إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / إيران.. التاريخ والثورة (الثورة الإيرانية من وجهة النظر الإيرانية)




هاشمي رافسنجاني
محمود أحمدي نجاد
محمد رضا بهلوي
محمد علي رحماني
محمد علي رجائي
آية الله منتظري
مير حسين موسوي
الإمام آية الله الخوميني
سيد محمد خاتمي
سيد علي خمنة آي





المبحث الثالث

المبحث الخامس

إيران في عهد المحافظين (أحمدي نجاد والتغيرات في سياسته الخارجية)

بدأ نجاد عهده بصدام مباشر مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية حول الملف النووي، إلا أنه من الصعوبة بمكان تقدير هذا الصدام إشارة إلى ردة عامة في السياسة الخارجية الإيرانية، نظراً إلى ما يتمتع به الملف النووي من خصوصية في السياسة الإيرانية داخلياً وخارجياً.

أولاً: التغير في توجهات السياسة الخارجية الإيرانية

تتسم السياسة الخارجية الإيرانية بالثبات والمؤسسية إلى حدّ كبير، وأن الدور الذي يلعبه رئيس الجمهورية في تخطيط وتوجيه السياسة الخارجية محدود، مقارنة بنظرائه في الدول الأخرى (الجمهورية)؛ وذلك بحكم طبيعة النظام السياسي الإيراني.

من هنا، فإن مدى التغير والتبدل في سياسة إيران الخارجية، ظل محصوراً داخل هذه المساحة الضيقة، التي تسمح بها تركيبة النظام الإيراني؛ وذلك بغض النظر عن اتجاه أو مضمون التغيير الحاصل.

بعبارة أخرى، مهما يكن حجم التغيير الذي سعى أحمدي نجاد إلى إحداثه في توجهات إيران الخارجية، فإن المدى الفعلي الذي قد ذهب إليه أو نجح في إحداثه، لم يخرج عن الإطار العام الحاكم لسياسة إيران الخارجية منذ قيام الثورة الإسلامية، عام 1979، آخذ في الحسبان أنه لم يكن يوماً إطاراً جامداً وإنما كثيراً ما طرأت عليه تغييرات وتعديلات، نتيجة التفاعل مع التطورات المحيطة والبيئتَين الداخلية والخارجية. في حين كان تأثير تغير شخص الرئيس أقلّ كثيراً.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن عهد الرئيس السابق محمد خاتمي (1997 – 2005 ) لم يشهد، كما قد يتراءى للبعض، تحولاً جذرياً أو قفزة نوعية من سياسة خارجية منغلقة وعدائية، إلى توجه انفتاحي إيجابي على العالم.

فمن ناحية، كان التحول في سياسة إيران الخارجية خطاباً أكثر منه سلوكاً. فالخطاب المتفائل الذي تبناه خاتمي، خصوصاً في ولاية رئاسته الأولى، سرعان ما تقلص إلى نزر يسير عند تطبيقيه فعلياً. ومن ناحية أخرى، تمتد جذور التطور والانفتاح الإيراني الخارجي إلى ما قبل خاتمي، إذ كان هاشمي رافسنجاني، الرئيس الأسبق، هو أول من فعلياً سياسة انتقال النظام الإيراني من الثورة إلى الدولة داخلياً وخارجياً؛ مع ملاحظة أن البيئة الداخلية المحيطة برافسنجاني، كانت مواتية، ودعمت توجهاته. لذا، أتيحت له فرصة التطوير والتعديل، في ظل هيمنة مؤسسات ومواقع أخرى على مفاصل القرار في النظام السياسي الإيراني. في حين أن تلك البيئة التي واتت رافسنجاني، لمعايير وعوامل متعددة، يضيق المقام عن التفصيل فيها، هي نفسها التي أصبحت معاكسة لخاتمي، من بعده، على الرغم من أن البيئة الخارجية كانت في صف خاتمي، على خلاف عهد رافسنجاني؛ ومع ذلك كان للتركيبة السياسية الداخلية القول الفصل في حركة رافسنجاني، وتكبيل أيدي خاتمي.

المعنى أن مساحة تحرك الرئيس الإيراني محكومة ومقيدة، تضيق وتتسع بحسب مدى توافقه أو تجانسه مع بقية عناصر المجموعة صاحبة القرار في الجمهورية الإسلامية. فمنظومة الحكم في إيران هي التي تمنح أو تكبح حرية الرئيس في القرار والعمل. إذاً، لم يختلف الرئيس محمود أحمدي نجاد عن سابقيه في الخضوع لمقتضيات ومتطلبات البيئة الداخلية. وبالتالي، ستظل المقومات المؤسسية والخصائص النظامية للسياسة الخارجية الإيرانية حاضرة بتأثيرها السابق نفسه. وهو ما يعني، بالتبعية، أن الأطر العامة الحاكمة لتوجهات طهران إزاء الملفات المهمة، لن تشهد تغيراً حقيقياً، وخاصة أن تلك الأطر لا توضع بواسطة مؤسسة واحدة أو منصب بعينه؛ وإنما تسهم في تشكيلها عدة مؤسسات وأطراف، وغالباً ما تتجسد تلك المشاركة الجماعية في مجلس الأمن القومي، الذي يضم ممثلين لتلك المؤسسات والأطراف الفاعلة في النظام الإيراني، بدءاً من مرشد الثورة، مروراً بالحرس الثوري والاستخبارات ورئاسة الجمهورية.

العامل الثاني الذي يؤثر بقوة في توجهات الرئيس خارجياً (وداخلياً كذلك) هو سماته الشخصية، حيث تحمل شخصية نجاد طباع الرجل العملي، الواقعي، الذي يريد الوصول إلى أهدافه من أقصر الطرق وأكثرها مباشرة، بعد أن يكون قد حدد هذه الأهداف بسرعة، وحزم؛ وإن انقلبت أحياناً السرعة والحزم إلى تسرع وأحدية في إدراك الأمور أو تقييم للقرارات بل الأشخاص. وغالباً ما تتجسد هذه الأحدية في معيار محدد، هو الثقة الشخصية؛ فتوافر عنصر الثقة لدى نجاد تجاه أيّ شخص كفيل بالتأثير في مجمل التعامل معه، بالتغاضي إلى حدّ كبير عن المعايير الموضوعية للتقييم.

وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح في التشكيلة الوزارية، التي اقترحها نجاد، في ولاية رئاسته الأولى، ورفض مجلس الشورى أربعة وزراء منها. فقد غلب على اختيارات نجاد إما وجود خبرة عمل سابقة معه للوزير المقترح، أو تمتعه بصفات شخصية تجعله أهلاً للثقة، من وجهة نظر نجاد.

ثمة عامل ثالث يؤثر في تحديد توجهات نجاد وقراراته، في النطاقَين الداخلي والخارجي، ذلك هو الخلفية التي وفد منها نجاد إلى مقعد الرئاسة. فالتاريخ الوظيفي له يمثل رافداً أساسياً في تكوينه القيادي، حيث انخرط في السلك العسكري، من خلال الحرس الثوري؛ ما يجعل الحسم والانضباط جزءاً من سلوكه الوظيفي، يغذيهما الاهتمام بالدقة واعتماد المباشرة واختيار الطرق المستقيمة في إدارته للأمور؛ وذلك بفعل الخلفية الأكاديمية لكونه مهندساً. ثم جاءت مرحلة العمل العام والخبرة العملية في الإدارة والتخطيط، وخاصة في مجال الإعمار والمشاريع المدنية، لتصقل مهارات نجاد الإدارية، وتدفعه إلى مزيد من الانغماس في الشأن العام، وتعرف مشكلات وأوضاع الإيرانيين عن قرب، وفق ما هو قائم، لا حسب ما ينبغي أن يكون.

العامل الأخير الذي أثر في توجهات نجاد، خصوصا الخارجية منها، ارتباطه القوي بمرشد الثورة علي خامنئي، وهو ارتباط له جذوره التاريخية، السابقة على ظهور نجاد في ساحة العمل العام في إيران. وقد ظهرت بالفعل بصمات خامنئي على رئاسة نجاد، حتى قبل أن يباشر مهامه. فأربعة على الأقل من الوزراء، الذين اختارهم نجاد لحكومته الأولى، عملوا لمدة مع خامنئي، وعدد آخر منهم يُعَد من المؤيدين لخامنئي شخصاً وأفكاراً. والدلالة أن سياسات نجاد لن تخرج بعيداً عن عباءة خامنئي والمحيطين به.

ثانياً: ثبات المصالح والأهداف الإيرانية

من غير الوارد بحال، أن تتحول مصالح وأهداف السياسة الخارجية الإيرانية بتغير شخص رئيس الجمهورية. ذلك أن المصالح العليا، وبالتالي، الأهداف المبتغاة، ترتبط بمجموعة من الثوابت، تتضافر مع متغيرات ومستجدات آنية. وبالتالي، تكتسب هذه المصالح والأهداف المبنية عليها سمة الديمومة والثبات إلى حدّ بعيد. وغالباً ما تكون وتيرة التحول أو التعديل فيها بطيئة، ومحدودة؛ إلا أن هذا النمط العام، لا ينفي أن إدراك صانعي القرار ومخططي السياسات الخارجية، يلعب دوراً مهماً في توجيه دفة الدبلوماسية، ومختلف أدوات السياسة الخارجية، وخصوصاً إذا كانت عملية  صنع السياسة الخارجية تجري في بيئة أيديولوجية. وتجسد الحالة الإيرانية هذا الوضع بشكل واضح. فالإطار العام للنظام السياسي، يجعل مختلف التفاعلات والمفردات، المكونة لعناصر هذا النظام، لا تخرج عن المظلة الإسلامية، التي تمثل المرجعية العليا للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بكل ما فيها، دولة ونظاماً ومجتمعاً ومؤسسات وسياسات وساسةً وشعباً.

وغالباً، ما يكون التفاوت بين سياسي وآخر في حصيلة معايرة كلّ منهما للظواهر والمفردات على المقاييس والتعاليم الإسلامية؛ وذلك حسب إدراك وتصورات كل منهما.

في هذا السياق، يمكن القول أن المصالح الإيرانية العليا، وبالتالي، أهداف السياسة الخارجية الإيرانية، ليست مرشحة للتبديل أو دخول تغييرات جوهرية عليها. لكنها، في الوقت نفسه، لم تكن مطابقة تماماً للرؤى والتصورات، التي  سادت ولاية رئاسة خاتمي، على الأقل من زاوية السياسات المرحلية والأدوات والوسائل التنفيذية، وخاصة أن تغير رئيس الجمهورية يستتبع تغيراً في الحكومة.

ثالثاً: التغير في أدوات وأساليب السياسة الخارجية

في ضوء ما سبق، من السهولة بمكان رصد أن مساحة التغير في السياسة الخارجية الإيرانية ضئيلة وتكتية، لا إستراتيجية. ويتركز هذا التغير بصفة خاصة في نطاق أدوات وأساليب تنفيذ تلك السياسة، لا في أسسها أو خطوطها العريضة. وفي ظل رئاسة نجاد، يشهد أسلوب ونهج إدارة السياسة الخارجية الإيرانية، الذي ساد السنوات الثماني الماضية، بعض التغيرات. فقد مالت حكومات خاتمي إلى الاهتمام، في التعامل مع القضايا والدول، محور السياسة الخارجية الإيرانية، بالخطاب أكثر من السلوك، أو بالأحري مالت السياسة الخارجية الإيرانية، في عهد خاتمي، إلى تبني ما يمكن تسميته: "الدبلوماسية الرخوة soft oiplomacy ". فاعتمدت أساليب الاتصال والخطاب والإعلام والتواصل الثقافي والشعبي، عبر الجماعات غير الرسمية والفرق الرياضية. كما ركزت طهران في هذه الدبلوماسية الرخوة في التواصل مع الدول والشعوب، من خلال المؤتمرات والمناسبات الدولية والقضايا ذات الصبغة العالمية؛ مثال ذلك الحوار بين الحضارات، والقمم العالمية (قمة الأرض / المرأة/...). وأبدت السياسة الخارجية الإيرانية اهتماماً خاصاً بالأمم المتحدة بصفتها ساحة عالمية، تضم أطراف المجتمع الدولي.

لا يجيد الرئيس الإيراني، أحمدي نجاد، استخدام هذه الوسائل والقنوات. فهو يفضل الأدوات التقليدية للسياسة الخارجية، خصوصاً الدبلوماسية الرسمية والمباشرة. كذلك يمكن إدراك الملاحظة نفسها في ما يتعلق بوزير الخارجية، منوشهر متقي، الذي ينتمي إلى المدرسة التقليدية في الدبلوماسية. وان كان كمال خرازي، وزير الخارجية السابق، ينتمي بدوره إلى المدرسة نفسها، إلا أن الرئيس السابق، محمد خاتمي، بحضوره الكاريزمي، ونزوعه إلى تبني الثقافة مدخلا للتعامل بين الأفراد والشعوب ومدعاة للتواصل الإنساني ـ فتح أمام السياسة الخارجية الإيرانية آفاقاً أوسع من النطاق الدبلوماسي التقليدي، الذي ربما كانت ستنحصر فيه، لو تركت لخرازي فقط.

الوضع في حالة نجاد جمع بين رئيس تقليدي ووزير خارجية أكثر تقليدية. لذا، يمكن بسهولة رصد تراجع في مدى حركية (دينامية) ونشاط السياسة الخارجية الإيرانية، وخصوصاً على مستوى آليات وأساليب العمل وأدوات التحرك والتفاعل مع القضايا والموضوعات. فضلاً عن الدول.هذا بالطبع إضافة إلى الفارق الجوهري، بين منوشهر وخرازي، والمتمثل في أن الأول ينتمي بوضوح وبشدة إلى التيار المحافظ، وكثيراً ما وجه انتقادات حادة إلى سياسة إيران الخارجية، إبّان تولي خرازي مهمتها، وخصوصاً في ما يتصل بالملف النووي وطريقة إدارته من قبل حكومة خاتمي.

السياسة الخارجية الإيرانية، في عهد محمود أحمدي نجاد، هي حصيلة لكل ما سبق، بدءا بالعوامل المؤثرة ومحددات التوجه الإيراني الخارجي، في ظل نجاد؛ مروراً برؤيته وإدراكاته لمصالح إيران، وبالتالي، أهداف تحركاتها الخارجية؛ وانتهاء إلى انعكاس تلك المحددات وذلك الإدراك على المستوى العملي لتخطيط وتنفيذ السياسة الخارجية وأدوات ذلك. ويلاحظ أن كلّ ما قد يشار إليه من تحول أو تغير ما في سياسة إيران الخارجية، أو حتى في آليات وأساليب عملها، يظل محصوراً في نطاق محدد، هو ما تسمح به تركيبة النظام السياسي الإيراني، من دور لرئيس الجمهورية وللحكومة بوجه عام، وهو النطاق الذي يزداد ضيقاً في ما يتصل بالسياسة الخارجية بوجه خاص.

رابعاً: سياسة الرئيس أحمدي نجاد تجاه البرنامج النووي

بدأت طهران التصعيد في الملف النووي، قبل أن يتسلم الرئيس الجديد مهامه رسمياً، في مطلع أغسطس 2005، في ما بدا أنه من نوع التنسيق المقصود بينه وبين الرئيس السابق، محمد خاتمي، في هذا الملف على وجه التحديد، بأن تقوم حكومة الرئيس خاتمي باستئناف الأنشطة النووية، قبل تولي نجاد، وقبل حلول موعد المهلة المتفق عليها مع الاتحاد الأوروبي، بهدف تغيير نقطة البدء في المفاوضات الجديدة، التي كان يفترض أن تبدأ مع نهاية المهلة؛ ولوضع أوروبا تحت ضغط مفاجئ، للحيلولة دون التفاف الترويكا على مطالب طهران في الاقتراحات المنتظرة، أو تأجيل تقديم تلك الاقتراحات أو المماطلة في التوقيتات المحددة. أيْ أن طهران قامت بخطوة استباقية، لفرض أمر واقع جديد، قبل المواعيد المستحقة لهذا الملف، سواء لتعظيم مكاسبها أو لتفويت الفرصة على الأوروبيين والأمريكيين بتمديد الوقت لاستكشاف سياسات ومواقف الرئيس الجديد.

على الرغم من هذه المواقف الحادة، لوحظ حرص طهران على ألا تكون خطوتها المفاجئة شديدة الاستفزاز، حيث أبلغت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قرار استئناف نشاطات تحويل اليورانيوم في مفاعل أصفهان؛ وهي مرحلة تسبق عملية التخصيب؛ وذلك في رسالة وجهتها إلى مقر الوكالة، ضمنتها طلباً رسمياً لنزع الأختام والشمع الأحمر عن منشآت أصفهان، وذلك بإشراف مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الموجودين بالفعل في إيران. ووجهت إيران لهم دعوة بالتوجه إلى الموقع وعمل محضر بنزع الأختام؛ أيْ أن طهران حرصت على إظهار التزامها بالشرعية الدولية، لذلك أرادت نزع الأختام التي وضعتها الوكالة الدولية على أصفهان تحت إشراف الوكالة نفسها. وبالفعل، أرسلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أربعة مفتشين إضافيين للإشراف على معاودة برامج التحويل. وبعد أن كان المفاوض الإيراني حسين موسيان، قد صعد لهجته بشدة، عاد ليؤكد أن نشاطات التحويل ستكون تحت إشراف الوكالة الدولية. وأضاف أن النشاطات في نتانز "ستبقي معلقة، حتى نتوصل إلى نتيجة في المفاوضات مع الأوروبيين، خلال شهرَين أو ثلاثة".

من جانبها، فوجئت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بالخطوة الإيرانية، استئناف بعض الأنشطة النووية؛ ما سبب إرباكاً للترتيبات والخطط الأمريكية والأوروبية، في شأن مراحل التفاوض وتسلسل المساومات المفترض مباشرتها مع إيران. وبعد أن أخفقت التهديدات الأوروبية في ردع إيران عن استئناف الأنشطة النووية، أو حتى وقفها، بعد أن باشرتها بالفعل، فإن قرار الترويكا إلغاء جولة المفاوضات، التي كانت مقررة نهاية أغسطس 2005، في جنيف، ربما كان أقرب إلى محاولة الوقوف مع الذات أكثر منه عقوبة لإيران على خطوتها، إذ لم يكن لدى الأوروبيين جديد يقدمونه لإيران، في تلك الجولة؛ ما كان سيمنح اتهامها لأوروبا بالتسويف والمماطلة مزيداً من القوة والحجية. في المقابل، رأى رئيس الإيراني، أحمدي نجاد، أن المفاوضات الجديدة لا بد أن تجري على أرضية مغايرة، ووفق حسابات أخرى غير تلك التي كانت سائدة في عهد خاتمي، ووقت أن كان حسن روحاني هو المسؤول عن الملف النووي. لكن تجدر الإشارة إلى أن التغير مرتبط بوجوده شخصياً، فهو الذي استبدل علي لاريجاني بروحاني. وهو الذي بدأ رئاسته بموقف متشدد من الملف النووي على وجه الخصوص؛ فضلاً عن أن وصوله إلى سدة الرئاسة أمر له دلالته، لجهة غلبة التيار المحافظ على السياسة الإيرانية، في المرحلة المقبلة. كل هذه الأمور مرتبطة بوجود نجاد نفسه في الحكم. لكنه أدرك وعي الأوروبيين والأمريكيين لها. كما أدرك تماماً أهمية الملف النووي بالنسبة إليه وإلى مستقبله السياسي، بصفته رئيساً، إذ سيُعَدّ محك صدقيته وقدرته على الإمساك بزمام السياسة الإيرانية، كما ينتظر منه ناخبوه.

وقد لوحظ أن اللهجة المتشددة والميل إلى التصعيد الذي غلب على خطاب نجاد، قبل وفور تسلمه مقاليد الرئاسة، سرعان ما تراجع عنهما، وخاصة بعد أن أدارت أوروبا أزمة استئناف أنشطة تحويل اليورانيوم، دون تحويلها إلى مواجهة فعلية مع طهران، وتأجيل حزم الموقف برمّته إلى ما بعد اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في سبتمبر 2005، أيْ أن الترويكا الأوروبية، التي امتعضت من الخطوة الإيرانية المباغتة، تعاملت معها كأمر واقع مرفوض. وأجلت ترجمة هذا الرفض إلى موقف عملي إلى حين استكشاف المدى الذي تريد طهران أن تذهب إليه من وراء هذه الخطوة. وعُدَّت المدة التي تجاوزت الشهر مهلة لإيران، من جانب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ ليتمكن خلالها الرئيس الجديد من تشكيل فريقه التفاوضي، ووضع أُسُس إدارة الملف، في المرحلة التالية. والأهم من ذلك أن يكون قد انتهى من إعداد الاقتراحات والأفكار الجديدة، التي أعلنت طهران أنها قيد الدراسة والإعداد، وأن نجاد سيعلنها في اجتماع الدورة الستين للجمعية العامة للأمم المتحدة، بين 14 و16 سبتمبر 2005.

إن الشهرَين الأولَين للرئيس نجاد في مقعد الرئاسة الإيرانية، لم يأتيا بجديد في الملف النووي، واقتصرا على التصعيد وتغيير لهجة التعامل مع الأطراف الأخرى، واستباق المفاوضات بتغيير الوضع على الأرض. ويلاحظ هنا أن عدم حدوث تغير حقيقي أو جذري في الملف النووي من جانب إيران، خلال تلك المدة، يعَد أمراً طبيعياً، إذ كان من الضروري أن تستلزم عملية الإحلال في الأشخاص والأفكار وقتاً، يجري العمل خلاله وفق المعمول به من قبل. لذلك، لم يكن مستغرباً أن تدير السياسة الإيرانية تلك الأزمة (التي أوجدتها بإرادتها) بمهارة سياسية ودبلوماسية وإعلامية، مكنتها، بعد أن باشرت بالفعل عمليات تحويل اليورانيوم في أصفهان، من تشتيت الجهد الأوروبي والأمريكي في التعامل مع  الموقف الجديد المفاجئ؛ وذلك لتحقيق عدة أهداف، منها الخروج من دائرة المماطلة، وتمديد جولات التفاوض من دون أفق واضح، مع الاطمئنان إلى أن وقع المفاجأة لن يؤدي، في أسوأ الأحوال، إلى إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن. ومن ناحية أخري، لتمديد المرحلة الزمنية المتعلقة بالملف، حتى يتمكن نجاد ومجموعته من الوقوف جيداً على تفاصيل الملف النووي وملابساته؛ ويقوم نجاد بتشكيل فريق التفاوض ومجموعة العمل النووية الخاصة به، المعبرة عن قناعاته واتجاهاته. ومن ناحية ثالثة، استعداداً للجولات التالية من المفاوضات، بحيث تنطلق من أرضية مختلفة عن الجولات السابقة.

وبالفعل، استغل نجاد هذه المدة في دراسة أوضاع أعضاء فريق التفاوض النووي، لإعادة تشكيله وتطعيمه بآخرين ممن يميلون إلى التشدد والحسم في هذا الملف، على غرار علي لاريجاني الذي خلف حسن روحاني في قيادة ذلك الملف وفي أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي. ومعروف أن لاريجاني محافظ متشدد من المقربين إلى المرشد علي خامنئي. وكان يرأس الإذاعة والتلفاز اللذَين كثيراً ما لعبا دوراً معادياً لخاتمي ورفاقه، خلال السنوات الماضية. والواضح أن بقية أعضاء فريق التفاوض النووي الإيراني، لن يبتعدوا كثيراً عن نمط لاريجاني، إلا بما تستلزمه النواحي التقنية والفنية التي تتطلب وجود خبراء ومتخصصين لتغطية هذه الجوانب.

ومع ذلك، لم يخلُ الموقف الإيراني، خلال هذه المدة الانتقالية، من بصمات جديدة. فقد بادرت طهران أولاً إلى التشكيك في شرعية المفاوضين الأوروبيين. ثم انتقلت سريعاً، من دون أن تمضي وقتاً طويلاً في هذا  الاتهام، إلى المطالبة بإشراك دول أخرى في المفاوضات؛ وأشارت إلى دول لها خبرة في هذا المجال، مثل جنوب إفريقيا. كما طلبت مشاركة دول أوروبية أخرى، حتى يصبح فريق التفاوض عن الجانب الأوروبي ممثلاً بالفعل لأوروبا. كما طرحت فكرة مشاركة دول من مجموعة عدم الانحياز، حتى يكون هناك تمثيل لأطراف المجتمع الدولي.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية تعاملت مع الجديد الإيراني، في البداية، بالعودة إلى سياسة التهديد والوعيد، إلا أن الموقف الأمريكي الحاد في الخطاب، تقلص عند ترجمته واقعياً إلى مطالبة المجتمع الدولي بممارسة ضغوط على إيران؛ لإجبارها على العودة إلى مائدة المفاوضات. ويلفت الانتباه هنا أن هدف الضغوط الأمريكية (المأمولة) ليس سوى إعادة طهران إلى التفاوض؛ وهو هدف تحصيل حاصل، لأن إيران لم ترفض التفاوض.

هذه المدخلات جميعاً هي السبب وراء حالة التعليق المؤقت، التي مر بها الملف النووي الإيراني. فقد راح كلّ طرف يعيد حساباته ويراجع مواقفه ومواقف الأطراف الأخرى، قبل الدخول في أيّ مرحلة جديدة. كما أن التشدد المتبادل الذي برز من جانب كلّ الأطراف، بما فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وضع الجميع تحت سيف الخط الأحمر، الذي إذا تم تجاوزه فالرجوع عنه صعب ومكلف.

لذا، يلاحظ أن مدة مراجعة المواقف هذه أسفر عنها بالفعل تغير نسبي في مواقف الأطراف، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية التي تحول موقفها من الانتظار وتوكيل أوروبا في التعامل مع إيران، إلى إعلان رسمي من جانبها بأن من حق طهران امتلاك تكنولوجيا نووية سلمية؛ وهي المرة الأولى التي تتبني فيها واشنطن هذا الموقف. واللافت أنه جاء على لسان الرئيس الأمريكي، جورج بوش، شخصياً؛ الأمر الذي حمل دلالات كثيرة تؤكد ما ذكر سابقاً في شأن حقيقة الضغوط والتصعيدات الأمريكية من جهة؛ وقدرة الدبلوماسية الإيرانية على إدارة أزمة الملف النووي بمهارة من جهة أخرى.

وقد شجع هذا التحول في الموقف الأمريكي إيران على مزيد من التشدد. فشن الرئيس الإيراني، أحمدي نجاد، في الخطاب الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في السابع عشر من سبتمبر 2005، هجوماً عنيفاً على الدول التي تريد الاستئثار بالقدرات النووية. وأكد تمسك بلاده بحق امتلاك برنامج نووي سلمي. وعرض أن تقدم إيران التكنولوجيا النووية للدول الإسلامية. ورفض نجاد بشدة وحزم أن تتخلي إيران عن عمليات تخصيب اليورانيوم.

وأثار خطاب نجاد ردود فعل واسعة، وخاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. فقام الاتحاد الأوروبي بإعداد مشروع قرار للوكالة الدولية للطاقة الذرية، بإحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن. وعلى الرغم من اعتراض روسيا والصين، تقدمت أوروبا بالمشروع إلى اجتماع مجلس محافظي الوكالة، في 19 سبتمبر 2005.

وبينما استقبلت إيران الخطوة الأوروبية بمزيد من التمسك بمواقفها المبدئية، آثر الدكتور محمد البرادعي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن يركز في النواحي التقنية في الأزمة الراهنة، والإجراءات التي تريد الوكالة من طهران القيام بها. فدعا إيران إلى فتح مواقعها النووية المهمة، والسماح للوكالة بإجراء مقابلات مع شخصيات مهمة ضالعة في الشأن النووي. وبصفة عامة، طالب البرادعي إيران بمزيد من إجراءات الشفافية.

وعلى الرغم مما بدا على الموقف العام من تأزم، عقب قمة الأمم المتحدة وأثناء اجتماع مجلس محافظي الوكالة، إلا أنه تم نزع فتيل الأزمة في اللحظات الأخيرة، أي قبل انتهاء اجتماع الوكالة؛ وأعطت الوكالة مهلة أخيرة لإيران لتلبي المطالب التقنية التي عرضها البرادعي؛ على أن يجري البحث عن مخرج للنواحي السياسية والخلافات الأخرى بين الأطراف المعنية. وبغض النظر عن تفصيلات الموقف الإيراني بعد ذلك، فإن الدلالة أن السياسة الخارجية الإيرانية لم تشهد تغيراً جذرياً في مضمونها، وأن قدرتها على إدارة هذا الملف لم تتأثر إلى حدّ كبير بتولي نجاد السلطة، بل أصبحت أكثر قوة ومباشرة، على الأقل في الخطاب، إن لم يكن في المضمون.

خامساً: المحيط الإقليمي

على الرغم من أن الرئيس أحمدي نجاد بدأ احتكاكه بالسياسة الخارجية بالملف النووي، وكرس له جل اهتمامه منذ تولى الرئاسة في 3 أغسطس 2005؛ إلا أن القضايا ودوائر الاهتمام الأخرى لم تكن مؤجلة أو مستبعدة. فقد استمرت الدبلوماسية الإيرانية في إدارة الملفات المهمة المفتوحة، مثل الملف العراقي. كما تطرقت إلى بعض المسائل الأخرى التي فرضت ذاتها، أيْ أن مدة التقاط الأنفاس وإعادة الحسابات – التي أشرنا إليها – كانت مرتبطة بشكل كبير بالملف النووي. في حين لم يبدر من المحافظين ما يشير إلى موقف مشابه، في شأن العراق، على سبيل المثال. كما لم تكن السياسة الإيرانية، في عهد خاتمي، شديدة التجاوب أو المرونة، في ما يتصل بالعلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية (الشيطان الأكبر، في خطاب المحافظين). وبالتالي، لم يجد نجاد ما يتطلب وقفة مراجعة، في ما يتصل بهذَين الملفَّين المهمَّين.

ومع ذلك، يمكن تلمس بعض انعكاسات وجود نجاد على مقعد الرئاسة الإيرانية، من خلال مواقف محددة. مثال ذلك ما يتصل بالعلاقات الإيرانية – العربية. فقد ترك فوز نجاد بالرئاسة انطباعاً لدى الدول العربية، وخصوصاً الخليجية، بأن مسيرة التحسن في العلاقات بين إيران وتلك الدول في سبيلها إلى التوقف، أو على الأقل التراجع. ودعم هذه الهواجس ما وقع بين البحرين وإيران، أواخر يونيه 2005، أيْ بعد انتخاب نجاد مباشرة، إذ أثار رسم كاريكاتوري لمرشد الثورة، علي خامنئي، نشرته إحدى الجرائد البحرينية، رد فعل عنيفاً من جانب إيران، التي رأت ذلك إهانة للمرجع الأعلى في إيران. واللافت أن رد الفعل الإيراني جاء في صيغة تهديدية قوية لدول مجلس التعاون الخليجي؛ ما عَدَّته دول مجلس التعاون الخليجي رد فعل مبالغاً فيه، ويثير القلق لجهة مستقبل العلاقات بين الجانبَين، في وقت افترضت فيه دول الخليج أن طهران ستحرص على إبداء حسن نياتها.

في الدائرة الأوسع (العربية)، لم يصدر عن طهران، خلال ولاية نجاد الماضية، تغير ملموس في سياسة إيران تجاه جاراتها العربيات. فقد أصدر نجاد، عشية وعقب توليه الرئاسة، تصريحات إيجابية هي أقرب إلى المجاملات البروتوكولية منها إلى التعبير عن موقف رسمي أو الدلالة على سياسة واضحة.

بيد أن الموقف الإيراني من الدول العربية حمل جديداً، من زاوية الإدارة الإيرانية لأزمة الملف النووي. ففي إطار مساع ٍ متعددة الاتجاهات، توخت إيران حشد موقف دولي مساند لها، أمام واشنطن والترويكا الأوروبية. وشملت دائرة التحركات الإيرانية الدول العربية، فأجرت الدبلوماسية الإيرانية اتصالات مكثفة ببدول عربية، وخصوصاً مصر. وطلبت وزارة الخارجية الإيرانية من نظيرتها المصرية ترتيب لقاء، بين وزيرَي خارجية البلدَين أحمد أبوالغيط ومنوشهر متقي،، في نيويورك، خلال أعمال الدورة الستين للجمعية العامة للأمم المتحدة. وأطلعت إيران مصر والدول العربية على ملف الاتصالات، بينها وبين الوكالة الدولية للطاقة الذرية ودول الترويكا الأوروبية.

وفي سياق تقييم التوجه الإيراني نحو الدول العربية، تُعَدّ الخطوة الإيرانية إيجابية، وتفتح الباب أمام مزيد من التنسيق، في المرحلة المقبلة. ولكن يلاحظ أن التفات إيران إلى الدول العربية جاء تالياً لإجرائها  مباحثات واتصالات مكثفة بدول أخرى عديدة، في الدائرتَين الإقليمية والعالمية، بدءاً بروسيا، الحليف النووي الأول لإيران، ومروراً بالهند، الدولة النووية وثيقة الصلة بإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وانتهاء بباكستان، الدولة الإسلامية الوحيدة نووياً؛ أيْ أن استعانة إيران بالدول العربية جاءت في مرتبة تالية، على الأقل زمنياً، لبقية الأطراف والدوائر المعنية بالدرجة الأولى بالملف النووي، وبقضية الانتشار النووي بدرجة أقلّ. كما تجدر الإشارة إلى محاولة الكويت القيام بدور وساطي في هذا الملف، من خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الكويتي، الشيخ محمد الصباح، في الثامن والعشرين من أغسطس 2005. فعلى الرغم من أن هذه الخطوة تمثل دلالة جديدة على العلاقات الإيرانية – الكويتية، والإيرانية – الخليجية بصفة عامة، إذ تعد تلك هي المرة الأولى التي تدخل فيها دولة خليجية (وعربية) على خط الملف النووي الإيراني بصورة إيجابية؛ إلا أنه من الصعوبة بمكان رصد إشارات ملموسة إلى حدوث مردود إيجابي للزيارة؛ الأمر الذي يدفع المراقب إلى تقدير الخطوة الكويتية استثناء، وعدم اتخاذها مقياساً، وخاصة أن الكويت نفسها كانت قد تبنت موقفاً مغايراً، العام الماضي، عندما أعلن وزير دفاعها أن البرامج النووية الإيرانية تدعو إلى القلق.

والخلاصة أن الأثر الذي ينعكس من وجود نجاد في مقعد الرئيس، يتمثل بشكل أساسي في انتمائه الفكري والنفسي إلى المحافظين، على مستوى السلطة؛ وانحيازه إلى "المستضعفين"، على مستوى الشعب. والمعنى أنه في حال نزوعه إلى تبني موقف حاد أو دخول إيران في أزمة خارجية، فإن نجاد وحكومته والقائمين على السياسة الخارجية في حكومته، سيكونون مدعومين بتأييد دوائر السلطة في إيران بجميع مستوياتها، وبحماس وتفويض من المواطنين على اختلاف شرائحهم. والنتيجة أن سياسة إيران الخارجية، التي من المستبعد أن تصبح فجأة متشددة أو راديكالية، اكتسبت مزيداً من القوة والتماسك، بوجود رئيس يحظى بدعم وتوافق داخلي، رسمي وشعبي.

سادساً: توجهات السياسة الإيرانية، في عهد أحمدي نجاد

يمكن القول أن فوز الدكتور محمود أحمدي نجاد، في انتخابات الدورة العاشرة لرئاسة الجمهورية، أحدث تأثيراً ملحوظاً في التوجهات السائدة في علاقات إيران الخارجية. كما يمكن التأكيد أن تلك التغيرات محدودة الأثر في ما يتعلق بالعلاقات الإيرانية – الإفريقية. ذلك أن علاقات طهران بالعواصم الإفريقية تتمتع دائماً بقدر من الاستقرار؛ فضلاً عن أن تحرك الدبلوماسية الإيرانية تجاه الدول الإفريقية ضئيل إلى حدّ ما، باستثناء الدول الإفريقية المسلمة، وخاصة دول الشمال الإفريقي؛ لوجود أوجه تعاون بين إيران وتلك الدول، عبر مؤسستَين هما منظمة الدول المصدرة للنفط (الأوبك) ومنظمة المؤتمر الإسلامي؛ ما يجعل علاقة إيران بهده الدول أكثر استقراراً إذا ما قورنت بغيرها من دول العالم الأخرى. وطبقاً لهذه القاعدة، من المتوقع أن تكون الدبولوماسية الإيرانية حيال القارة الإفريقية بعامة، مثلما كانت عليه في الخمس سنوات السابقة.

1. العلاقات الإيرانية – الأوروبية

تعرضت العلاقات بين طهران وبعض العواصم الأوروبية لحالة من التوتر المتصاعد، في الآونة الأخيرة. وما من شك في أن العلاقات الإيرانية – الأوروبية واجهت، أثناء السنوات الماضية، الكثير من مراحل الصعود والهبوط. ولكن دائماً ما كانت تلقى، ولو الحدّ الأدنى من التحرك اللازم، من قبل الدبلوماسية الإيرانية. هذا التحرك كان مرتبطاً دائماً بمتغير مهم هو مدى احتياج إيران إلى أوروبا.

كان التحرك الإيراني تجاه أوروبا يتزايد، في الوقت الذي يعتقد فيه السياسيون داخل الأجهزة المعنية بالدبلوماسية الإيرانية، أنه يمكن اللعب بورقة أوروبا في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية. لذلك كانوا يبذلون، آنذاك، جهوداً مكثفة، للتوافق والتقارب مع أوروبا.

وثمة إشارات وأحداث عدة، تؤكد أن العلاقات بين إيران وأوروبا تواجه بعض الصعوبات. من هذه الإشارات  تصريحات بعض زعماء أوروبا، مثل رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير؛ والرئيس الفرنسي، جاك شيراك؛ وكذلك بعض وزراء خارجية الدول الأوروبية؛ في شأن الانتخابات الرئاسية الإيرانية، والرفض الإيراني للمشروع الأوروبي في قضية الملف النووي الإيراني؛ ما يبين أن ثمة تحولاً أكيداً في العلاقات الإيرانية – الأوروبية.

ومن الجائز ألا تكون تلك التحولات طيبة، وخاصة أنه لوحظ، في الأيام الأخيرة، تقارب السياستَين الأوروبية والأمريكية تجاه إيران؛ الأمر الذي ينذر بمصاعب جمة، ستواجه الدبلوماسيتَين الإيرانية والأوروبية على حدّ سواء في التعامل معاً.

2. العلاقات الإيرانية – العربية

علاوة على ما سبق ذكره، فمما لا شك فيه أن علاقات إيران بالدول العربية كانت تابعة دوماً للتحولات الدولية، ومتأثرة بعلاقة إيران بالدول العظمى. وعلي خلاف ما يبدو أو ما كان متوقعاً، نجد أن العلاقات الإيرانية – العربية ليست على المستوى المطلوب. فعلى الرغم من أن معظم قادة الدول العربية رحبوا بانتخاب أحمدي نجاد، إلا أنهم في الوقت نفسه وجهوا انتقادات حادة إلى النظام الانتخابي الإيراني، كان أسوأها الرسم الكاريكاتيري للمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، الذي نشر في إحدى جرائد البحرين. لكن النقطة الأهم أن دولة الإمارات العربية المتحدة كثفت جهودها لتحريك قضية الجزر وتحويلها إلى مجلس الأمن، مستغلة في ذلك الظروف الحالية وتزايد التوتر بين إيران والغرب.

3. العلاقات الإيرانية – الأمريكية

يمكن القول أنه لا توجد توقعات بتقارب في العلاقات بالولايات المتحدة الأمريكية. فثمة معايير عدة يجب توافرها لكي توضع العلاقات بين إيران وواشنطن في مسار التقدم، كالرغبة في حل النزاعات، وإعادة الأرصدة الإيرانية المحجور عليها، وتغيير لهجة الحوار؛ وتلك المعايير غائبة تماماً، في الوقت الحالي. ومع التوجه السائد في التوازنات الدولية، لا يبدو أن تلك المعايير ستتوافر، في المستقبل القريب. لكن إذا ما أخذنا في الحسبان تحسن العلاقات الإيرانية – العراقية؛ إضافة إلى التحرك المتوازن السائد حالياً في علاقات إيران وأفغانستان، فإنه ليس من المتسبعد أن تؤثر العلاقات الإيرانية الطيبة بحليفَي الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة (العراق و أفغانستان) تأثيراً إيجابياً في العلاقات الإيرانية – الأمريكية.

4. العلاقات الإيرانية – الآسيوية

من المتوقع زيادة أوجه التعاون بين إيران والدول الآسيوية، خلال المدة المقبلة. وتأتي الصين في مقدمة الدول الآسيوية التي قامت إيران بتفعيل علاقاتها بها، وخصوصاً في ظل ترحيبها بانضمام إيران إلى مجموعة شنغهاي بصفة مراقب. وهو ما يزيد الإحساس بالتقارب أكثر مع كلّ من الصين وروسيا، والابتعاد عن الدول الأوروبية الكبرى والولايات المتحدة الأمريكية. أمّا اليابان، فقد اتضح، على مدار السنوات الماضية، أنها تحدد مستوى تعاونها مع إيران وفق طبيعة العلاقات الإيرانية بالغرب؛ ومن الجائز أن يقلّ مستوى تعاونها مع إيران مستقبلاً نتيجة لابتعاد إيران عن الغرب.

في هذا الإطار، من الجائز كذلك أن يكون لدى دول آسيوية كبرى، مثل الهند وباكستان، توجهات مختلفة للعلاقات بإيران. فالحكومة الباكستانية خاضعة للنفوذ الأمريكي بشدة؛ ومن ثم لا يمكن توقع تحرك باكستاني ملحوظ صوب التقارب مع إيران، في ظل النظرة السلبية الأمريكية تجاه إيران. أمّا الهند، الدولة التي لا تصنف ضمن المعسكر الغربي، ولها سابقة تعاون ملحوظ مع إيران في مجالات النفط والغاز، فيتوقع أن تظل ملتزمة بتوجهاتها السابقة في علاقاتها بإيران.

سابعاً: النزاعات الإقليمية بين إيران وجيرانها

لا تزال توجد بين إيران وجيرانها، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على الثورة الإسلامية، خلافات وتوترات. فهناك مثلاً مخلفات حرب السنوات الثماني بين إيران والعراق، التي أعلن الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، بيريز دي كويار، قبل ساعات من انتهاء ولايته، مسؤولية العراق عن نشوبها. فهي لا تزال تحتاج إلى تسويات نهائية لإغلاق ملفات مهمة عالقة، تتصل بترسيم الحدود ومصير أسرى الحرب وتقنين حرية الملاحة في شط العرب. ومع أن إيران تعلن تأييدها للحكومة العراقية الراهنة وتتبادل الزيارات معها الا أن الثابت أنها تصطنع علاقات خاصة لها بالقيادات الشيعية، وعلى الأخص الزعيم الشيعي، الشاب، مقتدى الصدر؛ إضافة إلى أن لها قدرة كبيرة على التأثير في لعبة القوة الجارية بين الطوائف العراقية المختلفة. وبينما تطالب علناً بخروج القوات الأمريكية من العراق وتسليم السلطة في أسرع وقت إلى الشعب العراقي، فإن الاتهامات الأمريكية لها بالتدخل في الشؤون العراقية والانخراط في ما تسميه الولايات المتحدة الأمريكية بالنشاط الإرهابي هناك ـ لا تتوقف.

هناك كذلك خلاف إيران ودولة الإمارات العربية المتحدة في جزر طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى، في الخليج، التي تحتلها إيران. ولا يزال ذلك الخلاف بغير حل على الرغم من الاتصالات والزيارات المتبادلة؛ إذ إن الموقف الإيراني يتصف – على حد وصف المتحدث الرسمي باسم الخارجية المصرية- "بالاستعلاء"، بسبب ادعاء إيران أن الجزر محل الخلاف إيرانية بلا شك.

وهناك اقتسام الثروات البترولية في بحر قزوين، والذي لا يزال موضع خلاف بين إيران من ناحية التي تصر على تقسيم البحر إلى خمس مناطق متساوية، وسائر الدول المشاطئة التي ترفض الموقف الإيراني، بزعم أن السواحل الإيرانية لا تؤهل إيران إلا للمطالبة ب 13% من البحر. وجدير بالذكر أنه، قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت توجد اتفاقية بين الاتحاد السوفيتي وإيران تقسم البحر مناصفة بين الجانبَين. ولكن الدول التي ورثت الاتحاد السوفيتي طرحت على إيران أن يكون اقتسام البحر حسب طول شواطئ كل دولة عليه؛ وهو ما يترك لإيران النسبة المذكورة. وهو موقف ترفضه إيران، على أساس أن القواعد التي تنظم قانون البحار المفتوحة لا تنطبق على بحر قزوين، الذي هو في حقيقة الأمر بحيرة مغلقة. ومن ثم ردت إيران دبلوماسياً بالاستفهام عما اذا كانت إعادة التفاوض حول اقتسام بحر قزوين تعيد التفاوض تلقائياً حول كل الاتفاقيات التي كانت قائمة بينها وبين الاتحاد السوفيتي، بما في ذلك اتفاقيات تتعلق بالسيادة على أراض فقدتها إيران لمصلحة روسيا، وخصوصاً في أذربيجان.

في عام 2003، قامت روسيا بالاتفاق على حدودها مع كلّ من أذربيجان وكازاخستان؛ لتعلن إيران عدم اعترافها ومن ثم ترفض الالتزام بتلك الاتفاقيات، في ورقة تستخدمها ضمن إدارتها لمسألة اقتسام الثروات البترولية والغازية الهائلة التي يعرف وجودها في بحر قزوين، الذي تنافس إيران فيه أطراف عديدة من بينها تركيا، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية. ونجحت تركيا بالتالي في إنشاء خط باكو ـ جيهان الذي ينقل بترول أذربيجان إلى الميناء التركي على البحر المتوسط في ما سمي: "بكوريدور"، حيث تم ضخها إلى البحار المفتوحة عبر أراضيها. ومع ذلك فإن العلاقات الإيرانية ـ الروسية تظل من الأهمية والمركزية بمكان في العلاقات الخارجية لإيران، بما يدعو إلى ترجيح التوصل إلى حل وسط في هذا الشأن.

أمّا أفغانستان، فهي تمثل لإيران مشكلات وفرصاً، في آن واحد. فبينما يوجد خلاف يحتاج إلى تقنين في تدفق نهر هلمند من أفغانستان إلى إيران، فإن الصراع الذي شهدته أفغانستان، طوال حياة الجمهورية الإسلامية في إيران، كان له باستمرار تداعيات كثيرة على أمن ومصالح إيران، أقلّها تدفق اللاجئين الأفغان إلى إيران. وأخيراً، ووسط اتهامات أمريكية لإيران بالتورط في دعم الإرهاب في أفغانستان، صرح ناطق باسم الحكومة الإيرانية، يوم 7 مارس 2009، بأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتمكن من استعادة الاستقرار في أفغانستان المجاورة من دون مساعدتها، مبدياً استعداد بلاده لتقديم المساعدة التي قد تحتاج إليها أفغانستان في حربها على "طالبان" وتنظيم "القاعدة". وأضاف "إذا احتاجت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون مساعدة إيران، فيجب أن يوجهوا لنا دعوة، تمهيداً لدراستها على أساس أننا مستعدون لمساعدة أفغانستان التي تَعُدّها أولوية لنا". ووفقاً لجريدة "الحياة" فإن جريدة "إيران نيوز" أشارت إلى امتلاك طهران معلومات استخباراتية لا تقدر بثمن، عن الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة. ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تلقت هذه الرسالة وقبلت القول الإيراني بالقدرة على المساعدة، وهي مساعدة طلبتها وزيرة الخارجية الأمريكية، السيدة كلينتون، علناً، في تصريحات أدلت بها في 29 مارس 2009، إبّان الاستعداد لتنظيم مؤتمر دولي عن أفغانستان.

وأمّا العلاقات بأذربيجان، ذات المذهب الشيعي، فهي تحمل توتراً صامتاً. فإيران ترى أن أذربيجان كانت، تاريخياً، جزءاً من إيران اقتطعته روسيا غصباً. وقد انعكس هذا التوتر في قيام إيران بتأييد أرمينيا في الحرب المتقطعة التي جرت بينها وبين أذربيجان، حول إقليم "ناجورنو كاراباخ".

كما أن المنهج الثوري والتطرف ولهجة الخطاب الحادة وأيديولوجية تصدير الثورة الإسلامية، رتبت لإيران عدائيات وتوترات إقليمية ودولية كثيرة؛ كان من آخر مظاهرها إقدام المغرب على قطع علاقاته بإيران، في فبراير 2009؛ واستمرار شيوع التوتر بينها وبين دول عربية كبيرة، مثل مصر، بسبب استمرار الثوريين الإيرانيين المتطرفين في عرقلة تحسين العلاقات بين البلدين. ومع ذلك فإن مزيجاً من الموضوعية والنفعية كان يحدو الجمهورية الإسلامية على التغاضي عن اتخاذ مواقف ثورية إسلامية تضامنية، كان يتوقع أن يتخذها نظام ادعى لنفسه النقاء الثوري الإسلامي. وتمثل هذا باطراد في مسائل ومواقف يمكن أن تؤثر في مصالحها الذاتية أو علاقاتها الإستراتيجية، مثلما كان يحدث نحو صراع المتمردين الشيشان المسلمين ضد الحكومة الروسية، أو في ما يتعلق بالمسلمين في الصين حيث كان أحد المراقبين الأكاديميين يصف الموقف الإيراني " بالصمت الصادم"، أو من حيث تغاضيها عن مساندة المتمردين المسلمين في طاجيكستان، التي يتحدث أهلها لهجة فارسية. وقد نجحت إيران في تعظيم دورها في القضية الفلسطينية والتأثير بالتالي في توجه بعض الأطراف إلى عملية السلام. وذلك من خلال قيامها بتقديم الدعم المادي السخي لبعض الفصائل الفلسطينية المعارضة لهذه العملية، مثل حركة "حماس" وحركة "الجهاد الإسلامي" و"الحركة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة". أضف إلى ذلك تضامنها مع سورية ومساندتها التامة لمواقفها المناهضة لعملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإن كان هناك منهج موضوعي، يتبناه ساسة إيرانيون يتحدث عن مساندة المواقف التي يرتضيها  الفلسطينيون.

وأخيراً، فإن العلاقات الإيرانية ـ التركية ذات طبيعة خاصة، تتعرض لاتجاهات متعارضة من الشد والجذب؛ بسبب تداعيات الجوار المباشر ومعايير النفع المتبادل، التي يرمز إليها بمبادلات تجارية مزدهرة وخط أنابيب الغاز الذي بدأ تشغيله في 2002، ليجلب لتركيا العطشى للطاقة الغاز الإيراني، طيلة عشرين عاماً. زِد على ذلك التاريخ المتلاطم بين الإمبراطوريتَين الفارسية والعثمانية، والنفور التركي السُّني من الشيعة، والتحالف التركي مع الولايات المتحدة الأمريكية، والخشية التركية الإقليمية من التطرف الديني. ومع ذلك ففي السياسات التركية الإقليمية المتجددة، من الوارد أن تعمل تركيا على تسهيل الحوار المرتقب بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.

ثامناً: العلاقات بين إيران وأبرز القوى الفاعلة

كانت الولايات المتحدة الأمريكية، يساندها قدر كبير من الدعم من جانب أكثرية القوى الغربية الأخرى، تفرض منذ الثورة الإسلامية في إيران حصاراً اقتصادياً قوياً على إيران. بينما ظلت العلاقات بين إيران وكلّ من روسيا الاتحادية والصين والهند وكوريا الشمالية تنمو باطراد في الجوانب العسكرية والنووية.

بعد أن توقفت الحرب العراقية ـ الإيرانية في أغسطس 1988، بدأت إيران تدير سياسة خارجية أكثر نضجاً وتنوعاً. وسرعان ما تحسنت العلاقات بينها وبين بعض الدول الأوروبية الكبيرة : إيطاليا وفرنسا وألمانيا، التي أصبحت شريكاتها التجارية الرئيسية في الوقت الذي تزايدت فيه الصادرات البترولية الإيرانية إليها على نحو سريع. ومرت العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية بفارق رئيسي هو اهتمام الأوروبيين بمصالح بلادهم مع إيران، وخصوصاً من حيث المبادلات التجارية وأمن إمدادات الطاقة. وكان الاتحاد الأوروبي يطلق على سياسته إزاء إيران أسماء واصفة، منها الحوار النقدي الذي تحول إلى حوار بناء ثم إلى تفاوض حول التعاون الاقتصادي. ومع ذلك يمكن القول أن العلاقات بين إيران والغرب وقعت، إجمالاً، منذ أكتوبر 2003، رهينة لتطور المباحثات حول الملف النووي الإيراني الذي كانت تديره الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا.

اتخذت علاقات إيران بكلّ من الصين والهند منحي تصاعدياً خاصاً، بسبب وجود تطلعات وتحديات ومصالح كثيرة مشتركة بين الدول الثلاث، على الأخص في ما يتعلق بالتصنيع  ونقل التكنولوجيا والتجارة الدولية وإمدادات الطاقة. وفي الوقت نفسه، وبسبب تداعيات الجوار والاهتمامات المشتركة في منطقة وسط آسيا والقوقاز، من حيث تخطيط وإدارة وتصدير البترول والغاز من منطقة بحر قزوين، واهتمام إيران بتلافي آثار الضغوط التي تمارسها واشنطن عليها، وخصوصاً من حيث الواردات الإيرانية من التكنولوجيا الحربية وعلى الأخص في ميدان التعاون على الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية ـ تطورت العلاقات بين إيران وروسيا الاتحادية على نحو متسارع.

في 4 نوفمبر 1979 قام طلبة ثوريون إيرانيون باحتلال السفارة الأمريكية في طهران، واحتجزوا 52 من موظفي السفارة، طيلة 444 يوماً. وفي 7 ابريل 1980 قررت الحكومة الأمريكية قطع علاقاتها بإيران وتولت الحكومة السويسرية رعاية المصالح الأمريكية هناك، منذ 24 أبريل 1981. بينما تولت باكستان رعاية المصالح الإيرانية في الولايات المتحدة الأمريكية.

في 24 أبريل 1980 فشلت عملية عسكرية أمريكية لإنقاذ الرهائن، بعدما تحطمت طائرتان عموديتان أثناء محاولتهما الإقلاع، ولقي ثمانية عسكريين أمريكيين مصرعهم؛ وقتل مدني إيراني، كان سائق شاحنة صادف أن مر بجوار منطقة هبوط قوة التدخل الأمريكية. فاضطر قائد العملية إلى إلغائها. وهو ما رفع من معنويات الثوريين. الإيرانيين، واختتم أزمة الرهائن، يوم 19 يناير 1981، توقيع ما عرف باسم: "إتفاق الجزائر" الذي أحال إلى محكمة العدل في لاهاي بت مطالبات المواطنين الأمريكيين المعنيين ضد إيران، والعكس بالعكس. وأفرج عن الرهائن في اليوم التالي (الذي نصب فيه رونالد ريجان رئيساً للولايات المتحدة خلفاً لكارتر). ليس هنا مجال الإفاضة في شرح خلفيات وتبريرات أزمة الرهائن؛ ولكنها كانت نقطة التاريخ لبدء انهيار العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية وتعاقب فصول من التوترات عليها. وقد فرضت الولايات المتحدة الأمريكية، سواء بقرارات تنفيذية من الرئيس أو بتشريعات من الكونجرس، سلسلة من العقوبات على إيران في إطار العلاقات الثنائية؛ وأخرى بسبب اتهام إيران بالمشاركة في أنشطة إرهابية؛ وثالثة بسبب اتهامها بتحدي نظام حظر انتشار الأسلحة الذرية؛ ورابعة بسبب انتهاكها لحقوق الإنسان بما في ذلك عرقلتها للحريات الدينية.

على الرغم من القائمة الطويلة من الموضوعات التي تتحفظ فيها الولايات المتحدة الأمريكية من السياسات الإيرانية (الإرهاب – انتشار أسلحة الدمار الشامل – دعمها لأطراف تمارس معارضة "عنيفة " لعملية السلام في الشرق الأوسط – انخراطها في "أنشطة ضارة" في لبنان والعراق وأفغانستان – سجلها في انتهاك حقوق الإنسان وعدم احترامها لشعبها نفسه)؛ إلا أن هذا لم يمنع الجانبَين من الاتصال والالتقاء، خلال العمليات التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الطالبان في 2001، وخلال مؤتمر بون عام 2002 الذي أرسى قواعد الحكومة الأفغانية، وفي مؤتمر شرم الشيخ عن العراق في مايو 2007. كما اجتمع سفيرا البلدين في بغداد بحضور مسؤولين عراقيين في مايو ويوليه وأغسطس 2007. وقد اخذ الكونجرس الأمريكي مبلغ 66 مليون دولار، لدعم حرية الصحافة والحريات الشخصية والترويج لفهم أوسع للقيم والثقافة الغربية في إيران، وتوسيع إطارات المجتمع المدني فيها وتشجيع سفر الطلبة والرياضيين والمهنيين الإيرانيين إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

بعد أن تصاعدت النغمة التصالحية من واشنطن، مع قدوم الرئيس باراك أوباما، اتخذت احتمالات التطور في العلاقات الثنائية مساراً جديداً بعد ما أقدم الرئيس الأمريكي على انتهاز فرصة حلول "عيد النيروز" أو رأس السنة الإيرانية يوم 20 مارس 2009، وقام بتوجيه رسالة تليفزيونية، بعناوين مترجمة إلى الفارسية، إلى الشعب الإيراني، عرض فيها فتح صفحة جديدة من العلاقات بين الجانبَين بما في ذلك عدم معارضة برنامج نووي سلمي إيراني، إذا ما تخلت إيران عن سياستها العدائية إزاء الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.وعرض التفاهم مباشرة مع إيران ليس فقط في موضوع الملف النووي، وإنما في كلّ الموضوعات الشائكة التي تعترض تحسين العلاقات بين البلدَين. ومن ناحيتها، فإن القيادات الإيرانية بدءاًً من مرشد الثورة، ومروراً برئيس الجمهورية، تلقت ببرود مبادرة أوباما ودعت الإدارة الأمريكية إلى عدم الاكتفاء بالأقوال، وإنما الانتقال إلى الأفعال. ولكن المؤكد أن اليد المفتوحة التي عرضها أوباما، بعد سنوات طويلة لم تفض خلالها العقوبات والتحريض والتهديد إلى نتيجة تذكر في حمل إيران على تغيير سياساتها ـ ستكون بداية لتحرك في العلاقات قد تقدم عليه إيران وفقاً لسياستها الموضوعية ـ النفعية التي أُشير إليها من قبل، كلّما وجدت أن المصالح تبرر التغاضي عن المواقف المبدئية المعلنة.