مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

رياحُ الشرق (تابع)

          ولا بد لي أن أتطرق، في هذا المقام، إلى الحديث عن الدوافع الكامنة وراء قرار الملك فهد بالحصول على الصواريخ الإستراتيجية الصينية. كان الهدف من الصفقة، دون الدخول في التفاصيل، جعْل المملكة قادرة على الرد المضاد عند تعرضها لهجوم من إسرائيل أو إيران في ذلك الوقت.

          ومنذ عام 1973، بل منذ حرب 1967، وإسرائيل تحاول فرض إرادتها على المنطقة بكاملها. فتمارس تارة الضغط الوحشي على الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وتارة أخرى تنفذ الاعتداءات على الدول العربية. ومن أبرز هذه الاعتداءات غزو لبنان عامي 1978 و 1982 ثم الغارات التي شنتها على بيروت و تونس وبغداد. ولا يخفى على أحد أن إسرائيل تمتلك الأسلحة النووية، بالإضافة إلى الطائرات البعيدة المدى والصواريخ الباليستية، مثل صاروخ جيركو، التي يمكنها حمل الرؤوس النووية. كما أنها طورت الأقمار الصناعية العسكرية بهدف زيادة قدرتها على جمع المعلومات وتحديد الأهداف داخل العالم العربي. وعلى الرغم من تفوق إسرائيل العسكري الواضح، فإنها تتباكى وتقيم الدنيا ولا تقعدها كلما حاولنا تحديث أجهزتنا الدفاعية بالحصول على أسلحة متطورة من الغرب. وفي مثل هذه الأجواء المملوءة بالمتناقضات، فإن المحافظة على أمننا واحترامنا لأنفسنا يفرضان علينا ضرورة اقتناء، الحد الأدنى على الأقل، قوة قادرة على ردْع أيّ عدوان قد نواجهه. وهذا، في تقديري، أحد الأسباب التي دفعت الملك فهداً إلى اتخاذ قراره بالحصول على الصواريخ الصينية.

          أمّا السبب الآخر وراء ذلك القرار، فيرجع إلى التهديد الذي كنّا نواجهه من جانب الثورة الإيرانية. فبعد أن أطاح الثوار بالشاه بدأوا في شن حملة إعلامية معادية على المملكة. وحاول قادة الثورة الإيرانية الانتقاص من مكانتنا في العالم الإسلامي، والتقليل من شأننا بصفتنا حماةً للأراضي المقدسة. وصمّوا آذانهم عن مبادرات الملك فهد الرامية إلى إقامة علاقات ودية معهم. واشتدت حدة الخطر، لا سيما بعد اندلاع الحرب بين العراق وإيران عام 1980 كان واضحاً، منذ البداية، أن هذه الحرب تحمل في طياتها خطراً يهدد بتورط دول أخرى من دول الخليج في هذا الصراع. ولم تكن المملكة مستثناة من ذلك الخطر.

          وخلال السنوات الثماني للحرب، لم يألُ الملك فهد، جهداً في محاولاته إقناع العراق وإيران أو حَمْلَهما على الجلوس إلى مائدة المفاوضات، إلاّ أن إيران تجاهلت نداءاته تماماً، إذ كانت واثقة من النصر في النهاية. وأظن أن كثيراً من المحللين والمراقبين يوافقونني على أن إيران أضاعت من يدها فرصة تاريخية لتحقيق السلام عام 1982 . فخلال مؤتمر القمة العربي الذي عقد في المملكة المغربية في سبتمبر من ذلك العام، اقترح الملك فهد تسوية سلمية للحرب تقوم على انسحاب العراق انسحاباً كاملاً من الأراضي الإيرانية وحصول إيران على تعويضات مالية تدفعها دول الخليج العربي، إلاّ أن إيران رفضت ذلك الاقتراح، في الوقت الذي قَبِل به العراق

          ونعرف، جميعاً، كيف قامت إيران في عام 1982 وعام 1983 بشن هجمات على العراق مستخدمة الموجات البشرية في محاولة منها للاستيلاء على ميناء البصرة الجنوبي، وقطع الطريق بين البصرة وبغداد ومن ثَم تهديد بغداد نفسها. وقد لقي عشرات الآلاف من الجنود الإيرانيين حتفهم في تلك الهجمات التي باءت بالفشل. وفي شهرفبراير من عام 1984، شنّت إيران هجوماً آخر، واستولت، هذه المرة، على جزر مجنون في منطقة الأهوار الجنوبية لنهر الفرات. واقترح العراق بعد هذا الهجوم، وقف إطلاق النار، لكن إيران رفضت هذا الاقتراح أيضاً.

          بدأت إيران، بعد ذلك، بشنّ ما عُرف بـ "حرب الناقلات". فهاجمت ناقلات النفط السعودية والكويتية في الخليج، مدعية أن تلك الهجمات جاءت رداً على مهاجمة العراق لناقلاتها. وتبعت تلك الهجمات على ناقلاتنا تهديدات شفوية بقصف الموانئ وأنابيب النفط والمنشآت النفطية السعودية، التي تشكل عصب الحياة في المملكة. وكنّا على يقين من أن مصافي النفط وآباره التي تقع على مقربة من منطقة القتال، وكذلك محطات تحلية المياه في المنطقة الشرقية، كانت عرضة للهجمات الجوية الإيرانية، ولم يكن الدفاع عنها أمراً سهلاً.

          وفي الخامس من يونيه عام 1984، وقع حادث خطير، حين عبرت طائرة إيرانية من نوع f-4 "خط فهد" ( وهو خط تم تحديده عبر الخليج أثناء الحرب العراقية - الإيرانية لزيادة زمن رد الفعل السعودي عند أية محاولة لانتهاك مجال المملكة ). وُيعَدّ هذا العبور انتهاكاً لمجالنا الجوي. وتجاهلت تلك الطائرة إنذارين بالعودة، على الرغم من أننا أخبرنا الإيرانيين من قبل بأننا سنعترض كل طائرة تعبر "خط فهد". فاشتبكت إحدى نا من نوع f-15 مع الطائرة الإيرانية وأسقطتها. وفي ذلك الوقت بالتحديد، كنت أحلّق في طائرة عمودية فوق مدينة الجبيل، وسمعت الطيار الإيراني وهو يتحدث مع قاعدته قبل إصابته بثوان. وفي محاولة لاختبار قوة الإرادة، أرسل كل طرف المزيد من طائراته المتحفزة للاشتباك، وبدا كما لو أن معركة جوية كبيرة توشك أن تقع لا محالة. ولكن السلطات الإيرانية، ولحسن الحظ، أمرت جميع طائراتها بالعودة إلى قواعدها قبل أن يستفحل الأمر.

          قامت إيران والعراق بعد ذلك بأشهر قليلة، في عام 1985، بتوسيع نطاق الحرب بينهما، حين أطلق كل جانب عشرات الصواريخ على المراكز المأهولة بالسكان في الجانب الآخر، وعُرِفَ ذلك القصف بـ "حرب المدن". وفي شهر مايو من تلك السنة، نجا أمير الكويت من الموت بأعجوبة حين تعرّض موكبه في الكويت لهجوم انتحاري بالقنابل شنّته إحدى المجموعات الموالية لإيران. وقد قام الملك فهد، بسبب هذه التطورات، بتجديد مساعيه الدبلوماسية، مرة أخرى، لإحلال السلام. فأرسل الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية، إلى طهران حاملاً عرضاً جديداً من العراق بوقف إطلاق النار. ولكن الإيرانيين رفضوا الاستجابة لهذه المبادرة أيضاً.

          أصبح تصعيد الصراع في المنطقة، بما جَدّ من أحداث، يشكِّل تهديداً حقيقياً لأمن المملكة. وكان السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما هي طبيعة وأسلوب هذا التهديد المنتظر؟ وبعد دراسة دقيقة لقدرات إيران، توصلنا إلى نتيجة استبعدنا فيها أن تشنّ إيران هجوماً برياً على المملكة. فمثل ذلك الهجوم يعني أن تجتاز إيران جنوب العراق والكويت، أو تشنّ هجوماً برمائياً ضخماً عبر الخليج. وهذا أمر يحتاج إلى جهود إدارية جبارة ويعرّض خطوط إمداداتها لخطر محقَّق، فضلاً عن أن إيران ليس لها القدرة على القيام بمثل هذه المغامرة. ولَمّا كانت إيران متورطة في حرب على العراق أصبح من المستبعد أن تفكر في فتح جبهة ثانية. ومن ناحية أخرى، لم يكن لدى إيران الجرأة على شنّ هجوم على أراضينا، لأنها سوف تسيء بذلك إلى مشاعر العالم الإسلامي قاطبة. وبدا، في ضوء هذه الحقائق، أن الاحتمال الأكثر واقعية هو أن تشنّ إيران حملة استنزاف عسكرية واقتصادية على المملكة. وربما حاولت إلحاق الضرر باقتصادنا بتنفيذ ضربات جوية وبحرية وصاروخية ضد المنشآت الساحلية الحيوية، أو إرهابنا بأعمال تخريبية، من وقت إلى آخر.

          وأمام هذه المعطيات التي تمثلت في لجوء إيران إلى العنف والإصرار على مواصلة القتال، قرر الملك فهد، حسب اعتقادي، ضرورة حصولنا على سلاح يرفع الروح المعنوية للقوات المسلحة والشعب السعودي. سلاح رادع لا يستخدم أساساً إلاّ بعد استنفاد ما عداه. وعند استخدامه يكون قادراً على تحطيم معنويات العدو وتوجيه ضربة موجعة وحاسمة ضده. سلاح لا يمكن التشويش عليه أو اعتراضه. سلاح يجعل العدو يفكر غير مرة قبل أن يُقدم على شنّ هجوم علينا. كان التحدي هو العثور على دولة قادرة على تزويدنا بمثل هذا السلاح على عجَل ودون قيد أو شرط. واستقر رأي الملك على الصين وبموجب ذلك القرار، بدأت رحلاتي إلى بكين بعد ذلك بفترة وجيزة.

سابق بداية الصفحة تالي