|
أولاً: إسرائيل وأهداف العدوان
1. لماذا كانت "عناقيد الغضب"؟
رداً على قصف إسرائيل الحنوب اللبناني، وتعدد الخسائر في الأرواح، أطلق حزب الله عدداً محدوداً من صواريخ الكاتيوشا، سقطت في قلب مستوطنة كريات شمونة، وأصابت تسعة أشخاص بجراح إلى جانب إصابة سيارة، كانت تقودها سيدة إسرائيلية، أصيبت بحالة من الذعر، وتم نقلها إلى المستشفى.
وهنا يأتي التساؤل، هل قصف بعض صواريخ الكاتيوشا الفردية ، يتساوى مع حشد إسرائيل هذه القوات والأسلحة، من أجل الاعتداء على لبنان، مدناً وشعباً ومرافق؟ والإجابة لا بد أن تكون بالنفي طبعاً. إذاً، ما الدوافع الكامنة وراء هذه الحملة الكبرى؟
قد يكون أحد الدوافع هو الهجمات الانتحارية، التي وقعت، خلال شهرَي فبراير ومارس 1996، داخل إسرائيل، وأودت بتسعة وخمسين إسرائيلياً، في غضون تسعة أيام، وهو ما دفع قوات الأمن الإسرائيلية إلى مطاردة أعضاء منظمة حماس، في جميع مدن الضفة الغربية وغزة، وأمكنها القبض على عدد كبير من أفراد هذه المنظمة. وكان يمكن الاكتفاء بهذه الإجراءات، إضافة إلى إخماد مصادر النيران، التابعة لحزب الله. ولكن الذي حدث، أن سكان إسرائيل، بكافة طوائفهم، بدأوا يشعرون بالخوف والخطر، بعد حوادث الانفجار، في قلب القدس وتل أبيب وعسقلان؛ إذ طالما كان الخطر بعيداً، في ما وراء إسرائيل. ولكن عندما وصل الخطر، مهما كان حجمه ومصدره، إلى قلب الشارع الإسرائيلي، كان رد الفعل هو الذعر الزائد عن حدّه، وازدياد الضغط الشعبي على الحكومة، من أجل إيجاد حل لهذه الظاهرة.
وكان يمكِن أن تكتفي الحكومة الإسرائيلية بالإجراءات، التي قامت بها كرد فعل، من دون حاجة إلى استخدام الترسانة الضخمة من الأسلحة، وانتهاك سيادة لبنان.
ولكن تصادف، في هذا الوقت، أن الانتخابات الإسرائيلية توشك أن تجري، بعد عدة أسابيع. فاستغلت المعارضة الإسرائيلية مخاوف المواطن الإسرائيلي، وبدأت تشكك في سياسة السلام وإنجازاته، التي يفتخر بها حزب العمل الحاكم. وبدأ بنيامين نتانياهو يتحدث عن ضرورة تنفيذ الإجراءات العسكرية، التي تكفل الأمن للشعب الإسرائيلي.
كان يمكن لحزب العمل، أن يجد ثغرة واضحة، في اتجاهات الليكود، وكل المتشددين في إسرائيل، بأن يقول لهم إن هذا العنف هو الثمن الذي تدفعه إسرائيل، لعدم تحقيق السلام الشامل مع الأطراف الأخرى. وإننا ـ أي حزب العمل ـ قطعنا شوطاً كبيراً، وعلينا تكملة المسيرة حتى النهاية، تجنباً لأي عنف في المستقبل. ولكن بدلاً من أن يقول ذلك، تبنى الإجراءات الصارمة، التي وعد بها الليكود والمعارضة، كما لو كان يريد أن يقول، إننا يمكن أن نقوم بما يعدون هم بالقيام به، إذا ما تولوا السلطة. ومن ثم، جاء الرد الإسرائيلي على صواريخ الكاتيوشا، مبالغاً فيه مبالغة صارخة، أدّت إلى فشل حزب العمل وشيمون بيريز، في الانتخابات.
وقد يكون السبب وراء هذه العملية، هو الرغبة الإسرائيلية في استعراض القوة العسكرية، لترهيب الجانب السوري، والضغط عليه، من أجل إيقاف نشاط حزب الله. ولكن الخطأ العسكري، الذي ارتكبته القيادة العسكرية الإسرائيلية، في تنفيذ هذا الهدف، والذي أدى إلى مذبحة قانا، وقصف مواقع الأمم المتحدة، قلّل، إلى حدّ ما، من النتائج العسكرية التي خططتها إسرائيل.
وقد يكون السبب، كما قال يوسي بيلين، مستشار بيريز: "إن الهدف هو حزب الله. ولكن الوسيلة إلى تحقيق ذلك، هو الضغط على حكومة لبنان".
وفي ذلك، جسّد بيلين آلام حوالي مليون مواطن من سكان القرى اللبنانية، وآلام ألوف آخرين، بين هذه القرى والعاصمة بيروت، جسّدها واختزلها في عبارة: "الضغط على حكومة لبنان". ومن ثمّ، فإن تشريد الألوف، وإحداث المجازر، وقصف عربات الإسعاف، وقتل الأطفال، هي في منطق إسرائيل، نوع من الضغط، لمنع إزعاج سكان بعض المستوطنات في شمالي إسرائيل!
2. أبعاد عملية عناقيد الغضب
صحيح أن شيمون بيريز، واجه انتخابات صعبة، في مواجهة منافس قوي، هو حزب الليكود. وصحيح أن عمليات التفجير في المدن الإسرائيلية، أحدثت هزة عنيفة في حزب العمل. إلاّ أن "عناقيد الغضب"، كان لها أبعاد خفية. أحدها هو اقتناع الناخبين بقدرة حزب العمل على الاستخدام اللامحدود للآلة العسكرية الإسرائيلية، وأنه ـ أي شيمون بيريز ـ ليس أقلّ من سابقيه إراقة للدماء العربية، لضمان الحصول على ثقة الناخب الإسرائيلي. ناهيك بأبعادها تجاه الأطراف المختلفة، المهتمة بعملية السلام. وتتلخص في الآتي:
أ. بالنسبة إلى لبنان
إظهار ضعف الوجود العسكري السوري، الذي تعترف إسرائيل بسيطرته على لبنان، وبعدم قدرته على الدفاع عنه. وأن السلطات اللبنانية، لا حول لها، ولا قوة، ما دامت تسير في ركاب سورية، لأن القوة العسكرية الإسرائيلية قادرة على أن تفعل ما تريد. ولذلك، يجب على لبنان أن يوقّع، رسمياً، اتفاق سلام مع إسرائيل، أو على الأقل، يقدم ضمانات مكتوبة، تحمل في مضمونها مثل هذا الاتفاق. وبذلك، ينفصل لبنان عن سورية.
ب. بالنسبة إلى سورية
توجيه رسالة واضحة إلى دمشق والمفاوض السوري، بأن عليهما ألاّ ينسيا الدور العسكري الإسرائيلي وقدراته وتأثيره. وأن على سورية أن تفاوض، في ما يعنيها فقط، من دون لبنان، لأن إسرائيل قادرة على حسم الموقف في هذا البلد، متى تشاء.
ج. بالنسبة إلى باقي الدول العربية
انشغال الدول العربية بما يحدث في لبنان، وانصرافها إلى مساعي الحل وإيقاف إطلاق النار. ومن ثم، تنسى حصار الفلسطينيين، وتنصرف عن الاهتمام بالتعاون العسكري والتدريب المشترك، بين إسرائيل وتركيا ، وعمّا يتم تدبيره ضد كل من سورية والعراق.
د. بالنسبة إلى الفلسطينيين
إرسال رسالة واضحة إلى الفلسطينيين، بأن ما حدث في لبنان، يمكن أن يحدث في الضفة الغربية وغزة. وأن اتفاقات السلام، لن تمنع القوة العسكرية الإسرائيلية من تحقيق الأمن المطلوب، التام، والشامل، لإسرائيل. ومن ثم، فإن على السلطة الفلسطينية تنفيذ الأوامر الإسرائيلية، فوراً، ومن دون شروط.
هـ. بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية
تأكيد أن أمن إسرائيل مهدد، ولن يحميه سوى التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، ودعم الدولة العبرية بما تحتويه المخازن الأمريكية، من أحدث التكنولوجيا والأسلحة. وتأكيد أن إسرائيل قوة مهيمنة في المنطقة، ومسؤولة عن تحقيق الاستقرار فيها، وأن على واشنطن أن تعتمد عليها في تنظيم أي ترتيبات أمنية في المنطقة.
و. بالنسبة إلى إيران
توجيه رسالة واضحة إلى إيران بأنها قد تتعرض لضربة جوية، إذا حاولت، أو استمرت في محاولاتها امتلاك قدرات، نووية وصاروخية، تهدد بها إسرائيل، ولا سيما بعد أن أتاح التعاون العسكري الإسرائيلي ـ التركي، للدولة العبرية، عمقاً إقليمياً جديداً، لاستخدام قواتها الجوية.
3. الأهداف الإسرائيلية "غير المعلنة"، من عملية عناقيد الغضب
أثبتت الأحداث أن هذا العدوان، لم يكن لتأديب أو ترهيب ميليشيا المقاومة اللبنانية، التابعة لحزب الله فقط، كما ورد في المبررات الإسرائيلية. وإنما كان واضحاً أن لإسرائيل عدة أهداف أخرى، لم تعلنها. وهي:
|
أ.
|
كسر وتعطيل إرادة التعمير والبناء لدى الشعب اللبناني، ومحاولة إشعال حرب أهلية جديدة، بتقسيم الشعب اللبناني، إلى مؤيدين لنشاط المقاومة ومعارضين له.
|
|
ب.
|
إحراز نجاح أمني وعسكري، يعيد الثقة بآلتها الحربية وأجهزتها الأمنية، التي كانت قد اهتزت، بعد سلسلة العمليات الانتحارية، في قلب المدن الإسرائيلية، بوساطة حركة حماس الفلسطينية.
|
|
ج.
|
إضعاف لبنان وفاعلياته، كورقة تفاوضية، في المراحل الحاسمة من المفاوضات، التي يمكِن أن تلي مرحلة وقف إطلاق النار.
|
|
د.
|
تحقيق الهدف الإسرائيلي ـ الأمريكي المشترك، في تعزيز فرص النجاح أمام شيمون بيريز، الذي راهنت الإدارة الأمريكية على نجاحه، على أساس أنه أكثر الساسة الإسرائيليين تفهماً لأهداف السياسة الأمريكية ومخططاتها في المنطقة.
|
|
هـ.
|
ضرب بعض مشروعات البنية الأساسية اللبنانية، وعلى رأسها محطات الكهرباء، إذ إن أحد أهداف العدوان الإسرائيلي، هو إيقاف عملية بناء ما خربته الحرب الأهلية، والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان.
|
|
و.
|
سعي إسرائيل إلى القضاء على دور لبنان الاقتصادي، لعلمها أن منافسته لن تكون سهلة. وأن المهارات اللبنانية، لن تنهزم أمام الذكاء اليهودي وأن مصارف بيروت وبيوتها المالية، هي الوعاء المفضل، الذي تصب فيه فوائض المال العربي، وواشنطن لا تريد للمال العربي مقراً ولا مستقراً، سوى في مصارفها.
|
وإسرائيل تريد أن تنهزم هذه القلعة اللبنانية، الجاذبة للمال والسياح، والمسيطرة على التجارة، بتخويف أصحاب رؤوس الأموال، ومنعهم من الاقتراب من بيروت. ولهذا، تلجأ إلى سلاحها الأخير، وهو محاولة حرق الأرض اللبنانية، ودك البنية الأساسية، وإظهار لبنان بلداً غير آمن، إذ إن توافر الأمن شرط ضروري، حتى يمكن لبنان استعادة دوره.
4. هل استطاعت إسرائيل، أن تحقق أهدافها من العدوان؟
لم يتحقق الهدف، كما خططت له إسرائيل، وذلك لعدة أسباب:
|
أ.
|
إن الضربة العسكرية نفسها، لم تؤثر في البنية العسكرية للمقاومة اللبنانية، بدليل أن سقوط صواريخ الكاتيوشا على مستعمرات إسرائيل الشمالية، لم يتوقف، إلاّ مع توقف إطلاق النار.
|
|
ب.
|
إن البيئة الحاضنة للمقاومة اللبنانية، سواء على المستوى الشعبي، أو على مستوى الدولة اللبنانية نفسها، لم تصل، على الرغم من كل الضربات التي نالتها، والنزف الذي فرض عليها، إلى موقف، ترى منه تعارضاً متصاعداً بين مصالحها الأساسية وبقاء هذه المقاومة، بعدّتها ورجالها.
|
|
ج.
|
إن هذه الغزوة العسكرية، استوفت شروطاً أساسية، لم تتح لغيرها من قبْل، على المستويين الدولي والإقليمي.
فعلى المستوى الدولي: نجحت الولايات المتحدة الأمريكية، أن تعزل الغزوة العسكرية عن أي تأثير أو رد فعل دولي، من خلال استخدام وسائل الضغط في مجلس الأمن، أو التهديد باستخدام حق النقض (الفيتو)، لو اضطرت إلى ذلك، من أجل إجهاض أي قرار يدين إسرائيل، أو يؤدي إلى إحباط أهدافها.
وعلى المستوى الإقليمي: فقد أدت الأوضاع، الإقليمية والعربية، السائدة في ذلك الوقت، إلى عدم القدرة على التأثير الفعال، أو إيجاد عامل ردع ضد إسرائيل. فالجانب العربي، على سبيل المثال، لم يستطع استخدام الآليات، التي يمكن أن يؤثر بها في كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى هذا، نجحت هذه الغزوة، في ضوء الظروف السابقة، وإلى حدّ ما، في تحقيق أهدافها، سواء كانت أهدافاً سياسية أم عسكرية.
|
|
د.
|
إن اتفاق وقف إطلاق النار، الذي تم التوصل إليه، قد أكد وجود المقاومة داخل المعادلة اللبنانية، بدليل أنها كانت طرفاً أصيلاً في جميع مراحل الاتفاق، ولها حق القبول والرفض. وبدليل أن الاتفاق، لم يمنع عمل المقاومة العسكري، ضد الشريط الحدودي، الذي تحتله إسرائيل في جنوبي لبنان، والذي تصل مساحته إلى نحو (700 ـ 800 كم2).
|
بيد أن ثمة آراء أخرى، ترى أن لإسرائيل مكاسبها من هذا الاتفاق، لعدة أسباب:
|
أ.
|
إن القبول بوقف إطلاق النار، بالنسبة إلى لبنان والمقاومة اللبنانية، هو إذعان سياسي للاتفاق، إذ قضى بوقف العمل العسكري ضد المستعمرات الإسرائيلية الشمالية.
|
|
ب.
|
إن الاتفاق، لم ينص على انسحاب إسرائيل من الأرض، التي تحتلها. ولم يُشِر إلى القرار الرقم (425)، القاضي بالانسحاب.
|
|
ج.
|
إن الاتفاق، لم يتضمن أي إشارة إلى أن إسرائيل، ستدفع أيّاً من التعويضات، خاصة عن الأضرار، التي لحقت بالبنية الأساسية اللبنانية.
|
|
د.
|
إن إسرائيل، استثمرت هذا العدوان في الحصول على مكاسب أمريكية كبيرة، من خلال تطوير اتفاق التعاون الإستراتيجي الإسرائيلي ـ الأمريكي، الموقع في نوفمبر 1981، يضمن لها تحقيق التفوق العسكري الدائم على العرب .
|
ثانياً: مواقف وأدوار الأطراف المختلفة
1. موقف الولايات المتحدة الأمريكية ودورها
ثمة من يرى، أن إسرائيل استطاعت أن تستثمر نتائج قمة "صانعي السلام" التي عُقدت في شرم الشيخ، في 13 مارس 1996، في مصلحتها. إذ عمدت إلى تغيير الحقائق، وحولتها من هدف ترسيخ السلام، وحفظ الأمن المتكافئ لكل الأطراف ، إلى رخصة لممارسة القوة، وفرض الأمر الواقع، وإطلاق زمام العدوان. واستغلت إسرائيل الدعم الأمريكي لها وزيارة الرئيس الأمريكي إليها، في 14 مارس 1996، بعد القمة مباشرة، من أجل الانطلاق نحو العدوان.
ومن الواضح، أن كل الأزمات التي حدثت أو تحدث في منطقة الشرق الأوسط، وتكون إسرائيل طرفاً فيها، تتحرك الولايات المتحدة الأمريكية، بكل ثقلها، لتكون المدافع عن إسرائيل والمدعم لها، انطلاقاً من اتفاق التعاون الإسراتيجي الأمريكي ـ الإسرائيلي، الموقع بين البلدين، في 30 نوفمبر 1981، والذي تم تطويره في عام 1988، في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريجان Ronald Reagan .ثم جاء التطور الأكبر لهذا الاتفاق، في عهد الرئيس كلينتون، من خلال توقيع اتفاق تعاون إستراتيجي أمريكي ـ إسرائيلي جديد، في واشنطن، في 28 أبريل 1996، أي بُعيد توقف العدوان الإسرائيلي على لبنان. والذي يُعَدّ من أهم الاتفاقات، العسكرية والإستراتيجية، بين الطرفين.
وخلال مراحل الأزمة الإسرائيلية ـ اللبنانية (أبريل 1996)، استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية، أن تستخدم كل إمكاناتها، من أجل دعم إسرائيل والوقوف إلى جانبها، وإحباط أي قرار من مجلس الأمن يدين عدوان إسرائيل.
وتقول "نيويورك تايمز New York Times " ، في هذا الصدد: "مهما كانت الترتيبات، التي اتخذت لوقف القتال في جنوبي لبنان، فإن العملية العسكرية الإسرائيلية، حققت فشلاً دبلوماسياً" . كما أن الشواهد كلها، تؤكد أن عدوان إسرائيل على لبنان، كان وراءه ضوء أخضر أمريكي، يدعم موقفها داخل مجلس الأمن، ويرفض إدانتها؛ فالاعتراض (الفيتو) الأمريكي هو دائما صوت إسرائيل. ولم يكن هذا الموقف الأمريكي، هو الأول في تاريخ الصراع العـربي ـ الإسرائيلي. إذ سبق لواشنطن، أن اتخذته، عام 1982، حينما اجتاحت إسرائيل لبنان، بموافقة من حكومة الرئيس الأسبق ريجان. وفي كلتا المرتين، كان الجاني هو إسرائيل، والمجني عليه هما الشعبين، الفلسطيني واللبناني.
ولعل بنود المبادرة الأمريكية لوقف إطلاق النار في لبنان، قبل تعديلها واندماجها في المبادرة الفرنسية، دليل واضح على النيات الأمريكية ـ الإسرائيلية المشتركة، إذ إن البنود الستة للمبادرة، كانت تفرض شروطاً مستحيلة على لبنان وسورية، مقابل لا شيء من جانب إسرائيل، سوى أنها تضمن فقط وقف اعتداءاتها على لبنان. فكان واضحاً أن هذه المبادرة، تستهدف مطالبة اللبنانيين بقبول استمرار احتلال إسرائيل لجزء من الأراضي اللبنانية، في مقابل ألاّ يتعرضوا للعقاب والعدوان الإسرائيليين. بل إنه بعد وقف إطلاق النار، نوّه شيمون بيريز بتوقيع اتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية، لتطوير قدرات إسرائيل الهجومية.
2. الموقف الإسرائيلي
لقد وظفت الحكومة الإسرائيلية الموقفين، الدولي والإقليمي، المؤيدَين لها، بعد أحداث انفجارات فبراير ومارس 1996، وبعد قمة شرم الشيخ، في 13 مارس 1996، من أجل الحصول على مكاسب سياسية، تدعم بها حزب العمل، خلال خوضه للمعركة الانتخابية القادمة (مايو 1996). فالدعم السياسي الدولي، خاصة من الجانب الأمريكي، عَدّته حكومة حزب العمل دافعاً لها إلى خوض انتخابات ناجحة.
ولكن، كان هناك الاتجاه الآخر، وهو الاتجاه العسكري، والذي كان لا بدّ أن تخوضه بنجاح، ليكتمل بذلك عنصري النجاح. وكان الضغط، من الشعب الإسرائيلي وتكتل الليكود، دافعاً لها إلى إثبات قدراتها على استخدام العامل العسكري ضد العرب. ولم يكن أمامها سوى الجبهة اللبنانة المشتعلة، التي يمكن أن تحقق، من خلالها، هذا الهدف، بل تضمن نجاحه، بمساندة سياسية أمريكية. ومن ثم، تحركت من أجل تنفيذ أهدافها، عسكرياً، بتصعيد القتال في جنوبي لبنان.
والواقع أن إسرائيل، حينما حركت آلتها العسكرية لتنفيذ هذا الهدف، فإنها، وطبقاً لِما عبّرت عنه "النيويورك تايمز" ، قد تخلت، كلية، عن أهدافها، التي انتخبها الشعب الإسرائيلي على أساسها، في يونيه 1992، والتي تتمثل في إنجاح مسارات عملية السلام، وتطبيق مبدأ الأرض مقابل السلام، الذي وافقت عليه في مؤتمر مدريد، أكتوبر 1991. وبذلك تكون العجلة الإسرائيلية قد عادت إلى مفاهيمها السابقة، الداعية إلى العدوان والتمسك بالأرض.
3. موقف فرنسا ودورها
الدور الذي اضطلعت به فرنسا، في التوصل إلى الاتفاق المكتوب لوقف إطلاق النار، بين إسرائيل ولبنان، قام به دي شاريت، وزير الخارجية الفرنسي، في هدوء وإصرار، الذي استطاع، بحنكة شديدة، إعادة الأمور إلى نصابها، ومنع التعصب الأمريكي لإسرائيل من استمرار سفك الدماء، من ناحية، ومن فرض اتفاق ظالم، يُضيع حق اللبنانيين في المقاومة والدفاع عن أنفسهم، من ناحية أخرى.
ويزيد من أهمية هذا الدور، أن فرنسا قامت به منفردة، من دون دعم أوروبي حقيقي. فقد وقفت دول الاتحاد الأوروبي موقفاً غير واضح من العدوان، بل إن بعضها بادرت إلى إصدار تصريحات تأييد أعمى لإسرائيل، مثل بريطانيا. ولم تخفِ واشنطن ضيقها بالجهود التي بذلتها باريس، فشنّت الصحف الأمريكية حملة انتقادات على فرنسا وروسيا وإيران، لأنها أقحمت نفسها في ما لا شأن لها به، كما قالت "واشنطن بوست Washington Post " .
ويتضح هذا الدور من خلال قيام فرنسا بتقديم مبادرة، تختلف عن المقترحات، التي جاء بها وارن كريستوفر، وزير الخارجية الأمريكي. وكان لوساطة فرنسا بمقترحات، بدت أكثر إنصافاً وتوازناً، وبقاء وزير خارجيتها في المنطقة، على مقربة من سير المفاوضات، حتى نهايتها، كان لهما أثر كبير في الأخذ بمعظم بنود المبادرة الفرنسية.
واضطرت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، في ضوء الضغط العالمي، بعد مذبحة قانا، إلى قبول معظم المقترحات، التي سبق أن عرضتها فرنسا على جميع الأطراف، ورفضها بيريز، بصلف، قائلاً: "إنه لن يقبل غير الوساطة الأمريكية" . بل إن الدبلوماسية الفرنسية، استطاعت أن توظف الدور الإيراني، بذكاء شديد، واستفادت من ظهور وزير خارجية إيران على مسرح الأحداث، في دمشق، مشاركاً في الاتصالات والوساطات والمقترحات. ولا ريب أن الدور الإيراني كان أكثر إيجابية وتأثيراً من أدوار عربية كثيرة، وقفت موقف المشاهد من عربدة إسرائيل، في المنطقة، من دون رادع.
ومن الواضح، أن سياسة فرنسا، في عهد شيراك، قد اجتازت أول امتحان لها، باتخاذ موقف قوي، ومنصف، إزاء هذه الأزمة، وهو ما يؤكد أهمية علاقات العرب بفرنسا وأوروبا.
4. الموقف الإيراني
لا بد من الاعتراف بأن أهداف إيران، قد نجحت، مرحلياً. وكان ظهور وزير خارجية إيران، في دمشق وبيروت، إعلاناً لهذا النجاح. بل إن وزير الخارجية الفرنسي، رأى أن اجتماعه مع وزير خارجية إيران، كان مهماً من أجل دعم سعيه إلى ضمان عدم قيام حزب الله بقصف مستوطنات إسرائيل الشمالية. وهكذا بدأ يبرز على الساحة الدور الإيراني، من خلف قوة ميليشيا حزب الله، والتي اعترف العالم أجمع بأنها بدأت تأخذ دورها على الساحة اللبنانية، في المواجهة العسكرية ضد إسرائيل.
وبمعنى آخر، أصبح لإيران دور رئيسي في تحريك العمل العسكري ضد إسرائيل، من خلال تصعيد هذا العمل على الساحة اللبنانية، ضد القوات الإسرائيلية المحتلة.
5. الموقف العربي
كان الموقف العربي ضعيفاً، خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان. وقد نمّ على ذلك:
|
أ.
|
تنادى العرب إلى عقد اجتماع لوزراء الخارجية، في مقر الجامعة العربية، فجاء نصفهم وغاب النصف الآخر. ومن جاءوا، تناقشوا، فاختلفوا، فأصدروا بياناً، يشجب ويدين، لا أكثر.
|
|
ب.
|
دعا الدكتور عصمت عبدالمجيد، الأمين العام للجامعة العربية، إلى سرعة عقد قمة عربية، ولو مصغرة، لمواجهة العدوان الإسرائيلي على لبنان. فذهبت دعوته أدراج الرياح؛ لأن أحداً لا يهتم، أو لأن البعض مشغول بأمور، تصرفه عن الأزمة اللبنانية.
|
|
ج.
|
تسابقت الإذاعات العربية إلى بث بيانات الشجب والإدانة.
|
|
د.
|
بينما كانت الغارات الإسرائيلية تدمر لبنان، كان المجلس الوطني الفلسطيني، يجتمع في غزة، ليقرر تعديل الميثاق الوطني، بأغلبية 504 أصوات ضد معارضة 54 صوتاً فقط، لإسقاط المواد التي تريد إسرائيل إلغاءها. وهو القرار الذي وصفه بيريز بأنه "أخطر تحول إيديولوجي في القرن العشرين".
|
6. الموقف المصري
رفضت مصر العدوان الإسرائيلي على لبنان. وأكدت أن فيه خطراً على السلام في المنطقة، وأن الحرب لا طائل فيها، وأنها قتل للأرواح، وتخريب للممتلكات، وتأخير لفرص التقدم، ليس إلا.
وقالت مصر، في بيان صادر عن الخارجية المصرية : "من المؤسف، أن عقلية القتل والدمار والتخريب، لا تزال قائمة على الجانب الإسرائيلي. وهي عقلية لا ترى أن هناك ما هو أثمن من الاحتلال، وإنزال الدمار بالبشر وممتلكاتهم". وأضاف البيان: "أن العالم، أصبح ينادي بالسلام، ويؤكد المبادئ الضرورية لقيامه. ولكن يبدو أن إسرائيل لا تسمع، ولا ترى، ولا تدرك أهم هذه المبادئ، التي يقوم عليها السلام، وهو إنهاء الاحتلال، لإعطاء الآخرين فرصة للتفكير في العيش معها، في سلام وتعاون".
وخلال زيارة وفد من مجلس الشعب المصري إلى لبنان، عبّر، رئيس المجلس، عن مساندة مصر للشعب اللبناني على تحرير أرضه. كما أكد أن هذا الاعتداء، لم يكن على لبنان وشعبه فقط، وإنما على الأمم المتحدة بمبادئها. ولكن ما ارتكبته إسرائيل من تدمير لن يؤثر في عزم اللبنانيين. واستطرد قائلاً: "إن راية السلام، لا بدّ أن ترتفع بالسلام، لا بالقتل والتدمير، وإن الذين يريدون السلام، يجب ألاّ يعتدوا على الشعوب المسالمة" .
وفي اجتماعات الدورة الثانية والخمسين للجنة حقوق الإنسان، التي عقدت في مركز الأمم المتحدة، في جنيف، في 19 أبريل 1996، حذرت مصر، في بيانها، من خطر التمادي في العدوان الوحشي على لبنان، بما يهدد بتقويض عملية السلام برمّتها، في منطقة الشرق الأوسط. وأكدت مصر ضرورة الوقف الفوري للهجمات البربرية الإسرائيلية على لبنان، وتنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 425.
|