مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

رياحُ الشرق (تابع)

          تعتمد فاعلية القدرة الرادعة على معرفة طرف بامتلاك الطرف الآخر لها في الوقت المناسب. فعندما أوشكت عملية تجهيز وحدات الصواريخ الإستراتيجية أن تنتهي، رفعتُ تحليلاً إلى القيادة العليا ذكرت فيه أنه إذا لم يُكتشَف أمر صفقة الصواريخ الصينية قبل نوفمبر 1988، فإن ذلك يُعَد في مصلحتنا، وإذا لم يُكتشف أمرها قبل فبراير1989، فإن ذلك أيضاً يخدم مصلحتنا إلى درجة أكبر. أما إذا لم يكتشف أمرها بحلول يونيه 1989 فعلينا عندئذٍ أن نسرِّب النبأ بأنفسنا، لأن الهدف من الحصول على السلاح لن يكون قد تحقق. ولحسن الحظ، لم يكن ثمة داع للقيام بذلك، لأن الأمريكيين أذاعوا الخبر قبلنا وفي الوقت المناسب لنا.

          لم نعرف، على وجه التحديد، متى اكتُشِف أمر صفقة الصواريخ. وكنت مندهشاً، لأن السر ظل طي الكتمان طوال هذه المدة، ولم يتسرب عنه شيء. وسَرَت شائعات مفادها أن الاستخبارات الأمريكية كانت تعرف بأمر المشروع الصيني في وقت مبكر، لكنها لم تشأ أن تثير ضجة قبل أوانها، وفضَّلت أن تلتزم الصمت حتى أوشك المشروع أن ينتهي.

          وتجنباً لخطر الوقوع في متاهات نحن في غنى عنها، فسأكتفي برواية هذه الحادثة الطريفة. يقال بينما كان قمر صناعي من أقمار التجسس الأمريكية يصور قاعدة صواريخ سرية صينية، لاحظ أحد المحللين الأمريكيين البارعين أن بعض الرجال الذين ظهروا في الصورة كانوا ملتحين. واللحية مظهر غير مألوف في الصين. وقُرِعت أجراس الإنذار في واشنطن فهل هؤلاء الملتحون هم إيرانيون؟ وتبيّن من عمليات الاستكشاف اللاحقة أنهم سعوديون يتدربون في الصين وهكذا كُشِفَ النقاب عن السر.

          وكما أسلفتُ، أثار الأمريكيون زوبعة كبيرة حول هذه الصفقة. وسرت شائعات مفادها أن خمس من رجال الاستخبارات المركزية الأمريكية طُردوا من العمل لإخفاقهم في كشف أمر الصفقة. وطَلَبت واشنطن السماح لها بتفتيش الصواريخ التي وصلت إلى المملكة، ولكننا رفضنا ذلك. وأكدنا للأمريكيين أن رؤوس الصواريـخ هي رؤوس تقليدية فقط. وعلى كـلٍّ، ولاعتبارات تتعلق بالسياسة الداخلية الأمريكية، طلبت وزارة الخارجية الأمريكية من هيوم هورانhume horan، السفير الأمريكي لدى المملكة آنذاك، أن يقدم احتجاجاً إلى الملك فهد. وهوران هذا متخصص في الشؤون العربية، وأمضى ردحاً طويلاً من الزمن في العالم العربي، كما عمل في المملكة نائباً لرئيس البعثة الأمريكية. ولَمّا كانت الولايات المتحدة قد ساعدتنا من قبل على الحصول على أسلحة دفاعية، فقد شعرتْ بالاستياء، على ما يبدو، من امتلاكنا لِمَا تعدّه، من وجهة نظرها، أسلحة هجومية دون مشورتها.

          حضر إلى المملكة لمناقشة هذا الموضوع مبعوث الرئيس الأمريكي، السفير فيليب حبيب philip habib، المتمرس بشؤون الشرق الأوسط ( لا سيما القضية اللبنانية )، وتوجَّه في صحبة هيوم هوران لمقابلة الملك فهد. وأعتقد أنه خلال الاجتماع سلّم هوران ورقة إلى حبيب، ربما ليذكره بأن الوقت قصير، وأن عليه البدء مباشرة بمناقشة الموضوع الذي حضر إلى المملكة من أجله.

          طرح حبيب الموضوع بعبارات جافة، حتى إن المترجم السعودي اضطر إلى التخفيف من حدتها إلى درجة كبيرة. لكن هوران الذي يتقن العربية صحَّح ما نقله المترجم، وفسَّر رسالة حبيب بدقة أكثر. وهنا، لم يرُق للملك ما عدّه تدخلاً غير مشروع في السياسة الدفاعية للمملكة، كما لم يرُق له إلحاح المبعوثَين الأمريكيين الذي كان يفتقر إلى الدبلوماسية، ورد عليهما بلهجة حادة موجِّهاً توبيخه إلى هوران بشكل خاص؛ لأنه عدّه المحرض الأول على هذا التصرف.

          وأظن أن هوران أخبر وزارة خارجيته بما حدث، موضحاً أنه لم يعد في قدرته العمل بكفاءة في المملكة، وهكذا تم استدعاؤه إلى الولايات المتحدة بعد فترة قصيرة.

          وبناء على التعليمات الصادرة من الملك وولي العهد، وتحت إشراف الأمير سلطان، اتخذتُ الخطوات التمهيدية لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين والمملكة، من خلال محادثات أجريتها مع نائب وزير الخارجية الصيني. فبعد توطيد علاقاتنا الاستراتيجية، لم يعد هناك سبب لتأخير الاعتراف المتبادل أكثر من ذلك. وهذا ما كانت بكين تُلِحّ عليه منذ البداية.

          وبعد أن أتممت التفاصيل الخاصة بتطبيع العلاقات مع الصين وفتح السفارتين في عاصمتيْ البلدين، وضع وزيرا الخارجية اللمسات النهائية عليها. ثم توجَّه أخي بندر إلى بكين مرة أخرى، ليبلغ الصينيين موافقة الملك الرسمية على تلك الترتيبات. وفي وقت لاحق، رفعت إلى الأمير سلطان وإلى الملك توصية أطلب فيها منح الأمير بندر وعدد من كبار الضباط الأوسمة التقديرية تكريماً لهم وإشادة بدورهم، وتم ذلك التكريم بالفعل.

          أوصى الأمير سلطان بتعيين الفريق توفيق خالد علمدار - يرحمه الله - أول سفير لنا لدى الصين وكان الرجل عسكرياً قبل أن يصبح دبلوماسياً، وشغل منصب سفير المملكة لدى باكستان. وأكِنُّ له كل احترام وتقدير، وكنت أعرف أنه يدرك أهمية الصفقة، وأنه سيكون الرجل المناسب لو دخلنا في صفقات أخرى مع الصين مستقبلاً. كنت فخوراً ومبتهجاً لهذا الاختيار، لأن الفريق علمدار كان قائد الدفاع الجوي حين التحقت بتلك القوات في بداية خدمتي العسكرية، وقد حضر حفلة تخرجي في ساندهيرست ويعود الفضل إليه - بعد الله - في التحاقي بالدفاع الجوي. فبعد أن كنت أميل، في بادئ الأمر، إلى الالتحاق بسلاح المدفعية، وددت الانضمام إلى القوات الخاصة، إلاّ أنه كان حينذاك يبحث عن ضباط شبان يتكلمون الإنجليزية للاستفادة منهم في مشروع صواريخ هوك، التي كانت المملكة قد حصلت عليها للتوّ. ولذلك، وقع الاختيار عليَّ للالتحاق بالدفاع الجوي.

          وهكذا، كان ذلك القرار وراء إرسالي إلى بكين بعد ذلك بعشرين عاماً للتعاقد على " رياح الشرق ".

سابق بداية الصفحة تالي