار، خلال عامَي 1984 و1985. بينما لم تتعد مشتريات إيران 3.9 مليارات دولار، معظمها من كوريا الشمالية والصين وإسرائيل، وهي أسلحة أكثر تخلفاً، بالنسبة إلى الأسلحة التي حصل عليها العراق، خاصة في مجال الحرب الإلكترونية ومعداتها المتقدمة تكنولوجياً.

اتجهت الدولتان، كذلك، إلى زيادة حجم القوات المسلحة والقوات شبة العسكرية، لتغطية خسائرهما البشرية العالية. ونجح العراق، مرة أخرى، في التفوق. فعلى الرغم من التفوق في تعداد الدولة الإيرانية، إلا أن العراق استطاع أن يحشد جيشاً نظامياً، تعداده 675 ألف جندي، وهو التعداد نفسه، الذي حشدته إيران كذلك، إذ لم يمكنها، على تفوقها العددي، أن تجند إلاّ 55 ألف جندي نظامي، إضافة إلى 250 ألف من قوات الحرس الثوري الإسلامي. وتفوقت إيران في أعداد القوات الاحتياطية، فتوافر لديها 350 ألف جندي احتياطي، مقابل 75 ألف فقط لدى العراق. من جهة أخرى، فقد نظمت كلتا الدولتَين تلك الأعداد من الجنود، في عشرات من الألوية، وعدة فِرق، تساوت لدى كلٍّ منهما تقريباً (21 ـ 24 لواء إيرانياً، مقابل 22 ـ 26لواء عراقياً).

حافظ العراق على تفوّقه الساحق في الأسلحة الرئيسية، إذ توافر لديه حوالي4620 دبابة قتال، مقابل 1050 فقط لإيران، وحوالي 3200 عربة مدرعة، مقابل 1240 فقط لإيران، وحوالي 3 آلاف قطعة مدفعية، مقابل ألف قطعة فقط لإيران. وكان التفوق في الطائرات القتالية أكثر وضوحاً، إذ تعدت النسبة خمسة أضعاف قوات إيران الجوية. فقد كان لدى العراق 550 طائرة قتال، مقابل 95 فقط لإيران، بخلاف النوعية، كذلك، إذ كانت الطائرات العراقية أحدث بكثير من نظيرتها الإيرانية. وكان التفوق الوحيد لدى إيران في الأسلحة، في قواتها البحرية. وهو أمر طبيعي نظراً إلى أن سواحلها طويلة على الخليج العربي، بخلاف العراق ذي الساحل المحدود جداً في قمة الخليج العربي فقط. وكانت البحرية الإيرانية تمتلك 6 قطع كبيرة، و10 قطع صغيرة، و17 سفينة وسادة هوائية[1]. بينما لم يكن لدى العراق سوى 12 قطعة صغيرة فقط.

أولاً: تصعيد أحداث الحرب الاقتصادية

بانتهاء العمليات البرية الثلاث، "فجر 5" و"فجر6" و"خيبر"، أصاب الموقف البري جمود لفترة طويلة، نتيجة لإجهاد القوات الإيرانية وخسائرها العالية، في الوقت الذي حافظ فيه العراق على إستراتيجيته الدفاعية.

استغل العراق الموقف المتجمد براً، وصعد من عملياته ذات الأهداف الاقتصادية، باستخدام تفوّقه الجوي وصواريخ أرض/ أرض، ضد المدن الإيرانية والمنشآت النفطية وناقلات النفط الإيراني. ووسّع من استخدامه الطائرات الفرنسية، "سوبر إتندار"، المسلحة بصواريخ "أكسوسيت"، لمهاجمة ناقلات النفط في الخليج العربي، أياً كانت جنسيتها، أو مصدر حمولتها، لحمل المجتمع الدولي على الضغط على إيران، لقبول التفاوض والحل السلمي.

ردّت إيران على التصعيد العراقي، بتصعيد مماثل، فهاجمت قواتها الجوية، على ضعف حجمها وقدراتها، المدن العراقية، خاصة البصرة وبغداد، والمنشآت النفطية العراقية، مستغلة في ذلك ضعف الدفاع الجوي العراقي في التعامل مع الطائرات المهاجِمة على ارتفاعات منخفضة. كما صعدّت الهجمات ضد ناقلات النفط في الخليج العربي، لتشمل معظم مسطحه المائي، من دون تمييز لجنسية السفن، أو مصادر حمولتها، مستخدمة في ذلك وسائل متعددة، من قوات جوية أو صواريخ أرض/ سطح؛ إذ كانت قد حصلت، من الصين الشعبية، على صواريخ سلك وورم[2]، وأنشأت قواعد لإطلاقها على سواحلها القريبة من الممرات الملاحية في الخليج، أو تلك القريبة من موانئ التصدير النفطية في الدول العربية الخليجية، خاصة الكويت، شمالي الخليج العربي. فضلاً عن استخدام قواتها البحرية، التي استخدمت الألغام البحرية، كوسيلة رئيسية لتعويق حركة ملاحة الناقلات، سواء في الخليج العربي أو في البحر الأحمر. كما استخدمت، كذلك، عناصر من الحرس الثوري الإسلامي، مسلحة بمدافع صغيرة، مركبة على زوارق خفيفة، وسريعة، لمهاجمة الناقلات في الممر الملاحي، بالقرب من سواحلها. (اُنظر ملحق حرب الناقلات) و(شكل حرب الناقلات).

ثانياً: تداعيات حرب الناقلات، والتدّخل الدولي والإقليمي

نجم عن تصعيد حرب الناقلات اتّساع أطرافها، إذ سعت الدول المتضررة إلى حماية مصالحها، حسب الإمكانات المتاحة لكلٍّ منها. وكان رد الفعل، السعودي والأمريكي، الأكثر عنفاً وحسماً، إذ تعدى الشكوى والتهديد إلى مراحل العقاب مباشرة. وأرسلت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي سفناً حربية للحماية. كما أصدر مجلس الأمن قرار خاص (القرار الرقم 522) يدعو منه إلى وقف الهجمات على السفن التجارية في منطقة الخليج العربي فوراً، ولم يكن القرار أسعد حظاً من سبقه من قرارات دولية.

كانت إيران، بعد فشل هجومها الأخير، في منطقة الأهواز، قد بدأت تهاجم ناقلات النفط. وأصابت بعض الناقلات، السعودية والكويتية، في الخليج. وادّعت، آنئذٍ، أنها ترد على الهجمات العراقية على ناقلاتها. وصعدت من تهديداتها، متوعدة بقصف الموانئ وخطوط الأنابيب والمنشآت النفطية السعودية، التي كان بالقرب منها، كذلك، محطات تحلية المياه العملاقة، في شرقي المملكة، وهو ما يعنى تأثير التهديد الإيراني، في حالة تنفيذه، في عصب الحياة السعودية، المياه والنفط، وهما الأكثر أهمية لدى شعب المملكة العربية السعودية وحكومتها. وكان الرد السعودي على التهديدات الإيرانية حاسماً، وواضحاً، بإعلان المملكة العربية السعودية منطقة اعتراض جوية محددة، غير مسموح باختراقها، وسمّي حدها الخط "فهد"[3] الذي سيتم اعتراض أي طائرات أجنبية غربه، بوساطة طائراتها المتقدمة "إف 15"[4]، توجهها طائرات الاستطلاع الإلكتروني، من نوع "آواكس"، التي كانت تحلّق في دوريات منتظمة، لتغطية المجال الجوي المحدد. كما كانت طائرات الإمداد بالوقود، جواً من نوع "كي سي10"، تعمل على إمداد الطائرات بالوقود لإطالة مدة بقائها في الجو. ويعنى ذلك استكمال منظومة ذات فاعلية عالية، لحماية الأهداف السعودية.

في 5 يونيه 1984، عبر هدف جوي خط الاعتراض، "فهداً"، منتهكاً المجال الجوي السعودي، ومتجاهلاً الإنذارات، التي وجهت إليه بالعودة، مرتَين. وكان الهدف مقاتلتين إيرانيتَين من نوع Phantom F-4 [5]، اشتبكت بهما المقاتلات السعودية إف 15، وأسقطت إحداهما فوق المياه الإقليمية السعودية. وتبع ذلك دفع الطرفَين مزيداً من الطائرات، تحسباً لتطور الحدث، مما وضع المنطقة على شفا انهيار كامل، لو اصطدمت المجموعتان الجويتان في معركة جوية كبيرة وشيكة. غير أن إيران سحبت طائراتها، وتوقفت، كذلك، عن اختراق الأجواء السعودية، فيما بعد، لإدراكها عدم قدرتها على مواجَهة القوة الجوية السعودية، الأحدث والأقوى والأحسن تدريباً، وإن كانت قد ردت على ذلك الحدث بعمل إرهابي، بتفجير قنبلة في مبنى السفارة السعودية في بيروت، بعد يومَين من تلك المعركة الجوية.

ثالثاً: حرب الاستنزاف الإيرانية

غيرت إيران إستراتيجيتها في الحرب البرية، من الهجمات المتتالية، على محاور متغيرة، إلى حرب استنزاف، في محاولة للحدّ من خسائرها البشرية. وقد اعتمدت في ذلك على تكرار نفس أساليبها القتالية السابقة نفسها، من دون أن تتورط في قتال رئيسي، لفترة طويلة. كانت الخطة الإيرانية المعتادة تُكرَّر بحشد قوات ذات حجم ملحوظ، في منطقة حدودية، وتحريكها بما يوحي بالاستعداد لشن هجوم كبير، ثم يُشن هجوم محدود بجزء من القوة التي حشدت، يهدف إلى إرهاق القوات العراقية، التي ستحرك احتياطياتها المدرعة، من قطاع إلى قطاع، ومن محور إلى محور آخر. وفي الوقت عينه، تحاول إيران، من خلال الهجوم المحدود، احتلال أرض جديدة حيوية، وقريبة من مناطق القتال الرئيسية.

كان واضحاً، أن العامل الرئيسي، والأول، في تغيّر إستراتيجية الحرب البرية الإيرانية، هو خسائر طهران الكبيرة في العمليات الهجومية السابقة "فجر 1 ـ 6" و"خيبر"، التي تعدت 50 ألف قتيل. كما أدرك القادة العسكريون عدم فاعلية التمسك بالأرض، في المناطق غير المهمة. كذلك، كان القادة العسكريون والزعماء الدينيون، يحاولون كسب الوقت لإعداد جيد وصحيح للقوات المعبأة، إذ وضح لهم من القتال السابق ضعف المستوى التدريبي للقوات النظامية وقوات الحرس الثوري الإسلامي، وافتقارهما إلى قيادات ذات خبرة، ومعدات هجومية.

خلال الأشهر المتبقية من عام 1984، اتجهت إيران إلى إعداد جبهة القتال إعداداً أفضل، فاهتمت بالتكديسات الإدارية إحدى نقط ضعفها السابقة، وإنشاء شبكة طرق، تخدم محاور القتال المتوقعة. وبذلت جهوداً جيدة في إعداد وتنظيم وتدريب قواتها على أساليب جديدة، أهمها الهجمات البرمائية، عبر المسطحات المائية، والهجوم في المناطق الجبلية، وهو ما يعكس تفكير القيادات في اتجاهات الهجمات التالية. فضلاً عن ممارسة القوات الإيرانية تدريباً عنيفاً، وشاقاً، على أساليب التسلل، عبْر دفاعات الخصم، والقتال الليلي، لتستطيع القوات الإيرانية تجنّب التفوق النيراني للعراق وقواته المدرعة، التي تشن الهجمات المضادة القوية.

على الجانب الآخر، كانت القيادات العراقية على قناعة تامة بعدم قدرة القوات الإيرانية على الاختراق العميق، وضعفها في استثمار النجاح الأولي، بدفع أنساق جديدة، لتوسيع وتعميق ثغرة الاختراق. على ذلك كانت القيادة العراقية تؤمن بضرورة الاحتفاظ بتفوقها النيراني، في المدفعية والقوات الجوية والمدرعات، لإحداث خسائر بشرية كبيرة، ورد الإيرانيين على أعقابهم، من دون التورط في مطاردة حاسمة لفلول القوات الإيرانية، وهو ما أخذه عليهم خبراء الإستراتيجية والتكتيكات العسكرية، وأدى إلى إطالة زمن الحرب، دونما داعٍ.

استغل العراق ثبات الموقف وتجمده، فشن، خلال النصف الثاني من عام 1984، عدة هجمات مضادّة محدودة، بهدف تحسين الأوضاع الدفاعية لقواته. ولم تسفر هذه الهجمات عن تغيير رئيسي في الموقف العسكري على الجبهة، خاصة أن قوات بغداد، افتقرت إلى إتقان أساليب القتال في المستنقعات والأراضي الجبلية وحرمان الخصم من التسلل خلال المواقع الدفاعية، وهي الأساليب التي برع فيها الإيرانيون، نسبياً. وكان تخوف العراق من زيادة نسبة الخسائر، سبباً جوهرياً، أدى إلى شل فاعلية تفوّقه النيراني.

خلال عام 1985، نفذت إيران تسع عمليات برية، ذات أهداف محدودة. بينما شن العراق ثلاث هجمات مضادّة. وحرص كل جانب على عدم تكرار أخطاء الماضي. فقد خططت إيران لهجماتها مبكراً، ودربت قواتها على مهامها الهجومية والعملياتية، شملت مواجهات واسعة في الشمال، حيث الأرض جبلية، وفي الجنوب خلال المستنقعات، لاستغلال طبيعة الأرض في إحراز مفاجأة. وتشبثت، في الوقت عينه، بهدفها السابق، ألاَّ وهو طريق بغداد/البصرة. على الجانب الآخر، أعد العراق قواته الجوية، لدعم أعمال قتال قواته البرية، ومساندة قواته المدرعة، التي أثبتت قدرتها على تدمير الاختراقات الإيرانية، وإجبارها على الانسحاب، مرة تلو الأخرى.

بدأت الأعمال القتالية البرية بهجمات عراقية محدودة. ففي 31 يناير 1985، هاجمت القوات العراقية، بقوة محدودة، في مواجهة قصر شيرين، ولكنها لم تحرز نجاحاً. وأعقبت ذلك هجوم آخر، في 28 فبراير، لاسترداد جُزُر مجنون، فشل، كذلك، في تحقيق أي نجاح. وأدى الفشلان إلى توتر داخلي في العراق، احتواه النظام الحاكم بسرعة.

رابعاً: العملية "بدر" (10 ـ 18 مارس) (اُنظر خريطة العملية بدر)

استمر الطرفان في تبادل القصف المدفعي، خلال فبراير وبداية مارس، كان المدنيون من الطرفَين ضحاياه، حتى كان العاشر من مارس، حين بدأت إيران في تحرِّك قواتها، وشنت هجومها الأول في هذا العام، بعد استعدادات دامت أربعة أشهر.

كان الهدف من الهجوم الجديد، هو عزل البصرة، أو الاستيلاء عليها، تبعاً لِمَا تتيحه الظروف. وقد اختارت إيران اتجاه المستنقعات، بعد دراسة وتخطيط جيد، وتحقيق سيطرة أكثر فاعلية، لتكون طريقها إلى البصرة، آملة أن يحقق ذلك مفاجأة تكتيكية؛ إذ لا يتوقع العراقيون تكرار الهجوم من اتجاه سبق الفشل فيه. كما كانت تحاول استغلال ما لديها من معلومات عن عدم وجود دوريات عراقية داخل المستنقعات، وهو ما يمكنها من دفع قواتها إلى التسلل في الجُزُر داخل المستنقعات واحتلالها، واستغلال شبكة المواصلات، التي سبق أن أقامتها فيها، وخبراتها القتالية بالعمليات البرمائية، وتفوّقها العددي في قوارب الاقتحام الصغيرة الحجم والتي تدربت القوات على استخدامها جيداً. كما توفر لها طبيعة المستنقعات إخفاءً جيداً، من خلال الأعشاب النامية التي يصل طولها إلى عشرة أقدام مما دفع العراقيين إلى البقاء على الشاطئ البعيد في داخل دفاعاتهم، وكلها عوامل مساعدة، تعد نجاحاً لبدء الهجوم من ذلك الاتجاه.

كان العامل الرئيسي والحاسم، لاختيار اتجاه المستنقعات، لتكرار هجوم "خيبر" في العملية "بدر"، هو عدم تمكن القوات العراقية من استخدام قواتها البرية بكفاءة، وحرمانها من خفة حركة قواتها المدرعة، التي لا تستطيع العمل داخل المستنقعات، وهو ما يعنى افتقاد العراقيين تفوقهم النيراني ومناورتهم، إلاّ بعد وصول القوات الإيرانية إلى خارج المستنقعات في الأراضي الجافة، على بعد عدة أمتار من هدفهم الرئيسي، طريق البصرة/ بغداد.

وفرت إيران لهذه العملية أكثر من نصف قواتها، الموجودة في القطاع الجنوبي والذي قدر عددها بحوالي 100 ألف رجل، خصص منهم 65 ألف رجل للعملية، إضافة إلى عناصر الحرس الثوري الإسلامي، الذين كان عددهم أقلّ من ذلك بقليل[6]. بينما كان العراق يدافع عن هذا القطاع بالفيلق الرابع، المكون من 10 فِرق، إضافة إلى فِرقتين مخصصتين لحراسة طريق بغداد/ البصرة وخطوط السكة الحديدية والمحاور عبْر المستنقعات. وقد اشتملت الدفاعات العراقية على عدة مَواقع مجهزة تجهيزاً هندسياً جيداً، ويتصل بعضها مع بعض بشبكة من الخنادق. وتوفر للأفراد ملاجئ للاستتار من قصف المدفعية، علاوة على السواتر الترابية للأسلحة. وقد نشر عدد كبير من نقط الملاحظة لعناصر الاستطلاع، لكشف تحركات العدو والإنذار به. وأحيطت المَواقع الدفاعية والاتجاهات المهمة بحقول الألغام والأسلاك الشائكة. كما وضعت موانع شاطئية مضادّة للإبرار البحري، في المناطق المتوقع أن تدفع إيران قواربها إليها، وجهزت المنطقة لإغراقها بمزيد من المياه أو إغراق مناطق جديدة، إذا لزم الأمر، لدى وصول القوات الإيرانية إلى الشاطئ. وفي نهاية المواقع الدفاعية، غرب الدفاعات، احتُفظ بعدة ألوية خفيفة الحركة من المشاة، الآلية والمدرعة، لإعطاء الدفاع توازناً وعمقاً، يسمحان بإدارة أعمال قتال دفاعية ناجحة.

قبل أن تبدأ القوات الإيرانية هجومها البري، قصفت البصرة والدفاعات حولها، قصفاً عنيفاً ومتواصلاً، لمدة يومين (10 ـ 11 مارس)، في محاولة من القيادة الإيرانية لجذب انتباه القيادة العراقية الميدانية في اتجاه خاطئ، على سبيل الخداع. كما شنت غارة جوية مفاجئة على بغداد، رد عليها العراق بغارة مماثلة على طهران.

قُبيل منتصف ليلة 11/12 مارس، هاجمت ثلاث مجموعات من القوات الإيرانية المخصصة للعملية "بدر"، على مواجهة 10كم، بين قرنة والوزير، مندفعة خلال المستنقعات، لتخرج من الجانب الغربي لها، على الحدود الجنوبية لمنطقة مسؤولية الفيلق الرابع العراقي، محققة المفاجأة. وبعد تجميع القوات غرب المستنقعات، دفعت بعض الدوريات إلى الاستيلاء على المَواقع المشرِفة في الأرض الجافة، بالقرب من طريق البصرة/ بغداد. ودفعت مزيداً من القوات، بأسلوب الموجات البشرية. وعلى الرغم من الخسائر الفادحة، التي يسببها هذا الأسلوب، تمكنت من التقدم بعمق 10كم، في اليوم الأول (12 مارس). وزادت عمق الأرض المستولى عليها، في اليوم الثاني (13 مارس)، لتصل إلى 14كم. وفي اليوم الثالث، دفعت لواء من المتطوعين الإيرانيين، عبْر نهر دجلة، باستخدام كوبريين عائمين، تمكنت القوات الإيرانية من إقامتهما فوق النهر. ووصلت تلك القوة، في اليوم الرابع (15 مارس) إلى الطريق، حيث واجهتها نيران مكثفة للمدفعية العراقية، وتعرضت لنيران الدبابات من خطوط دفاعية مجهزة جيداً.

لم تستطع القيادة الميدانية الإيرانية دفع وحدات المدفعية والدبابات، بالسرعة التي تمكن القوات المخترقة لدفاعات العراقيين، من التمسك بالخطوط التي وصلت إليها، والتعامل، بنجاح، مع الهجمات العراقية المضادّة، التي تساندها المدفعية والقوات الجوية، خاصة الطائرات العمودية المسلحة. في الوقت نفسه، سعت القيادة الميدانية العراقية إلى تجميع احتياطيات قوية، من فِرق الحرس الجمهوري العراقي، الجيدة التسليح والتدريب، ودفعتها إلى شن هجمات مضادّة بالتعاون مع الغارات الجوية والقصف المدفعي[7].

في نهاية يوم 15 مارس، تمكنت القوات العراقية من إيقاف التقدم الإيراني. وتحت ستر مظلتها الجوية، استطاعت شن هجمات مضادّة، في مواجهة ضيقة، من ثلاثة اتجاهات (شمال وجنوب وغرب). بينما هاجمت الطائرات العمودية المسلحة الوحدات الإيرانية، في المؤخرة، فأمكنها تدمير عدد من القوارب والكباري العائمة، وأغرقت المنطقة الخلفية الإيرانية بالمياه، بتدميرها للسدود الصناعية، وأدى ذلك إلى ضعف قدرة القوات الإيرانية على الحركة، فوقعت تحت النيران الكثيفة، وانهارت دفاعاتها العاجلة، في المنطقة، في 17 مارس، وتمكنت قوات الهجوم المضادّ العراقية من استرداد المَواقع العراقية، مرة أخرى، في 18 مارس. وانسحبت القوات الإيرانية مضطرة، تحت وطأة الخسائر الجسيمة التي وصلت إلى 12 ألف رجل. بينما تكبدت القوات العراقية حوالي خمسة آلاف قتيل، علاوة على مئات الأسرى.

خامساً: الهجمات حول جُزُر مجنون (اُنظر خريطة الهجمات الثانوية للعملية بدر)

مرة أخرى، تفاجئ إيران خصمها بهجوم جديد، في منطقة بعيدة عن هجومها السابق، إذ تبدأ هجوماً في منطقة جُزُر مجنون[8]، بعد انتهاء معارك "بدر"، التي يبدو أن الإيرانيين كانوا يأملون أن تؤدي إلى سحب جزء من القوات العراقية من الجُزُر، وهو ما لم يحدث، بل إن العراقيين كانوا مستعدين، حين هاجمت القوات الإيرانية بهجومها على جُزُر مجنون، في 19 مارس، كما استخدموا الغازات السامة، التي تسببت بزيادة الخسائر البشرية للإيرانيين (خمسة آلاف رجل)، من دون أن تستطيع قواتهم زحزحة الدفاعات العراقية قيد أنملة[9].

في الرابع عشر من يونيه، شنت إيران هجوماً آخر في منطقة شمال المستنقعات. كما أغارت، في 19 يونيه، على منطقة قرب قصر شيرين، وفي 28 يونيه، على منطقة مجنون. وفشل كل ذلك في تحقيق أي هدف.

سادساً: نتائج أعمال القتال السابقة

خسر الطرفان مزيداً من القتلى والأسلحة. وكانت خسائر إيران أكثر من خسائر العراق، نتيجة لتبنّيها أسلوب الأمواج البشرية في القتال. إلاّ أن أهم النتائج كانت:

1. عدم تغيّر الموقف على جبهة القتال عما سبق. وبدا أن خط القتال قد تجمد شكله، بينما، نظراً إلى وصول القوات المقاتلة إليه، منذ فترة سابقة.

2. اعتقاد كل طرف عقب عملية "خيبر"، أن أسلوبه القتالي هو الناجح، ويجب التمسك به. فقد ظنت القيادة الإيرانية، أن التفوق البشري، يمكنه أن يوازن التفوق النوعي للأسلحة العراقية، وقد بنَت ذلك على أساس النجاحات المبدئية، الضئيلة الفائدة. بينما اعتقدت القيادة العراقية أن الاعتماد على الأسلحة المتطورة يعوضها عن الفارق العددي في المقاتلين. وقد أوعز لها بذلك نجاح دباباتها وطائراتها في إفساد الهجمات الإيرانية، واسترداد بعض المواقع منها.

3. استخدام إيران قواتها، ليلاً، ومن خلال المستنقعات، للتقليل من فاعلية الأسلحة العراقية المتطورة. بينما لجأ العراق إلى السلبية في إدارة أعمال القتال، برد فعل محدود، بعد الهجوم الإيراني، معتمداً على الدبابات والطائرات، ومن دون توجيه أي عناية لتطوير قوات المشاة، وزيادة قدراتها القتالية، أو استخدامها في أعمال هجومية.



[1] هوفر كرافت، وهي الأصلح لعبور المستنقعات.

[2] حصلت المملكة العربية السعودية على ذلك النوع من الصواريخ، كذلك، لردع أي عدوان على مياهها الإقليمية وأراضيها، سواء من جانب إسرائيل، التي تمتلك، بالفعل، أنواعاً متقدمة من الصواريخ الباليستية، أو إيران، التي ما فتئت تهدد المملكة، منذ أطاح الثوار حكم الشاه فيها.

[3] خط وهمي، توخى تحديده زيادة زمن رد الفعل للطائرات السعودية، ضد أي محاولة انتهاك للمجال الجوي.

[4] كانت هذه الطائرات تعد الأحدث، في هذا العصر. وتتميز بمدى، وقدرة عالية على المناورة. وتشتمل على أجهزة إلكترونية، تربطها بطائرات Awacs. ويمكنها التقاط الهدف المعادي وتتبّعه، من مسافة بعيدة. كما كانت مسلحة بصواريخ جو/جو، ذات مدى بعيد، تتميز بدقة متناهية، وقوة تدمير كبيرة.

[5] طائرة مقاتلة قاذفة، أمريكية الصنع، كانت من أحدث الطائرات الأمريكية، في الستينيات. وحظيت بشهره واسعة، إبّان القتال بين إسرائيل ومصر وسورية، خلال العدوان الإسرائيلي، عام 1967. إلا أنها لا تقارن بنظيرتها الأحدث، في الثمانينيات F-15 ، السعودية.

[6] كان حجم القوات الإيرانية، المخصص للعملية، حوالي 8 فِرق نظامية، 5 فِرق حرس ثوري إسلامي أعيد تدريب رجالها وتسليحهم تسليحاً أفضل مما قبْل؛ إذ توافر لديهم أسلحة مضادّة للدبابات، من عيارات مختلفة، وقوارب اقتحام، وهاونات. وزوِّدوا الأقنعة الواقية من الغازات السامة، وأدوات إسعاف أولي. ويقدر حجم الفِرقة الواحدة بعشرة آلاف مقاتل.

[7] أشرك العراق 5 فِرق في القتال، في هذا القطاع من الجبهة، وركز نيران عدة مجموعات للمدفعية، ونفذت قواته الجوية أكثر من 250 طلعة، في اليوم.

[8] كانت إيران قد أنشأت طريقَين في منطقة مجنون، على سواتر ترابية. ووزعت قوة كبيرة، قوامها 20 ألف مقاتل، في منطقة جزُر مجنون (حوالي فِرقتَين)، استعداداً لمهاجمة القوات العراقية في المنطقة.

[9] كان لبقاء المقاتلين الإيرانيين في المناطق، الملوثة بالغازات السامة، فترة طويلة، أثره في زيادة فاعليتها ضدهم، على الرغم من أقنعتهم الواقية.