إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / ثورة 23 يوليه، في مصر




وثيقة التنازل عن العرش
وداع علي ماهر
محمد نجيب وعبدالناصر
محاصرة قصر عابدين
مع ضباط الكتيبة (13) مشاة
لقاء مع الإخوان المسلمين
مقر مجلس قيادة الثورة
مقر رأس التين بالإسكندرية
اللواء محمد نجيب وعلي ماهر
الملك فاروق والسفير البريطاني
الملك فاروق في احتفال
البيان الأول للثورة
اليخت الملكي المحروسة
الرسالة الموجهة للملك فاروق
اجتماع مجلس قيادة الثورة
تعليمات بعودة اليخت المحروسة
دبابة أمام قصر المنتزه
زيارة للوحدات العسكرية





الفصل الثامن

الفصل الثامن

بعد الانقلاب وقبل تشكيل وزارة محمد نجيب

        يقول محمد نجيب: أريد أن أحسم قضية مهمة، لا تزال تثير الحوار والجدل، كلما جاءت سيرة ما فعلناه، ليلة 23 يوليه عام 1952:

        هل ما فعلناه في تلك الليلة ثورة أم انقلاب (انظر ملحق الثورة معناها وأسبابها

        إن من يؤيدنا ويتحمس لنا، يقول: ثورة!، وكأنه يكرمنا.

        ومن يعارضنا ويرفض ما فعلناه يقول: انقلاب! وكأنه يحط منا.

        وفي الحالتين لا يجوز أن نأخذ بمثل هذه الانفعالات العاطفية.

        إن تحركنا ليلة 23 يوليه، والاستيلاء على مبنى القيادة كان في عرفنا جميعا انقلاباً. وكان لفظ انقلاب هو اللفظ المستخدم فيما بيننا، ولم يكن اللفظ ليفزعنا لأنه كان يعبر عن أمر واقع، وكان لفظ الانقلاب هو اللفظ المستخدم في المفاوضات والاتصالات الأولى، بيني وبين رجال الحكومة، ورئيسها، للعودة إلى الثكنات.

        ثم، عندما أردنا أن نخاطب الشعب، وأن نكسبه إلى صفوفنا، أو على الأقل، نجعله لا يقف ضدنا، استخدمنا لفظ الحركة. وهو لفظ مهذب وناعم لكلمة انقلاب. وهو في الوقت نفسه لفظ مائع، ومطاط، ليس له مثيل، ولا معنى واضح في قواميس المصطلحات السياسية. وعندما أحسسنا أن الجماهير تؤيدنا وتشجعنا، وتهتف بحياتنا، أضفنا لكلمة الحركة صفة المباركة، وبدأنا في البيانات والخطب والتصريحات الصحفية نقول: حركة الجيش المباركة

        وبدأت الجماهير تخرج إلى الشوارع، لتعبر عن فرحتها بالحركة. وبدأت برقيات التأييد تصل إلينا، وإلى الصحف والإذاعة، فأحس البعض أن عنصر الجماهير، الذي ينقص ليصبح ثورة، قد توافر الآن، فبدأنا أحياناً في استخدام تعبير الثورة، إلى جانب تعبيري: الانقلاب والحركة. على أنني اعتبر ما حدث، ليلة 23 يوليه 1952، انقلاباً. وظل حتى قامت، في مصر، التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتحول الانقلاب إلى ثورة.

        وفي تعبير ساخر لمحمد نجيب، بعد تحديد إقامته، قال: إن أحسن تسمية لما قمنا به ليلة 23 يوليه عام 1952 هو "الإنقلورة".

انضمام محمد نجيب للضباط الأحرار وقيادته للحركة

        لم يكن في إمكان جمال عبدالناصر، بحكم سنه ورتبته، أن يتولى قيادة حركة عسكرية شاملة، يقوم بها الجيش المصري، يعلن فيها تمرده على الملك والحكومة، ثم يسقط هذه الحكومة بعد أقل من 24 ساعة، على تأليفها، ويرغم الملك على مغادرة البلاد، قبل أن تنقضي أربعة أيام على موعد الحركة.

        ولم يكن احتلال مقر رئاسة الجيش بكوبري القبة، الذي كان يحرسه بضعة جنود مسلحين بالبنادق، أو ضرب الحصار حول المنطقة العسكرية، الممتدة من العباسية إلى ألماظة، أو احتلال الإذاعة بشارع الشريفين، واستوديوهاتها بشارع علوي، الذي قامت به قوات الحركة ليلة 23 يوليه. لم يكن ذلك كله كفيلاً بنجاح الحركة، أو كافياً لتهيئة الفرصة أمامها، لإتمام السيطرة الفعلية على قوات الجيش بأكملها، فإن الضباط الأحرار، الذين أسهموا في التنفيذ الفعلي للحركة لم يزد عددهم، كما قدره عبدالناصر نفسه، على تسعين ضابطاً، كان ثلثاهم وفقاً للإحصاء الفعلي، من ضباط صغار، من رتبتي النقيب والملازم. وهذه النسبة لا تزيد على 4%، من مجموع ضباط الجيش الذين كانوا في الخدمة الفعلية وقتئذ. كما أن الوحدات، التي اشتركت، لم تكن إلا نسبة صغيرة من أسلحة الجيش وتشكيلاته، المنتشرة في مختلف المناطق العسكرية.

        ولو كانت قوات الحركة قد صادفت، في طريقها، مقاومات جدية. أو وقع، بينها وبين وحدات أخرى من الجيش، أي صدام، واشتباك مسلح، لتغير وجه التاريخ، ولتعرضت الحركة للفشل. وربما انقلب الأمر إلى حرب أهلية أو إلى تدخل الجيش البريطاني في منطقة قناة السويس.

        لقد كانت الخطة تعتمد على نجاح الطليعة التي تحركت من قوات الجيش تحت قيادة الضباط الأحرار لاحتلال الأهداف العسكرية المرسومة بالخطة وهي منطقة المعسكرات بالعباسية وألماظة واحتلال الهدف المدني الوحيد في قلب العاصمة وهو دار الإذاعة الذي كان سيلقى من واحد من استوديوهاتها البيان الأول الموجه من قائد الحركة إلى الشعب المصري إعلاناً عن تمرد الجيش على صاحب السلطة الشرعية في البلاد. وكان الأمل في نجاح الحركة بعد ذلك معلقاً على انضمام باقي الجيش إلى تلك الطليعة التي تحركت من صفوفه تعبيراً عن إرادته ليصبح الجيش من هذه اللحظة كتلة واحدة وراء قائد الحركة في مواجهة سلطة الملك والحكومة.

        تمكن جمال عبدالناصر، بفضل قوة شخصيته، وحركته الدائبة، بين الضباط الأحرار، من إقناع زملائه أعضاء لجنة القيادة، التي تتولى قيادة التنظيم السري، بانتخابه رئيساً لهم بالإجماع. ولكن العمل السري يختلف، تماماً، عن العمل العلني. وشخصية عبدالناصر، التي كان لها وزنها، في تنظيم يعمل أفراده تحت الأرض، لم يكن لها ذلك الوزن، بالمرة، في المجال العلني، على مستوى الجيش، فما هو إلا مقدم أركان حرب غير معروف، إلا في دائرة محدودة من الضباط، بحكم زمالتهم له في الدفعة أو السلاح. وكان نجاح الحركة، في ساعاتها الأولى، وهي أحرج فترة في مسارها، متوقفاً على انضمام باقي الضباط، على رأس وحداتهم، إلى صفوف الحركة. ولكن كيف يُتوقع ذلك وقائدها غير معروف، وميوله وأهدافه غير واضحة. وما الذي يدفع هؤلاء الضباط إلى المقامرة بمستقبلهم، للانضمام إلى حركة نجاحها في باطن الغيب، ليعرضوا أنفسهم لخطر الإعدام، في حالة الفشل. كي يتبعوا هذا المقدم الذي لا يتميز بشيء عن أقرانه ويسلموا له طواعية بالزعامة ويبايعوه قائداً للحركة؟

        ثم إن الأمر ليس مقصوراً على تأييد الجيش فحسب، فلا ينبغي إغفال الشعب، الذي لابد من كسب تأييده، وثقته، ليقتنع بأنها حركة شاملة، يقوم بها الجيش بأكمله، تحت قيادة قائد له شهرته، في صفوف الجيش، وشعبيته بين الجماهير، وأنها ليست مجرد مغامرة عسكرية، يقوم بها بعض الضباط، بدافع من تهورهم، واندفاعهم، تحقيقاً لشهرة، يحصلون عليها، أو أملاً في مطالب شخصية يحققونها.

        هذه هي وجهة النظر، التي أقنع بها عبدالناصر زملاءه، أعضاء لجنة القيادة، بضرورة إسناد قيادة الحركة، المزمع القيام بها، إلى ضابط كبير الرتبة، له شهرته وشعبيته، داخل الجيش وخارجه، ليتسنى تكتل الجيش والشعب، من ورائه، بمجرد إذاعة البيان الأول للحركة.

        ووافقت اللجنة على رأيه، ولم يكن بين كبار ضباط الجيش، من تتوفر فيه الشروط المطلوبة، سوى الفريق عزيز المصري، واللواء فؤاد صادق، واللواء محمد نجيب.

        وبدأت الاتصالات بعزيز المصري، ولكنه آثر أن يظل أباً روحياً للثورة فقط، وكان له عذره فقد كان في الحلقة السابعة من عمره، ومضى عليه نحو اثنى عشر عاماً خارج الجيش. وكان الاجراء الطبيعي هو الاتصال باللواء فؤاد صادق، وهو القائد الذي عرف بشجاعته في ميدان القتال بفلسطين عام 1948، حينما كان قائداً عاماً للقوات المصرية، أثناء الحرب واستحوذ على محبة الضباط وإعجابهم، وفرض هيبته على اليهود في فلسطين، كما فرض احترامه على الرئاسات بالقاهرة. وكان يتمتع بشهرة داخل الجيش وخارجه. وقد عرضت قيادة الحركة، على اللواء فؤاد صادق، ولكنه رفض الفكرة، أو اعتذر عن قبولها.

        والرواية الوحيدة، التي ذكرت وقائع محددة، في هذا الموضوع، هي رواية أنور السادات، في كتابه "قصة الثورة الكاملة قال: "واختير لهذه المهمة الصاغ صلاح سالم، الذي توجه لمقابلة اللواء فؤاد صادق في بيته. عقب تقديم الفريق عثمان المهدي استقالته، من منصب رئيس هيئة أركان حرب الجيش، وبعد هذه المقابلة تم تعيين اللواء حسين فريد وخلال المقابلة كان اللواء فؤاد صادق لا يزال ضابطاً بالجيش. من هذه المعلومات يبدو أن المقابلة تمت، خلال شهر نوفمبر 1950.

        قال أنور السادات: "ذهب صلاح إليه في بيته، وقال له إن الرأي العام، بين ضباط الجيش، يرشحه لتولى منصب رئيس هيئة أركان حرب الجيش. وهؤلاء الضباط يمكنهم مساعدته لكي يتولى هذا المنصب؛ فهم قوة، ولهم نفوذ كبير. وظل صلاح يحدثه حتى اقتنع فؤاد صادق وأيقن بأنه سيعين رئيساً لهيئة أركان حرب الجيش."

        وأثناء الحديث دق جرس التليفون، ورفع فؤاد صادق السماعة. وكان المتكلم هو النقيب مصطفى كمال صدقي. وكان مصطفى على صلة ما بالقصر، في ذلك الوقت. وقال مصطفى كمال لفؤاد صادق إن مرسوم تعينه، رئيساً لهيئة أركان حرب الجيش، سيوقعه الملك في الصباح.

        وظهرت على فم اللواء فؤاد صادق ابتسامة غريبة، ونظر إلى صلاح، نظرة ذات مغزى، ثم قال وهو لا يزال يمسك بسماعة التليفون: "بتقول إيه يا مصطفى؟ زعق شوية". وأشار فؤاد صادق لصلاح سالم أن يقترب منه، واقترب صلاح، وقرَّب أذنه من التليفون فسمع مصطفى صدقي يتحدث عن مرسوم تعين فؤاد صادق، الذي سيصدر، في اليوم التالي.

        في تلك اللحظة، عرف صلاح شخصية فؤاد صادق، فالرجل شعر، بعد أن أبلغه مصطفى صدقي بأمر تعيينه، أن الرأي العام للضباط في الجيش، لم يعد يعنيه. وبعد أن كان قد أبدى استعداده، لتحقيق كل رغبات الضباط، وحماية مصالحهم، والوقوف إلى جانبهم، انقلب فجأة، وبلا مقدمات، بعد أن عرف أن هؤلاء الضباط لن يكون لهم دخل في تعيينه فقد تم تعيينه بالفعل. وقال لصلاح، بالحرف الواحد: "إذا كنت بقيت رئيس أركان حرب الجيش، فده بمجهودي أنا، وبدراعي أنا وسأعمل على إقامة النظام الكامل في الجيش". وصمت لحظة ثم عاد يقول لصلاح المذهول:

        ـ لازم تفهم إنت، والضباط اللي معاك، اللي بقوله ده: لأنني سأنفذ القانون، وأنصحك إنك واللي معاك تدوروا على مصالحكم، ومستقبلكم، ومستقبل أولادكم أحسن".

        وعاد صلاح إلى رفاقه يحدثهم بما دار، بينه وبين فؤاد صادق، وكانت مفاجأة للجميع. أما لماذا لم يعين فؤاد صادق، رئيساً لهيئة أركان حرب الجيش، وعين بدلاً منه، في اللحظة الأخيرة، حسين فريد فلذلك قصة أخرى، لعب فيها تشكيل الضباط الأحرار، كما كتب السادات، دوراً حاسماً. لقد تمكن تشكيل الضباط الأحرار، خلال ساعات الليل، من استبدال اسم فؤاد صادق، في المرسوم الملكي، ليصبح اسم حسين فريد، قبل أن يوقعه الملك في الصباح. والأكثر عجباً أن تجري هذه العملية داخل السراي، وكأن الحكومة لا دخل لها بالموضوع مع أن الوضع الطبيعي أن الحكومة هي التي، كانت تعد المراسيم الملكية المتضمنة الأسماء، التي يتقرر تعيينها في المناصب الكبيرة، بعد الحصول على موافقة الملك. ولم تكن حكومة الوفد، التي كانت في الحكم وقتئذ، يمكنها أن تتغاضى عن رفع أحد الأسماء، من مرسوم أعدته، بعد الاتفاق مع الملك، لتفاجأ باسم آخر، يوضع في اللحظة الأخيرة، في مثل ذلك المنصب الخطير. ولم يكن معقولاً من جهة أخرى أن توافق حكومة الوفد من الأصل على تعيين فؤاد صادق لهذا المنصب. فقد كان الود مفقـوداً، بين فؤاد صادق وحكومة الوفد، بعد أن صرح برأيه في معارضة مبدأ الدفاع المشترك، الذي كان محور المفاوضات، بين حكومة النحاس والإنجليز، مما جعل الحكومة تعد ذلك منه موقفاً عدائياً ضدها، وكادت تقدم على إحالته للمعاش، لولا تدخل النائب العام محمد عزمي، الذي أفهم المسؤولين، أن ذلك سوف يضر بالتحقيق، في قضية الأسلحة الفاسدة، ضرراً بالغاً؛ لأن فؤاد صادق هو الشاهد الأساسي في هذه القضية. ويخشى إذا أحيل إلى المعاش، أن يفهم باقي الشهود أن هذا عقاب له على شهادته. وحدث ما كان متوقعاً من الحكومة، إزاء فؤاد صادق، فما كاد الأمر يصدر بتعيين اللواء حسين فريد في نوفمبر 1950، حتى رد اللواء فؤاد صادق على ذلك، بتقديمه طلباً بإحالته إلى الاستيداع، أملاً في تغيير الأوضاع، في المستقبل، إذا ما تغيرت وزارة الوفد، التي كانت تقف في طريق تعيينه، فانتهزت الحكومة الفرصة. وقررت إحالته إلى المعاش.

رواية جمال حماد

        يقول جمال حماد: "إن الأسلوب، الذي رويت به، تصرفات فؤاد صادق في المقابلة، يهبط بمستوى عقلية فؤاد صادق، وتفكيره إلى الدرك الأسفل؛ فكيف يتصور من رجل، عُرفت عنه الفطنة والدهاء، أن تصل به السذاجة إلى الحد، الذي جعله يصدق على الفور، ما أنبأه به صلاح سالم من أن الرأي العام في الجيش، يرشحه لتولى منصب رئيس أركان حرب الجيش، وأن الضباط يمكنهم مساعدته لأنهم قوة ولهم نفوذ كبيرة.

        ألم يحاول فؤاد صادق أن يسأل زائره عن من هم هؤلاء الضباط ذوو القوة والنفوذ؟ ومنذ متى يتم التعيين لمثل هذه المناصب، بترشيح الضباط واختيارهم؟ هل ينطلي مثل هذا الكلام على فؤاد صادق الداهية الأريب، الذي عركته الحرب والتجارب؟

        ولم يكن الجو مناسباً لتنظيم الضباط الأحرار، في هذه الفترة، لإجراء مثل هذا الاتصال. فلم يكن قد مر على تكوين التنظيم، سوى عام واحد فقط، ولم يكن قد استطاع الوقوف على أقدامه بعد. ولم يكن صلاح سالم نفسه، في وضع، يسمح له بالحديث مع فؤاد صادق، بهذه الطريقة. أما المكالمة التليفونية المفاجئة، في توقيت المقابلة نفسه، فهي أشبه بما يجري في الأفلام السينمائية، والأغرب منها، ذلك التصرف الصبياني، الذي أدعى صلاح سالم أن فؤاد صادق قد سلكه، ليسمع صلاح بنفسه البشرى التي زفها له مصطفى. وكل من عرف فؤاد صادق لابد أن يستنكر نسبة هذا التصرف الصغير إليه، فقد كان أهم ما يميزه الاتزان والوقار.

        لقد رشح اللواء فؤاد صادق ليتولى منصب رئيس هيئة أركان حرب، بالفعل، ولكن قبل التاريخ الذي حدده أنور السادات، في كتابه، بعام كامل وقد روى لي القصة الحقيقية السياسي الوطني، مصطفى مرعي، وكان وزيراً، في وزارة إبراهيم عبدالهادي عام 1949، عقب توقيع الهدنة مع إسرائيل في 24 فبراير 1949 وعودة الجيش المصري من فلسطين. وكان فؤاد صادق قد حقق، في نهاية الحرب، شهرة مدوية، في الوقت الذي ظهر فيه عثمان المهدي، الذي كان يتولى رئاسة الأركان بالنيابة، بمظهر العجز والتخاذل، خلال سير العمليات الحربية بفلسطين. ومن ثم فكرت حكومة إبراهيم عبدالهادي في ترشيح فؤاد صادق، ليتولى منصب رئيس هيئة أركان حرب الجيش وأمكنها الحصول على موافقة الملك، وهنأ رئيس الوزراء بنفسه، فؤاد صادق بالمنصب، الذي تقرر أن يتولاه. وأعدت الحكومة المرسوم الملكي بالتعيين، وأرسلته إلى السراي ليوقعه الملك. ولكن في اللحظة الأخيرة حدث، أثناء وجود المرسوم بالقصر، تحت التوقيع، أن وقع انقلاب حسني الزعيم في سورية، وتدخل الوشاة والحاسدون، وعلى رأسهم، الفريق محمد حيدر، وزير الحربية، والذي كان يخشى من تضخم قوة ونفوذ فؤاد صادق، إلى هذا الحد، كي يمنعوا صدور المرسوم الملكي، بعد إدخال الروع في قلب الملك، بأن فؤاد صادق لن يلبث حتى يحذو حذو حسني الزعيم. وعدل الملك عن توقيع المرسوم. وكادت تحدث أزمة وزارية، بسبب ذلك الموقف، فقد أصرت الحكومة على قرارها، وأصر الملك على الرفض، وانتهت الأزمة برضوخ الوزارة لضغط الملك. وصدر مرسوم آخر بتعيين عثمان المهدي، في يوليه 1949، رئيساً لأركان حرب الجيش. وحاول إبراهيم عبدالهادي ترضية فؤاد صادق، بأن عرض عليه منصباً مدنياً كبيراً ولكن الرجل رفض.

فؤاد صادق وقيادة الحركة

        بقي السؤال، الذي لم تتم الإجابة عليه بعد، وهو هل عرضت قيادة الحركة على فؤاد صادق حقاً؟ يقول جمال حماد: إن قناعتي الشخصية أن ذلك الأمر لم يحدث، على الإطلاق، فإن شخصية فؤاد صادق، لم تكن الشخصية، التي يسعى عبدالناصر وراءها للإتيان بها على رأس حركة الجيش. وأعتقد أن هذا لم يكن رأيه وحده، بل كان يشاركه فيه بعض زملائه، من أعضاء لجنة القيادة، ومنهم عبدالحكيم عامر. إن القصة، التي رواها السادات، في كتابه، على لسان صلاح سالم، تبين بالبحث أنها أوهى من خيوط العنكبوت، ولا يستبعد أن تكون من تأليف صلاح سالم لصرف أنظار لجنة القيادة نهائياً، عن التفكير في ترشيح فؤاد صادق لقيادة الحركة. إن القائد الصارم الشديد المراس، الذي يشبه الجواد المشاكس، والذي يصعب قيادته، أو توجيهه لا يمكن أن يكون هو الرجل، الذي يبغيه عبدالناصر ليتولى قيادة حركة الجيش، والذي يريد منه أن يقنع بأن يكون هو الاسم الظاهر، أمام الملأ، بينما تبقى جميع الخيوط في يده.

رواية تخالف رواية جمال جماد

        والراجح أن قيادة الضباط الأحرار، قد عرضت على اللواء أحمد فؤاد صادق قيادة الحركة، إلا أنه اعتذر عن ذلك. فيذكر اللواء أحمد شوقي عبدالرحمن "اطلعت على الخطاب الخاص، الذي بعث به اللواء فؤاد صادق، في أغسطس 1952، فأعجبت بالكلمة الصريحة الصادقة، التي تصف شجاعة محمد نجيب المعنوية في معركة التحرير الأخيرة، وفيما يلي نص الخطاب:

        عزيزي نجيب "أهنئك، وأقدم إليك أطيب التحيات، وأصدق التمنيات، وأسر إليك بسر يجرح كبريائي إعلانه، فأرجوك الاحتفاظ به من أجل خاطري.

        أشهد بأن أعصابك أحكم من أعصابي، فقد استجبت، لما لم أحتمل مجرد سماع الحديث فيه، أكرر التهاني لك، وأدعو الله لك ولرفاقك التوفيق.

                أخوك،

                         أحمد فؤاد صادق

محمد نجيب وقيادة الحركة

        كانت كل الشروط والمواصفات المطلوبة متوفرة، في اللواء محمد نجيب، فقد كانت له سمعة طيبة بين ضباط الجيش، إذ اشتهر بالشجاعة في حرب فلسطين. وجُرح ثلاث مرات، وطلب له اللواء فؤاد صادق، قائد القوات المصرية بفلسطين، عام 1948، ترقية استثنائية. ولكن الفريق محمد حيدر عارض في ذلك، ولكنه مُنح نجمة فؤاد الذهبية مرتين، تقديراً لشجاعته. وكانت واقعة إخراجه من منصب مدير سلاح الحدود، ليتم تعيين اللواء حسين سري عامر، رجل السراي مكانه، سبباً في ذيوع شهرته فقد اجتذبت هذه الواقعة أنظار الضباط إليه، وشعروا بتعاطفهم معه، وكاد محمد نجيب يقدم استقالته، بل وكتبها فعلاً، ولكن بعض الضباط الذين كان يثق بهم، أقنعوه أن هذا الموقف يضيف رصيداً للملك، فعدل عن الاستقالة، وقبل أن يكون مديراً لسلاح المشاة، بعد مقابلة بينه وبين الفريق حيدر، في مكتبه، ورفض منصباً شرفياً، عرضه عليه حيدر، وهو وكيل وزارة لشؤون الحدود. واختار سلاح المشاة نظراً للعدد الكبير، الذي يضمه من الضباط، ولانتشاره، في مختلف المناطق. وكان ذلك في أواسط عام1951.

        ولم يلبث محمد نجيب أن اكتسب شهرة شعبية، في أواخر 1951، حين اشتعلت معركة انتخابات نادي الضباط؛ إذ أن الرأي العام، داخل الجيش وخارجه، كان يتتبع أنباءها، باهتمام شديد؛ فقد أحس الجميع أنها بمثابة صراع سافر، بين الضباط الوطنيين وعملاء السراي، من قادة الجيش، وعلى رأسهم حسين سري عامر مدير سلاح الحدود وقتئذ.

        وكان ترشيح محمد نجيب نفسه لرئاسة مجلس الإدارة قد تم بالاتفاق، بينه وبين تنظيم الضباط الأحرار، الذي خاض المعركة كوسيلة لاختبار مدى قوته، وتأثيره على الرأي العام بين الضباط. وكانت هذه خطوة شجاعة من محمد نجيب بلا شك. وقد أوضح خالد محيي الدين هذه الحقيقة بقوله: "وعندما قررنا دخول معركة الانتخابات لنادي الضباط تطوع محمد نجيب ليرشح نفسه، وليكون الواجهة، التي تتحرك جماعتنا في إطارها، وليتحمل المسؤولية، تجاه السلطة، عن هذه المعركة، وعن نتائجها. وكانت هذه خطوة شجاعة أكسبت نجيب احترامنا وثقتنا".

        واستغل التنظيم اسم محمد نجيب، أحسن استغلال، فوضع اسمه على رأس قائمة مرشحي الضباط الأحرار. ولم يكن عدد الضباط الأحرار المنتمين للتنظيم، والذين حضروا اجتماع الجمعية العمومية يتجاوز، بأية حال، نسبة 10%، من مجموع الضباط الحاضرين، الذين بلغ عددهم وقتئذ (455) ضابطاً. ولم يكن في إمكان الضباط الأحرار بعددهم القليل السيطرة على جو الاجتماع. ولكنهم استطاعوا، بفضل تكتلهم، توجيه الرأي العام، في القاعة، إلى الوجهة التي رسموها من قبل. وساعدهم على ذلك، وجود المقدم رشاد مهنا، الذي كان مرشحاً عن سلاح المدفعية، والذي كان حاضراً الاجتماع.

        وكانت معركة انتخابات النادي، ونتائجها الباهرة، فرصة هيأها القدر، لإعداد محمد نجيب للدور، الذي قدر له القيام به، بعد أقل من سبعة أشهر؛ فقد استأثرت باهتمام دوائر الجيش وطوائف الشعب، لما أحاط جو الانتخابات من عوامل التحدي والإثارة. واهتمت الصحف اليومية بإبراز نتائجها، في أعدادها الصادرة، صبيحة ليلة الانتخابات، أي في أول يناير 1952. كما نشرت نبأ فوز اللواء محمد نجيب، برئاسة مجلس الإدارة، بعناوين بارزة.

        وهكذا توفرت، في محمد نجيب، في أوائل 1952، أفضل الصفات، التي تؤهله لقيادة حركة عسكرية ناجحة، يقوم بها الجيش؛ فقد أصبح، إضافة إلى ما يتمتع به من سمعة وشهرة، حائزاً على ثقة الضباط، مما يضمن معه سرعة انضمام باقي الجيش إلى الحركة بمجرد الإعلان عن قيامها، تحت قيادته.

        وقد عبر عن ذلك كل من عبداللطيف البغدادي وخالد محيي الدين، بقوله: "عندما بدأنا الإعداد للتحرك، ضد النظام، كان أول ما يشغلنا، نحن الضباط الشباب، ضرورة اختيار شخصية كبيرة السن، ذات احترام، نقدمها للأمة. وبشكل طبيعي، اتجهت أفكارنا نحو محمد نجيب؛ فإن شجاعته أكسبته احتراماً وثقةً".

        وعلاوة على هذه الميزات المرموقة، في محمد نجيب، كانت له صفات أخرى رجحت كفته، على كفة اللواء فؤاد صادق، عند الموازنة بينهما، لاختيار قائد الحركة، وصادفت هوى في نفس عبدالناصر، وشجعته على اختياره دون سواه. كان أبرزها طيبة القلب، وسلامة النية، وصفاء الطوية، وسرعة الثقة بالغير وتصديقه، مع إمعان في التواضع، بلا تكلف، وعزوف طبيعي عن استخدام أساليب المكر والدهاء. وهذه الصفات التي أكسبت شخصية محمد نجيب بساطة طبيعية، وجاذبية لا تقاوم، كانت هي سر قوة ذلك الرجل، وفي نفس الوقت كانت هي سر ضعفه.

        وكان عبدالناصر يتوق إلى قائد، من هذا الطراز، المرن في معاملاته، والناجح في اجتذاب الناس، ليضمن سرعة استجابة الجيش والشعب للحركة؛ مع التأكد، في الوقت نفسه، أنه سوف يسهل عليه توجيهه، والسيطرة عليه، في المستقبل، لتبقى جميع خيوط السلطة في قبضته.

        حظي محمد نجيب، في بداية حركة الجيش، بما لم يحظ به أحد من قبله، من تركيز، واهتمام وسائل الإعلام، في مصر وخارجها. وأضيفت عليه من هالات البطولة، وصفات العظمة، ما لم تشهده مصر من قبل، إلى الحد الذي جعله يتحول، في نظر الشعب المصري، إلى شخصية أسطورية. وجعل الجماهير لا تتمالك نفسها، كلما رأته، من التصفيق الشديد، والهتاف المدوي باسمه، والتكالب، في شبه جنون، على سيارته. وافتتن رجال الثورة أنفسهم بالزعيم القائد، الذي صنعوه، فسايروا الشعب في حبه، والإعجاب ببطولته، إلى الحد، الذي جعلهم يخاطرون بحياتهم، ويحيطونه بأجسادهم، فوق رفارف سيارته، ليصدوا عنه طوفان الشعب الجارف، كي تتمكن سيارته من شق طريقها، بين مئات الألوف المحتشدة، من جماهير الشعب في حله ورحاله. وكانت خطبهم وأحاديثهم كلها، تمجيداً لعظمته، والإشادة بروعة قيادته، إلى الحد الذي جعل أحدهم، وهو أنور السادات، يضع اسم محمد نجيب على رأس أعظم عشرة رجال في العالم، في استفتاء أجرته مجلة المصور في العدد (491)، الصادر في 8 مايو 1953، أي أن محمد نجيب كان، في نظر السادات وقتئذ، هو أعظم رجل في العالم.

        ولم يتخلف عبدالناصر نفسه عن إعلان تأييده، وإظهار إعجابه؛ ففي أثناء زيارة لمحمد نجيب لقرية بني مر، وقف عبدالناصر، وسط أبناء قريته، يعلن إيمانه بمحمد نجيب قائلاً: "باسم أبناء هذا الإقليم، أرحب بكم، من كل قلبي، وأعلن باسم الفلاحين، أننا آمنا بك؛ فقد حررتنا من الفزع والخوف، وآمنا بك مصلحاً لمصر، ونذيراً لأعدائها. سيدي القائد، باسم الفلاحين أقول: سر ونحن معك جنودك؛ فقد حفظنا أول درس، لقنتنا إياه، وهو إن تحرير مصر، وخروج قوات الاحتلال من بلادنا، واجب حيوي، وأصبحت أملاً في أن تحقق مصر حريتها على يديك. إن مصر كلها تناصرك للقضاء على قوات الاحتلال".

        سرعان ما تبدل الحال، مع مطلع عام 1954؛ فقد اشتعل الصراع، بين محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة، وعلى رأسه عبدالناصر، ذلك الصراع، الذي بلغ ذروته في مارس 1954. وأخيراً اختتمت الرواية فصولها في 14 نوفمبر 1954، بتنحية محمد نجيب عن منصب رئيس الجمهورية، ووضعه رهين الاعتقال، في استراحة ريفية نائية، بضاحية المرج شمال القاهرة، (قصر زينب الوكيل زوجة النحاس باشا) حيث بقي بها ثمانية عشر عاماً.

        وسرعان ما حدث التحول الهائل في مقالات الكتاب، وأجهزة الإعلام، بل حتى في كتابات المؤرخين، واشتد التنافس بينهم، لا في تمجيد محمد نجيب، كما كان الحال عليه من قبل، ولكن في سلبه كل ما أُضفى عليه، في الماضي، من صفات العظمة، وآيات البطولة. وفي طمس معالم كل ما قام به من أعمال جليلة، سواء في خدمة جيشه، أو وطنه، ووصل الأمر، في الاستخفاف بشأنه، إلى حد تصوير دوره في قيادة الحركة، بأنه كان أشبه بخيال المآتة، وأنه كان في منزله لا يعلم شيئاً عما يدور حوله من أحداث، طوال شهر يوليه 1952. وقد صور السادات هذه الصورة في كتابه "قصة الثورة كاملة" فقال: "كان (نجيب) مثل أي رجل في مصر، وفي مثل سنه، كان موظفاً يجلس إلى مكتبه، من الصباح حتى الظهر، وليس في ذهنه أي شيء عن العدالة الاجتماعية، أو عن الاستغلال، والاستبداد، ومحنة الاستعمار. كل الذي كان يشغل باله، في عام الثورة 1952، هو نفس الشيء الذي كان يشغل بال أي موظف كبير، في مثل سنه، ربما علاوة، أو ترقية". لقد شكك الكثيرون في حقيقة دور محمد نجيب، حتى خيل للبعض، أن الرجل الطيب المسن كان راقداً في فراشه ليلة 23 يوليه ينعم بالنوم الهنيء عندما أيقظوه من رقاده، قبيل الفجر، ليزفوا إليه النبأ العظيم، وهو أنه قد أصبح فجأة بطلاً للحركة وقائداً للثورة. وأن العربات المدرعة، في طريقها إليه، لتعود به إلى مبنى رئاسة الجيش، ليدخل بها دخول الظافرين.

        وهذا لا يصدق مع رجل أمعن في تحدي الملك، حتى اضطره إلى التدخل شخصياً، لحل مجلس إدارة النادي، الذي كان يرأسه؟ ولا يصدق مع رجل بلغت قوة شعبيته، بين الضباط، إلى الحد الذي جعل كلاً من نجيب الهلالي، وحسين سري، يرشحه وزيراً للحربية في وزارته، كوسيلة لتهدئة الجيش، لولا رفض الملك، خشية من أحمد عرابي رقم 2 على حد قوله. ولا يصدق مع رجل استدعاه سراً وزير الداخلية، وأقوى رجل في وزارة حسين سري، وهو الدكتور محمد هاشم، لمقابلته في منزله يوم 18 يوليه. ودامت المقابلة حتى ساعة متأخرة من الليل، ليعرف منه أسباب تذمر الجيش ومطالبه. وأخيراً لا يصدق مع رجل توجه إليه عبدالناصر وعبدالحكيم عامر، بنفسيهما صباح يوم 19 يوليه، لإبلاغه بموعد قيام الحركة.

        كل هذا ينفي القول بأنه كان في منزله، لا يعلم شيئاً، ثم في الساعة الثالثة صباحاً، اتصل بجمال في مبنى القيادة، بعد أن تم كل شيء وأصبح الجيش، تحت سيطرة الضباط الأحرار. وقد رد جمال على سؤال نجيب بأن وضح له الموقف كله، وبلغه، لأول مرة، أن في الجيش تنظيماً اسمه الضباط الأحرار، وأن قيادة ذلك التنظيم قد سيطرت على جميع القوات المسلحة، في جميع أنحاء البلاد. وقال له:

        ـ الضباط الأحرار قاموا بالثورة الليلة. والثورة نجحت، والمنطقة العسكرية محاصرة، وإحنا عازين تيجي حنبعت لك عربية تجيبك. وهكذا عرف نجيب ـ لأول مرة ـ حكاية الضباط الأحرار".

متى عرض على محمد نجيب تولى قيادة الحركة؟

        ما الذي استوجب تأخير الاتصال بمحمد نجيب لعرض قيادة الحركة عليه قبل قيامها بوقت كاف بينما كانت جميع الظروف مهيأة لهذا الاتصال. وإذا كانت قيادة التنظيم قد أرسلت في أواخر عام50 الرائد صلاح سالم، إلى اللواء فؤاد صادق، كما ذكر السادات، بعد التفكير في اختياره قائداً للحركة، وكان محدداً لها، وقتئذ، عام55. أي أن الاتصال جرى قبل خمسة أعوام، من قيامها، فلماذا يؤجل الاتصال، في هذا الشأن، بمحمد مجيب. ويترك للحظة الأخيرة، علماً بأنه لا وجه للمقارنة، بين علاقة عبدالناصر والضباط الأحرار السطحية الواهية، بفؤاد صادق، وبين علاقتهم الوثيقة القوية، بمحمد نجيب؟

        كان عبدالحكيم عامر أركان حرب محمد نجيب، عندما كان يتولى قيادة اللواء العاشر الضارب بفلسطين. وتوطدت العلاقة بينهما، مدة الحرب، إلى الدرجة التي جعلت عامر يقول لصديقه عبدالناصر: "لقد عثرت في محمد نجيب على كنز عظيم". وعندما ترك محمد نجيب سلاح الحدود، ليكون مديراً للمشاة، وجد عبدالحكيم عامر إلى جانبه، في رئاسة المشاة، وعمل فترة تحت قيادته، قبل نقله إلى رئاسة الفرقة الأولى برفح. وكان عبدالناصر، خلال ذلك، لا تنقطع زياراته لصديقه عامر، ولمدير السلاح نجيب. فقد كان يعمل، وقتئذ، مدرساً بكلية أركان الحرب، بمنشية البكري، على مسافة قريبة من رئاسة المشاة بالعباسية.

        وعندما بدأت معركة انتخابات نادي الضباط، ازدادت العلاقة توثقاً، بين نجيب، الذي رشح نفسه لرئاسة مجلس الإدارة، بالاتفاق مع قيادة التنظيم وبين عبدالناصر، الذي حمل أمانة الاتصال به، نيابة عن زملائه. وكان محمد نجيب يدير المعركة، بحكم وضعه، من رئاسة سلاح المشاة، وبصورة علنية، بينما نزل عبدالناصر، بكل ثقل التنظيم، ليعاونه في المعركة بطريقة سرية. وعندما أعلنت النتائج. وفازت قائمة الضباط الأحرار، هذا الفوز الساحق، كان ذلك هو ثمرة التعاون المشترك، بين النشاط العلني والنشاط السري.

        هل كان يمكن اتهام محمد نجيب بالغباء والغفلة، وتصوُّر أنه، بعد كل ما دار في معركة الانتخابات، وبعد أن كشف عبدالناصر أوراقه، بهذه الصورة، خلال تعاونهما المشترك، أثناء المعركة، وبعد أن رأي بعينية مئات من النسخ المطبوعة سراً، لقائمة المرشحين في الانتخابات، والتي وزعت على أعضاء الجمعية العمومية للضباط. وقد تصدرتها عبارة "مرشحو الضباط الأحرار". بعد كل هذا، هل كان محمد نجيب في حاجة إلى من يشرح له الأمر، ويبلغه لأول مرة في الساعة الثالثة صباحاً، يوم 23 يوليه بأن في الجيش تنظيماً اسمه الضباط الأحرار؟

        في الحقيقة لا يمكن تصديق ذلك، خاصة أن هناك دليلاً واضحاً يؤكد خلافه، وهو قول خالد محيي الدين: "لفترة طويلة، كان عبدالحكيم عامر أساساً، وجمال عبدالناصر أحياناً، على علاقة بمحمد نجيب. وكانا يسلمان له منشورات الضباط الأحرار. وقد يقول البعض إن محمد نجيب لم يشترك في الإعداد للثورة. وهذا صحيح، لكننا يجب أن نعترف له بشجاعته، في الموافقة على مشاركتنا، في تحمل المسؤولية، عما قد يقع من نتائج. لقد عرف بالموضوع، وأخبرناه بعزمنا على التحرك، وبعزمنا على تنصيبه قائداً للحركة. وبعد أن نجحت الثورة، قررنا ضم نجيب إلى المجموعة القيادية".

        وهذا الكلام يوضح أن محمد نجيب، كان على إطلاع تام على نشاط الضباط الأحرار السري، إلى الحد الذي جعلهم يسلمونه منشوراتهم، من دون خوف، أو حرج كما يثبت بجلاء أن قيادة الحركة قد عُرضت عليه، وأنه قبلها. وكان ذلك، قبل وقت من قيامها، بلا شك.

        وثمة دليل آخر، يسوقه يوسف منصور صديق، عندما سأل جمال عبدالناصر في أكتوبر 1951، عن الضباط الذين يعملون في قيادة الحركة، فكان جمال يؤجل ويسوف، ويقول أنه سيعرفهم في الوقت المناسب. واستطرد يوسف صديق في مذكراته قائلاً: "ولما ألححت عليه، أخبرني أن أقدم ضابط هو اللواء محمد نجيب، فاسترحت لهذا الاسم، الذي كنت أكن له كثيراً من الاحترام والحب، لما يمتاز به من صفات وسمعة طيبة، بين ضباط الجيش. وكانت تجمعني به صلة الجوار في السكن، حيث كنا نسكن في بيتين متقاربين، في حلمية الزيتون. وكانت جيرتي للواء محمد نجيب، في السكن، تتيح لي فرصة زيارته، في كل مرة أنزل فيها إلى القاهرة. وبطبيعة الحال أخبرته بانضمامي لصفوف الضباط الأحرار. وقد لاحظت أنني كلما سألته عن أي شيء بخصوص العمل، أو التنظيم، كان يحيلني إلى جمال".

        من جانب آخر، يقول محمد نجيب: "إنني توليت قيادة تنظيم الأحرار فعلاً، بعد حريق القاهرة في 26 يناير 1952. وجميع الخطوات، التي تمت بعد ذلك، كانت بموافقتي، أو بأمر مني، وأنا الذي حددت موعد قيام الثورة. ولم أوافق على اقتراح عبدالناصر، وعبدالحكيم عامر، بتأجيله إلى 5 أغسطس".

        وهذا القول محل نظر، وأخذ ورد؛ فإن الثابت تاريخياً، أن عبدالناصر، قد استمر رئيساً منتخباً لهذا التنظيم، إلى حين نجاح الحركة في 26 يوليه، في طرد الملك فاروق، من البلاد. وعندئذ تنحى طواعية، عن مكانه في القيادة، لمحمد نجيب. كما أن الثابت تاريخياً أن محمد نجيب، لم يحضر قط أية اجتماعات، عقدتها لجنة القيادة، قبل قيام الحركة. ولكن يمكن استخلاص حقيقة واحدة، لا جدال فيها، وهي أن محمد نجيب قد تمت مفاتحته، بصورة مباشرة، عن طريق عبدالناصر في أمر قيادته للحركة، في الفترة التي أعقبت حريق القاهرة في 26 يناير 1952. وإنه قبل القيام بهذا الدور.

        ومما يؤيد صحة ذلك التاريخ واقعة اللقاء، الذي تم في مكتب محمد نجيب، برئاسة سلاح المشاة، بالعباسية، عقب حريق القاهرة، مع عبدالناصر وعبدالحكيم عامر، وصلاح سالم، وجمال حماد. على أثر انقسام لجنة القيادة على نفسها، ما بين فريق يدعو إلى القيام بالحركة، على الفور، منتهزين فرصة انتشار قوات الجيش، في شوارع العاصمة، وظروف منع التجول ليلاً، وبين فريق كان عبدالناصر من ضمنه، وكان يرى أن قوة الضباط الأحرار أضعف من أن تقوم بالحركة المنتظرة، في هذه الآونة، لعدم استكمال التنظيم عناصر قوته. وكان رأي محمد نجيب هو الذي حسم الموقف، ورجح الرأي الثاني، بعد أن حذَّر من عواقب تدخل القوات البريطانية، في قناة السويس، والتي كانت تتحين الفرصة للتدخل، عقب إلغاء معاهدة عام 1936.

        لا شك، إذاً، أنهم كانوا قد عهدوا إلى محمد نجيب بقيادة حركتهم المنتظرة.

متى علم محمد نجيب بموعد الحركة؟

        لم يكن إخطار محمد نجيب بموعد الحركة، على وجه التحديد، مستطاعاً، إلا قبل قيامها بأيام قلائل؛ فإن التفكير الفعلي، في القيام بالحركة، لم يتم إلا خلال الأسبوع السابق لها مباشرة، على إثر صدور القرار بحل مجلس إدارة نادي الضباط. أمَّا تحديد الموعد النهائي لها، فإن ذلك لم يحدث إلا يوم 20 يوليه. ومن استقراء الأحداث، التي جرت خلال يومي 21،22 يوليه، يظهر أن الغالبية العظمى، للضباط الأحرار، لم يعلموا بالموعد النهائي إلا يوم 23 يوليه ذاته، بسبب ضيق الوقت، من جهة، وحفاظاً على سرية الحركة، من جهة أخرى. وكانوا مكلفين بالبقاء في بيوتهم منذ 21 يوليه، اعتباراً من الساعة الثالثة، بعد الظهر لحين صدور الأمر لهم بالتحرك. أما ضباط لجنة القيادة الثلاثة، الذين كانوا موجودين في سيناء وهم: أنور السادات، وصلاح سالم، في رفح، وجمال سالم في العريش، فقد أوفد إليهم عبدالناصر زميله حسن إبراهيم بالطائرة إلى العريش، صباح يوم 21 يوليه، حيث أخطرهم بالموعد النهائي للحركة.

        وقد روى محمد نجيب، واقعة زيارة الصحفي محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير آخر ساعة وقتئذ، والبكباشي جلال ندا، الذي كان يعمل محرراً عسكرياً، بدار أخبار اليوم، لمنزله، صباح يوم 19 يوليه، لسؤاله عما تم، في مقابلته مع الدكتور محمد هاشم، وزير الداخلية، التي جرت في الليلة السابقة مباشرة. واستطرد محمد نجيب قائلاً: "وأثناء جلستنا، فوجئت بحضور البكباشي جمال عبدالناصر، والصاغ عبدالحكيم عامر، على غير موعد. ولما وضح من حركتهما، أنهما يريدان أن يسرا إلىَّ بشيء ما، أخذتهما من الصالون إلى غرفة الطعام المجاورة. وفي هذه الجلسة تحدد موعد الثورة، وكان جمال وعبدالحكيم، يريدان أن تكون يوم 4 أغسطس، لسببين:

أولهما:

اكتمال وصول الكتيبة 14 مشاة إلى القاهرة، في حركة التنقلات العادية. ( والصحيح أن هذه الكتيبة كانت الكتيبة الأولى مدافع ماكينة، وكان ينتظر وصولها يوم 26 يوليه عام 1952، ولم يكن للكتيبة 14 مشاة أي دور في التنقلات).

وثانيهما:

هو أن يكون الضباط الأحرار قد حصلوا على مرتباتهم، في أول الشهر.

        ورفضت السببين فإن القوات، التي كانت معنا، تعد كافية لإنجاز مهمتنا، وليس هناك مبرر للتأجيل، من أجل استلام المرتبات. وحسمت الأمر بتوضيح الخطر، الذي يهددنا جميعاً، والذي لمح به وزير الداخلية، في جلستي معه الليلة الماضية. واتفقنا على أن تحركنا يجب أن يتم، خلال أيام محدودة، حتى نحقق عنصر المفاجأة".

        ولقد أيد عبداللطيف البغدادي، وأنور السادات، رواية نجيب عن زيارة عبدالناصر وعامر لبيته، يوم 19 يوليه، ولكنهما قررا أن عبدالناصر لم يتمكن من إخطاره بموعد الحركة، بسبب وجود محمد حسنين هيكل، وجلال ندا، في صالون منزله. وإن ذلك كان السبب في جهل نجيب، بموعد قيام الحركة، حتى تم الاتصال به تليفونياً، عقب نجاح المرحلة الأولى. وسواء صدقت رواية محمد نجيب، عن أخذ ضيفيه، إلى غرفة الطعام المجاورة للصالون، وهي الرواية التي أكدها البكباشي جلال ندا، أحد شهود هذا الاجتماع، أو أنه تحايل على الموقف، بوسيلة أخرى، قد تكون عن طريق التحدث معهما، أثناء مرافقته لهما، عبر حديقة المنزل، وهما في الطريق إلى الباب الخارجي، لتوديعهما، كما كانت عادته في توديع زائريه؛ فإن النتيجة واحدة، وهي أن حديثاً قد تم تبادله، بين نجيب وزائريه، عبدالناصر وعبدالحكيم. وإن هذا الحديث كان يتعلق، بلا شك، بموعد الحركة المنتظر.

        بقي القول أن بقاء قائد الحركة، في بيته، حتى انتهاء المرحلة الأولى منها، كان أمراً طبيعياً؛ إذ لا مكان لضابط، في مثل رتبته، بين الوحدات المشتركة في الحركة. والتي كانت قد وزعت كلها، إلى سرايا وفصائل تولى قيادتها ضباط من صغار الرتب، وانطلقوا بها في الشوارع، لتنفيذ المهام المنوطة بها. وحق القائد العام، في عدم مرافقته للقوات المشتركة في العملية، والاكتفاء بقيادتها وتوجيهها، من أمكنة بعيدة، حق طبيعي، معترف به للقادة، على هذا المستوى، في جميع الجيوش.

        لقد كان المقر الطبيعي المفترض، أن يوجد فيه قائد الحركة، هو مبنى رئاسة الجيش، بكوبري القبة. وحينما تم الاستيلاء عليه، وعلى المنطقة العسكرية، من العباسية إلى ألماظة، دعي القائد إلى مقر قيادته الجديدة، ليتولى عبء مسؤوليته. ولم يكن الرجل، خلال تلك الساعات الحرجة، راقداً في فراشه، بل كان، كما ذكر، فريسة للقلق، ونهباً للترقب والانزعاج، ساهراً تركزت نظراته على التليفون، الذي سوف يحمل له أهم خبر في حياته. وقد عبر نجيب بصدق، عما خالجه من مشاعر، خلال تلك اللحظات القلقة، في كتابه فقال:

        "ولم تمض دقائق، حتى علا رنين التليفون، واستبدت بي الإثارة؛ فقد خامرني يقين بأن اللحظة الحاسمة؛ التي كنت أترقبها، قد حانت. وأمسكت التليفون، بلهفة شديدة. وسرعان ما دب الاطمئنان إلى قلبي؛ فقد طرق سمعي صوت الصاغ جمال حماد، يهنئني بنجاح المرحلة الأولى للخطة. وأبلغني جمال حماد، وقتئذ، أنه سيرسل لي ثلاث عربات مدرعة، لإحضاري من المنزل" . ولم يتردد القائد في الحضور، ولم ينتظر وصول العربات المدرعة، بل ركب، في الحال، سيارته الأوبل، السوداء الصغيرة، وتوجه بها إلى مبنى رئاسة الجيش؛ فقد كان الوقت لا يتحمل التأخير.

        عندما حضر محمد نجيب إلى رئاسة الجيش، قبل فجر 23 يوليه 1952، لم تكن حركة الجيش قد تم لها السيطرة بعد، على الأغلبية العظمى، من وحدات الجيش. لقد كانت هناك قوات كبيرة، في قلب القاهرة، لم تعلن عن انضمامها بعد. وكانت قوات الفرقة الأولى المشاة، في سيناء، لا تدرى شيئاً بعد عن هذه الحركة. أمَّا قوات الإسكندرية، فلم تكن قد سمعت بالمرة، أية أنباء عن هذه الحركة. وقد ثبت أنها لم تعلم بها إلا من البيان الأول، الذي أُذيع، في السابعة والنصف صباحاً، وكانت الخطورة الأولى كامنة في الإسكندرية، حيث مقر الملك، والحكومة، والقائد العام للقوات المسلحة، وحيث توجد أكثر القوات، ولاء للملك كما كان مفترضاً، وهي قوات الحرس الملكي، والسلاح البحري، وخفر السواحل. وقد ثبت أن البيان الأول للحركة، الذي صدر باسم اللواء محمد نجيب، من دار الإذاعة، كان هو العامل الحاسم في انضمام جميع قوات الجيش، غير المشتركة في الحركة، إلى القوات الثائرة.

        إن مجرد إذاعة البيان الأول، باسم محمد نجيب، في السابعة والنصف صباحاً، من دار الإذاعة، معناه أن الرجل قد حمل على عاتقه مسؤولية الحركة بأكملها تاريخياً أمام حكم التاريخ، وجنائياً أمام الملك وحكومته، وأصبح هو الرمز المجسد لها، فإذا فشلت، فسيكون عليه تحمل وزرها، وعواقبها، مثل ما تحملها سلفه أحمد عرابي، من قبل، فهو أقدم المتمردين رتبة وأول، من كانت المسؤولية سوف تلقى على كاهله، كيف لا وهو الذي نصب نفسه قائداً للقوات المسلحة، رغم أنف الملك. وهو الذي أذيع البيان باسمه على الشعب، من دار الإذاعة، بهذه الصفة التي انتحلها لنفسه.

        وحتى يمكن الحكم على مدى شجاعة محمد نجيب، في تحمله مسؤولية الثورة، ينبغي أن تُذكر الكلمة، التي وجهها إليه اللواء فؤاد صادق، عقب نجاح الحركة، وهو الرجل الذي لا يتطرق الشك إلى شجاعته؛ فقد قال: "لقد قبلت القيام بما لم أجرؤ على مجرد التفكير فيه". كما أن هناك واقعة أخرى، لا يدري بها إلا أفراد قلائل من الضباط الأحرار، وهي ذهاب عبدالحكيم عامر، صباح 23 يوليه، إلى منزل الأميرالاي أركان حرب، عبدالحميد نعمت، وكان رجلاً معروفاً بوطنيته، وشجاعته، في حرب فلسطين عام 1948. وعرض عليه عبدالحكيم منصب رئيس هيئة أركان حرب الجيش. وكان عبدالناصر يهدف، من وراء ذلك، إلى زيادة ثقل قيادة الحركة بضم هذا الضابط الكبير الرتبة، المرموق الشخصية، إلى جانب القائد العام محمد نجيب. وعلى الرغم من أن الأمور، في القاهرة، كانت قد استقرت، بانضمام قوات الجيش، وتأييد الشعب الجارف للحركة، فإن الدهشة والذهول أصاب عبدالحكيم عامر، عندما أبدى الاميرالاي اعتذاره، عن تولي ذلك المنصب الخطير، إلا انه تملكه الخوف مما قد يترتب على ذلك من العواقب.

خالد محيي الدين يوضح قضايا مهمة

        يقول خالد محيي الدين: "وتبقى شهادتي بالنسبة لمسائل ثلاث، أثارت جدلاً كثيراً، عند كل من سجل شهادته، في شأن ما حدث ليلة 23 يوليه 1952:

المسألة الأولى

        واقعة أن أنور السادات أتى، من رفح متأخراً، ثم ذهب إلى سينما، وهناك تشاجر مع أحد الأفراد، وذهب إلى قسم البوليس، وحرر محضراً بالخناقة، وعاد إلى البيت، في الواحدة والنصف، بعد منتصف الليل، ليجد ورقة من عبدالناصر تبلغه بضرورة الحضور. يحاول البعض إلقاء بعض الظلال والشكوك، على دور السادات، في الحركة. وقال البعض إن السادات أراد أن يثبت، بمحضر البوليس، أنه لا علاقة له بالحركة، وتحليلات أخرى كثيرة.

        وفي البداية، أقرر أن أنور السادات كان على علاقة بيوسف رشاد، رجل الملك المخلص، لكنه لم يفش سرنا له، ولو فعل ذلك لكان مصيرنا جميعاً هو الإعدام، فقد كان السادات يعرف كل أعضاء "لجنة القيادة"، ولو أبلغ عنا لكان وجه مصر قد تغير تماماً، لكنه لم يفعل. أمَّا إنه حرص على تسجيل واقعة مشاجرته في محضر للبوليس، فلعل هذا مرتبط بخبرة سابقة للسادات، فقد حوكم أكثر من مرة، وفُصل من الجيش، ولعله أراد تحصين موقفه، بعض الشيء، إن فشلت الحركة، ولا بأس في ذلك، خاصة وأنه فعلاً لم يتخلف كثيراً، وأسرع ليسهم مع الآخرين، فيما يفعلون، ثم تلا بيان الحركة في الإذاعة.

والمسألة الثانية

        هي أن جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر كانا وحتى لحظة القبض عليهما، بواسطة قوات يوسف منصور صديق، يرتديان الملابس المدنية. ويحاول البعض أن يستنتج من هذا أنهما كانا يريدان التخلص من المسؤولية، في حالة فشل الحركة، والقبض عليهما.

        وردي على ذلك، إنه بالنسبة لأي من أعضاء "لجنة القيادة"، لم يكن هناك أي مجال للتخلص من المسؤولية، في حالة الفشل، وخاصة بالنسبة لشخص، كجمال عبدالناصر، الذي تورط، أمام أعداد كبيرة من الضباط، بصفته المسؤول الأول عن الحركة، أما ارتداء الملابس المدنية، فيمكن فهمه، وفهم مبرراته؛ فعبدالناصر وعامر، لم يكن لديهما قوات ليتحركا بها، ورغبة منهما في التحرك، بحرية ولضمان الاتصال، بأية قوات، وإبلاغها بضرورة مهاجمة مبنى قيادة الجيش، فقد كان من الطبيعي أن يرتديا ملابس مدنية، فالتحرك بملابس عسكرية كان مستحيلاً، في ليلة كهذه، خاصة وأنهما يعلمان جيداً، أننا أصدرنا تعليمات بمنع تحرك الضابط، من رتبة بكباشي فما فوق.

أما المسألة الثالثة

        التي يستشعر ضميري ضرورة أن أدلي بشهادتي فيها، فهي دور محمد نجيب، وقد حاول البعض أن يقلل من دور محمد نجيب، وأن يدعي أنه ظل في بيته، حتى انتصرت الحركة، فأتى لينتزعها، والحقيقة غير ذلك. لقد رغب محمد نجيب في أن يشاركنا التحرك، منذ اللحظة الأولى. وعندما علم أننا وضعنا خطة التحرك، طالب بالمشاركة في تنفيذها، لكننا كنا نريد أن نبعده عن أي مشاركة فعلية، عن عمد، لنضمن سلامته، حتى يمكنه، في لحظة انتصارنا، أن يتولى القيادة.

        هو إذن كان يريد ويصمم أن يشاركنا المسؤولية والمخاطرة، ولم يبخل بشيء، لكننا، وعن عمد، قررنا أن ندخره بعيداً عن المخاطرة، وكنا على حق في ذلك. ثم إنه كان الوجه، الذي قُدم للعالم وللشعب المصري، كقائد للحركة العسكرية، التي استولت على الحكم في البلاد، وتحمل المسؤولية العسكرية والسياسية، أمام الجميع. وأي تراجع، أو نكسة للثورة في أيامها الأولى، أو ساعاتها الأولى، كان سيضع على عاتق محمد نجيب المسؤولية الأولى، التي لا مجال للتخلص منها، خاصة وأن الصحف يوم 24 يوليه، صدرت بعناوين كبيرة تقول: محمد نجيب يقوم بحركة عسكرية.