7. الجنوب اللبناني، كمنطقة صراع
أصبح الجنوب اللبناني، هو الساحة الرئيسية لأنماط التفاعلات المسلحة العنيفة، التي تتخذ صوراً مختلفة، سواء كانت عمليات خاصة، أو احتكاكات مسلحة، أو عنفاً مسلحاً، أو تهديدات عسكرية، أو تحركات عسكرية، أو إجراءات أمنية، ويأتي ذلك من ظل عدة مسلّمات، التي أصبحت من الثوابت، لتحقيق أهداف أطراف الصراع. وطرفا الصراع في الجنوب اللبناني، هما: إسرائيل وجيش لبنان الجنوبي (ميليشيا أنطوان لحد)، من جانب، والميليشيات المسلحة (حزب الله ـ أمل ـ حماس ـ الجهاد ـ منظمات أخرى)، من الجانب الآخر. ويعني ذلك، أن لبنان الدولة، لا علاقة له بهذا الصراع، سوى أنه المتضرر الرئيسي، سياسياً ومعنوياً واقتصادياً، ولكنه ليس الطرف، الذي يرفع السلاح في مواجهة إسرائيل. أمّا الميليشيات، التي تمولها إيران، في الدرجة الأولى، وتُؤمِّن وجودها وتدعمها أيضاً سورية، فقد أصبحت دولة داخل الدولة، في الجنوب اللبناني. ويضمن التنسيق الإيراني ـ السوري المستمر حرية عمل حزب الله، وتقويته، وذلك منذ نشوء الحزب، عبْر سماح سورية بمرور حوالي 5000 شخص من الحرس الثوري الإيراني، إلى لبنان، ليشـكلوا نواة الحزب، الذي ضم، بعد ذلك، 10 آلاف ـ 12 ألف شيعي من لبنان. وقد كان ذلك ظاهراً، أيضاً، بعد ذلك بسنوات، عندما قطعت المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية شوطاً في سبيل تحقيق السلام، خلال الأشهر الأخيرة من عام 1995، مما سيترتب عليه تحجيم أنشطة حزب الله في الجنوب اللبناني. وقد زار طهران، وقتئذ، وفد من قيادات حزب الله، في 21 ديسـمبر 1995، ثم زار سورية، في طريق العودة، التقى خلال زيارته مرشد الثورة الإيرانية، "علي خامنئي"، في إيران، وبعض كـبار المسؤولين في سورية، لبحث تطور العملية السلمية بين سورية وإسرائيل، وانعكاس ذلك على حزب الله. صرح، بعدها، الشيخ نعيم قاسم، أحد قادة حزب الله، قائلاً: "إن أحداً لم يحدثنا عن وقف عمليات المقاومة" . وقد تلقى الوفد تأكيدات عدم المساس بهياكل الحزب، ودوره السياسي، في المرحلة القادمة، من دون وعود باستمرار عملياته العسكرية. ودلل على ذلك تصريح مسؤولين إيرانيين، قبل زيارة حسن حبيبي، نا
ئب الرئيس الإيراني، إلى دمشق يوم 27 ديسمبر 1995: بـ "أن وقف عمليات حزب الله، في جنوب
لبنان، ممكن، في حالة تحقيق السلام، وانسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني" .
ويُعَدّ الشيخ محمد حسين فضل الله، رئيس الحزب، بقيادته للحزب طوال هذه السنوات، "مرجع التقليد للشيعة في لبنان"، الأمر الذي ينذر بخطر التناحر والانقسام في الأوساط الشيعية اللبنانية الموالية لطهران، والتناحر بين المقر الرئيسي لحزب الله في طهران، وفروعه المنتشرة في 18 دولة، من بينها لبنان .
وبصفه عامة، فإن حزب الله، منذ نشأته، وحتى الآن، انطلق من فلسفة "غياب دور الدولة المركزية"، وتبنّي إستراتيجية محددة، تقوم على عدد من الأهداف الخاصة، المتجاوزة لدور لبنان. هي :
أ.
|
اعتبار الجنوب اللبناني ورقة رابحة، لتوسيع عمليات حزب الله الفدائية ضد إسرائيل.
|
ب.
|
الدعوة إلى تحرير القدس والزحف نحوها (تنفيذاً للأهداف الإيرانية، المعلنة ضمن أهداف الثورة، والتي لم يكتب لها التحقق، حتى الآن).
|
ج.
|
رفض وجود القوات الدولية (على أساس أنها معوقة للأعمال الفدائية).
|
ومن الطبيعي أن يحدث الصدام بين حزب الله، الذي يتبنّى تلك الأهـداف، التي توافق أهداف الثورة الإيرانية، وبين الحزب الشيعي الوطني اللبناني "حركة أمل"، بقيادة نبيه بري، رئيس البرلمان اللبناني، الذي يرى أن الطائفية، هي السبب المباشر للأزمة اللبنانية، واستمرار الوجود الإسرائيلي في الجنوب اللبناني. ولذلك، فهو يدعو إلى تحقيق الدولة العلمانية، التي تتماشى مع الدستور اللبناني.
ومع تصاعد الصدام، الذي حدث في بداية التسعينيات، فإن حزب الله، بدأ يتنازل عن العديد من أهدافه في تكوين الدولة الإسلامية، حتى يصبح مقبولاً في لبنان، بوجه عام، ويستقطب الشيعة اللبنانيين، بوجه خاص، ويندمج في المجتمع اللبناني، كحزب فاعل، وليس كحركة إسلامية. وهذا ما ورد في تصريح رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري : "إذا انتهى الاحتلال، فليس هناك داع للمقاومة. والجميع يسلمون أسلحتهم للبنان. وفي هذه الحالة. سيقتصر نشاط حزب الله على العمل السياسي، وهو، أصلاً، حزب موجود، ويمثل تياراً سياسياً معيناً، بحجم معين".
رابعاً: الطريق إلى عناقيد الغضب
هناك خمسة أحداث رئيسية، مهدت الطريق لعملية "عناقيد الغضب". وتفاعل بعضها مع بعض، لتزيد اشتعال الموقف، وتؤدي إلى هذا التصعيد العسكري. وتلك الأحداث، هي:
- تصاعد القتال بين أطراف الصراع، عام 1995.
- اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين Yitzhak Rabin.
- أحداث الربع الأول من عام 1996.
- مقاومة بعض الأطراف لنتائج مؤتمر شرم الشيخ "قمة صانعي السلام في الشرق الأوسط"، الذي عُقد في 13 مارس 1996.
- الانتخابات الإسرائيلية، والصراع بين حزبَي العمل والليكود، 29 مايو 1996.
وما زاد هذه الأحداث اشتعالاً، هو تصاعد التطرف على الساحة الإسرائيلية، وعلى الساحتين، اللبنانية والفلسطينية، إلى درجة أن بعض المحللين، استنتجوا أن هناك تنسيقاً، بين المتطرفين، على الجانبين، لتدمير عملية السلام برمّتها، وتصعيد الموقف العسكري إلى درجة المواجهة العسكرية. ولإلقاء الضوء على كل حدث بمفرده، يجب وضعه في إطار الخلفية الشاملة للأحداث الأخرى، إذ إنها جميعاً متشابكة تماماً.
1. تصاعد القتال بين أطراف الصراع، خلال عام 1995
أ. جنوبي لبنان
استمرت العمليات المسلحة في جنوبي لبنان بين عناصر "المقاومة الإسلامية"، من جانب، والقوات الإسرائيلية وجيش لبنان الجنوبي، من جانب آخر. وقد شمل ميدان الاشتباكات الجنوب اللبناني كله، وبعض المستعمرات الإسرائيلية، في الجلـيل الأعلى. وكانت هذه الاشتباكات شبه يومية، هي أقرب إلى حرب الاستنزاف، مع اشتدادها في بعض الأوقات.
فعلى جانب المقاومة المسلحة اللبنانية، استمر التصعيد في الموقف، على امتداد عام 1995. وكان أبرزه الهجوم الانتحاري على قافلة عسكرية إسرائيلية، في 25 يناير 1995. والهجوم المسلح على دورية إسرائيلية، في 18 يونيه 1995 ، ثم الهجوم، بصواريخ الكاتيوشا، في 30 ديسمبر 1995 ، على مستعمرات الجليل الأعلى، الإسرائيلية، رداً على القصف الإسرائيلي للقرى اللبنانية. أما أجرأ الهجمات، فكانت على موكب رئيس الأركان الإسرائيلي، "الجنرال آمنون شاحاك"، في سبتمبر، من خلال عبوة، تنفجر عن بُعد، غير أنه نجا بأعجوبة، بينما أصيب ثلاثة جنود، من حراس الأمن المرافقين.
وكان الرد الإسرائيلي على المقاومـة اللبنانية عنيفاً أيضاً، من خلال الغارات الجوية، والقصف المدفعي، بصورة شبه يومية. كما فرضت البحرية الإسرائيلية حصاراً على موانئ جنوبي لبنان، خلال فبراير. وسارعت القوات الخاصة إلى الإبرار في إقليم التفاح، خلال نوفمبر، لمهاجمة عناصر المقاومة. أمّا أشد الخسائر، التي تكبدتها المقاومـة اللبنانية، من جرّاء الأعمال الإسرائيلية، فهي استشهاد "رضا ياسين"، أحـد أبرز القادة الميدانيين لحزب الله، في 8 أبريل 1995 ، نتيجة القصف الجوي. كذلك اغتيال "د. فتحي الشقاقي"، أمين عام حركة الجهاد الإسلامي، في 26 أكتوبر 1995، بوساطة عملاء الموساد.
أمّا الموقف السياسي اللبناني من أحـداث عام 1995، فقد لخصه رفيق الحريري، رئيس الوزراء، خلال ردّه على تصريحات بعض القادة الإسرائيليين، في شأن ما سُمي "الرد العسكري الشامل ضد حزب الله" ... إذ ذكر في تصريح له، يوم 30 نوفمبر 1995: "أن زمن الحلول العسكرية للنزاعات في الشرق الأوسط، قد ولّى. وأن حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي، على كل المستويات، يجب أن يكون سياسياً".
ب. المقاومة الفلسطينية
تصاعد مستوى العنف المسلح في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخاصـة في الضفة الغربية. وتصـاعد، في بعض الأحيان، داخل إسرائيل. وقامت منظمة "حماس" (مجموعة عز الدين القسام) بتنفيذ معظم العمليات العسكرية، التي كان أعنفها في 24 يوليه، حين انفجرت عبوة ناسفة في حافلة إسرائيلية، في الحي التجاري، في قلب تل أبيب، أدت إلى مصرع أربعة ركاب، وإصابة 89 آخرين. وكانت رداً على أعمال العنف الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، التي بدأت بقتل عشرة منهم، في بداية العام. واستمرت العمليات العسكرية، حتى إن إجمالي الخسائر من الطرفين، منذ بداية توقيع إعلان مبادئ الحكم الذاتي، في 13 سبتمبر 1993، وحتى نهاية 1995، وصل إلى 197 قتيلاً، منهم 102 من الفلسطينيين، و95 إسرائيلياً. ونظراً إلى أن أهداف منظمة حماس، كانت دائماً، أهدافاً مدنية ـ للأسف ـ فقد اتهمت بأنها منظمة إرهابية، وليست منظمة، تهدف إلى تحرير البلاد من الاحتلال.
2. اغتيال إسحاق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي (4 نوفمبر 1995)
فوجئ العالم، في هـذا اليوم، بحادثة الاغتيال، التي وقعت في أحـد الأيام المشهودة في التاريخ الإسرائيلي الحديث، حين كان رابين، يحتفل مع قرابة مائة ألف إسرائيلي، اجتمعوا لتأييد عملية السلام، وخطب فيهم قائلاً: "إن إسرائيل أعطت للسلام فرصته. وهو سلام سيحل القسم الأكبر من مشاكل إسرائيل. إن طريق السلام أفضل من طريق الحرب، والذي يقول لكم ذلك جندي، ورجل دفاع سابق، ورجل يرى ألم عائلات الجنود المحزونة. فمن أجل هذه العائلات والأولاد والأحفاد، يجب على الحكومة، أن تقوم بكل ما في وسعها، من أجل إيجاد السلام، والاستفادة من جميع السبل الممكنـة…". بعدها، غادر رابين المنصة، ليتقدم إليه الشاب المتطرف، "إيجال عمير Yigal Amir"، البالغ من العمر 27 عاماً، والطالب في جامعة "إيلان يار"، والعضو في جماعة "إيـال" المتطرفة، ليطلق عليه النيران، ويصيبه في مقتل. وليصرح، بعد القبض عليه، أنه نفذ ذلك بأمر من الله! وأنه سعيد بذلك، وغير نادم، وقد سـبق له أن حاول اغتيال رابين، يوم 22 يناير الماضي، ولكن لم تتحقق آماله، ونجـح هذه المرة، وأسفه الوحيد، أنه لم يستطع أن يقتل "شيمون بيريز" Shimon Peres، شريك رابين في اتفاقات السلام، التي يعدّها كارثة، بالنسبة إلى الشعب الإسرائيلي!
وإسحاق رابين، لم يكن شخصاً عادياً؛ إنه أحد رجـال الرعيل الأول، الذين قامت على أكتافهم دولة إسرائيل. وهو بطل، في نظر الشعب الإسرائيلي، إذ حقق نصر يونيه 1967، باحتلال أراضٍ من دول عربية ثلاث. وله ماضٍ عريق في الحياة العسكرية، ثم في الحياة السياسية. وكان برنامجه، في انتخابات عام 1992، مبنياً على أساس التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، بعد تسعة أشهر من فوز حزب العمل. وقد حقق وعده، بتوقيع إعلان المبادئ، الفلسطيني ـ الإسرائيلي، في واشنطن، في 13 سبتمبر 1993. ثم أعقبه باتفاقية السلام مع الأردن، في 26 أكتوبر 1994. وأخيرا اتفاقية توسيع الحكم الذاتي الفلسطيني، في 28 سبتمبر 1995. وقطع شوطاً كبيراً في مباحثات السلام مع سورية.
ويمكن القـول إن إسحاق رابين، ووزير خارجيته، شيمون بيريز، هما من القيادات الإسرائيلية التي استطاعت مسايرة المتغيرات المهمة، على المستويين، العالمي والإقليمي، وتفهّما الأوضاع في المنطقة، ولديهما نظرة مستقبلية واضحة للأحداث. لذلك أثير حولهما العديد من العواصف الداخلية في إسرائيل، كان أبطالها دعاة التطرف، وعتاة الصهيونية، وشاركهم في ذلك أقطاب حزب الليكود، الذين بدد رابين أمل وصولهم إلى الحكم في المستقبل القريب، لِما يتمتع به الرجل من ذكاء وحركة، علاوة على أنه يحمل ماضياً عريقاً في الذاكرة الإسرائيلية. لذلك، تحالف عليه القوم ليقتلوه، سـواء بالاتفاق الضمني أو المادي أو المعنوي (وذلك متروك للتاريخ، ليحكم فيه). ولكن الحقائق توضح، أن التطرف الإسرائيلي أشد وطئاً من أي تطرف آخر. كذلك، فإن التاريخ يسجل، أن رابين هو أول حاكم إسرائيلي، يتم اغتياله، بعد قيام دولة إسرائيل، وسـيبقى هذا الاغتيال علامة لخط تقسيم في الحياة السياسية الإسرائيلية، لِما قبل اغتيال رابين وما بعده.
أمّا تأثيرات اغتيال رابين في الأحداث، فيما بعد، فقد تعددت اتجاهاتها، سواء في داخل إسرائيل، أو على الصعيدين، الإقليمي والعالمي. وكانت المحصلة، تباطؤ عملية السلام، وتضييق الخناق على الفلسطينيين، وبـطء عملية الاندفاع نحو التسوية، وتشديد الإجراءات الأمنية، التي أضرت بالمواطنين العرب، أساساً، وانقسام الشعب الإسرائيلي من الداخل انقساماً، شغل وقت الحكومة "القادمـة على انتخابات" في إصلاح الداخل، ومن ثمّ، تأجيل خطوات السلام، وغير ذلك الكثير، الذي أدى، بدوره، إلى بداية مرحلة جديدة لأحداث عنف متبادلة، ما بين إسرائيل وقوات المقاومة، سواء الفلسطينية أو اللبنانية.
3. أحداث الربع الأول من عام 1996
أ. اغتيال يحيى عياش، في 5 يناير 1996
بدأ هذا العام بداية درامية. كان بطلها جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد، الذي دبر اغتيال "يحيي عياش"، مهندس الأعمال الفدائية لمنظمة حماس، في 5 يناير 1996، من خلال وضـع 50 جراماً من مادة شديدة الانفجار، في هاتف لاسلكي، ينفجر بوساطة تيار كهرومغناطيسي، عندما يستجيب يحيي عياش لنداء الهاتف، ويضعه على أذنه. وراحت الاستخبارات الإسرائيلية، تسترسل في وصف العملية، واستخدامها وسائل تكنولوجية متقدمة، لاصطياد المسؤول الفلسطيني، وكيف تعاون الطيران مع الاستخبارات على تدبير هذه العملية. مما أثار شجون منظمة حماس، التي كانت قد وقعت، منذ أسابيع قليلة، اتفاق القاهرة، للمصالحة مع منظمة التحرير الفلسطينية، والذي ينص على عدم القيام بأي عمليات تسيء إلى مسيرة السلام. ولكن الموقف تغير، إثر اغتيال يحيى عياش، واقتضى الانتقام، وبأساليب مؤلمة لإسرائيل.
وشرعت حماس، بدءاً من 25 فبراير 1996، ولمدة عشرة أيام متتالية، تنفيذ أعمالاً ضد أهداف، لم تحسن اختيارها، إذ وجهتها إلى أهداف مدنية، من دون اختيار أهداف عسكرية مؤثرة، وأحالت الأوضاع، داخل إسرائيل، إلى ذعر دائم، مما أدى إلى إثارة الرأي العام العالمي كله، نتيجة لتوجيه تلك الضربات إلى المدنيين، وهو ما استثمرته الدعاية الصهيونية، لتكوّن رأياً عاماً عالمياً مضاداً للقضية الفلسطينية برمّتها. كما تزامنت تفجيرات حماس داخل الأراضي المحتلة، مع نشاط عسكري للمقاومة في الجنوب اللبناني، حيث تصاعد الموقف، مما جعل المنطقة كلها، تعيش في ظل تهديدات باشتعال حرب وشيكة. (ولم يُتبين، حتى الآن، ما إذا كان هناك تنسيق بين حماس وحزب الله، في الانتقام لمقتل عياش، أم أن البداية الساخنة لحماس داخل الأراضي المحتلة، شجعت حزب الله على تسخين الموقف، أم أن الأعمال الاستفزازية الإسرائيلية في الجنوب اللبناني، هي التي أجبرت حزب الله على أن يقوم بالرد عليها. أم أن المتطرفين، من الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، اتفقوا، ضمنياً، على إيقاف مسيرة السلام، التي كانت قد وصلت إلى مرحلة متقدمة، أم أن هناك جهة ما، حرضت الفلسطينيين على القيام بمثل هذه الأعمال، كما سبق أن حرضت المتطرفين اليهود على اغتيال رابين، في سبيل تحقيق هدف إستراتيجي، تريد أن تحققه هذه الجهة).
ب. هجمات منظمة حماس على أهداف إسرائيلية
إن أحداث الربع الأول من عام 1996، وخصوصاً شهري فبراير ومارس منه، تُعَدّ الأشد خطراً، منذ مؤتمر مدريد، عام 1991، بل إنها وضعت المنطقة على حافة حرب وشيكة، وأوقفت مسيرة السلام، فعلاً، وغيّرت الخريطة السياسية في المنطقة. وأثرت تأثيراً مباشراً في القوى الفلسطينية المعتدلة، وأفقدت المعارضة الفلسطينية كثيراً من شرعيتها، "إلى درجة أن المحللين، أجمعوا على أن الجناح العسكري لحماس، قد وضع نفسه لعبة في أيدي المتطرفين اليهود، وانساق، من دون تفكير، إلى تحقيق أهدافهم، وأنه لن يواجه، مستقبلاً، إسرائيل وحدها، ولكن سيواجه إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأردن، والقوى الرئيسية في العالم": وهذا ما حدث، فعلاً، بعد ذلك.
واختارت حماس أهدافها في المدن، وفي المناطق ذات الكثافة البشرية المرتفعة، حيث تُنزل خسائر جسيمة بالإسرائيليين، إضافة إلى أن هذا الاختيار يحقق تأثيراً نفسياً شديداً في الإسرائيليين، ويفقِدهم الثقة بالأجهزة الأمنية، كما يحقق دعاية إعلامية كثيفة، وسريعة، نظراً إلى وقوع الأحداث داخل المدن الرئيسية.
في الوقت عينه، نظمت حماس خطتها، على أساس توجيه الضربات السريعة المتلاحقة، التي تعقبها بإعلان "هدنة"، أو توقف العمليات، بهدف تأكيد أنها تملك زمام المبادأة. وحتى تستمر المصالحة بينها وبين منظمة التحرير الفلسطينية. وحتى تتجنب ردود الفعل القاسية المحتملة، التي ستوجهها إليها إسرائيل، في أعقاب تلك العمليات. وحتى تعيد تقدير موقفها، طبقاً للمتغيرات على الساحتين، الإقليمية والعالمية. واستخدمت المنظمة، في تنفيذ عملياتها، الأسلوب الفدائي عينه، "القنابل البشرية"، الذي سـبق أن توسعت إيران في تنفيذه، خلال مراحل سابقة قبل حرب الخليج الأولى وأثنائها، في مناطق عديدة، والذي يتطـلب من منفذّه إيماناً عميقاً بالهدف، الذي سينتحر من أجله بتفجير نفسه، كما يتطلب "غسيل مخ" واسع النطاق، لمنفذّي تلك العمليات. ويأتي خطر "القنابل البشرية"، من أن الشخص، القائم بتفجير نفسه، من خـلال عبوات، يحملها، أو يربطها حول جسده، هو قاتل ومقتول؛ ومن ثمّ، فإن جرأته على ضرب هدفه، وعدم لجوئه إلى النجاة يؤديان إلى مزيد من الخسائر لدى الخصم. وهذا ما حدث، فعلاً.
(1) عمليتا 25 فبراير 1996: الأحد الحزين في إسرائيل
وكانت بداية الانتقام من خلال عمليتين متزامنتين تقريباً. كانت الأولى في القدس الغربية، في الحي التجاري، حيث فجّر أحد الفدائيين نفسه. وكانت الثانية في عسقلان، في محطة للحافلات، مكتظة بالإسرائيليين. وقد نجم عنهما خسائر جسيمة، إذ سقط عشرات القتلى والجرحى، وأصيب الإسرائيليون عموماً، بالفزع.
(2) عملية القدس يوم (3 مارس 1996): "الأحد الحزين التالي في إسرائيل"
فَجّر فدائي فلسطيني نفسه بمتفجرات، يحملها حول جسده، داخل حافلة ركاب إسرائيلية، في وسط القدس، مما أسفر عنه مصرع 18 إسرائيلياً، وإصابة عشرة آخرين.
(3) عملية تل أبيب (4 مارس 1996): "إثنين الحزن في إسرائيل"
وقد اختير مكان هذه العملية وزمانها، لتكون أضخم من العمليات السابقة، فتزامنت مع "عيد البوريم اليهودي"، الذي يحتفل فيه اليهود خارج منازلهم، أمام أكبر مركز تجاري، "ديزنجوف"، في منطقة، يصطف فيها اليهود أمام ماكينة عملة نقود. كما خُصص لتنفيذ العملية فدائيان، نجح أحدهما في تفجير نفسه، داخل عربة "فيات أونو". بينما قتل الآخر، نتيجة الانفجار الأول، وعبواته حول جسده لم تنفجر. وقد أسفرت تلك العملـية عن مصرع حوالي 20 إسرائيلياً، وإصابة مائة آخرين بجراح. (وجدير بالذكر أن شارع الملك جورج، الذي تمت فيه العملية، كان قد شهد حادثاً مماثلاً، في أكتوبر 1994، وفي المكان عينه تقريباً).
ج. ردود فعل الانفجارات الأربعة
أدّت هذه الانفجارات، التي أسفرت عن مصرع 57 إسرائيلياً، وإصابة المئات، إلى اتخاذ إجراءات، على كافة المستويات، وردود فعل، عالمية وإقليمية، تتلخص في الآتي:
(1) ردود الفعل الإسرائيلية
اشتعل الموقف، رسمياً وشعبياً، داخل إسرائيل، وخصوصاً أن حزب العمل، كان قد بدأ حملته الانتخابية، بشعار التمسك بمسيرة السلام، في مواجهة حزب الليكود المتشدد، والأحزاب اليهودية المتطرفة الأخرى.
* على المستوى الشعبي: عمَّ الذعر جميع الأوساط الشعبية، وبات الإسرائيليون، يترقبون موعد ومكان الموت القادم ومكانه، الذي أصبح موزعاً في كل مكان . وكما أمسوا لا يصدقون ما يحدث لهم. وقد عزف الكثيرون جداً منهم عن ركوب الحافلات، أو الوقوف في تجمعات، على الرغم من انتشار الأجهزة الأمنية بصورة كثيفة، في وسائل المواصلات، وفي الشوارع، وقد أدّى ذلك إلى تكوين رأي عام مضاد للسلام مع الفلسطينيين، ومضاد لسياسة الحكومة بصفة عامة. وتراجعت الفكرة، التي كانت سائدة في الأوساط الشعبية، أن "العرب قد قبلوا السلام مع إسرائيل، من منطلق قوّتها، التي لا قبل لهم بها. ولكن ما حدث، يدل على أن قوة إسرائيل، لم تؤدِّ إلى تأمينها من الداخل". كذلك أدّت الانفجارات إلى فقْد ثقة المواطن الإسرائيلي بأجهزته الأمنية، وبالإجراءات التي تنفذها الحكومة حيالها. وأجبرت الشعب الإسرائيلي، أن يفرض على نفسه "حظر تجول ذاتياً"، إذ آثر الجميع البقاء في بيوتهم، خوفاً من تعرضهم لحوادث انفجارات. ونتيجة لكل ذلك، انخفضت نسبة مؤيدي السلام في إسرائيل، من 58%، قبل الانفجارات، إلى 45% بعدها. وكان هذا الانخفاض في غير مصلحة شيمون بيريز نفسه.
* على المستويين الحكومي والرسمي: اتجهت إجراءات حكومة العمل إلى مفترق العديد من الطرق، منها سرعة احتواء الموقف، وإيقاف العمليات "الإرهابية"، والحفاظ على مسيرة السلام، قدر الإمكان، وعدم فقْد ما سبق إنجازه، وتحسين صورة حزب العمل أمام الناخبين الإسرائيليين، خصوصاً مع ارتفاع الأصوات لتأجيل الانتخابات، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، للسيطرة على الموقف، والذي رفضه الليكود" لأنه يمنح بيريز طوق نجاة"، ولأن بيريز نفسه، لا يمكنه طلب التأجيل، إذ هو الذي كان قدم موعد الانتخابات من أجل ضمان الفوز بها، ومعنى طلبه هو انتقاص من قدرته، ويعني، أمام الجماهير، أن حزبه غير جدير بالحكم . وكانت المحصلة النهائية اتخاذ حكومة العمل العديد من الإجراءات، التي تؤدي إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه. كما نسّقت مع كل من الأردن والسلطة الفلسطينية، لاتخاذ الإجراءات المناسبة، لمنع تكرار الهجمات.
(2) العمل على احتواء الموقف، والحفاظ على مسيرة السلام
وقد عالجت الحكومة الإسرائيلية ذلك بميزان حساس. وساعدها على ذلك، أن معظـم الدول المؤثرة في المنطقة، وعلى رأسها مصر. كذلك القوى العالمية، كان لها اهتماماتها المتعلقة بما يحدث. كما كان لرفض السلطة الفلسطينية، علناً، ما قامت به منظمة حماس، أثاره الإيجابية في الموقف، ورأت أنه موجّه إلى مسيرة السلام. وأدّى ذلك إلى تشجيع إسرائيل على عدم الإقدام على أي أعمال، تؤدي إلى نسف عملية السلام.
(3) موقف واشنطن
منذ اللحظة الأولى للانفجارات، تعددت الاتصالات الدبلوماسية، بين العواصم المختلفة. وكان محور الاتصالات مركزاً في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث عبّر الرئيس بيل كلينتون Bill Clinton عن تعاطفه مع الشعب الإسرائيلي، وطالب بضبط النفس، وخصص حوالي 50 مليون دولار، في صورة معَدات تأمين ضد الانفجارات، تم إرسالها إلى إسرائيل، في 6 مارس 1996، ولحق بها فريق من الخبراء، في 8 مارس، لمعاونة إسرائيل على رسم سياسة أمنية جديدة. في الوقت عينه، كان هناك اتصال من الرئيس كلينتون مع الرئيس ياسر عرفات، "يدعم فيه ما تبذله السلطة الفلسطينية لاحتواء الموقف، بالتنسيق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي" ، في الوقت نفسه، بعث برسالتين إلى الرئيس حافظ الأسد، والعاهل الأردني، الملك حسين سبقهما اتصالات عديدة مع الرئيس محمد حسني مبارك. وكان محور التحرك الأمريكي، في ذلك الوقت، يتحدد في ثلاثة اتجاهات. هي:
- اتخاذ خطوات دبلوماسية، في منطقة الشرق الأوسط، لإدانة الهجمات على إسرائيل.
- تزويد إسرائيل بتكنولوجيا متقدمة ( وهو ما حدث، فعلاً، بتخصيص 50 مليون دولار لذلك ).
- الحفاظ، بشدة، على عملية السلام.
(4) موقف الاتحاد الأوروبي
في الوقت عينه، اتخذ الاتحاد الأوروبي، موقفاً مشابهاً للموقف الأمريكي. وقرر إرسال وفد "ترويكا"، لإقناع سورية وليبيا وإيران، بإدانة الإرهاب، وبذل المزيد من الجهد، لمنع استخدام أراضيها من جانب المتطرفين .
(5) الموقف المصري
أمّا في القاهرة ، فقد بذلت جهود ضخمة، لحث الأطراف المختلفة على ضبط النفس، وإعطاء المشورة لمنع تدهور الموقف. وقد أدّى ذلك إلى العديد من اتصالات الرئيس مبارك، مع كل من الرئيس الإسرائيلي، "عيزرا وايزمان Ezar Weizman"، ورئيس الوزراء، شيمون بيريز. كذلك اتصال وزير الخارجية المصري مع الأطراف المختلفة. وإرسال مبعوث مصري، "الدكتور أسامة الباز"، برسائل من الرئيس مبارك إلى أطراف الصراع.
|