إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع في جنوبي السودان





موقع منطقة إبيي
المناطق الحدودية المختلف حولها

مناطق النفط جنوب السودان
أماكن معسكرات الفصائل
الموقع الجغرافي للسودان
التوزيع القبلي
التقسيم الإداري للسودان
التقسيم الإداري لجنوب السودان
تضاريس السودان
قناة جونجلي



المبحث الأول

المبحث الأول

تطور مشكلة الجنوب الفترة 1898 – 1971

أولاً: سياسة الحكم الثنائي وأثرها على مشكلة الجنوب عام 1898

عندما اكتمل فتح السودان عام 1898م من قبل الإنجليز والمصريين، فُتح شماله وجنوبه لتلعب السياسة الدولية دورها كاملاً. ففي تلك الفترة وعند تقدم جيش الحكم الثنائي جنوباً، اصطدم بالوجود الفرنسي في مدينة فشودا "مدينة كدوك حالياً". وسويت المشكلة بانسحاب الجيش الفرنسي في ديسمبر 1898. وبدأت النظرة لجنوب السودان على أنها الأرض، التي يجرى عليها النيل الأبيض، الذي يُعتمد عليه كشريان للحياة لكل من السودان ومصر.

1. سياسة الحكم الثنائي تجاه الجنوب، وأثرها في مشكلة الجنوب

في عام 1900م بدأت إدارة الحكم الثنائي، في توطيد دعائم حكمها بالإقليم الجنوبي. فأنشئت الحاميات تحت إشراف الضباط البريطانيين. وكعادة القبائل في الجنوب ومناوئتها للمستعمر، شقت تلك القبائل عصا الطاعة على هؤلاء الحكام الجدد. فكان التهديد بالقوة تارة، وإثارة الفتن بين القبائل تارة أخرى، لشغل المواطنين في أنفسهم. كما كانت هناك بعض الاستقطابات عن طريق الهدايا، لكسب ود الأهالي.

ولم يقف إخضاع القبائل للحكم الجديد عند هذا الحد، بل كانت هناك التجريدات وحملات التأديب المتواصلة، خاصة التي أرسلت لإخضاع قبيلة النوير التي كانت تقاوم الاحتلال حتى أخضعت كليا عام 1930. وتجدر الإشارة إلى أن الجنوب، ظل يعيش منذ احتلال السودان وحتى عام 1930، في حروب قبلية تارة، وثورات ضد المستعمرة تارة أخرى. فتعطلت عجلة التطور، وتوقفت التنمية. وهذا عكس ما حدث بالمديريات الشمالية، التي بدأت في تطوير نفسها بشرياً ومادياً واقتصاديا. وهنا برزت الهوة في التّطور بين الشمال والجنوب. وفي تلك الفترة أيضاً تلاشت تجارة الرقيق، بعد حرب شعواء شنها الإنجليز والأوربيون عليها.

كانت سياسة الحكم الثنائي في السودان، خلال العشر سنوات (1920 ـ 1930) مرتكزة على أن هناك فوارق وهوة سحيقة، بين شمال السودان وجنوبه. وعلى ذلك بدأت السياسة تجاه الشمال، بمديرياته الست آنذاك، مختلفة عن السياسة المطبقة في مديريات الجنوب الثلاث. واتخذت حكومة الحكم الثنائي من الإجراءات، ما يُمكنها من فصل مديريات الجنوب عن باقي مديريات الشمال، فمن ذلك:

أ. إسناد بعض المسائل، التي تخص الإدارة إلى السلطات المحلية وتحت الأشراف الحكومي. فأنشئت محاكم الرؤساء في الشمال والجنوب على السواء.

ب. تكوين قوه من الجنوبيين يقودها ضباط إنجليز، وعلى ذلك انسحبت الفرقة الشمالية من "منقلا" سنة 1917م، بعد اكتمال إنشاء هذه القوة.

ج. يهدف تكوين هذه القوه إلى منع  وجود قوات شمالية مسلمة في الجنوب، للاعتقاد بأن القوات الشمالية بها من المسلمين ما يضير انتشار المسيحية.

د. اتُخذت في سنة 1918م إجراءات، من شأنها أن تجعل اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية في الجنـوب، واعتبار يوم الأحد العطلة الرسمية.

هـ. وضع الخطط والسياسات لجعل كل مديرية مكتفية ذاتياً، ومستقلة بقدر الإمكان.

كان قبول الطلاب في الكلية الحربية أول إنشائها، مُحتكراً على السود أو الزنوج، دون غيرهم مِمَن يعتقد أنهم عرب[1].

2. قانون الجوازات والهجرة

أصدر الحاكم العام في سنة 1922 قانون الجوازات والهجرة، الذي بمقتضاه مُنح الحاكم العام سلطة اعتبار أي جزء من السودان منطقة مقفولة كلياً أو جزئياً. وتخص سياسة القفل هذه، السودانيين وغير السودانيين على السواء. وصيغ هذا الأمر في المادة (23) من قانون الجوازات والهجرة. واعتبرت بعض المناطق في ذلك الوقت "مناطق مقفولة"، مثل :

أ. المديرية الاستوائية.

ب. مديرية أعالي النيل.

ج. مديرية دارفور، وأجزاء من جنوب مديرية كردفان.

وصدر قانون آخر في 1925م، يمنع التجارة في بعض مناطق المديريات الأخرى لغير السودانيين إلاّ بتصديق خاص. وقُصد بهذا القانون منع المصريين وأبناء الشمال من المسلمين، من الدخول لتلك المناطق المقفولة، ومزاوله أعمالهم. كما شجع القانون التجار المسيحيين والتجار من الشمال، الذين ليس لهم قصد أخر سوى التجارة دخول تلك المناطق. ونجم عن ذلك آثار سلبية على الانتعاش التجاري والاقتصاد في الجنوب، للأسباب الآتية:

أ. انكمش حجم التجارة بشكل عام.

ب. انخفض حجم التبادل السلعي بين الشمال والجنوب.

وبسبب ذلك تعثر الازدهار الاقتصادي بالجنوب، إذا قورن بتطور الاقتصاد والتجارة في الشمال. وصاحب التطور في الشمال، قيام المشاريع، وبناء الخزانات، وشقت الطرق، وتبعها عنصر الخدمات، من رعاية طبية وتعليم. في حين ظلت المديريات الجنوبية مقفولة، تفتقد ما وصل إليه الشمال من تطور. ولم تفِ إمكانيات بعثات المبشرين بالحجم المتعاظم من الأعمال في المجال الصحي، فتفشت في الجنوب الأمراض الفتاكة مثل السّل، والجذام، ومرض النوم، إلى جانب الملاريا.

وفي مديرية بحر الغزال اختلف الموقف عن المديريات الجنوبية الأخرى. فقد دخلها الإسلام، وكانت حركة التجارة منتعشة بواسطة التجار الشماليين. وهنا وجد مدير بحر الغزال في قانون الهجرة الجديد مدخلاً للتخلي عن هؤلاء التجار، الذين هم عنصر غير مرغوب وجوده في مديريته. فشجع التجار الشماليين على العودة إلى ديارهم تارة، وأكرههم على البقاء في الجنوب تارة أخرى. وبذا تقلص الوجود الشمالي في الجنوب، وشمل ذلك الموظفين الشماليين، وأفراد القوات النظامية من الشماليين المسلمين. وقد تسبب إبعاد العنصر الإداري الشمالي من الجنوب، في إعاقة العمل الإداري والأمني مما حد من تطوره.

وعلى كلٍ، يمكن القول إن توجهات الحكم الثنائي وسياسته نحو الجنوب، كانت ترمي إلى فصله عن الشمال، بخلق تلك الفوارق. بيد أن تلك السياسة والتوجهات لم يحالفهما الحظ في عملية الفصل النهائي، بل نجحا في تعميق الفوارق بين شمال السودان وجنوبه.

3. مؤتمر الخريجين في سنة 1938

في سنة 1938 قدّم مؤتمر الخريجين مذكرة لإدارة الحكم الثنائي، تحمل تصوراً جديداً لسياسة التعليم في الجنوب. وحوت المذكرة اقتراحاً بإتاحة الفرصة للتجار الشماليين بالعمل في المديريات الجنوبية، بغرض تمكين اللغة العربية في الوسط الجنوبي.

4. التنمية

في الفترة ما بعد سنة 1939م، كانت هناك توجهات من شأنها زيادة الرقعة الزراعية بقيام المشاريع وتطوير الاقتصاد، بجانب التطوير الثقافي. ولكن حالت عوامل كثيرة دون التوسع في سياسة التنمية هذه، كان أهمها:

أ. نشوب الحرب العالمية الثانية، التي أوقفت معظم المشاريع الإنمائية.

ب. التخلف الذي كان يعيش فيه أبناء الجنوب، وعدم قدرة النظام التعليمي الكنسي على دفع عجله الثقافة.

ج. السياسة غير الواضحة حيال المديريات الجنوبية، والنظرة المريبة لأبناء الشمال والمصريين.

د. عدم الارتياح والثقة لما سيعود من عائدات من الإمكانات المتاحة في الجنوب.

هـ. انشغال الحكومة في الخرطوم، بالقضايا الملحة التي تخص شمال السودان.

و. عدم رضى المثقفين في الشمال عن السياسة المطبقة في الجنوب، مما جعلهم يحجمون عن المشاركة في إبداء الرأي لتطوير الجنوب ثقافياً واقتصادياً وتنموياً.

ح. عدم ارتياح الجنوبيين عن نظام الأجور المطبق، بسبب الفوارق في الأجور بين الشمال والجنوب.

5. اقتراح تقسيم الجنوب

وُجهت انتقادات عديدة لسياسة الحكومة البريطانية في الجنوب، تمثلت في مذكرة 3 إبريل 1944، التي رفعها المدير السابق للمعارف "المستر كوكش". وقد أوضح في المذكرة أن سياسة التعليم المطبقة في الجنوب، جعلته أكثر تخلفاً عن الشمال. ثم جاءت مذكرة مؤتمر الخريجين، التي اشتملت على المطالب الآتية:

أ. رفع القيود عن حركة التجارة بين الشمال والجنوب.

ب. إلغاء قانون المناطق المقفولة.

ج. إلغاء الإعانات التي كانت تمنح للإرساليات.

د. توحيد المناهج التعليمية.

هـ. حرية التنقل بين الشمال والجنوب.

و. تحقيق سياسة زيادة الصلات، بين أبناء الجنوب والشمال.

ونتيجة لذلك قدّم الحاكم العام مذكرة، تضمنت ثلاثة مقترحات، واشتملت على الخيارات الآتية:

·   ضم الجنوب إلى الشمال.

·   ضم الجنوب إلى دول شرق أفريقيا.

·   ضم أجزاء من الجنوب إلى شمال السودان، وأجزاء أخرى إلى شرق أفريقيا.

لم ترحب دول شرق أفريقيا بضم جنوب السودان إليها، نظراً للتخلف الشديد الذي كان يُعاني منه. ومع إلغاء السودان للمجلس الاستشاري عام 1946 وإنشاء الجمعية التشريعية، انقسمت وجهة نظر أهل الجنوب إلى قسمين:

الأولى: تنادي بالاتحاد الفيدرالي مع الشمال، وذلك أملا في دخولهم الجمعية التشريعية السودانية، بدلاً من تجاهلهم مثل ما حدث في المجلس الاستشاري.

الثانية: الاستفتاء لتقرير المصير.

6. مؤتمر جوبا

في يونيه عام 1947 انعقد المؤتمر الإداري في جوبا، برئاسة السكرتير الإداري، وخرج المؤتمر بالتوصيات الآتية:

أ. الوحدة بين الشمال والجنوب ضرورة، لأن الجنوب لا يمكنه الاتحاد مع أوغندا، كما أنه لا يستطيع الاعتماد على نفسه ذاتياً.

ب. يُلحق فصل الشمال عن الجنوب الضرر البالغ بالجنوب، وسيؤدي إلى مزيد من التخلف للإقليم.

ج. يخشى الجنوب من نوايا الشمال، وسيطرته على الجنوب.

وأعقب المؤتمر الموافقة على قيام جمعية تشريعية واحدة لكل السودان، شماله وجنوبه، وترك للحاكم العام سن القوانين أو إلغائها لوقف أي سوء إدارة من الشمال للجنوب.

لم تلق قرارات مؤتمر جوبا قبولاً لأنها لم تُرضِ طموحات الإداريين البريطانيين. ورأى الإداريون البريطانيون أن هذه القرارات سوف تمكِّن من تعيين ثلاثة عشر عضواً جنوبياً في الجمعية التشريعية السودانية، وهذا سيؤدى إلى تحقيق وحدة الشمال مع الجنوب. ورأى المبشرون في الإرساليات أن الشماليين سيقررون فرض الدين الإسلامي على جميع أنحاء السودان.

وأعقب تلك المرحلة الإجراءات الآتية:

·   تقلص حجم الإعانات الممنوحة للإرساليات.

·   بدأ تدريس مادة اللغة العربية في مدارس الجنوب.

·   توحدت سياسة التعليم بين الشمال والجنوب.

·   سُمح للطلاب غير المسلمين بالقبول في المدارس الحكومية بالمدريات الشمالية، وسمح للذين لا ينتمون للأديان السماوية حرية حضور حصص الدين وغيرها.

·   تتحمل مديريات الشمال عبء الإنفاق على التعليم في الجنوب.

7. اتفاقية عام 1953

شُكلت لجنة دستورية عام 1951 لاقتراح الخطوات اللازمة لتحول السودان إلى الحكم الذاتي. واتخذت اللجنة قرارها باستقلال السودان الموحد، على الرغم من مطالبة الجنوب بالحكم الفيدرالي. ثم تلى ذلك إعلان اتفاقية السودان عام 1953 بين مصر وبريطانيا، بشأن منح السودان حق تقرير المصير، وأدت الاتفاقية إلى:

أ. قيام حزب الأحرار الجنوبي، نتيجة لعدم وجود أحزاب تمثل الجنوبيين.

ب. بعد تمرد الفرقة الجنوبية، طالب السياسيون الجنوبيون بحكومة فيدرالية، كشرط مسبِّق للموافقة على إعلان الاستقلال.

ج. طالب عدد من نواب الجنوب باستفتاء لتقرير المصير، وطالب الآخرون بحكم اتحادي.

8. تمرد عام 1955

بإعلان اتفاق عام 1953، عادت القيادات الجنوبية تنادي بالفيدرالية، وتلا ذلك وقوع عصيان وصدام مسلح في يوليه 1955، بين عمال مصنع أنْزارا، من قبيلة الزاندي، والشرطة. ثم تلاه تمرد الفرقة الجنوبية في 15 أغسطس 1955م. وترجع تلك الأحداث إلى العوامل الآتية:

أ. الأخطاء التي حدثت من الأحزاب في الشمال، استغلها المبشرون والإداريون، الذين لم تعجبهم قرارات مؤتمر جوبا وقرار الجمعية التشريعية.

ب. عدم إلمام الأحزاب في الشمال بالأحوال في الجنوب.

ج. حرص الأحزاب في الشمال على التخلص من الاستعمار، دون إعطاء اهتمام كافٍ لما يدور في الجنوب.

د. عدم ثقة أهل الجنوب في نوايا الشمال، خاصة وأن ممثلي الأحزاب الذين ذهبوا إلى القاهرة لمناقشة مصير السودان بعد الحكم الثنائي، لم يكن بينهم ممثلون من الجنوب.

هـ. زاد من حدة التوتر إعلان حكومة الأزهري الانتقالية، أن الحكومة حريصة على تنفيذ الاتفاقية التي جاء فيها أن السودان وطن واحد لا يتجزأ، وأن الحكومة لن تتهاون في هذا الصدد ولديها الجيش والبوليس.

سادت حالة من عدم الرضا بين الجنوبيين لقرارات السودنة (أي إحلال موظفين سودانيين وظائف البريطانيين) التي تجاهلت الكوادر الجنوبية المثقف

ثانياً: جنوب السودان في فترة ما بعد الاستقلال

قبيل إجراء الانتخابات النيابية الأولى في السودان، ظهر تكتلان سياسيان رئيسيان في الشمال، هما: حزب الأمة من الأنصار المهديين؛ والحزب الاتحادي الوطني، المدعوم من السيد علي محمد عثمان الميرغني وطائفته الختمية. وكان الحزب الاتحادي الوطني قد فاز في الانتخابات، التي جرت قبل الاستقلال في عام 1954، فأصبح زعيمه السياسي السيد إسماعيل الأزهري رئيساً للوزراء.

بدأت المشاكل فور إعلان الاستقلال، وكان السبب الأساسي لهذه المشاكل أن الأحزاب، التي عملت سواء من أجل الاستقلال أو معارضة له، وجدت نفسها عقب نيل الاستقلال من دون هدف محدد، وأنها تتصارع في محاولة لتلبيه احتياجات البلد الحديث العهد باستقلاله.

باستقلال السودان تحول قانون الحكم الذاتي، خلال الأيام الإثني عشر الأخيرة من شهر ديسمبر 1955، إلى دستور انتقالي مؤقت. ثم بدأ العمل في إعداد دستور نهائي، أحيطت محادثاته بجدل مستمر حول مطالبة الجنوب بارتباط فيدرالي، بينه وبين الشمال، بدلاً من الوحدة. كذلك بدأ الخلاف حول طبيعة النظام السياسي السوداني، وهل سيصبح جمهورية برلمانية أم رئاسية؟

شُكلت حكومة جبهة وطنيه متحدة، من أجل وضع ميثاق وطني يصبح  إطاراً لمستقبل البلاد. برئاسة "إسماعيل الأزهري". ونقلت الأحزاب، التي شاركت في الحكومة خلافاتها إلى داخل الحكومة، مما أعاق أداءها. وظهرت بوادر انشقاق داخل الحزب الاتحادي الوطني عندما أعلن الزعيمان "عبدالرحمن المهدي" و "علي عثمان الميرغني" في بيان مشترك، قيام تحالف بين الأنصار والختمية. وعلى أثر ذلك، أسست طائفة الختمية "حزب الشعب الديموقراطي" بقيادة الشيخ علي عبدالرحمن.

في يوليه 1956 سقطت حكومة الأزهري الائتلافية، وتشكلت حكومة ائتلافية أخرى بالمشاركة بين حزب الأمة وحزب الشعب الديموقراطي، برئاسة الأمين العام لحزب الأمة "عبدالله خليل".

وفي عام 1958 نشأ نزاع داخل حزب الأمة، صاحب الأكثرية النيابية. فقد كان "عبدالله خليل" رئيس الوزراء، يرى أن استقرار السودان يتم إذا تحالف حزب الأمة مع حزب الشعب الديموقراطي، في حين كان "الصديق المهدي" زعيم طائفة الأنصار، يرى أن التحالف الأكثر تجانساً هو بين حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي برئاسة "إسماعيل الأزهري". كانت هناك شكوك لدى رئيس الوزراء، بأن "إسماعيل الأزهري" يناور مع جهات أجنبية تعرض استقلال السودان للخطر. ورأى "عبدالله خليل"، رئيس الوزراء، أن الخروج من هذا المأزق يكون بتولي القوات المسلحة للسلطة.

1. الفترة من 1958 ـ 1964: "الحكم العسكري الأول"

تسلم الجيش السلطة، بقيادة الفريق "إبراهيم عبود"، في 17 نوفمبر 1958. وشكّل الجيش قيادة ثورية عليا من 12 ضابطاً، بينهم قائد الانقلاب "الفريق عبود". وأعلن عن تشكيل حكومة من ثمانية عسكريين وخمسة مدنيين، برئاسته. وركزت الحكومة العسكرية على معالجة القضايا الاقتصادية، وتثبيت أقدام الحكم، وضرب الحركات الانقلابية التي صاحبته، وإسكات التحركات السياسية من قِبل السياسيين القدامى، وتحركات النقابات والطلبة. وبذا أغفلت الحكومة مشكلة الجنوب.

واتخذت الحكومة العسكرية، فور استلامها الحكم، القرارات الآتية:

أ. حل جميع الأحزاب السياسية، وإلغاء الدستور المؤقت، وحل البرلمان.

ب. فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية، ومنح المجلس الأعلى للقوات المسلحة سلطات دستورية.

ج. منع التجمعات والمواكب والتظاهرات.

د. إغلاق جميع الصحف.

هـ. الاهتمام بنشر الدين الإسلامي، وجعل يوم الجمعة عطلة رسمية.

و. قصر الصلاة للمسيحيين في الكنائس.

ز. طرد المبشرين والقساوسة الأجانب من مديريات الجنوب، لتدخلهم في السياسة.

ح. مطاردة المتمردين في الجنوب.

ط. التزام الحكومة بجميع المعاهدات القائمة، وبقاء المسؤولين في مناصبهم، وأن تظل جميع القوانين سارية المفعول.

أدت مطاردة المتمردين في الجنوب إلى هروب أعداد كبيرة منهم، خاصة بعض الشخصيات السياسية، إلى الدول المجاورة. مثل أفريقيا الوسطى، وزائير، وأوغندا وإثيوبيا، حيث شُكِّلت أحزاب مناوئة للحكومة العسكرية. وأُعيد تشكيل "الاتحاد الوطني للمناطق المغلقة في السودان الأفريقي" "SAADNU" تحت اسم "الاتحاد الوطني الأفريقي السوداني" "SANU" [2].

حركة أنيانيا

أخذت حركة أنيانيا شكلها التنظيمي عام 1962، حيث ظهرت في مسرح الأحداث. وبظهور هذه الحركة تطورت المشكلة لتأخذ شكلاً جديداً. فقد تشكلت الأنيانيا من المقاتلين المسرّحين عقب تمرد عام 1955، وبدأت عملياتها في شكل حرب عصابات. ومع غياب أو انحسار العمل السياسي بين الجنوبيين، وجدت الأنيانيا الميدان خالياً لتنفيذ الدور المخطط لها. وقُدمت لها المساعدات العسكرية من الدول المحيطة بجنوب السودان. وعلى الرغم من ذلك لم تنجح الحركة في السيطرة على الجنوب، ولم تنجح الحكومة في القضاء عليها.

2. الفترة من 1964 ـ 1969: "الحكم الديموقراطي الثاني"

حكم الرئيس "إبراهيم عبود" ست سنوات، وفي مطلع 1964، حدثت تحركات كبيرة في جامعة الخرطوم، وعلى المستوى الشعبي. وتعدّ حركة أكتوبر 1964 ثورة شعبية، أدت إلى سقوط الحكومة العسكرية وتعيين السيد "سر الختم الخليفة" رئيساً للوزراء، وهو من المهتمين بشؤون الجنوب ووثيق الصلة به. وقد عُين وزير الداخلية من أبناء الجنوب.

في 10  ديسمبر 1964، وافق رئيس مجلس الوزراء على مذكرة، قُدمت إليه من حزب سانو الجنوبي. وكان من أهم بنودها:

أ. العفو العام عن جميع اللاجئين الجنوبيين في الدول المجاورة، منذ عام 1955.

ب. الاعتراف بحزب سانو.

بدأت المحادثات بين الشمال والجنوب، وتم الاتفاق على عقد مؤتمر مائدة مستديرة في جوبا. وحُسمت الخلافات بين الجنوبيين قبل انعقاد المؤتمر، في 11 مارس 1965.

أ. مؤتمر المائدة المستديرة

انعقد المؤتمر في جوبا، تحت إشراف لجنة من أساتذة جامعة الخرطوم المحايدين، وبحضور مراقبين من مصر والدول المجاورة، ومنظمة الوحدة الأفريقية. كما شكل السياسيون الجنوبيون في الداخل جبهة الجنوب، كجناح لحزب سانو. (اُنظر ملحق قرارات مؤتمر المائدة المستديرة بشأن قضية الجنوب)

وكان المؤتمر يهدف إلى مناقشة العلاقات الدستورية بين الجنوب والشمال. وقد أعدت سكرتارية المؤتمر بحثاً عن المشكلة، تضمن:

(1) جذور المشكلة.

(2) الاختلافات بين الشمال والجنوب فيما يتعلق بالآتي: التباين الثقافي، اختلاف الأجناس، اختلاف العادات والتقاليد.

(3) إنّ مشكلة الجنوب ليست ذات تأثير على جنوب السودان فحسب، بل على كل أفريقيا.

(4) أثر الممارسات الكنسية والتبشيرية، ودورها في تعميق المشكلة.

(5) دور الحكم العسكري، والتزامه بالحل العسكري.

أدان الجنوبيون في المؤتمر سياسات الحكم العسكري السابق، وطالبوا بالحل السياسي للمشكلة. وظهر من خطابات السياسيين الجنوبيين أنهم يستبعدون الانفصال، بل يتطلعون إلى حل في إطار السودان الموحد، ولكن لا بدَّ من معالجة الفوارق بين الشمال والجنوب اقتصادياً، وثقافياً واجتماعياً.

بدأت الاختلافات والانقسامات والشكوك وعدم الثقة، بين الجنوبيين داخل المؤتمر. وانقسموا إلى ثلاثة أقسام: مطالبون بالاتحاد الفيدرالي، ومطالبون بالاستقلال التام، ومطالبون بحق تقرير المصير والاستفتاء: إما الوحدة أو الانفصال، أو حكم ذاتي في إطار سودان موحد فيدرالي.

وكلف المؤتمر لجنة ببحث المستقبل السياسي للسودان. ولكن حكومة السيد سر الختم الخليفة استقالت، قبل أن ترفع اللجنة توصياتها.

ب. التطور العسكري للمشكلة في ظل حكومة سر الختم الخليفة

استمر المتمردون في إقامة المعسكرات على الحدود، وانضم إليهم الهاربون من القوات النظامية. ولكن الحكومة نفّذت العفو العام، وأمرت القوات النظامية بعدم تعقب المتمردين، والاكتفاء بصد هجومهم. فكثّف المتمردون هجماتهم على الجيش، الذي تدهورت معنوياته، ومعها الحالة الأمنية. وتوقف دولاب العمل في الجنوب، وانهارت الإدارة والخدمات.

ج. تطور المشكلة في عهد حكومة محمد أحمد محجوب "يونيه 1965"

في يونيه 1965، خلفت حكومة "محمد أحمد محجوب" حكومة "سر الختم الخليفة". وركّزت الحكومة على إجراء الانتخابات في الشمال، دون الجنوب نتيجة لانهيار الأمن في الجنوب. ولجأت الحكومة للتشدد العسكري مع التمرد، وسعت لتحسين العلاقات مع دول الجوار، لمنع وصول الدعم إلى المتمردين. ونظراً لميول الحكومة وتمشيها مع سياسة الدول الغربية في المنطقة، فقد تركت هذه الدول للحكومة حرية العمل ضد التمرد في الجنوب.

د. تطور المشكلة في عهد حكومة الصادق المهدي "أغسطس 1966"

تابعت الحكومة تحسين العلاقات مع دول الجوار، ونادت بالحل السلمي ومعارضة اللجوء إلى القوة العسكرية لحل المشكلة. ولاح أمل للتسوية عبر المفاوضات، وبدا أن الصادق المهدي أكثر تعاطفاً لحل المشكلة. ودعت الحكومة وفد مجلس الكنائس لتفقد الجنوب، ووضع توصيات بما يراه مناسباً لحل المشكلة.

هـ. تطور المشكلة في عهد حكومة محمد أحمد  محجوب الثانية والثالثة: "مايو 1967 ـ 1969"

تابع محمد أحمد محجوب سياسته المتشددة، وأهمل توصيات مجلس الكنائس. واتخذت الحكومة من القوة أسلوباً لنشر العربية والإسلام وتحقيق الوحدة. وبقيام حرب 1967 العربية الإسرائيلية، قطع السودان علاقاته مع بريطانيا وفرنسا. فسعت الدول الغربية إلى إثارة الاضطرابات في الجنوب ضد الحكومة، وقدمت التسليح الحديث إلى المتمردين. وتوقفت أوغندا عن مطاردة المتمردين في أراضيها. وأمدت إثيوبيا المتمردين بالأسلحة، بتأثير بريطانيا والولايات المتحدة والكنيسة. وساعدت أفريقيا الوسطى المتمردين على مهاجمة القوات السودانية، في مديرية بحر الغزال. وشكل المتمردون حكومة مؤقتة لجنوب السودان، ثم حكومة النيل المؤقتة، التي سيطرت عليها قبيلة الدينكا. وفشلت الحكومتان في توحيد الكلمة، على الرغم من انضمام حركة "أنيانيا" إليهما. ويرجع ذلك إلى عمق الخلافات على الزعامة والنزاعات القبلية.

في عام 1969، نشأ فراغ سياسي دستوري سببه أن حزبيّ الائتلاف "الأمة والاتحاد الديموقراطي"، اختلفا اختلافاً ترجع جذوره لأسباب أهمها الأحداث التي صاحبت الانتخابات العامة في عام 1968، أثناء توحد الحزب الاتحادي الديموقراطي وانشطار حزب الأمة. ثم اتحد حزب الأمة فكان ذلك سببا في إعادة النظر في الائتلاف. لكن الحزب الاتحاد الديموقراطي لم يكن مستعدا  لإجراء مراجعة جذرية في الائتلاف القائم، خاصة وأن قيادة الحزب الاتحادي الديموقراطي تواجه ضغطاً نيابياً وتحدياً لنفوذها. وقدّم النواب مذكرة طالبوا فيها رئيس الحزب بإصلاحات جذرية. وعندما طال أمد الخلاف بين الحزبين، قدم رئيس الوزراء "محمد أحمد محجوب"، استقالته، وأصرّ على ألاّ يستأنف مسؤولياته إلاّ إذا أتفق الحزبان.

3. الحكم العسكري الثاني: "1969 ـ 1985"

عقب الانقلاب العسكري في 25 مايو 1969، واستيلاء القوات المسلحة على السلطة بقيادة جعفر نميري، اعترفت الحكومة بجميع العوامل التي أدت إلى قيام مشكلة الجنوب وتفاقمها. وأصدرت الحكومة "بيان 9 يونيه" يوضح موقفها من المشكلة، واشتمل البيان على الآتي:

أ. الاعتراف بأن هناك مشكلة خلقها الاستعمار، وتطورت على مر السنين بواسطة السياسيين الشماليين والجنوبيين على السواء.

ب. الاعتراف بالتطور غير المتكافئ بين الشمال والجنوب.

ج. النظرة الحزبية الضيقة أضرت بحل مشكلة الجنوب.

د. عدم تمرس السياسيين وإدراكهم أدى إلى تفاقم  المشكلة.

هـ. الإقرار بالاختلافات والتباين في العادات والتقاليد والثقافة، بين الشمال والجنوب.

و. يكمن حل مشكلة الجنوب في التوصل إلى حكم ذاتي إقليمي، في نطاق السودان الموحد.

ز. استمرار فترة قانون العفو العام ومّدها.

ح. وضع برنامج اجتماعي ثقافي للجنوب.

ط. تعيين وزير لشؤون الجنوب ("عُين في المنصب جوزيف قرنق"، وهو شيوعي).

ي. تدريب كادر جنوبي متمرس لتولي المسؤولية.

ك. إنشاء لجنة خاصة للتخطيط الاقتصادي في الجنوب.

ل. إعداد ميزانية خاصة للجنوب، تستهدف رفع مستواه ليسترد عافيته في وقت قريب.

لقيت حكومة الرئيس نميري التأييد من الجنوبيين، عدا قادة الأنيانيا والسياسيين في الخارج. فقد اعتبروا "بيان 9 يونيه" مفروضاً عليهم لأنه صدر من جانب واحد، وليس نتيجة مفاوضات ومباحثات بين الطرفين.

زار وزير الجنوب أوغندا لإقناع الجنوبيين بالسياسة الجديدة. وزار الرئيس نميري مدن الجنوب لشرح سياسته، وحثّ اللاجئين والمتمردين على العودة. وجوبهت هذه الجهود بعقبات نتيجة لنقص التمويل والكوادر المدربة. واستأنف المتمردون عملياتهم مع خريف يوليه 1969، على الرغم من تعزيزات القوات المسلحة السودانية. واستغلت المشكلة كل من  الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة وإسرائيل، وغُذيّ التمرد في الداخل والخارج باستخدام أوغندا وإثيوبيا. وعلى الرغم من ذلك تناقص عدد اللاجئين الجنوبيين في الخارج.

أ. حكومة الأنيانيا

تكونت جبهة في الجنوب برئاسة "جوزيف لاجو"، أطلقت على نفسها "جبهة تحرير الأنيانيا". ثم أعقبها تشكيل حكومة لجنوب السودان في المنفى، برئاسة السيد "أقري جادين"، في أغسطس 1967. وضمت هذه الحكومة مختلف المجموعات والفعاليات السياسية، المرتبطة بمسألة الجنوب خارج السودان. ونسقت الحكومة بين المجموعات الجنوبية، كما لعبت لاحقاً دوراً مهماً في المصالحة الوطنية، وتمكنت من الحصول على تأييد الكنيسة. وفي مارس 1969 تغير اسم الحكومة المؤقتة في المنفى إلى "حكومة النيل"، وأسندت رئاستها إلى "قوردون مورتات مايين"، الذي كان قد شغل منصب رئيس جبهة الجنوب، وكان عضواً في مؤتمر المائدة المستديرة. وعندما سيطرت قبيلة الدينكا على حكومة النيل المؤقتة، برزت الخلافات بين الاستوائيين والدينكا من جانب، وبين التنظيمات، التي أُنشئت من جانب آخر. وفي يوليه 1969 أعلن الجنرال "تافنق" حكومة الأنيدي، واتخذت معسكري" موروتو، أونجكيبول" مقرا لها،  وشغل العميد "جوزيف لاقو" منصب وزير المواصلات والتخطيط.

قام "جوزيف لاجو" في يوليه 1970  بانقلاب عسكري ضد حكومة الأنيدي، وأعلن تنظيمه الجديد "حركة تحرير جنوب السودان"، من داخل معسكر "اونجكيبول". وبذا انحلت تلقائياً حكومة الأنيدي وحكومة النيل المؤقتة، وصارت السلطات بيد قوات الأنيانيا. وشكّل الجنوبيون حركة تحرير جنوب السودان، "S.S.L.M." في يناير 1971، كقيادة موحدة في المفاوضات[3].

وتتمثل أهم الخطوات، التي اتخذتها  حكومة الرئيس نميري لتحسين علاقاتها مع الجنوب، في الآتي:

(1) تعيين حوالي 644 من الجنوبيين للعمل في قوات الشرطة في المديريات الجنوبية. وكان  تعيينهم من قبل يتم من أبناء الشمال، ثم يدفع بهم إلى الجنوب.

(2) التحاق حوالي سبعة عشر طالباً جنوبياً بالكلية الحربية، عام 1970.

(3) قبول دفعة خاصة في كلية الشرطة، عددها ستة طلاب جنوبيين.

(4) تعين عدد من العسكريين الجنوبيين قادة في صفوف القوات المسلحة والشرطة.

(5) تعين لجنة للتخطيط الاقتصادي، مقرها جوبا.

(6) تعيين الجنوبيين في مجالس المديريات الجنوبية.

(7) فتحت مدرسة ثانوية علياً في ملكال، وعُين مديراً لها من أبناء الجنوب. وأعيد فتح مدرسة المساعدين الطبيين في جوبا، وأسندت عمادتها إلى أحد أبناء الجنوب.

وكان القتال في الجنوب قد أدى إلى تشرد المواطنين في الغابات والدول المجاورة، وأورثتهم الحرب الفقر والمجاعة والأمراض. ومع فشل أنيانيا في تحقيق تقدم ملموس، زاد عدد المنادين بحل المشكلة. وبصدور "بيان 9 يونيه"، والاعتراف بمبدأ الحكم الذاتي، واختيار "أبيل الير" وزيراً للجنوب، وتكثيف اتصالاته مع الجنوبيين والكنائس، وافقت قيادة الجنوبيين في أغسطس 1971 على التفاوض لإيجاد حل سلمي.

قدم "أبيل ألير" مذكرة إلى الحكومة في أكتوبر 1970، تدعوها إلى إجراء مفاوضات مع الجنوب، اشتملت على الآتي: "إن على الحكومة أن تراجع موقفها من مسألة الحوار مع المتمردين، خاصة وأن الحل الذي اقترحناه والمتعلق بالحكم الذاتي معلوم للجميع. كما أن قادة المتمردين يواصلون ثورتهم وهم معروفون لنا. ونحن لا نفقد شيئاً بتحسس موقف الثوار من الحلول التي اقترحناها، وقد يكون القادة المسؤولون عن التمرد راغبين في تحديد الحكم الذاتي الإقليمي من حيث السلطة، والمؤسسات والقيم، ويأتي ذلك بتشجيع المتمردين على تقديم مقترحاتهم داخل الإطار الذي رسمناه".

وأرسل "مادنق دي قرنق"، ممثل حركة تحرير جنوب السودان، خطاباً عن طريق السفير "عابدين إسماعيل"، سفير السودان في لندن، أوضح فيه أن الوحدة لم تكن موضع نزاع في يوم من الأيام. وضمّن خطابه الشروط التالية:

(1) وقف الأعمال العدائية، بما في ذلك إنشاء الجسور، والنقاط العسكرية الجديدة في منطقة الحرب.

(2) تعيين فريق مراقبين من منظمة الوحدة الأفريقية في جوبا، لهم حرية التنقل في جنوب السودان، لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار.

(3) أن تعترف حكومة السودان بالأنيانيا، كممثل وحيد للجنوب في المحادثات.

(4) أن تبدأ المحادثات التمهيدية خارج السودان تحت رئاسة منظمة الوحدة الأفريقية، أو رئيس آخر لدولة أفريقية.

(5) إطلاق سراح كلمنت أمبورو، السياسي الجنوبي المخضرم الذي كان معتقلاً.

ولكن لهجة الخرطوم خلال الفترة الممتدة من عام 1969 إلى الجزء الأول من عام 1971، كانت لهجة حرب، ولم يصدر عنها شيء سوى تشجيع بعض الأفراد من الأنيانيا على الإستسلام، وترحيبها بعودة مادنق إلى أرض الوطن، إذا ما أراد ذلك.

ب. محاولة انقلاب 19 ـ 21 يوليه 1971

قام الرائد "هاشم العطا"، الذي فُصل من مجلس قيادة الثورة في نوفمبر 1970، يعاونه المقدم "بابكر النور"، والرائد "فاروق عثمان حمدالله"، بمحاولة انقلاب في الساعة الثالثة ظهر يوم 19 يوليه 1971، واعتقلوا رئيس وأعضاء مجلس قيادة الثورة. وأعلن الرائد "هاشم العطا" أن الانقلاب يهدف إلى: تصحيح مسار الثورة، والعودة بها إلى خطها السليم وهو الاشتراكية، ومعاداة السامية، والاستقلال والديموقراطية، وإبعاد العناصر الموالية للوحدة العربية بقيادة مصر وليبيا، وقمع نشاط الانفصاليين. وكان هذا إشارة تهديد واضحة إلى السودانيين الجنوبيين في الغابة، ومثقفيهم في الخرطوم. وقد فشل هذا الانقلاب الذي لم يستمر أكثر من ثلاثين ساعة للأسباب الآتية.

(1) اعتقال عدد كبير من الضباط، وأبعاد آخرين بينهم ضباط الصف والجنود عن وحداتهم، بسبب الشك في ولائهم وتأييدهم للانقلاب، مما أوغر صدور الأغلبية من رجال الجيش في المدن الثلاث.

(2) ارتكاب الرائد "هاشم العطا" لخطأ قاتل بدعوته المدنيين للتجمع في مسيرة جماهيرية في الثاني والعشرين من يوليه، ورفعوا أعلامهم الحمراء. فأثاروا الخشية على الوطن من الخضوع للواء الشيوعية، فانضم إلى معارضي الانقلاب، الإخوان المسلمون والطائفيون، خاصة الأنصار.

(3) اعتقال ليبيا لكل من المقدم "بابكر النور"، الذي عين رئيساً لمجلس قيادة الثورة الجديد، والرائد "فاروق حمدالله" وهما في طريقهما من لندن إلى السودان، وأُرسلا إلى الخرطوم وتم إعدامهما.

(4) سقوط طائرة عراقية تحمل وفداً لمباركة الانقلاب، فوق الأراضي السعودية.

(5) تمتع مجلس قيادة الثورة برئاسة الرئيس نميري بتأييد كبير، خاصة داخل القوات المسلحة.

أدت هذه العوامل إلى انحسار موجة الانقلابيين، وشجعت على مقاومة الانقلاب. وأدى ذلك إلى تغييرات حادة في سياسات السودان الداخلية والخارجية، وإلى الانتقال من اليسار إلى اليمين، وإلى تعقب اليساريين وإنزال العقاب بهم، والبحث عن حلفاء جدد، وإلى تحول مفاجئ من الشرق إلى الغرب، مما يهدد المقاومة المسلحة في الجنوب، واللاجئين في الأقطار المجاورة بفقدانهم التأييد الذي كانوا ينعمون به. وأصيب جناحا الحزب الشيوعي السوداني المتنازعين بضربة قاصمة، أعدم فيها عبدالخالق محجوب، والشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق.

ج. تولي "أبيل ألير" مسؤولية مكتب شؤون الجنوب

عقب تعيين "أبيل ألير" مسؤولاً عن مكتب شؤون الجنوب، بدأ في معالجة مشكلة الجنوب بالحوار مع قوات الأنياينا وجناحها السياسي، وحركة تحرير جنوب السودان. وقدم "أبيل ألير" مقترحاً في أغسطس من عام 1971، يتكون من اثنتي عشرة نقطة إلى رئيس الوزراء ورئيس الدولة، أهمها النقاط الآتية:

(1) أن يؤكد رئيس  مجلس قيادة الثورة ورئيس الوزراء، عزم الحكومة على التمسك ببيان التاسع من يونيه سنة 1969م.

(2) أن يُوُسّع قانون العفو العام لينطبق على كل الأشخاص، الذي قاموا في الماضي، أو يقومون الآن، بأعمال تتعارض مع قوانين البلاد، شريطة أن تكون هذه الأعمال قد ارتكبت لتنشيط الثورة في جنوب السودان، منذ الثامن عشر من أغسطس 1955 إلى يوم الوصول إلى التسوية.

(3) أن يصبح المواطنون الجنوبيون مسؤولين عن الشؤون المحلية في الإدارة الإقليمية، والحكم المحلى، وقوات الشرطة والسجون، وعن تطوير الثقافات المحلية، وتنمية وترقية اللغات الإقليمية؛ وأن تنشأ سلطة تنفيذية، وهيئة تشريعية، تُنتخب بالطرق الديموقراطية، يكون لها سلطة محددة في الحصول على المال، بفرض الضرائب وغيرها من السبل لتوفير الدعم المالي والفني اللازمين، لخدمة المصلحة العامة في جنوب السودان.

(4) تلتزم الحكومة المركزية بمبدأ ضمان الحقوق الأساسية والاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، وألاّ تكون هناك تفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الدين أو اللغة، مما يعنى عدم حرمان أي مواطن سوداني من تقلد المناصب الرسمية بسبب جهله باللغة العربية.

(5) أن يُضمّن ما يتم الاتفاق عليه، حول الحكم الداخلي للجنوب، في دستور البلاد، وأن تكون الدراسات، التي يُجريها فريق من المستشارين الجنوبيين تحت إشراف وزير شؤون الجنوب من جهة، والدراسات التي يُجريها الدكتور "جعفر محمد على بخيت" وزير الحكم المحلي في ذلك الوقت، والسيد "عبدالرحمن عبدالله" وزير الإصلاح الإداري والخدمة العامة من الناحية الإخرى، أساساً لمقترحات الحكومة حول الحكم الإقليمي في الجنوب. (أوصت كلتا الدراستين، فيما بعد، بأن يُشَكِل الجنوب بمديرياته المختلفة إقليماً واحداً).

(6) أن تكون السياسة الخارجية والدفاع الوطني، والاقتصاد، والتخطيط التعليمي، والمواصلات السلكية واللاسلكية، والعملة، والجنسية، والهجرة من اختصاص الحكومة المركزية، إذ كان من اللازم تحديد اختصاصات السيادة، التي لا يجوز للإقليم الجنوبي ادعاؤها، ولا يجوز أن تخضع للنقاش أثناء الحوار.

(7) يحق للعائدين، سواء كانوا ممن يحملون السلاح ضد الحكومة، أو السياسيين في المنفى أو غيرهم، الاشتراك التام وغير المشروط في الأعمال السياسة، والاقتصادية، والمحلية في مستوى السلطتين المركزية والإقليمية، وأن تُوفّر الوظائف للعائدين حتى في المراكز الحساسة، بما فيها الجيش والشرطة والمواقع السياسة.

(8) أن يوطّن العائدون في ديارهم الأصلية، وتوفر لهم المشاريع الزراعية، وغيرها من المؤسسات ذات الصبغة الاقتصادية، تحقيقاً للرفاهية الاجتماعية والاقتصادية في جنوب السودان.

(9) أن تدعو الحكومة كل المواطنين لنبذ سائر أعمال العنف، وإراقة الدماء، وأن يعملوا على تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية السليمة، درءاً  للفقر والجهل والمرض.

(10) استيعاب قوات الأنيانيا في القوات المسلحة.

وقد وافق الرئيس نميري على ما جاء بالمقترحات، وأبدى ملاحظتين:

الأولى: اقترح أن تمنح الحكومة المواطنين، الذين فقدوا ممتلكاتهم خلال الحرب الأهلية تعويضات عنها، تفاديا للنزاع، الذي قد يقع بين العائدين من المنفى وأهل القرى والمدن الذين بقوا في أماكنهم.

الثانية: أنه يعتزم أن يعين مواطنين جنوبيين في مراكز محافظين في الجنوب بدرجة وزراء، وأنهم سيكونون مسؤولين لرئيس الجمهورية عن طريق وزير شؤون الجنوب، الذي تزاد مسؤولياته، ويرفع مستوى وزارته، على أن يكون هذا وضعاً مؤقتاً غرضه تأكيد صدق عزم الحكومة على حل المشكلة. وأكد أيضاً حرصه على تحقيق المساواة بين المواطنين في كل أرجاء السودان، وضمان حقوقهم السياسية والاقتصادية والثقافية.

أما عن استيعاب الأنيانيا في القوات المسلحة، فقد أبدى الرئيس تحفظاً عليه، واشترط أن تتوافر في أفراد الأنيانيا المستوعبين الشروط، التي يقتضيها الاستيعاب، فضلاً عن اللياقة الطبية والمؤهلات الأخرى.



[1] في تلك الفترة بدأ الوعي يدب في أوصال المتعلمين بالشمال، وكان مستمداً من المتغيرات التي حدثت في مصر. وكانت حركة الكلية الحربية، التي قادها علي عبداللطيف في سنة 1924م خير شاهد على ذلك. ففطن المستعمر البريطاني لتلك الصحوة، على الرغم من الوعي الوطني، الذي ساد مصر في تلك الفترة وارتباطه بما يجرى من أحداث في السودان.

[2] هي اختصار لعبارة udan African national UnionSS.A.N.U:

[3]  S.S.L.M.: South Sudan Liberation Movement.