نشأة الفيتكونج

حتى ذلك الوقت، كان نشاط اللجان الثورية الجديدة، التي عرفت باسم "جماعات الدعاية المسلحة لقوات الشعب للدفاع الذاتي"، في الجنوب، مقصوراً، من الناحية العسكرية، على أعمال الدفاع عن النفس، أثناء عمليات الإمداد، أو الدعاية بين الفلاحين، أو بين جنود دييم المحشودين لشن عمليات عسكرية على رجال القبائل. ولكن، إزاء الاحتياج الشديد إلى السلاح، اللازم لتوفير وسائل الدفاع عن النفس، كان لا بدّ من الهجوم على مراكز قوات دييم المسلحة، والاستيلاء على أحدث الأسلحة الأمريكية الموجودة لديها؛ وخاصة أن معظم الأسلحة القديمة، التي كانت مستعملة في الجنوب، قد سُحبت، عند انسحاب140 ألف جندي من جنود الفيت منه إلى الشمال، تنفيذاً لاتفاقية جنيف؛ كما أن معظم الأسلحة، التي أخفيت في مخابئ سِرية، سقطت في أيدي رجال دييم، الذين اكتشفوا 307 مخابئ للسلاح، بين عامَي 1955، 1960.

وفي يونيه 1958 شكل الشيوعيون هيكل قيادة موحدة، في شرقي دلتا الميكونج. وفي يوليه، أعلن ثوار لاوس تبعيتهم لهيكل القيادة الآنف؛ بسبب إعلان الأمير سوفانَّا فوما Souvanna Phouma حل حكومته المحايدة، في لاوس. مستجيباً لمستشاره الخاص فوي سانانيكوني Phoui Sananikone، الذي نصحه، بإيعاز من واشنطن، بمناهضة الشيوعية. ونشطت هانوي في دعم الانتفاضة في الجنوب، فشكلت المجموعة 559، في مايو 1959، وكلفتها بتسريب جنود وأسلحة إلى فيتنام الجنوبية، كما شكلت المجموعة 759، في يوليه، وكلفتها بتسريب جنود وأسلحة إلى فيتنام الجنوبية، بحراً. وشكلت المجموعة 559، في سبتمبر،وكلفتها بتسريب جنود وأسلحة إلى لاوس.

وهكذا استعرت المقاومة، في الجنوب، ونشطت الاغتيالات؛ فطالت الضابطين الأمريكيين، العقيد دال بويس Dale Buis، والرقيب شستر أوفناند Chester Ovnand، في 8 يوليه، في مدينة بيين هوا. وفي يناير 1960، قادت السيدة نجوين ثي دنه Nguin Thi Dinh  انتفاضة شعبية محدودة، في محافظة بن تري Ben Tri، في مناطق شرقي دلتا الميكونج. ثم اتسعت، خلال المناطق المجاورة، في عدة قرى؛ وأنشأت إدارات شعبية ذاتية. وخلال بضعة أشهر، انتشرت الانتفاضة في الهضاب والمناطق الوسطى الريفية. وأدى انتشار وحدات المقاومة الشعبية المسلحة، خلال عام 1960، وسيطرتها على مناطق ريفية واسعة، إلى نشوء جبهة التحرير الوطنية، التي انتظمت مختلف التنظيمات والقوى والشخصيات: الثورية والوطنية، المعارضة، في برنامج سياسي موحد، وخطة عمل واحدة. وفي مارس 1960، أعلن الجنود القدامى، في مدينة نام بو Nam Bo، الانضمام إلى الثوار.

أما في لاوس، فقد نجح انقلاب عسكري، بقيادة النقيب كونج لي ستاجس Kong Le Stages، وأعيدت السلطة إلى  سوفانا فوما. رداً على ذلك، شكَّل الجنرال فومي نوسافان، بالتعاون مع وكالة الاستخبارات الأمريكية، حزباً عسكرياً مناهضاً، في جنوب لاوس، تطور إلى انقلاب عسكري، ومحاولة الاستيلاء على العاصمة، وتدخلت الطائرات السوفيتية فأسقطت إمدادات على جماعة سوفانا فوما . وفي 5 سبتمبر، افتتح مقر حزب العمال Lao Dong، في هانوي. وأعلن قادته ضرورة التصدي لنظام دييم، وإطاحته. وفي الأسبوع الأول من ديسمبر 1960، عقد اجتماع سِري، في المرتفعات الواقعة شمالي دلتا الميكونج، حضره ممثلون لمختلف الأحزاب السياسية في فيتنام الجنوبية: حزب العمال الفيتنامي، الذي أصبح، عام 1962، منظمة مستقلة عن الحزب الأصلي في الشمال، وبات يسمى: حزب الشعب الثوري؛ والحزب الاشتراكي الراديكالي؛ والحزب الديموقراطي؛ وممثلون لاتحادات الفلاحين، والعمال، والطلبة والمثقفين، والشباب، والنساء، ورجال القبائل، والطوائف الدينية المسلحة. وقد استمر هذا الاجتماع نحو أسبوعين، وأسفر عن تكوين جبهة التحرير الوطني، في فيتنام الجنوبية، الفيتكونج Vietcong، في 20 ديسمبر 1960م (الفيتكونج: مقاتلون من رجال العصابات الشيوعيين، في فيتنام الجنوبية. خلال الحرب الفيتنامية (1954- 1975)، شكلوا جبهة التحرير الوطني، التي وحدت تيارات سياسية متعددة، استهدفت قلب نظام حكم دييم الموالي للأمريكيين). وتشكلت لجنة مركزية مؤقتة للجبهة، ريثما يعقد مؤتمرها الأول؛ وكان فيها كثير من أعضاء لجنة سايجون السابقة، للدفاع عن السلام واتفاقية جنيف. وأعلن مؤتمر الجبهة برنامجها، الذي تضمن  نقاطاً عشراً:

إنشاء حكومة ائتلافية وطنية، وتنمية الاقتصاد الوطني، وتحقيق الإصلاح الزراعي، وإرساء ثقافة وطنية، وتحقيق الديموقراطية، وحماية حقوق الأقليات والجاليات الأجنبية، واعتماد سياسة عدم الانحياز، والعمل على توحيد فيتنام تدريجاً وسلمياً، والدفاع عن السلام العالمي؛ إضافة إلى النضال من أجل الاستقلال، وقبول المعونة الخارجية غير المشروطة من أيّ جهة، واتخاذ سياسة وطنية إصلاحية معتدلة في الشؤون الداخلية.

هكذا، في الوقت الذي كانت القيادة العسكرية الأمريكية مشغولة، مع عملائها في سايجون، بالإعداد لتنفيذ إستراتيجية الحرب الخاصة، كانت حرب العصابات الثورية، تنتشر في مناطق جديدة، لا تلبث أن تعلن تحريرها، فاتحة الطريق أمام بناء المزيد من القواعد الثورية.

وانتشرت الإدارات الثورية في عشرات القرى. وأعقب ذلك، في فبراير، أن انضم إلى الفيتكونج رجال من معسكر للجيش المحلي في محافظة تاي نينه Tay Ninh، قرب الحدود الكمبودية؛ ما كبّد الفرنسيين خسائر فادحة في الأرواح، وأتاح للفيتكونج الاستيلاء على 800 بندقية عادية، و200 بندقية آلية، وعدة هاونات، ومدافع عديمة الارتداد؛ إضافة إلى مؤن عديدة، أخرجت من المخازن.

كانت عملية تاي نينه هي أول انتصار ذي طابع عسكري للثورة، أسفر عن تشكيل أول كتيبة في القوات الشعبية، المسلحة ذاتياً؛ ما أسهم في تعزيز الفيتكونج المنتشرين في أماكن مختلفة.