إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / كوسوفا... التاريخ والمصير





انتشار القوات
التقسيم المؤقت
تأثير ضربات حلف شمال الأطلسي
شكل توزيع القوات

أهم الأهداف التي تعرضت للقصف



المبحث الرابع

المبحث الرابع

موقف دول البلقان وإعادة إعمار كوسوفا

أولاً: موقف دول البلقان من أزمة كوسوفا

أمكن التوصل إلى اتفاق السلام، وفقاً لاتفاقية الدول الثماني؛ وبموافقة الرئيس اليوغسلافي، ميلوسوفيتش، والبرلمان الصّربي، وحلف شمال الأطلسي، والأمن العام للأمم المتحدة، بعد فترة قصف، لمدة 78 يوماً، من قبل حلف شمال الأطلسي.

وعلى الرغم من التوصل إلى هذا الاتفاق، فإن دول البلقان، ألبانيا ومقدونيا واليونان وتركيا، كان لكلٍّ منها حساباتها، التي حكمت موقفها، في مراحل تطور النزاع، في ضوء المعايير الواقعية، والعلاقات الإستراتيجية، وعوامل الجوار الجغرافي.

1. الموقف الألباني

كان موقف ألبانيا من الحرب الدائرة في كوسوفا، موقفاً ضعيفاً. اقتصر على فتح حدودها، لاستقبال لاجئي ألبان كوسوفا. وعلى الرغم من ذلك، فقد صرح وزير الخارجية الألباني، باسكال ميلو، أن بلاده، قررت السماح لحلف شمال الأطلسي بإدارة عملياته العسكرية في مواجهة يوغسلافيا، انطلاقاً من الأراضي الألبانية؛ لأن ألبانيا تمثل قاعدة إستراتيجية لعمليات الأطلسي في كوسوفا؛ وأن بلاده منحت الحلف جميع الحقوق في استخدام موانئها ومجالها الجوي؛ مؤكداً أن ألبانيا، لن تقبل تقسيم كوسوفا.

وفي هذا السياق، تمركزت القوات الأمريكية، من طلائع المظليين والطائرات العمودية، في ألبانيا. كما دعا باسكال ميلو إلى إطاحة الرئيس الصربي بكافة الوسائل، بما فيها الوسائل العسكرية؛ لأن وجود نظام ميلوسيفيتش، لا يساعد على تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. وطالب ميلو قوات الحلف باستخدام القوات البرية، لإجبار القوات الصربية على وقف حملاتها البربرية على مسلمي ولاجئي كوسوفا، والانسحاب من الإقليم.

أما رئيس ألبانيا، رجب ميداني، فأكد ضرورة تحقيق الحلف انتصاراً مقنعاً، على الرئيس اليوغسلافي، من أجل مستقبل السلام والأمن في أوروبا. وأصر ميداني، الذي حضر قمة الحلف، في واشنطن، على أنه لا يؤيد ما يريده بعض الألبان، في شأن ألبانيا الكبرى، التي تضم إقليم كوسوفا؛ ولكنه يريد بقاء الحدود الحالية. ورفض فكرة واشنطن تقسيم الإقليم، مع احتفاظ جمهورية الصرب بالجزء الشمالي منه.

ولأن تيرانا من أفقر العواصم الأوروبية، ولا يمكنها أن تستقبل أعداداً كبيرة من اللاجئين، من دون معونات، اقتصادية وطبية ـ فقد أقر المصرف الدولي تقديم قرض إلى ألبانيا، قيمته 30 مليون دولار، لمساعدتها على مواجهة مشكلة تدفّق اللاجئين الألبان من كوسوفا؛ على أن يُستَرَدّ بعد 40 عاماً؛ فضلاً عن فترة سماح، مدتها عشر سنوات، ستضمن عدم خروج برنامج الإصلاح الاقتصادي الألباني عن مساره.

ويمكن القول: إن الموقف الألباني، تركز في ضرورة القضاء على النظام الصربي، حتى يعم الاستقرار في المنطقة. ولذلك، أصبحت الأراضي الألبانية مسرحاً لعمليات حلف شمال الأطلسي، في مواجهة بلغراد. كما كانت ألبانيا موئلاً، ينحشر إليه الألبان من لاجئي كوسوفا، هرباً من القتل والتشريد، سواء من جانب القوات اليوغسلافية، أو من جانب قوات الحلف، التي كانت طالما أخطأت، فأصابت أهدافاً مدنية، في الإقليم.

2. موقف مقدونيا

أعلنت مقدونيا موافقتها، رسمياً، على نشر وحدات بريطانية، تضم 12 دبابة ميدانية، من نوع تشالنجر، و40 عربة مدرعة، يرافقها 1800 جندي؛ بهدف دعم القوات العسكرية البريطانية، الموجودة في مقدونيا. وفي الوقت نفسه، وصلت وحدات، دانماركية وألمانية وبريطانية جديدة، إلى مقدونيا؛ ليصبح إجمالي قوات حلف شمال الأطلسي 16 ألف جندي.

والواقع أن موقف مقدونيا من الأزمة، كان موقفاً حرجاً؛، لأنها أصبحت ملجأ، يهرب إليه ألبان كوسوفا. وأصبح دخول اللاجئين الألبان إلى أراضيها، يمثل مشكلة؛ ذلك أن التركيبة السكانية لمقدونيا، مشحونة بالتوترات العِرقية؛ إذ تضم من ذوي الأصل الألباني نحو 23% من سكانها، البالغ نحو مليونَي نسمة. غير أن بعض التقارير، أشارت إلى أن عدد السكان الألبان في مقدونيا، لا يقل عن 40% من سكانها الصرب؛ وهم يطالبون بحكم ذاتي، في المناطق التي يعيشون فيها.

وتتفاقم المخاوف في مقدونيا، الآن، خشية أن يؤدي تدفّق اللاجئين الألبان إلى أراضيها، إلى الإخلال بالتركيبة السكانية، في مصلحة الأقلية الألبانية؛ لذلك، تقاعست السلطات المقدونية في الإجراءات الخاصة بدخولهم إليها. واعترف بذلك مسؤول في وكالة غوث اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة. واتُّهِمَتْ مقدونيا بتعريض حياة اللاجئين للخطر، لتركها مئات الآلاف منهم، يتكدسون في منطقة الحدود.

وعلى الرغم من هذه المخاوف المقدونية، فقد سمحت الحكومة المقدونية بإقامة معسكر جديد للاجئين يستوعب نحو عشرين ألف لاجئ، بالقرب من تيتوفو، شمال غربي البلاد؛ وهو المعسكر السابع فيها.

وعلى الرغم من انتهاء الأزمة في كوسوفا، فإن مخاوف مقدونيا لن تنتهي؛ إذ سيداخلها التوجّس من تكاتف اللاجئين الألبان، الموجودين على أراضيها، مع الألبان المقدونيين، مع المسلمين في دولة ألبانيا؛ ليكَوّنوا ألبانيا الكبرى؛ وهو ما يفتح باب الصراع من جديد في المنطقة. ويدل على ذلك أن الألبان في مقدونيا، كانوا قد طوروا مؤسساتهم الثقافية، تأكيداً لهويتهم؛ فأنشأوا جامعة، في فبراير 1995، تدرِّس باللغة الألبانية؛ لكن السلطات المقدونية أغلقتها، وقدمت المسؤولين عنها إلى القضاء؛ مما أثار موجة عاصفة من الاحتجاج. وبوجود هذه العناصر الألبانية في شمالي مقدونيا، فإن الخطر من احتوائها ألبان كوسوفا اللاجئين، يجعل منها منطقة متفجرة، سريعة الاشتعال.

3. موقف اليونان

كانت اليونان ضمن الأربع عشرة دولة، التي قصفت يوغسلافيا، لكونها عضواً في حلف شمال الأطلسي. ولكنها أعلنت عدم مشاركتها في أي عمليات عسكرية؛ نظراً إلى أنها دولة بلقانية، يجمعها حسن الجوار مع ألبان كوسوفا؛ وعلاقتها وطيدة بالصرب.

وفي إطار الجهود السياسية، تقدمت اليونان بمبادرة سلام، بالاشتراك مع التشيك، لوقف القتال في الإقليم. كما أكدت رؤيتها، التي تتلخص في ضمان عودة اللاجئين الألبان إلى كوسوفا، وانسحاب القوات الصربية منها، ووقف أعمال العنف. وهي رؤية، تستمد أهميتها من صدورها عن دولة عضو في الحلف.

لذلك، يمكن بلورة موقف اليونان، من خلال مشاركتها في قوات حلف شمال الأطلسي، ورؤيتها لمصلحتها الواقعية، بعد انتهاء الحرب.

وقد وضحت معالم هذه الرؤية في الحديث، الذي أدلى به وزير خارجية اليونان، جورج باباندريو، إلى جريدة "الأهرام"، في 29 مايو 1999، وأكد فيه أن بلاده، التزمت بكونها عضواً في الحلف، خاصة في مساعداتها على نقل القوات إلى سكوبيا. وقال: "لكننا على الجانب الآخر، لن نشارك في العمليات العسكرية الدائرة؛ وإنْ كنا على استعداد للمشاركة في قوات حفظ السلام، حين تكوينها، في كوسوفا. وعدم مشاركتنا في أي عملية عسكرية، يرجع إلى كوننا من البلقان، ولدينا علاقاتنا الطيبة بالألبان والصرب؛ وإلى أننا نحسب حساباً لليوم، الذي ستنسحب فيه كل القوات، وسنبقى نحن، كجيران، يواجه بعضنا بعضاً".

ومن خلال هذا الموقف الرسمي، المعبر عن وجهة النظر الرسمية للدولة، كان الموقف اليوناني على النحو الآتي:

أ. قررت الحكومة اليونانية الاكتفاء بالسماح لقوات الحلف البرية، بالعبور من الأراضي اليونانية، شمالي مدينة سالونيك، إذا ما قرر الحلف شن حرب برية على يوغسلافيا، ومن دون أن تشارك القوات اليونانية في هذا الهجوم. وأقرت اليونان الاستمرار في تقديم تسهيلات إلى قوات الحلف، في مختلف موانئها. وفي غضون ذلك، اندلعت المظاهرات الشعبية في أثينا، منددة بقصف يوغسلافيا؛ وتدخلت قوات مكافحة الشغب اليونانية، لإخماد الموقف.

ب. وجّه وزير الدفاع اليوناني، أكيس تسوخاتزويولوس، انتقادات حادة لعمليات قصف يوغسلافيا، ووصف الحلف بأنه كان مفرطاً في التفاؤل، تجاه نتائج القصف، ومضحياً بأي حلول دبلوماسية للأزمة. وأكد رفض بلاده المشاركة في أي عمليات عسكرية برية، ضمن قوات الحلف، في مواجهة يوغسلافيا.

4. المبادرة اليونانية لحل الأزمة، سلماً

في إطار الجهود السياسية، التي تبذلها اليونان، زار وزير الخارجية اليوناني موسكو، لإجراء محادثات حول أزمة كوسوفا؛ وعرض المبادرة اليونانية ـ التشيكية، الرامية إلى وقف القتال في الإقليم. وبحث باباندريو مع نظيره الروسي، إيفانوف؛ وتشيرنوميردين، المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى البلقان ـ الخطوط العريضة للمبادرة اليونانية، التي تأتي ضمن عدة مبادرات، تطالب بالوقف الفوري لأعمال التطهير العِرقي، التي يرتكبها الصرب في حق الألبان في كوسوفا؛ وبانسحاب القوات الصربية من الإقليم، وعودة اللاجئين إلى أراضيهم، تحت إشراف قوات حفظ السلام.

وقد لاقت هذه المبادرة تأييداً واسع النطاق، من جانب دول المنطقة، خاصة إيطاليا وسلوفينيا. وفي إشارة  إلى رفض اليونان المطلب الأمريكي، الخاص بحتمية سيطرة الحلف على قوات حفظ السلام، أكد نائب وزير الخارجية اليوناني، أن المشروع يهدف إلى تحقيق تسوية سلمية في البلقان، تحت مظلة الأمم المتحدة؛ وعلى الرغم من ذلك، استمرت الولايات المتحدة الأمريكية، في ممارسة ضغوطها على أثينا، لدفعها إلى إرسال قوات، ضمن قوة الحلف، في حال بدء عمليات برية في يوغسلافيا.

ولم يتوقف الأمر على الجهود الدبلوماسية، بل دعا رئيس الوزراء اليوناني، كوستاس سيميتس، إلى ضرورة إيجاد دور شرعي للأمم المتحدة، لحل أزمة كوسوفا؛ على أن يُراعي أي حل دولي وحدة الأراضي اليوغسلافية. وقال: "ليس من الضروري أن تكون قوة حفظ السلام في يوغسلافيا، تحت مظلة حلف شمال الأطلسي، لتوافق مبادرة الاتحاد الأوروبي". وكشف عن موقف بلاده، المناهض لسياسة اتخاذ الحلف "شرطياً دولياً".

ويمكن القول: إن تصريحات رئيس الوزراء اليوناني، تُعبّر، بالفعل، عن موقف حكيم من الإستراتيجية التدخلية الجديدة للحلف، التي تقضي بإمكانية تدخله، عسكرياً، وبشكل منفرد، وبقرار منه، في الدول المستقلة ذات السيادة، تحت ذرائع مختلفة. وقد أشار كوستاس إلى أنه ليس في مقدور الحلف العمل من خلال مبادئه، بعيداً عن قواعد الشرعية للمنظمات الدولية، التي تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة. وأكد أن المهم تسوية حرب البلقان، المشتعلة، في الوقت الراهن؛ وضمان عودة جميع اللاجئين الألبان إلى الإقليم؛ وانسحاب القوات الصربية منه؛ ووقف جميع أعمال الحرب.

والحقيقة أن أهمية هذا الموقف، تكمن في صدوره عن دولة عضو في الحلف؛ وفي موافقته مقتضيات احترام النظام الدولي، القائم على نظام الأمم المتحدة، والمنظمات التابعة لها، التي تشكل ملامح الشّرعية الدولية، وتفصل في المنازعات بين الدول، وتملك، وحدها، شرعية دولية، لاستخدام القوة في فض هذه المنازعات، عندما يستلزم الأمر.

وقد قررت الحكومة اليونانية، وقف جميع التحركات العسكرية لقوات الحلف على الأراضي اليونانية، وعدم السماح لها بعبورها، لمدة عشرة أيام، ابتداء من 2 يونيه 1999، استعداداً لإجراء الانتخابات احتياطاً من حزب الباسوك الحاكم، لخسارته في هذه الانتخابات. وكانت اليونان قد رفضت طلب تركيا، السماح للطائرات التركية بعبور المجال الجوي اليوناني، للتوجه إلى ألمانيا، بهدف المشاركة في الغارات العسكرية لحلف شمال الأطلسي على بلغراد.

وقد ظلت اليونان متمسكة بمبادرتها لحل أزمة كوسوفا؛ إذ أعلنت وزارة الخارجية اليونانية تأييدها منح إقليم كوسوفا حق الحكم الذاتي، داخل الحدود اليوغسلافية؛ وانتشار قوات دولية فيه، لحفظ السلام؛ وضمان عودة اللاجئين، الناطقين بالألبانية، إلى ديارهم. وكان رئيس الوزراء اليوناني قد دعا، إلى عدم إجراء  أي تغييرات في الحدود، في منطقة البلقان؛ وحذّر من خطر زعزعة الاستقرار، واشتعال حرب واسعة فيها؛ وضرورة إرساء السلام والتعاون بين دول البلقان، ونبذ الحرب.

5. الموقف التركي

يمكن تناول الموقف التركي، من وجهات متعددة؛ سواء الموقف الفردي، بعيداً عن باقي دول حلف شمال الأطلسي؛ أو الموقف التركي، من خلال مشاركة تركيا في قوات الحلف؛ أو من خلال موقفها داخل مجموعة الاتصال الإسلامية، التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي.

الموقف التركي الفردي: في بداية غارات الحلف على يوغسلافيا، عرضت تركيا اشتراك طائراتها الحربية، من نوع F-16، في عمليات القصف الجوي، على أن يكون الطيارون من الحلف، وليس من تركيا. ثم قررت زيادة عدد طائراتها الحربية، المشاركة في غارات الحلف على يوغسلافيا، في خطوة إضافية، بعد موافقتها على السّماح للحلف بنشر طائراته في بعض قواعدها الجوية، وعقب مشاركة طائراتها مشاركة مباشرة في ضرب أهداف صربية.

وقد أوردت إحدى الجرائد التركية تقريراً، تضمن تأكيد رئاسة الأركان العامة التركية، اشتراك طائرات F-16 التركية، المتمركزة في إحدى قواعد الحلف، في إيطاليا، مشاركة فعلية، ومباشرة، في عمليات قصف الأهداف الصربية؛ بعد أن كان دورها يقتصر على حماية طائرات الحلف، التي تتولى مهام قصف المواقع الصربية.

وحسبما أوردت بعض المصادر السياسية التركية، فإن تركيا وضعت ثماني طائرات أخرى، من مقاتلاتها من نوع F-16، الموجودة في القواعد التركية نفسها، تحت تصرف قيادة الحلف، ليستعين بها، في إطار مهمته، التي نشر بمقتضاها، 67 طائرة في قواعد عسكرية تركية.

من ناحية أخرى، ذكرت جريدة "ميليت" التركية، أن أنقرة لا تنظر، بإيجابية، إلى فكرة تنفيذ الحلف عملية برية في كوسوفا. كما اتفقت تركيا مع الجانب الأمريكي، على نقل عشرين ألف لاجئ، من ألبانيا ومقدونيا، إلى أراضيها، على متن الطائرات العمودية الأمريكية. وفي الوقت نفسه، أجرى وزير الخارجية التركي، إسماعيل جيم، اتصالَين هاتفيَّين، في هذا الشأن، مع نظيرته الأمريكية، مادلين أولبرايت. وكان الرئيس التركي، سليمان ديميريل، قد بعث برسالة إلى الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون، أشاد فيها بالموقف الأمريكي الفعال، في خصوص شن حلف شمال الأطلسي غارات على الصرب؛ وذلك لوضع حدٍّ لعمليات القتل الجماعي، التي يتعرض لها الألبان في كوسوفا. ودعا ديميريل الرئيس الأمريكي، إلى ضرورة استمرار هذا الموقف، إلى أن يتوصل إلى حل للمشكلة.

وخشية اتهام يوغسلافيا تركيا بإعلان الحرب عليها، من طرف واحد، فقد بادر وزير الخارجية التركي، إسماعيل جيم، إلى نفي أن يكون استخدام القواعد العسكرية التركية، لشن غارات على يوغسلافيا، إعلان حرب منفرداً لها، من جانب أنقرة. وأوضح الوزير التركي، أن بلاده عضو في الحلف، وتلتزم بالمسؤوليات، التي توجبها هذه العضوية فحسب؛ وأن رئاسة الأركان العامة التركية، هي الجهة المنوط بها كيفية استخدام ثلاث قواعد عسكرية، من جانب الحلف، خلال عملياته العسكرية. ولعل هذا الموقف الأخير، يؤكد المعايير الواقعية، والحسابات المصلحية، التي ترغب تركيا في إبرازها، في حال انتهاء الحرب، وتسوية الأزمة.

6. الموقف التركي، في إطار حلف شمال الأطلسي

أكد الرئيس التركي أهمية الدور، الذي أدّاه حلف شمال الأطلسي، على مدى الأعوام الخمسين الماضية، كأساس لنظام الأمن الأوروبي. وعدَّ الحلف ضماناً لتأمين الاستقرار والأمن، في الفترات المقبلة. وجاءت هذه التأكيدات، أثناء الاحتفال، في واشنطن، بمرور 50 عاماً على إنشاء الحلف.

وطبقاً للموقف التركي المُعلن، الذي سمح لقوات الحلف بنشر طائراتها في القواعد التركية، بل والمشاركة التركية الفعلية في هذه القوات، اجتمع وزراء خارجية الدول التسع عشرة، الأعضاء في الحلف، وبينهم الوزير التركي، في بروكسل، لبحث الموقف في ظل تعنت يوغسلافيا. وفي ختام الاجتماع، حدد الوزراء خمسة شروط، طالبوا الرئيس اليوغسلافي بقبولها، كأساسي لوقف العمليات العسكرية. وهي:

أ. وضع حد فوري للقمع والعنف، وأي مظاهر لأعمال عسكرية.

ب. سحب قوات الشرطة والجيش والميليشيات، من كوسوفا.

ج. الموافقة على نشر قوات دولية.

د. الموافقة على عودة آمنة، وغير مشروطة، لجميع اللاجئين؛ ودخول منظمات إنسانية إلى كوسوفا.

هـ. العمل على إيجاد إطار سياسي في كوسوفا، على أساس اتفاقات رامبوييه، في فرنسا، يتماشى القانون الدولي، وشرعية الأمم المتحدة.

ومع استمرار الحلف في القصف الجوي على يوغسلافيا، جاء احتفال قادة الحلف بالعيد الخمسيني لإنشائه، وتحّول إلى مظاهرة، في مواجهة يوغسلافيا؛ إذ اتفق رؤساء دول وحكومات الدول التسع عشرة، الأعضاء في الحلف، ومن بينها تركيا، على فرض حظر نفطي على الاتحاد اليوغسلافي، بهدف تشديد العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، لإجباره على قبول الحل السلمي لأزمة كوسوفا. وأعلنوا، في بيانهم، استعداد الحلف لوقف الضربات الجوية، إذا قبلت حكومة بلغراد هذه الشروط الخمسة، المتبقية عن مؤتمر بروكسل. وذكر البيان أن العرض، الذي تقدم به الرئيس اليوغسلافي، ميلوسيفيتش، إلى المبعوث الروسي، فيكتور تشيرنوميردين، بقبول وجود دولي، تحت رعاية الأمم المتحدة، في كوسوفا ـ هو غير كافٍ.

7. الموقف التركي، في إطار مجموعة الاتصال

برز الموقف التركي، كذلك، في إطار مجموعة الاتصال، التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والتي عقدت اجتماعاً في جنيف، على مستوى وزراء خارجية الدول الثماني، وهي: إيران، ومصر واندونيسيا، وماليزيا، وباكستان، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، والسنغال.

وفي ختام الاجتماع، أكد الوزراء أنهم سينسقون، من خلال منظمة الأمم المتحدة، في جنيف، المساعدات المقدمة من دول منظمة المؤتمر الإسلامي، إلى ألبان كوسوفا، بالتعاون مع المنظمات الإنسانية المعنية. وهكذا، اقتصر دور تركيا، في منظمة المؤتمر الإسلامي، على هذا الاجتماع؛ وكان أضعف أدوارها، وأقلّها فاعلية على الإطلاق.

ثانياً: إعادة إعمار كوسوفا

بعد انتهاء أزمة كوسوفا، وخروج قوات حلف شمال الأطلسي من الإقليم، استعد جيش مدني آخر، من المستشارين والمهندسين، لدخول، الإقليم، وخوض صراع جديد من المنافسة، في فرص إعادة إعماره.

وقد جُعلت أولويات الإعمار للبِنية الأساسية، والمياه، والكهرباء، والجسور؛ ثم مساعدة السكان المحليين على إعادة بناء المنازل والمستشفيات، (اُنظر ملحق تقرير أمين عام الأمم المتحدة، كوفي أنان، المقدم إلى مجلس الأمن، في شأن عمليات بعثة الأمم المتحدة للإدارة المؤقتة في كوسوفا)

وتراوح تقديرات الأموال، المطلوبة لإعادة الإعمار، بين 3,5 مليارات دولار لكوسوفا، على مدى ثلاثة أعوام؛ وبين مائة مليار دولار، على مدى عشرة أعوام، للبلقان بأسْره.

وعُقدت المؤتمرات، والقِمم الاقتصادية، لمناقشة كيفية تدبّر المال اللازم ووجه إنفاقه. ففي 30 يونيه 1999، عُقد مؤتمر، في الأمم المتحدة، لمراجعة التقدم، الذي أمكن تحقيقه، منذ انتهاء الحملة الجوية، فيما يتعلق بعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم؛ إضافة إلى جهود إعادة إعمار كوسوفا.

وقد شارك في هذا المؤتمر وزراء خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، وبلجيكا، وفرنسا، وفنلندا، وألمانيا، واليونان، وإيطاليا، وهولندا، والنرويج، وأسبانيا، وتركيا، وبريطانيا؛ إضافة إلى ممثلين لكلٍّ من كندا، والصين، والدانمارك، واليابان، وروسيا، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبية.

واتفقت القمة الاقتصادية السّنوية الرابعة، لدول أوروبا، الوسطى والشرقية، التي عقدت في سالزبورج، في يونيه 1999، بحضور 16 رئيس دولة وحكومة من دول المنطقة، مع مؤتمر الأمم المتحدة، على إعادة إعمار البلقان؛ مع عرض برنامج لإعادة تقييم الوضع في أوروبا، بعد حرب كوسوفا.

ويُعَدّ تحقيق الاستقرار والأمن، في البلقان، من الأمور الضرورية لتكريس الأمن الأوروبي؛ وهو ما انعكس على اجتماع قمة الاتحاد الأوروبي (يونيه 1999)، الذي طُرح فيه اقتراح وضع ميثاق للاستقرار في البلقان. وكانت قد طرحت أفكار مماثلة، تتعلق بقضايا الأمن والتعاون الإقليميَّين، أثناء قمة حلف شمال الأطلسي، في أبريل 1999.

أما وزراء مالية مجموعة الدول السبع الصناعية، والهيئات المالية الدولية الكبرى (مثل صندوق النقد الدولي، المصرف الأوروبي) ـ فقد التقوا في بروكسل، في يوليه 1999، وبحثوا سبل إعادة الإعمار في البلقان. كما تركزت محادثاتهم في المساعدات الإنسانية الفورية، لإعادة اللاجئين، وإعادة الإعمار، قبل حلول فصل الشتاء.

وفي بروكسل، بدأ المسؤولون، في 100 دولة ومنظمة دولية، مؤتمراً، في يوليه 1999، للتداول في شأن كوسوفا، وتحت رعاية اللجنة الأوروبية، والمصرف الدولي. وناقش المؤتمرون خطة لإنقاذ لاجئي كوسوفا العائدين إلى منازلهم؛ وكذلك إعادة إعمار أوروبا؛ وتقديم المساعدات الإنسانية، من بناء المنازل، وتشغيل محطات الطاقة والمعونات.

وقُدرت المعونات العاجلة للإقليم، حسب تقديرات المفوضية الأوروبية، بنحو مليار و116 مليون يورو؛ ومليار و900 مليون يورو للإسكان؛ و20 مليار و200 مليون يورو لإصلاح المدارس؛ و 6.7 ملايين يورو للمراكز الصحية.

وفي 29 يوليه 1999، بدأ، في سراييفو، مؤتمر قمة "معاهدة الاستقرار في البلقان"، أعماله، بحضور رؤساء الدول الثماني، موقِّعة المعاهدة؛ إضافة إلى ممثلي دول الاتحاد الأوروبي، ومجموعة الدول الصناعية السّبع الكبرى، وروسيا. واستهدفت هذه القمة النهوض بالمنطقة، وتحقيق الازدهار الاقتصادي في أفقر دول أوروبا؛ مع العمل على إعادة اندماج البلقان في القارة الأوروبية.

وقد أكد الرئيس الأمريكي، بيل كلنتون، في رسالة، وجّهها إلى رئيس البوسنة، أن القمة المقبلة، ينبغي أن تبرز قضية عزل الرئيس اليوغسلافي، ميلوسوفيتش. كما أكدت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية، أن مبلغ الـ 500 مليون دولار، المقرر دفعها من قبل حكومتها، ستستخدم في إعاشة اللاجئين الألبان العائدين إلى كوسوفا وإسكانهم؛ على أن يتحمل الحلفاء الغربيون نفقات إعادة الإعمار.

وقد تم التعهد بتقديم مليارَي دولار كمعونة دولية. كما وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة، على صرف مائتَي مليون دولار، للإدارة المؤقتة، التابعة للأمم المتحدة، في كوسوفا.

ولا شك أن السعي إلى تحقيق النمو الاقتصادي، والتقدم الاجتماعي، والاستقرار السياسي الديموقراطي، في منطقة البلقان، يُعَدّ مانعاً حصيناً دون اندلاع الاضطرابات والصراعات فيها، مرة أخرى. ومن ثَم، فإن قمة سراييفو، لا تقلّ أهمية عن الجهود الدولية، التي بُذلت من أجل إيقاف الحرب.