مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

دروس مستفادة وَرؤيـــة مستقبليّة (تابع)

          إنني أنظر إلى الدفاع عن المملكة ودول مجلس التعاون كمجموعة من الدوائر ذات المركز الواحد، تتفاعل وتعزز بعضها بعضاً. نجد في مركز الدائرة المملكة وقواتها المسلحة، وتلك هي "دائرتنا الأولى"، كما هي الحال في كل بلد آخر. أمّا "الدائرة الثانية"، فتشمل الشركاء الستة في مجلس التعاون لدول الخليج العربية وهي المملكة، والكويت، وقطر، والبحرين، والإمارات العربية المتحدة، وعُمان. فمجلس التعاون لدول الخليج العربية هو المصدر الأساسي لتضامن أعضائه. وبعبارة أخرى، تشكِّل الدائرتان الأولى والثانية دفاعاتنا الرئيسية عن أنفسنا وعن شركائنا في شبه الجزيرة العربية ( وسأورد فيما بعد، بعض المقترحات الرامية إلى تحسين دفاعات دول مجلس التعاون الخليجي ).

          أمّا "الدائرة الثالثة"، من وجهة نظري، فتتكون من الدول الصديقة ضمن الحدود الأوسع لمنطقة الشرق الأوسط وجنوبي آسيا. وأعني بها مصر وسوريا، وهما دولتان عربيتان وقفتا إلى جانبنا إبَّان أزمة الخليج، إضافة إلى تركيا وباكستان، وهما قوتان صديقتان مسلمتان تقعان على الحدود المباشرة لمنطقتنا. فإذا خطَّطت هذه الدول الأربع، بالإضافة إلى دول مجلس التعاون الخليجي لدفاع مشترك يجمع بينها جميعاً، ونفَّذت تدريبات مشتركة، فإنها ستسهم بشكل كبير وفعّال في أمن المنطقة. فتركيا بصفتها عضواً في حلف شمال الأطلسي، وقوة عسكرية لا يستهان بها، تستطيع أن تؤدّي دَوراً مهمّاً كقناة اتصال بين حلفائنا الإقليميين وأصدقائنا الغربيين. وتنفيذ تدريبات مشتركة مع تركيا سيعطينا ميزة التعرف بمستويات الأداء العسكري الغربي، ونكون كما لو أجرينا تدريبات مشتركة مع القوات الغربية.

          لست اقترح هنا أن تقوم دول الخليج بشراء الخدمات العسكرية من الآخرين، فليس هذا مقصدي على الإطلاق. بل على العكس من ذلك، إن العلاقة بين تلك الدول كلها يجب أن تُبْنَى على المصالح المشتركة التي تجمعها. فكما يمكن لتلك الدول أن تكون درعاً - بعد الله - يحمينا، فإننا في شبه الجزيرة العربية يمكِن أن نكون عمقاً إستراتيجياً لها. فأهميتنا لها، لا تقلّ عن أهميتها لنا.

          ويجب ألاّ يغيب عن أذهاننا أن أشد الأخطار التي يُحتمل أن تواجهنا، ستأتي من منطقة الشرق الأوسط. لذا، فإننا في حاجة إلى أصدقاء داخل تلك "الدائرة الثالثة". لِكَبح مناوئينا وإيقافهم. ويبقى توازن القوى بين الدول الرئيسية في المنطقة هو أكبر ضمان لدوام الأمن والاستقرار.

          ولكن إذا ما نشبت أزمة لا قِبل لنا ولا لأصدقائنا بها في المنطقة، كتلك التي حدثت عام 1990، فعلينا التوجه بطلب المساندة إلى "الدائرة الرابعة" لدفاعاتنا، وهي تشمل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. ويمكِن أن تنضم إليها روسيا والصين بعد أن وَضَعَتْ الحرب الباردة أوزارها، واختفى من الوجود خطر التهديد الشيوعي. ومن المؤكد أن النمو الاقتصادي السريع الذي تشهده الصين سيجعل منها قوة عسكرية هائلة، لا بد من أخْذها في الحسبان في منطقة الشرق الأوسط. وتشير بعض التقديرات إلى أن الصين ستصبح، في السنوات القادمة، مستهلِكاً رئيسياً لنفط الشرق الأوسط، مما سوف يفتح المجال للتعاون الأمني معها.

          أعود، مرة أخرى، إلى تعليقاتي الأخيرة عن "الدائرة الثانية"، دائرة جيراننا الخليجيين، شركائنا في مجلس التعاون لدول الخليج العربية. فمن الدروس المهمة التي استخلصْتها من حرب الخليج، هو الحاجة الماسّة إلى دفاعات جماعية قوية في منطقة الخليج العربي. فما من دولة من الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، باستثناء المملكة، تستطيع أن تبني بمفردها قوة عسكرية قادرة على الدفاع عن نفسها وعن جيرانها ضد أيٍّ من القوى المعادية التي تتاخِم حدودها. فمن الوجهة الأمنية، تُعَد المملكة وجيرانها من دول الخليج كلاًّ متكاملاً. فعندما تعرَّضت الكويت للعدوان، شعرت كل دولة بالخطر يُحدِق بها. ولن نسمح مرة أخرى بأن تصبح إحدى دول المجلس جسراً للعدوان علينا. فالدرس الأول المستفاد من الأزمة، هو أهمية تحقيق قدْرٍ من الوحدة بين دول مجلس التعاون. فلو كان بينها أدنى مستوى من الوحدة الحقيقية، لاستطاعت تلك الدول أن تَبْلُوَ بلاءً حسناً، ولتمكَّنت من الصمود أمام الغزو والدفاع عن أنفسها.

          ولو كان ثمة تكامل عسكري بين المملكة ودول الخليج لتشكِّل جميعها كتلة قوية، لَكنّا أَقدَرَ على الدفاع عن أنفسنا، ولكان لنا ثِقَل سياسي على مستوى المنطقة بل على مستوى العالم. إن الأمن الجماعي على مستوى دول الخليج، من وجهة نظري، أمر تفرضه الظروف الراهنة على أن تضطلِع المملكة فيه بدَور بارز، لِمَا لها من إمكانات أكبر وقوات أكثر عدداً وعدة.

          لكن هذا الأمن الجماعي لا يمكِن أن يتم في فراغ سياسي. فلا بد من قيامه على أساس سياسي مؤدّاه احترام كل دولة سيادة الدول الأخرى وحدودها، مع إنهاء كافة أشكال الصراع بين الدول الأعضاء والمحافظة على الوضع السياسي الراهن.

          علمتنا الأزمة أن الدفاعات الخليجية، بالشكل الذي كانت عليه عام 1990، دفاعات غير كافية على الإطلاق لمواجهة عدوان صدّام لم تكُن قوة "درع الجزيرة"، الجناح العسكري لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، قوية بالقدْر الذي يمكِّنها من ردْع العراق أو التصدي له بمفردها. ومن هنا، تظهر أهمية إعادة النظر في الترتيبات الدفاعية الجماعية.

          والحل، من وجهة نظري، لا يكمن في قوة مثل قوة "درع الجزيرة" التي شُكلت على أساس اعتبارات سياسية لا تقلّ أهمية عن الاعتبارات العسكرية. ولا يكمُن، بالمثل، في جيش كبير يتشكل من دول مجلس التعاون، كاقتراح قوة من 100 ألف رجل. فعلى صعيد الواقع، نستبعد موافقة الدول الأعضاء على تخصيص أفْضل وحداتها بشكل مستديم لتشكيل قوة دفاع إقليمية كهذه. ثم أين سيتم انتشار هذه القوة؟ ومن الذي سيقوم بتمويلها وتموينها؟ وكيف تُحَلّ المشاكل الاجتماعية التي ستترتب على وجود الضباط والجنود من مختلف دول مجلس التعاون بعيداً عن ذويهم؟

          لا شك أن آرائي حول أمن الخليج هي وليدة خبرتي بالأزمة، فقيادة القوات المشتركة التي أنشأناها، آنذاك، لتعبئة وتدريب وتجهيز قواتنا الخليجية والقوات الصديقة للمعركة، يمكِن أن تكون أنموذجاً لقيادة عسكرية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية.

          لذا، أقترح إنشاء قيادة عسكرية مشتركة، يكون مقرّها الرياض، ويُعَيّن فيها ضباط محترفون من أعلى المستويات. على أن لا تنضم أية قوات عسكرية بصفة مستديمة إلى هذه القيادة، بل تبقى كل قوة في بلدها، وتُستدعى فقط عند تنفيذ التدريبات المشتركة أو مجابَهة الأخطار.

          وتُحدَّد صلاحيات ومسؤوليات تلك القيادة العسكرية المشتركة بناءً على توجيهات قادة دول مجلس التعاون الخليجي ووزراء دفاعهم. كما لا بد أن تُمنح مثل هذه القيادة العسكرية الصلاحيات الحقيقية لكي تبدي آراءها وتخطط وتتصرّف في الشؤون العسكرية، حسب مقتضيات الظروف سواء في أوقات السلم أو في أوقات الحرب. ويكون منصِب القائد، كما هي الحال في منظمة حلف شمال الأطلسي ( الناتو )، من نصيب الدولة ذات الإسهام الأكبر في مجهود الدفاع المشترك.

          وفي حالة الحرب، تكون مهمة القيادة الدائمة هي ممارسة القيادة العملياتية على قوات دول مجلس التعاون لردْع أي عدوان محتمَل أو دحْر أي عمل عدائي.

أمّا في حالة السلم، فتكون مهمة القيادة على النحو الآتي:

          ومن المهام الأولى لمثل تلك القيادة تحديد الإسهام العسكري لكل دولة من الدول الأعضاء بشكل مفصل، ومن ثَم تقسيم القوات المسلحة في كل دولة على النحو الآتى:

أ - قوات الأسبقية الأولى، وتكون تلك القوات جاهزة على نحو دائم للتعامل مع أية أخطار.

ب - قوات الأسبقية الثانية، وهي قوات تعزيز لقوات الأسبقية الأولي، وتكون جاهزة للتحرك عند الضرورة، وبتعليمات من القيادة المشتركة.

ج - قوات الأسبقية الثالثة، وهي القوات المتبقِّية في بلدها وتتولى مهام الأمن الداخلي.

          وتنبغي الإشارة، هنا، إلى أن هذه اقتراحات أولية لا تعدو أن تكون المخطَّط العام الذي أتصوره، ويلزم صقْلها وتعديلها في ضوء الخبرات السابقة واللاحقة، مع مراعاة توجهات ومصالح كل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي.

          وخلاصة القول، إن أمْن الخليج يعتمد أولاً: على قوة المملكة، وثانياً: على التكامل العسكري بين دول مجلس التعاون الخليجي، وثالثاً: على علاقات الدعم المتبادل مع عدد من الدول العربية والإسلامية في منطقتنا، لنزع فتيل الأزمات التي تولد أخطاراً تهدِّد أمْننا، ورابعاً: على أصدقائنا الغربيين الذين نحتاج إلى مساندتهم في حالات الضرورة القصوى، كملجأ أخير، كما حدث في حرب الخليج. فإن كنّا قد اعتمدنا عليهم في الماضي القريب، فعلينا أن نضع نصْب أعيننا أنهم قد يتردَّدون في مساندتنا مستقبلاً ما لم يكُـن الأمر متعلقاً بصُلب مصالحهم. علينا أن نتذكر دائماً أن العون الإلهي لا يتأتّى إلا بالجهد والعمل الدؤوب، ولنتذكر قول الله عز وجل:  سورة التوبة آية 105 وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ( سورة التوبة، الآية 105 ).

          مَثّل غزو صدّام للكويت صدمة قاسية لنا ولجيراننا في الخليج. ولكن الحرب التي تلته وفّرت لنا خبرات ثمينة لم تتوافر لدول عربية أخرى، وعلينا أن نستثمر تلك الخبرات ونستوعبها جيداً، لنكون على أتم الاستعداد في المرة القادمة. جعلتنا تلك الأزمة ندرك أهمية الاستعداد لمجابهة الخطر، أنّى كان مصدره. وعلَّمتْنا أهمية أن تكون دفاعاتنا شاملة تغطي كل الاتجاهات من حولنا. وأن يكون تخطيطنا بعيد المدى، فلا يقتصر على عام أو عامين قادمين، وأن يكون حجم قواتنا المسلحة وطبيعتها مبنيَّين على تحليل علمي دقيق للأخطار المحتملة.

          إن أشد ما أخشاه أن تكون الصدمة التي عشناها عام 1990 قد زال أثرها سريعاً، ولم تستقر دروسها في أذهاننا. فعاصفة الصحراء، إحدى أكبر الحملات العسكرية في التاريخ المعاصر، مَرّت أحداثها سريعة على كثير من الناس، وكأنها "فيلم سينمائي". وانتهت بالسرعة نفسها التي بدأت بها. فالآلة الحربية الضخمة لقوات التحالف سُحبت دون صعاب أو عقبات، حتى ليكاد بعض المحلِّلين يجزم أن استقلال بلادنا ومصالحها لم يكونا قَط مهدَّدَين، ولم يتعرضا لأي خطر من الأخطار. وأرى لزاماً علي أن أُحذِّر من مثل هذه النظرة إلى الأمور، والتي لا تعدو أن تكون فِقْداناً جماعياً للذاكرة. ويَحْدُونِي الأمل على أن يكون تسجيلي للأحداث التي عشتها لحظة بلحظة، عِبْرة وعِظَة وصوت نذير لا يفتأ يتردَّد في آذاننا يدعونا إلى اليقظة كل اليقظة. ففي عالم يموج بالأحقاد والفتن، غابة يأكل فيها القوي الضعيف، لا سبيل إلى تحقيق أفضَل الأوضاع، إلاّ بالاستعداد لأسوأ الاحتمالات. فالقوة هي الدرع التي تحمي الحق وتصون الكرامة وتحِّقق الأمن والأمان.

سابق بداية الصفحة تالي