إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الباردة









المبحث الثامن

المبحث الثامن

سنوات التحول

الفترة من 1962-1982

       تميز الوفاق الأمريكي ـ السوفيتي بعدد من المراحل منذ أن بدأ عقب أزمة الصواريخ عام 1962، وما استخلصته منها القوتان من دروس حول وجوب إعادة ترتيب علاقاتهما وترشيدها، خاصة في جوانبها النووية. وقد بدأ هذا الوفاق يأخذ مجراه وخطواته العملية بالاتفاقيتين المهمتين اللتين تم التوصل إليهما في أعقاب الأزمة الكوبية، وهما: اتفاقية الحظر الجزئي للتجارب النووية 1963، واتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية عام 1968.

       وعلى الرغم من أن هذا الاتجاه الإيجابي ما لبث أن تداخل معه تطور سلبي، وهو الأزمة التشيكوسلوفاكية عام 1968، إلا أن عوامل التقدم ودوافعه ما لبثت أن تحركت من جديد في أواخر الستينيات ـ سبتمبر 1969 ـ إذ بدأت المفاوضات حول أخطر جوانب علاقات التسلح بين القوتين، وأكثرها تعقيداً وهي الأسلحة الإستراتيجية، والتي دار حولها ما عرف بمحادثات SALT ، بل أصبحت محور العملية الواسعة التي امتدت عبر السبعينيات، وشهدت ما عُرِّف بعصر مؤتمرات القمة إذ التقى زعيما القوتين 4 مرات، ما بين أعوام 1972 "قمة موسكو" و1974 "قمة فلاديفوستوك"، وعلى مدى إدارتين أمريكيتين هما إدارة نيكسون وفورد، وتم خلال هذه الفترة ـ إضافة إلى اتفاقيات SALT-1  ـ صياغة عدد من الاتفاقيات والتعاقدات ومبادئ السلوك التي شملت كافة جوانب علاقات القوتين، وفاقت ما تم التوصل إليه بين القوتين منذ تأسيس علاقات دبلوماسية بينهما عام 1933.

       غير أن هذا التقدم ومناخ الاستبشار والتوقعات الكبيرة التي أحاطت به لم يكن يخلو من عوامل التوتر وتهديد ما تحقق من تقدم، وهو ما بدا بوضوح خلال حرب أكتوبر 1973 في الشرق الأوسط، والتي شهدت احتمالات مواجهة عسكرية بين القوتين. وعلى الرغم من أن هذا الحدث، والأسلوب الذي أدارت به القوتان الأزمة، قد أثبت أن جانب التعاون قد تغلب على التنافس والصراع، إلا أن ثمة من اعتبـر أن حرب أكتوبر، ومواقف القوتين من أصدقائهما وحلفائهما خلالها كانت أول الشروخ التي بدأت تدب في علاقات الوفاق الجديدة.

       وإذا كانت القوتان قد تجاوزتا حرب أكتوبر، واستمر اتجاه الوفاق بعدها يأخذ مجراه فيما عكسته قمتا موسكو عام 1972، وفلاديفوستوك عام 1974، فإن اختلاف نقطة انطلاق كل منهما لسياسة الوفاق ومفهومه بدأت تخلق ظلالاً كثيفة حول هذه السياسة ومستقبلها.

       وعلى الرغم من الأزمات التي تعرضت لها سياسة الوفاق كما صاغها نيكسون وكيسنجر، منذ منتصف السبعينيات، إلا أن مجيء إدارة ديموقراطية بزعامة جيمي كارتر عام 1977، جعلت من أولوياتها استمرار البحث عن علاقة رشيدة بين القوتين في مجال سباق التسلح الإستراتيجي، مكن من التوصل إلى اتفاقية SALT-2، في يونيه 1979. غير أنه مثلما تدخلت في مراحل أخرى عدد من الأزمات لتؤخر اتجاه التقدم أو تعيقه، فقد تدخلت هذه المرة أزمة أخرى، وإن كانت أشد وقعاً وأكثر تأثيراً وهي التدخل العسكري السوفيتي في أفغانستان في ديسمبر 1979، وهو الحدث الذي جاء لكي يجهز على اتفاقية سولت الثانية SALT-2، بل وربما على كافة جوانب التقدم التي حققتها سياسة الوفاق في مرحلة اندفاعها الأولى، وترتد بعلاقات القوتين إلى مناخ الحرب الباردة وافتراضاتها وسلوكها في أحلك أيامها.

سنوات كارتر الثلاث الأولى:

       كانت السنوات الثلاث الأولى من إدارة الرئيس جيمي كارتر "1977- 1979"، مواصلة لسياسة الوفاق التي شرع فيها الرئيس ريتشارد نيكسون، ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر، ومفهومهما الإستراتيجي حول إعادة تكييف النظام الدولي، والانتقال به من المواجهة إلى التفاوض، ويستند على علاقات مع الاتحاد السوفيتي تعتمد على موازنة عناصر التنافس الكامنة في هذه العلاقات، مع دوافع التعاون وضبط النفس. وعلى الرغم مما بدا من تراجع هذه السياسة وافتقارها لقوة الاندفاع مع منتصف السبعينيات، إلا أن إدارة الرئيس كارتر ـ ووزير خارجيته سايروس فانس بوجه خاص ـ جاءت بتصميم على إعادة إحياء هذه السياسة، واعتمدت في هذا على تصور أن الوفاق مع الاتحاد السوفيتي هو الشرط المسبق للتطبيق الناجح للإستراتيجية الأمريكية، وأن الولايات المتحدة تستطيع، فقط، في ظل علاقات تعاون مع الاتحاد السوفيتي أن تتحرك بثقة لتعيد بناء التوازنات الإقليمية حول أطراف الاتحاد السوفيتي في آسيا، والشرق الأوسط، وأوروبا، وتُقيم نُظم أمن مستقرة، وتعيد تحديد التزاماتها الأمنية ومواقع القوات الأمريكية في الخارج.

       والواقع أن مركز اهتمام إدارة كارتر، وهو شخصياً، كانت قضايا التسلح والقدرات التدميرية التي بلغتها نظم التسلح الإستراتيجية، فعلى الرغم من الاهتمام الذي أعطاه كارتر لقضايا حقوق الإنسان، إلا أنه كان مهموماً بقضايا التسلح، والأخطار التي تمثلها بوجه خاص، وقد كتب في مذكراته يصور ذلك فقال: "كان من الواضح مما يقدم لي من معلومات عن التسلح أن كلاً من الاتحاد السوفيتي و الولايـات المتحدة الأمريكية لديها من الأسلحة ما يمكنها من تدمير كل منشأة عسكرية مهمة، ومركز مدني وسكاني الأمر الذي يمكن أن يقتل الملايين، وربما مئات الملايين على كل جانب.." ثم تساءل في النهاية "لماذا إذن لا نتحكم في كل هذه التهديدات؟".

       وفي سبيل هذا الهدف كان كارتر مستعداً لأن يتجاوز مسلمات ومفاهيم سادت السياسة الأمريكية حول نوايا الاتحاد السوفيتي النهائية، وأن يرفض، كما عبر مع بدء إدارته "هذا الخوف المبالغ فيه من الشيوعية، والذي أدى بنا أن نحتضن أي ديكتاتور يشاركنا هذا الخوف". وكان يفضل تجاوز هذه التصورات التقليدية، وأن يعمل بدلاً منها على التوصل إلى اتفاقيات خاصة حول القضية الرئيسية وهي الحدَّ من التسلح.

       استمرت المفاوضات الأمريكية ـ السوفيتية حتى توصل الطرفان إلى اتفاقية ثانية للحد من الأسلحة الإستراتيجية وُقِعَت في فيينا في يونيه 1979 في اجتماع بين الرئيس الأمريكي جيمي كارتر والزعيم السوفيتي برجنيف. وكان هذا في الواقع إنجازاً مهماً سواء في مجال مفاوضات الحد من التسلح، أو في اتجاه علاقات القوتين بوجه عام. فقد حقق الاتفاق ما كانت القوتان تسعيان إليه، منذ التوصل إلى اتفاق سولت الأول في قمة موسكو عام 1972، كما جاء اجتماع الرئيسين الأمريكي والسوفيتي أول لقاء بين القوتين على مستوى القمة منذ خمس سنوات.

       وعلى الرغم من التوقيع على اتفاقية سولت الثانية، إلا أنها ما لبثت أن واجهت صعوبات داخل الكونجرس حول التصديق النهائي عليها، وتوافق هذا في بداياته مع ما أثاره بعض أعضاء الكونجرس من أن وجود قوات سوفيتية في كوبا هو نقض لما اتفق عليه في تسوية أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. وعلى الرغم من أنه قد تبين للإدارة الأمريكية عند فحص هذا الموضوع، أن هذه القوات السوفيتية ليست شيئاً جديداً بل كانت موجودة منذ انتهاء الأزمة الكوبية، إلا أن المناخ الذي أشاعته إثارة هذه الضجة قد أثار ظلالاً ضاعف من تعقيد الجدل الدائر في دوائر الكونجرس الأمريكي حول اتفاقية سولت الثانية.

       غير أن التطور السلبي الحاسم تمثل في التدخل العسكري السوفيتي في أفغانستان في ديسمبر عام 1979 أي بعد خمس شهور فقط من توقيع اتفاقية سولت الثانية. وقد جاء هذا التدخل لكي يحدث تحولاً حاداً في فكر الرئيس الأمريكي وفي اتجاه إدارته، وجعل من العام الأخير لهذه الإدارة بداية سلسلة التراجع في العلاقات الأمريكية السوفيتية.

       وقد كان من الطبيعي أن يجد برجنسكي ـ مستشار الأمن القومي الأمريكي ـ في الغزو السوفيتي لأفغانستان، والذي أجهض اتفاقية سولت الثانية، تأييداً عملياً لرأيه الذي أبداه في حواره مع فانس، وتياره، ومنذ تطور التدخل السوفيتي في القرن الأفريقي، وموقفه من وجوب التصدي للسياسة السوفيتية في هذه المناطق، وربط ذلك بمحادثات سولت، لذلك نراه يكتب بعد أفغانستان: "لقد تأملت حولي متى بدأت الأمور تتطور بشكل خاطئ حقاً في العلاقات الأمريكية ـ السوفيتية. ووجهة نظري ترجع إلى عام 1979، فقد طالبت في اجتماع لمجس الأمن القومي أن نرسل حاملة طائرات رد فعل لإرسال السوفيت قوات كوبية إلى أثيوبيا، في هذا لم يعارضني فقط سايروس فانس، بل وكذلك هارولد براون، وأيدهم الرئيس أكثر مما أيدنى، ولم نرد على السلوك السوفيتي.. ثم جاء المسمار الأخير في نعش اتفاقية سولت بالغزو السوفيتي لأفغانستان، ولهذا كان استخدامي لعبارة "أن السولت ترقد مدفونة في رمال الأوجادين".

       أما كارتر فقد تحدث، بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان، عما أحدثه في تصوره للسياسة والنوايا السوفيتية بقوله "إن رأيي في السوفيت قد تغير بشكل جذري في الأسبوع الماضي أكثر مما تغير في العامين ونصف الماضيين، والآن فقط يدرك العالم حجم العمل الذي قام به السوفيت بغزوهم أفغانستان.. فما الذي سأفعله الآن؟ حول هذا لا أستطيع أن أجيب بالتحديد، ولكن للمرة الثانية أستطيع أن أقول أن عمل السوفيت قد غير من رأيي بشكل جذري حول أهدافهم النهائية أكثر من أي شئ، فقط منذ توليت السلطة".

       وبناء على هذا التطور بدأ كارتر سلسلة من الإجراءات تجاه السوفيت كان أولها إعادة النظر في أهم إنجاز حققته إدارته في علاقتها مع الاتحاد السوفيتي، وهو اتفاقية سولت الثانية. فبعث كارتر في 3 يناير 1980 رسالة إلى زعيم الأغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ يطلب منه وقف التصديق على الاتفاقية. أما تصوره الشامل لاتجاه العلاقة المستقبلية مع السوفيت فقد ارتقى إلى ما يشبه نظرية جديدة ذكرت بنظرية ترومان وسياسة الاحتواء القديمة. ففي خطابه عن حالة الاتحاد في يناير 1980 سجل كارتر تحوله الكامل إلى التركيز على القوة العسكرية باعتبارها أولوية أولى، ووصف تصوره لما يمثله الغزو السوفيتي من تهديد إستراتيجي بقوله "إن الإجراء السوفيتي قد وضع القوات العسكرية السوفيتية على حدود 300 ميل من المحيط الهندي، وعلى مقربة من مضيق هرمز وهو الممر الذي يمر خلاله معظم بترول العالم. إن الاتحاد السوفيتي يحاول، الآن، أن يدعم مركزه الإستراتيجي، الأمر الذي يفرض تهديداً خطيراً لحركة الملاحة الحرة لدول الشرق الأوسط". ثم أعقب هذا بإعلانه لما عُرف بنظرية كارتر "أو مبدأ كارتر" والتي جاءت استمراراً لنظريات صاغها رؤساء أمريكيين سابقين مثل ترومان وأيزنهاور، فقال: "فليكن موقفنا واضح بشكل كامل، إن أية محاولة من أية قوة خارجية لكسب السيطرة على الخليج الفارسي سينظر إليها هجومًا على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، وسيقاوم هذا الهجوم بكل الوسائل اللازمة بما فيها القوة العسكرية".

       أما الإجراءات العملية التي اقدم عليها الرئيس كارتر للرد على التدخل السوفيتي في أفغانستان، والتي جسدت مدى تحوله عن أسلوبه السابق في إدارة علاقاته مع الاتحاد السوفيتي، فقد تمثلت في:

1. إعلانه حظر بيع القمح للاتحاد السوفيتي، ودعوته الدول المصدرة للقمح أن تحذو حذوه.

2. إلغاء الاشتراك الأمريكي في دورة الألعاب الأولمبية في موسكو عام 1980، وشن حملة لمقاطعتها عالمياً، مقارناً بينهـا وبين الأولمبيـات التي نظمهـا هتلر عام 1936 لتضخيم مكانته.

3. مطالبته بزيادة الإنفاق العسكري بمعدل 5% سنوياً، بعد أن كان قد طالب عام 1977 بأن تكون هذه الزيادة في حدود 3%.

4. مطالبته الكونجرس بالعودة إلى نظام التجنيد الإجباري لكل أمريكي بلغ سن 19 عاماً، الأمر الذي استجاب له الكونجرس فورًا.

5. إعلانه أن إدارته ستعمل على دعم الموقف الأمريكي عسكرياً، وقدرتها على نشر القوة العسكرية بشكل سريع، وأن البحث جار عن قواعد جوية وبحرية في منطقة شمال شرق أفريقيا والخليج الفارسي.

6. وبينما كان كارتر في الماضي يحذر وكالة الاستخبارات الأمريكية وينتقدها على ممارستها في الخارج، نجده بعد أفغانستان يقول: "إننا في وضع لا بد أن نزيل معه القيود التي لا داعي لهـا على قدرة أمريكا على جمع المعلومات".

       أما رد الفعل السوفيتي على الإجراءات الأمريكية، فقد جاء خليطاً من الدفاع وشرح الدوافع التي حدت بالقيادة السوفيتية إلى هذا الإجراء، بل وجعل الولايـات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين هم الذين أسهموا في خلق البيئة، الدولية والإقليمية، من حول الاتحاد السوفيتي التي جعلت من هذا الإجراء ضرورة لحماية أمنه، وقد قرن السوفيت ذلك بالتعبير عن الاندهاش والتساؤل عما إذا كان الإجراء السوفيتي في أفغانستان يتناسب مع حجم ما أثارته الولايـات المتحدة الأمريكية وما أقدمت عليه من إجراءات. في هذا بدأت صحيفة الأزفستيا الروسية بالقول: "إن التطورات قد أجبرتنا على أن نختار بين أن نتدخل بقواتنا أو أن ندع الثورة الأفغانية تهزم، وتتحول أفغانستان إلى إيران الشاه أخرى، وقد اخترنا أن نتدخل، وكما نعلم أن هذا القرار لن يكون مقبولاً في العالم المعاصر، ولكن كنا ندرك كذلك أننا سنكف عن أن نكون قوة عظمى إذا امتنعنا عن تحمل عبء اتخاذ قرارات غير شعبية، ولكنها قرارات ضرورية، قرارات استثنائية، ومدفوعة بظروف استثنائية للغاية".

       كذلك حاول الخبير السوفيتي بريماكوف أن يضع القرار السوفيتي في السياق الدولي فقال: "لقد اتخذ في سياق دولي معين، حين كثفت الولايـات المتحدة الأمريكية مواجهتها مع الاتحاد السوفيتي. ودعونا نذكر قرار عام 1977 لإنشاء قوات الانتشار السريع، وقراره الثاني عام 1979 بزيادة ميزانيات أعضائه العسكرية زيادة كبيرة، وبشكل مستمر في المستقبل بغض النظر عن إمكانية التحسن في الموقف الدولي، وقرار الناتو عام 1979 بنشر الصواريخ المتوسطة المدى في أوروبا، والوجود الدائم للأسطول الأمريكي في المحيط الهندي، ومحاولة اللعب "بالورقة الصينية" ضد الاتحاد السوفيتي".

       وأياً كان التقييم السوفيتي لرد الفعل الأمريكي تجاه التدخل في أفغانستان، فإن المهم هو كيف رؤى هذا الحدث في الدوائر الأمريكية؟ خاصة ذات التحفظات التقليدية على مجرى الوفاق مع السوفيت كما تحقق منذ السبعينيات، وعلى المستوى السوفيتي خلال هذه الفترة التي رأته مناقضاً لمبادئ الوفاق ذاته، واستغلالاً له لخدمة الأهداف السوفيتية النهائية سواء في مجال التسلح، والتوسع في مناطق العالم الثالث. فقد استعادت هذه الدوائر السجل السوفيتي منذ التدخل في المجر عام 1956، ثم في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 مع تسجيلهم لفارق هو أن المجر وتشيكوسلوفاكيا كان ينظر إليهما في نهاية الأمر وفقاً لاعتبارات الجيوبوليتيكية على أنها تقع ضمن منطقة النفوذ السوفيتي وحزامه الأمني، أما أفغانستان فقد نظروا إليها على أنها كانت تاريخياً تحتفظ بنظامها، السياسي والاجتماعي، وتقع دولياً ضمن إطار عدم الانحياز، وتحتفظ تاريخياً بعلاقات سلمية مع الاتحاد السوفيتي. هذا فضلاً عن إثارة التدخل السوفيتي في أنجولا، والقرن الأفريقي، واليمن الجنوبي والتذكير بالتطور الذي أضاف للنفوذ السوفيتي في منطقة عانت فيها السياسة الأمريكية هزيمة سياسية وعسكرية، وهي جنوب شرق آسيا بتوحيد فيتنام تحت الحكم الشيوعي، وبالغزو الفيتنامي لكمبوديا.

       ولم تكتف الدوائر الأمريكية بتسجيل هذه السياسة والمكاسب السوفيتية، وإنما قارنتها بما وصفته نيلاً من الهيبة والمكانة الأمريكية، وما لحق بها من ضعف وتراجع نتيجة للتطورات في إيران التي كانت أحد مرتكزات الإستراتيجية الأمريكية في منطقة حيوية مثل الخليج، بسقوط الشاه ومجيء نظام معاد للولايات المتحدة وتداعياته التي تمثلت في قضية الرهائن الأمريكية. كل هذا خلق مناخاً من الإحباط والإحساس بالعجز، وتراجع النفوذ والقوة الأمريكية، جعل كارتر نفسه يقول أن الأمة تمر بوعكة Melaise، وأزمة ثقة "تضرب في صميم قلب إرادتنا القومية وروحها، إن تفتت ثقتنا في المستقبل إنما يهدد بتدمير النسيج، الاجتماعي والسياسي، لأمريكا.. لقد اعتقدنا دائماً في شئ يدعى التقـدم، وكان لدينا دائماً ثقة في أن أيام أطفالنا ستكون أفضل من أيامنا.. إن شعبنا يفقد هذه الثقة، فللمرة الأولى في التاريخ تعتقد الأغلبية أن السنوات الخمس القادمة ستكون أسوأ من الماضية.. إن ثلثي شعبنا لا يذهب للتصويت، وإنتاجية عمالنا تنخفض فعلاً، وكذلك استعداد الأمريكيين للادخار للمستقبل".

       وهكذا نرى من هذا العرض الموجز لسجل الرئيس جيمي كارتر وإدارته كيف أنه جاء بمحاولة طموحة وغير مسبوقة كي يحول كل أسس السياسة الخارجية من القوة إلى المبدأ، وكيف أنه، وبشكل خاص، فيما يتعلق بإدارة إدارته للعلاقة الأمريكية السوفيتية، قد انتهى بنهاية مختلفة تماماً عمّا بدأت به إدارته، فقد بدأ بتصميم على دعم اتفاقيات خفض التسلح، والبناء على ما تحقق، وانتهى بنبذ اتفاقيات التسلح التي أبرمها، وبتضخيم الخطر والنوايا السوفيتية، ومدى تهديدها للسلام خاصة بعد التدخل في أفغانستان.

       وفي الوقت الذي بدأ به كارتر يمثل هذه الأهداف الطموحة، فشل في تحديد أولوياته، وكانت النتيجة عمل كثير ولكن في أهداف متعارضة، وافتقار لما يمكن أن يوصف بالإستراتيجية الكبرى، هذا فضلاً عن سوء توقيتاته، والتنفيذ غير المتماسك والمرتجل للسياسات، كل هذا في إطار من التضارب والتناقض بين شخصيات إدارته الرئيسية، مما جعل بعض المؤرخين لا يذكرون له إلا نواياه الطيبة، والتي لم تكن تكفي خاصة في مناخ السبعينيات.

       لقد قدم وفاق السبعينيات باعثاً ليس فقط على الأمل، ولكن للاعتقاد والإيمان بأن البحث عن بديل للحرب الباردة وعلاقاتها ليس عديم المعنى والجدوى، كما أصبح الكثيرين من الناس لا ينظرون إلى استمرار الحرب الباردة على أنه القاعدة. كما أن وفاق السبعينيات يعد شيئاً إيجابياً بالنسبة للاتحاد السوفيتي، من حيث الدور الذي لعبه الوفاق في تطور التفكير السوفيتي في السياسة الخارجية، وقد بدا هذا التأثير مبكراً، وعلى الرغم من أنه مر بكثير من الصعوبات خلال سنوات التوتـر.

إدارة ريجان والتفاوض من مركز القوة:

       على الرغم من شدة الإجراءات التي اتخذها الرئيس جيمي كارتر، وتصميمه للرد على التصرف السوفيتي في أفغانستان، إلا أنه لم يفلح في تهدئة المشاعر التي أثارها العمل السوفيتي، ولا أن تحسن من صورة الإدارة ورئيسها. وأهم من هذا توافق هذا التطور مع قرب إنهاء رئاسة كارتر الأولى، وبدء حملة انتخابات الرئاسة. وهكذا بدأ الإعداد لهذه الانتخابات في وقت سيطر فيه الإحساس بتراجع الهيبة والمكانة الأمريكية، وفعالية السياسة الخارجية الأمريكية، وافتقاد الثقة في اتجاهها، واقترن هذا التصور للإدارة الأمريكية ورئيسها على أنها إدارة ضعيفة ومترددة.

       وقد استغل الحزب الجمهوري ومرشحه رونالد ريجان هذا المناخ، وجعل من شعار معركته الانتخابية العمل على استعادة مكانة الولايـات المتحدة الأمريكية ، والتصدي للتوسع السوفيتي، مما أعاد إلى الأذهان ليس فقط صورة الحرب الباردة، وإنما ما اقترن بظهور الثورة البلشفية عام 1917، وعن طبيعة النظام ونواياه، ومدى الثقة فيه، وفي قادته ومن ثم أسلوب التعامل معهم. فقد قدم الاتحاد السوفيتي على أنه قوة تكمن فيها العدوانية، وبصورة لا يمكن تغييرها من خلال المفاوضات أو بالاتفاقيات؛ وإنما من خلال مواجهته من موقع القوة، وممارسة ضغوط جادة ومتماسكة تجبره على تغيير طبيعته وشخصيته.

       وهكذا جاء ريجان، (انظر ملحق مبدأ ريجان)، إلى الحكم بتصميم على تبنى مواقف أكثر قوة وجرأة ليوقف ما رآه اضمحلالاً أمريكياً، ورده إلى السياسات التي اتبعت خلال السبعينيات، وهي الحقبة التي رآها فترة تدهور لا تبعث على الراحة والاطمئنان داخلياً ودولياً ومعنوياً واقتصادياً، ورأي أن مصدر المشكلـة هي القيادة الضعيفة، خاصة في فترة كارتر، وليس نتيجة ضعف كامن في أمريكا التي ما زالت عنده تحتفظ بالقدرة على أن تظل الأمة المسيطرة في العالم، ولكنها تتطلب الرجوع إلى القيمة التقليدية التي تلهمها قيادات قوية توقف الاتجاه نحو الاضمحلال: فعلى المستوى الاقتصادي كان تشخيص الإدارة الجديدة للتراجع الأمريكي، هو أن الولايـات المتحدة الأمريكية فقدت الأمل بجذور ديناميكيتها التاريخية، وهي قـوة السوق الحر، وبقدرة على توليد الثروة، كما أشاروا إلى أن ثمة بعداً معنوياً في هذا التراجـع الاقتصادي، فقد خلقت سياسات الرفاهية الاجتماعية وبرامجها ما أصبح يعرف بحضارة التوكل.

       وهكذا استخلص ريجان ومدرسة المحافظين، والمحافظين الجدد، التي حملته إلى الحكـم أن الدفاع القوى هو الشرط الرئيسي للقوة والمكانة الأمريكية، وأنه إذا أريد وقف تراجع وضع أمريكا الدولي ومواجهة القوة السوفيتية واتجاهها المتوسع، فإن القوة العسكرية والبناء العسكري يجب أن يكون له الأولوية المطلقة.

       ونتيجة لهذا التحليل كان البعد العسكري والإستراتيجي في العلاقة مع الاتحاد السوفيتي موضع تركيز الإدارة الجديدة، والفكر المحافظ التي صاحبها من حيث تصورهم أن أمن الولايات المتحدة الأمريكية ومكانتها لا تتحقق إلا من خلال التفوق العسكري، وأن اتفاقيات الحد من التسلح لم يستفد منهـا إلا الاتحاد السوفيتي، وأنه حتى لو قبلت الولايـات المتحدة الأمريكية التفاوض فيجب أن لا تقدم عليه إلا بعد بناء قوتها العسكرية، وأن هذا البناء سيتيح عدداً من الحلول للتحديات الخارجية التي تواجههـا الولايـات المتحدة الأمريكية:

1. سيمكنها من التفاوض من موقع القوة.

2. سيجبر موسكو على التفاوض حول اتفاقيات نزع السلاح بشروط أقل مما وافق عليه المفاوضون الأمريكيون "مفاوضات سولت 1، 2".

       ويذكر الرئيس رونالد ريجان في مذكراته "حين وصلت إلى واشنطن عام 1981، كان نسيج عضلاتنا العسكرية ضامراً وهزيلاً، إذ كانت قدرتنا على الاستجابة بشكل فعال لهجوم سوفيتي موضع شك كبير، فلم تكن الطائرات المقاتلة تطير، ولا السفن تبحر لأنها كانت تفتقر بشكل حاد لقطع الغيار، وكان أفضل رجالنا يتركون الخدمة العسكرية، معنويات المتطوعين في الجيش في الحضيض، ولم تكن أسلحتنا الإستراتيجية والصواريخ، والقاذفات التي تشكل أساس قوتنا الرادعة، تحدثت منذ حقبة، في الوقت الذي أنشأ فيه الاتحاد السوفيتي آلة حرب تهدد بخسوف آلتنا العسكرية في كل مستوى".

       كذلك عبر كاسبر واينبرجر، وزير الدفاع في إدارة ريجان، عن هذا التصور فروى كذلك في مذكراته أنه خلال الأيام الأولى من الإدارة كان هناك تحديداً لاتجاهاتها المقبلة إزاء الاتحاد السوفيتي:

1. أن يكون واضحاً تماماً أن الولايـات المتحدة الأمريكية ستقبل على أعمال حازمة تجاه أي أفعال مناقضة للحرية أو تهديد لأصدقائها.

2. أن هناك إدراكاً واضحاً أن قدراتنا العسكرية قد انخفضت بشكل محزن، وأن ريجان كان يدرك هذا وكان مصمماً أن يدخر القدرة العسكرية التي يمكن أن تساند مواقف أمريكا، والتي بدونها ستصبح مواقفها خالية من أي مضمون.

       كذلك لخص واينبرجر في حديث له مع السفير السوفيتي دوبرنين في الأيام الأولى للإدارة الجديدة "أنه من المهم أن يدرك السوفيت، ويدرك العالم أن الولايـات المتحدة الأمريكية قد تغيرت، وأنها ستمتلك خلال هذه الإدارة قوة أعظم وكذلك تصميماً وحزماً أكثر..".

       وقد استمر هذا التصور لما تتعرض له الولايـات المتحدة الأمريكية من تهديد عسكري سوفيتي، وتناقص القدرة العسكرية الأمريكية مقابل تزايدها على الجانب السوفيتي، فقد صدرت عام 1983 وثيقة دفاعية تصف القدرة العسكرية السوفيتية، وما تمثله من تهديد للولايات المتحدة "إن الولايـات المتحدة الأمريكية تواجه في الثمانينيات تحديات خطيرة لأمنها القومي. فقد تآكلت مناطق تقليدية للتفوق الأمريكي على الاتحاد السوفيتي بسبب البناء العسكري السوفيتي الشامل للقوة العسكرية، والذي لم يقابل بشكل كاف من الولايات المتحدة وحلفائها، زيادة على ذلك شجع الاتحاد السوفيتي حروب التحرير الوطنية وأيدها، وسيستمر في هذا، وهكذا كان السوفيت يفرضون تهديداً خطيراً للولايات المتحدة وحلفائها ومصالحها على كل مستويات الصراع وعلى نطاق واسع".

       وهكذا مثلت فلسفة رونالد ريجان كما أوضحها منذ حملته الانتخابية، ومنذ تسلمه السلطة حول مضمون إدارته للعلاقة مع الاتحاد السوفيتي وأسلوبها وتركيزه على الطابع الصراعي والمواجهـة تحولاً أساسياً عن السياسات الخارجية للحقبة الماضية. فبينما أدار الرؤساء الأمريكيين: نيكسون، وفورد، وكارتر ـ حتى نهاية السنة الثالثة من إدارته ـ السياسة الخارجية والعلاقة مع الاتحاد السوفيتي بشكل حاولوا فيه التكيف مع ضرورات عالم متغير، اتبعوا دبلوماسية نشطة لتعويض تعدد القوى الدولية التي أصبحت واضحة بشكل كبير في نهاية الستينيات، جاء رونالد ريجان ليقلب هذا المنطق، فعنده لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية هي المطالبة أو المسؤولة عن التكييف مع العالم، إن أمريكا القوية الواثقة من نفسها يمكن أن تجعل العالم يتكيف معها.

       فبالنسبة للرئيس ريجان لم تكن الولايـات المتحدة الأمريكية تواجه مشكلات معقدة تتطلب سياسة خارجية أمريكية تعتمد على المناورة والتكيف، فالمشكلة لم تكن في عالم معقد وإنما كانت ببساطة في الإدارة الأمريكية' فإذا استعادت أمريكا روحها وقوتها، فإنها ستوقف النمو العسكري السوفيتي المعادى الذي تحقق في الحقبة الماضية. ومن هذا التصور نبع تحديد أشمل للمصالح الأمريكية، فإذا شجع الفشل في التصدي للسوفيت في أي مكان مزيداً من العدوان، وإذا كان السوفيت هم مصدر تحديات جذرية للوضع القائم في كل مكان تقريباً، فإن ذلك يفرض تهديداً حيوياً للمصالح الأمريكية ويتطلب بدوره بناء عسكرياً ضخماً لمواجهته.

       جاء رونالد ريجان إلى الحكم في يناير 1981، لكي يمثل واحداً من أكثر الرؤساء الذين عرفتهم أمريكا محافظة، وأقلهم استعداداً للمساومة مع الاتحاد السوفيتي، وقد كان مما له مغزى حول اتجاه سياساته الخارجية، خاصة تجاه الاتحاد السوفيتي، اختياره ألكسندر هيج وزيراً للخارجية. وقد اختاره أساساً لموقفه من اتفاقية سولت 2، وانتقاده لها الأمر الذي أقنع ريجان أنه يتفق معه في نظرته إلى اتفاقيات التسلح مع السوفيت.

       وقد بدأ الكسندر هيج سياسته بالإعلان عن أنه ليس هناك شئ جوهري يمكن التحدث عنه مع السوفيت، ولا شئ يمكن التفاوض حوله حتى يبدأ الاتحاد السوفيتي في إثبات استعداده قوة مسئولة، كما ذهب إلى القول: "..إن إشاراتنا للسوفيت يجب أن تكون تحذيراً واضحاً أن وقت مغامراتهم التي لا يتحكم فيها شئ في العالم الثالث قد انتهى، وأن قدرة الولايـات المتحدة الأمريكية على أن تتسامح مع تصرفات عملائهم في كوبا وليبيا قد تجاوزت حدودها".

       وبشكل عام حدد ألكسندر هيج عند بدء عمله وزيرًا للخارجية الأعمدة الأربعة لسياسة ريجان الخارجية في:

1. استعادة قوة أمريكا العسكرية والاقتصادية.

2. تدعيم تحالفاتها.

3. التقدم في الأقطار الخارجية.

4. علاقة مع السوفيت تقوم على عدم انفراد السوفيت بالقرارات الخاصة بالمشاكل العالمية دون المشاورة مع الولايـات المتحدة الأمريكية.

       وقد صبغ هذا التوجه ممارسات الإدارة الأمريكية الجديدة وجهها إزاء الاتحاد السوفيتي، سواء تلك المتصلة بالعلاقات المباشرة أو في المناطق والمجالات التي تتأثر فيها علاقات القوتين وتتداخل وذلك على الوجه التالي:

1. ففي مجال بناء القوة العسكرية، شرعت الإدارة في تقوية نظمها الدفاعية، وأصرت على مستوى من الإنفاق يواجه متطلبات مستويات عالية من التقدم، على أساس أن هذا يخدم الموقف الأمريكي والغرب في أي مفاوضات مع الاتحاد السوفيتي بمستوياته المختلفة، بل بدأت تتردد في أرجاء الإدارة أفكاراً حول الحرب النووية المحدودة، اعتقاداً بأنها أصبحت أكثر احتمالاً من صراع إقليمي محدود، يتضمن استخدام القوى النووية والتقليدية، وتصورت هذه الأفكار أن هذه الحرب يمكن شنها إذا ما أعد لها بشكل دقيق، وإستراتيجية فعالة، ونتيجة لذلك، تصورت هذه الأفكار أن على الولايـات المتحدة الأمريكية أن تعد لقدرة قارية نووية. والواقع أن هذه الأفكار لم تكن جديدة فقد سبق أن ترددت في البنتاجون خلال إدارة كارتر؛ ولكن ليس بهذا التصميم التي بدت عليه الإدارة الجديدة.

2. كما تبنت الإدارة مفهوم أن التعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع السوفيت سينتهي بدعم لبنائه العسكري، ولذلك اتجهت إلى فرض حظر على الشركات الأمريكية والأوروبية، التي تساهم في بناء خط أنابيب غاز سيبيريا، الأمر الذي لم يتقبله الأوروبيون وخلق ظلالاً في العلاقات الأمريكية ـ الأوروبية.

3. وفي مجال حقوق الإنسان، بدأت الإدارة عهدها برفض تناول إدارة كارتر لهذا الموضوع، معلنة أن أمريكا لا تستطيع أن تعادي شركاءها في العالم الثالث، لما لهم من أهمية في الصراع ضد الشيوعية.

4. مفهوم الإدارة حول العالم الثالث، الذي لم تر فيه الإدارة إلا أرضاً للصراع بين الشرق والغرب، انعكس على تصورها للأمم المتحدة والمنظمات المتعددة الأطراف، على أساس أن أغلبية دول العالم الثالث فيها، وهذه المنظمات تتخذ للتهجم على الولايـات المتحدة الأمريكية.

       ولم تقتصر الممارسات الأمريكية في هذه المرحلة على الجوانب المتصلة مباشرة بالعلاقات الأمريكية السوفيتية، وإنما امتدت كذلك إلى المناطق التي تدخل في سياق التنافس بين القوتين، وشملت مختلف مناطق العالم التي تتداخل فيها علاقاتها:

1. ففي منطقة الشرق الأوسط، ركزت الولايـات المتحدة الأمريكية على التعامل مع مشكلاتها من منظور المواجهة العالمية مع الاتحاد السوفيتي، وكان هذا هو أساس المفهوم الذي صاغه ألكسندر هيج حول "التوافق الإستراتيجي" الذي دعا دول المنطقة أن تتبناه، واعتمد هذا المفهوم على أن ما يهدد نظام الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط ليس النزاعات المحلية فيه، أو المصادر الحقيقية التي تهدد استقراره، وإنما الأخطار الخارجية هي التي تتهدده، وفي مقدمتها الخطر السوفيتي. وحين لم تظهر الأقطار العربية، كما كان متوقعاً، تقبلاً لهذا المفهوم، اتجه هيج إلى تحقيقه في العلاقة الأمريكية الإسرائيلية بتوقيع مذكرة التفاهم الإستراتيجي مع إسرائيل في ديسمبر عام 1981.

2. وفي منطقة إقليمية حساسة أخرى وهي منطقة الكاريبي، لم يشغل هيج نفسه بتحليل الأوضاع السياسية الداخلية لدول هذه المنطقة، وخاصة نيكاراجوا والسلفادور، وإنما ركز على المطالبة بأن يضغط الاتحاد السوفيتي على كوبا التي عدها مسئولة عن اضطراب الوضع في هذه المنطقة وإلا فإن الولايـات المتحدة الأمريكية يجب أن تستخدم قوتها الاقتصادية ونفوذها السياسي من واقع قوتها العسكرية، لتضغط على كوبـا، ولكي تعالج الوضع "في منبعه".

3. وفي العلاقة مع الصين الشعبية، اتجه ريجان مع بدايات حكمه، واتساقاً مع ما جاء به من عدم التضحية بالأصدقاء، إلى تزويد تايوان بالأسلحة، الأمر الذي هدد العلاقة الأمريكية مع بكين بالأبعاد الإستراتيجية والتوازنات الدولية التي تضمنها بيان شنغهاي في فبراير 1972 في تطويرها وتطبيقها بالكامل في عهد كارتر.

       غير أنّ ما هو مهم في هذه المرحلة من إدارة ريجان في تعاملها وإدارتها للعلاقات مع الاتحاد السوفيتي، هو مفهومها الإستراتيجي ومحدداته، والذي يحكم أهدافها البعيدة. ويرى هنري كيسنجر أن إستراتيجية ريجان كانت تستند على اقتناع بأن الشيوعية يمكن هزيمتها وتدميرها، لا مجرد احتوائها أو إصلاحها، وكان ذلك يرتبط برؤية الواقع وعناصر الضعف في الكيان السوفيتي، ويستدل على ذلك بخطاب ألقاه ريجان في البرلمان البريطاني في يونيه عام 1982، يقول فيه محللاً التناقض القائم في الواقع السوفيتي ودلالاته "... بمعنى ساخر كان ماركس على حق. إننا نشهد الآن أزمة ثورية عظيمة تتصارع فيها متطلبات النظام الاقتصادي بشكل مباشر مع متطلبات النظام السياسي. غير أن هذه الأزمة لا تجرى في الغرب غير الماركسي، ولكن في بيت ماركس ولينين، في الاتحاد السوفيتي..وعام بعد عام فإن النظام السوفيتي يهدر أفضل مصادره في صنع أدوات الدمار، ويفرض الانكماش المستمر للنمو الاقتصادي، مع تزايد الإنتاج الحربي، عبئاً ثقيلاً على الشعب السوفيتي. إن ما نشاهده هو كيان سياسي لم يعد يتمشى مع قاعدته الاقتصادية، ومجتمع تعيق القوى السياسية قواه الإنتاجية".