ثالثاً: الموقف على الجبهة اللبنانية، بعد توقف القتال
1. الموقف الإسرائيلي
الواقع، أن وقف إطلاق النار في لبنان، فجر يوم 27 أبريل 1996، لم يكن ليمثّل ضماناً لعودة الأمن والاستقرار في شمالي إسرائيل. بل إن هذا الاتفاق الهش، لم يكن ليثني إسرائيل عن معاودة العمل، من أجل تحقيق الأهداف نفسها، التي فشلت حملة "عناقيد الغضب" في تحقيقها. وربما كانت تصريحات المسؤولين العسكريين الإسرائيليين، بعد وقف إطلاق النار، هي خير دليل على ذلك. إذ قال إيهود باراك، وزير الخارجية الإسرائيلي، ورئيس الأركان السابق : "إن اتفاق وقف إطلاق النار، ليس إلا حلاً مؤقتاً". أما الجنرال أوري لوبراني، المسؤول عن الأنشطة الإسرائيلية في لبنان، فقد قال : "إنه يتعين على الإسرائيليين أن يدركوا جيداً، أن هذا الاتفاق، لا يمكن أن يضمن وقفاً لعمليات إطلاق الكاتيوشا، ومن ثم، فإن حرية الرد الإسرائيلي، لم تزل طليقة وغير مقيدة".
وفي الثلاثين من أبريل 1996، وبعد عدة أيام من توقيع الاتفاق، أعلنت مصادر عسكرية إسرائيلية، أن موقعين لميليشيا جيش لبنان الجنوبي، الموالية لإسرائيل، قد تعرضا لقذائف هاون، تم إطلاقها من مواقع حزب الله. وأضافت المصادر، أن القذائف، استهدفت موقعين في القطاع الشرقي من المنطقة المحتلة. وأكّدت أن القوات الإسرائيلية، قامت بالرد الفوري، بقصف المواقع التي أطلقت النيران. وقالت إن بنود الاتفاق، لا تقيد إسرائيل في الدفاع وتأمين قواتها . كما استمرت إسرائيل، منذ أوائل مايو، في قصفها للمناطق الحدودية، المحاذية للشريط الحدودي المحتل.
2. الموقف اللبناني (الحكومة اللبنانية ـ حزب الله)
هدد حزب الله بالانتقام لمقتل المدنيين اللبنانيين، الذين استشهدوا من جراء القصف الإسرائيلي لقرية قانا. وقال الشيخ حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، في تصريحات، إلى جريدة " إندبندنت أُنْ صندايIndependent on Sunday " البريطانية، في عددها الصادر في 30 أبريل 1996، إن حزبه، سيثأر من القوات الإسرائيلية، لأنها المسؤولة عن مقتل المواطنين اللبنانيين، في قانا. كما أكد التزام حزب الله بشروط اتفاق وقف إطلاق النار. ولكنه في الوقت نفسه، أشار إلى أن هذه الشروط، لا تمنع حزب الله من مهاجمة القوات الإسرائيلية، التي تحتل الجنوب اللبناني، وأنه لا يوجد نص، يمنع القتال أو المقاومة لتحرير الأرض. وأضاف أنه لا يتوقع استمرار الهدنة وضمان سلامة المدنيين.
واتّهم نصر الله الرئيس الأمريكي، كلينتون، بأنه قرر، شخصياً، أن تشن إسرائيل هجومها على جنوبي لبنان. وقال: إن حزب الله، هزم إسرائيل في القتال، لأنه لم يفقد سوى 14 مقاتلاً، في حين فشلت إسرائيل في تحقيق هدفها، بسحق الحزب .
ومن جهة أخرى، أكّد الرئيس اللبناني، إلياس الهراوي، في كلمة ألقاها أمام وفد من الصحفيين العرب، في بيروت، في العاشر من مايو 1996: "أن بلاده لن تهرول إلى السلام، على حساب حقوقها وكرامتها". وطالب بأن تتوقف إسرائيل عن اختبار أسلحتها المدمرة في لبنان، والامتناع عن ارتكاب جرائم جديدة، على غرار مذبحة قانا .
3. استمرار الاشتبكات، بعد توقيع الاتفاق
من الواضح، أن هذا الاتفاق، الذي وقِّع في 26 أبريل 1996، ونفذ فجر 27 أبريل، لم يوقف أيّاً من هجمات حزب الله على المواقع الإسرائيلية، أو القصف الإسرائيلي للجنوب اللبناني. والدليل على ذلك، أن الاشتباكات بدأت، مرة أخرى، بين حزب الله والقوات الإسرائيلية، بعد أيام قليلة. وعلى سبيل المثال: في الثاني عشر من مايو 1996، كمنت مجموعة من ميليشيا حزب الله لدورية إسرائيلية، في القطاع الأوسط من الجنوب اللبناني المحتل، "حيث تمكنت من تدمير عربة جيب عسكرية، وقتل وإصابة ضابط و6 جنود، كانوا في داخلها. كما تمكنت من إصابة إحدى الدبابات" .
وأعلنت الشرطة اللبنانية : "أن المدفعية الإسرائيلية، قامت بالرد، من الفور، فقصفت المناطق المواجهة لموقع الهجوم، مستهدفة مرتفعات إقليم التفاح، أحد معاقل حزب الله في الجنوب اللبناني". كما أوضحت الشرطة، أن طائرتين حربيتين إسرائيليتين، أغارتا على مرتفعات إقليم التفاح. وقالت وكالة "رويتر": إن الطائرتين حلقتا في أجواء بيروت، لمدة 10 دقائق .
أمّا الجيش الإسرائيلي، فقد أعلن في بيان له : "أن المقاتلات الإسرائيلية، قامت بقصف أهداف في شرقي القطاع الأوسط من الجنوب اللبناني، وأصابت أهدافها". كما صرح المتحدث باسم الحكومة قائلاً : "يبدو أن حزب الله مصمم على الاستمرار في تعطيل ما تحقق من إنجاز السلام، بعد جهود مضنية من جانب واشنطن وباريس وأطراف أخرى، للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار". وأكّد حق إسرائيل وواجبها في الدفاع عن قواتها، مشيرا إلى أن الإسرائيليين، سيواصلون تعقب عناصر الحزب، بما لا يعطل الاتفاق.
وفي باريس، أشار بيان للخارجية الفرنسية، إلى أن الحادث يكشف مدى هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار، ويعكس ضرورة الإسراع في تشكيل اللجنة الدولية، المكلفة بمراقبة وقف إطلاق النار بين الجانبين.
4. بدء عمل اللجنة الخماسية، لمراقبة وقف إطلاق النار
في العاشر من مايو 1996، بدأ أول اجتماعات لجنة المراقبة الخماسية للحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية. وعقد الاجتماع في واشنطن، برئاسة دينيس روس، مساعد وزير الخارجية الأمريكي، وشارك في الاجتماع سفراء فرنسا ولبنان وسورية وإسرائيل، المعتمدون لدى واشنطن.
وأعلن متحدث باسم الخارجية الأمريكية، أن هذا الاجتماع، يستهدف بحث تفاصيل تشكيل اللجنة ( من خبراء عسكريين ومدنيين )، وكيفية سير العمل فيها، لتحقيق الهدف منها، وهو الإشراف على تنفيذ وقف إطلاق النار، وتلقّي أي شكاوى من الطرفين، لتلافي أي أحداث، قد تنتج من خرق اتفاق وقف إطلاق النار، الذي توصل إليه وزير الخارجية الأمريكية، وارن كريستوفر، مع الأطراف المعنية، في السادس والعشرين من أبريل 1996. غير أن هذا الاجتماع، لم يسفر عن تفاصيل محددة .
رابعاً: تقرير الأمم المتحدة حول مذبحة قانا، وردود الفعل المختلفة
1. الوثائق الصادرة عن جهات دولية وتدين إسرائيل
هناك ثلاث وثائق، صادرة من جهات دولية مختلفة، تدين إسرائيل في مذبحة قانا. وهي:
الوثيقة الأولى: التقرير الدولي، الصادر عن الأمم المتحدة، والذي أكد تعمّد إسرائيل قصف معسكر قانا.
الوثيقة الثانية: فيلم فيديو، صوّره أحد أفراد الأمم المتحدة، وكشف، من خلاله، تعمد إسرائيل ضرب المدنيين، داخل المعسكر.
الوثيقة الثالثة: شهادة أمريكية، تصف سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، بأنها فقدت توازنها.
أ. الوثيقة الأولى: التقرير الدولي الصادر عن الأمم المتحدة
يتكون التقرير من عشر صفحات، أعدّه الميجور جنرال فرانك فان كابن، المستشار العسكري للأمم المتحدة، بالتعاون مع فريق من معاونيه، بتكليف من أمينها العام، بطرس غالي. وقد حرص فريق العمل على أن يلتقي جميع الأطراف، من قوات الأمم المتحدة والعسكريين اللبنانيين والإسرائيليين، مما يعكس حجم الجهد الأمين، الذي بذل في إعداده.
وبعد أن أجرى مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، الجنرال فرانك فان كابن، تحقيقات واسعة مع جميع الأطراف في لبنان، وكذا المسؤولين الإسرائيليين، ضمّن تقريره ما يلي:
- إن هذا العمل يُعدّ من أخطر الأعمال، التي تعرّض لها أحد مراكز الأمم المتحدة، الذي كان يأوي لاجئين مدنيين أبرياء، معظمهم من النساء والشيوخ والأطفال.
- تحديد عدد القذائف والصواريخ، التي أطلقتها القوات الإسرائيلية على مقر الأمم المتحدة، في قانا.
- أقوال شهود عيان، شاهدوا العديد من الطائرات الإسرائيلية، تجوب سماء المنطقة قبل بدء القصف وبعده، وأن طائرتين عموديتين، كانتا تحلقان على بعد كيلومترين من مقر الأمم المتحدة، أثناء القصف.
- أن القصف، تعمد إصابة عدداً من النقاط المهمة داخل مقر قوات الأمم المتحدة. وأن التحقيقات، أثبتت أن الاعتداء، كان متعمداً، ولا يحتمل فيه الخطأ، الفني أو الإجرائي
.
وقال بطرس غالي، في رسالة، أرفقت بالتقرير: لقد أصدرت توجيهاتي إلى أعضاء بعثة الأمم المتحدة العاملة في لبنان، أن تتعاون مع السلطات اللبنانية، والقوات المسلحة اللبنانية، من أجل جعل منطقة مقر قوات الأمم المتحدة، بعيدة عن أي أعمال عدوانية. وأضاف أنه أصدر توجيهاته أيضاً بإجراء جميع الاتصالات اللازمة مع الحكومة الإسرائيلية، لضمان عدم تعرض أي مواقع للأمم المتحدة للهجوم عليها، من جانب القوات الإسرائيلية.
وقد خلص التقرير إلى ست نتائج، تؤكد تعمّد إسرائيل قصف المعسكر بصورة بربرية، وتتلخص في الآتي:
- يتبين من توزيع مواضع سقوط القذائف في قانا، أن هناك منطقتين متميزتين للتركيز، تبعد إحداهما عن الأخرى حوالي 140 متراً. ولو كانت المدافع مصوبة على أساس تجميع النيران في منطقة واحدة، كما قالت القوات الإسرائيلية، لكان هناك نقطة رئيسية واحدة فقط لسقوط القذائف.
- نمط مواضع سقوط القذائف، لا يتفق مع تجاوز الضرب العادي للهدف المعلن، وهو القصف بطلقات فردية قليلة، كما ذكرت القوات الإسرائيلية. ولكن القصف نفذ بأسلوب حشد النيران
.
- تغير ملموس في تركيز النيران، أثناء عملية القصف، من طلقات فردية على أحد مواقع الهاون لحزب الله، إلى تركيز نيران المدفعية الإسرائيلية في معسكر الأمم المتحدة.
- توزيع مواضع سقوط القذائف، التي تنفجر عند الاصطدام، والانفجارات التي حدثت في الجو، يجعل من غير المحتمل حدوث استخدام عشوائي للقذائف، التي تنفجر فور اصطدامها بالهدف، والقذائف الأخرى التي تنفجر، جواً، فوق الهدف. وهو ما يخالف ما ذكرته القوات الإسرائيلية.
- لم يكن هناك اشتباكات، أو قصف لمنطقة أخرى، زعمت إسرائيل أنها كانت الهدف الرئيسي لهذا القصف. وإنما كان التركيز في معسكر القوات الدولية.
- وعلى النقيض من الإنكار المتكرر، كانت طائرتان عموديتان إسرائيليتان، وطائرة موجهة عن بعد، تحلّق في منطقة قانا، عند القصف، يحتمل أنها كانت تدير النيران. وعلى الرغم من عدم إمكان استبعاد هذا الاحتمال استبعاداً تاماً، فإنه من غير المحتمل، أن يكون قصف معسكر الأمم المتحدة، نتيجة أخطاء، تقنية أو إجرائية جسيمة.
ب. الوثيقة الثانية
فيلم فيديو، صوّره أحد جنود قوات حفظ السلام، التابعة للأمم المتحدة في لبنان، لكي يقدم شهادة أخرى على أن إسرائيل كانت تعرف تماماً، أنها تقصف المعسكر الدولي، مما يخلع عليها صفة التعمد، ويدحض ما زعمته، أن هذا القصف جاء نتيجة خطأ في خرائطها العسكرية. وقد فضحت جريدة "الإندبندنت" البريطانية إسرائيل، بمجموعة من الصور، التي ضمها الفيلم. ومن بينها صور القصف الإسرائيلي، لمعسكر القوات في قانا، وأحد جنود قوات السلام النرويجية، وهو يراقب هذا القصف. وصورة ثانية لجندي آخر، وهو يتابع طائرة استطلاع إسرائيلية من دون طيار، فوق قانا. وثالثة لطائرة، تحلّق فوق قانا، وتتساقط قذائفها فوق المعسكر. وصورة رابعة لقاعة اجتماعات الأمم المتحدة، وقد تم تدميرها، واحترق في داخلها 40 لبنانياً، وهم أحياء. أمّا الصورة الخامسة، فهي لجندي من قوات الأمم المتحدة، وهو ينقل جريحاً لبنانياً إلى عربة الإسعاف. ثم مجموعة صور تضم أحد طياري قوات الأمم المتحدة، وهو يحاول إبعاد 3 جرحى لبنانيين، بينهم طفلان، عن ممر الطائرات، الذي غصّ بالجرحى، وقد وضح مع الصورة الصوت أيضاً للطائرات، وهي تقصف الموقع. كل ذلك، يكذب ادعاءات إسرائيل، أن ما حدث كان سببه خطأ في الخرائط العسكرية .
وذكرت جريدة "الإندبندنت" البريطانية، أن إسرائيل، كانت قد أبلغت الأمم المتحدة، أنها لم تستخدم طائرات الاستطلاع، من دون طيار، قبل القصف أو أثناؤه. إلا أنه بعد ظهور الطائرة الاستطلاعية في شريط الفيديو، عادت إسرائيل لتغيّر رأيها، معترفة بتحليق طائرة الاستطلاع. كما أشارت الجريدة إلى أن شريط الفيديو، يظهر هذه الطائرة، وهي تحلّق فوق قانا، أثناء سقوط القذائف على كتيبة فيجي، وهو ما جعل إسرائيل، تنقض كلامها السابق.
كما طالبت الجريدة الأمم المتحدة، بالكشف عن نتائج التحقيق، الذي أجراه خبراء المنظمة الدولية، الذي شارك في صياغته ضباط ودبلوماسيون من النرويج وأيرلندا ونيبال وفرنسا وبولندا وفيجي وبريطانيا.
وزعمت إسرائيل، أن تلك الطائرة الاستطلاعية، كانت في مهمة أخرى، وأنها عندما صورت قانا، لم يكن فيها مدنيون. ورد مسؤولو الأمم المتحدة، على هذه المزاعم، قائلين إن قاعدة الأمم المتحدة، موجودة في قانا، منذ 18 عاماً، وإن لدى إسرائيل صوراً لكل قرية في الجنوب اللبناني.
ج. الوثيقة الثالثة
وهو تحليل إخباري، نشره كل من جريدة "نيويورك تايمز" وجريدة " الهيرالد تربيون Herald Tribune " ، تحت عنوان: "سياسة أمريكا تجاه الشرق الأوسط، تفقد توازنها"، كتبه الكاتب الأمريكي، ستيفن إيرلانج، جاء فيه : "بعد شهر من بداية الأحداث المأساوية، التي وضع كلينتون، خلالها، الولايات المتحدة الأمريكية، بكل ثقلها، وراء إسرائيل، ووراء المطامع الانتخابية لحزب واحد، بدأ القلق يتزايد لدى المتخصصين بشؤون الشرق الأوسط، من أن أمريكا، عدلت عن ترك المسافة الحساسة، التي تبعدها عن إسرائيل. ونتيجة لذلك، دمرت قدرتها على القيام بدور الوسيط المحايد، بين الإسرائيليين والعرب".
ويقول الكاتب، في موضع آخر: "إن الولايات المتحدة الأمريكية، ما زالت اللاعب صاحب النفوذ القوي. ولكن رفْضها توجيه النقد إلى إسرائيل، لإحكام إغلاقها الضفة الغربية وغزة، ونشاطها العسكري في جنوبي لبنان، تسبب بأن تفقد واشنطن توازنها الأدبي، وبالإساءة إلى تعاملها مع سورية، ونثر بذور جديدة للغضب الشعبي، بين الشباب والدول، أصدقاء أمريكا المعتدلين، الذين فعلوا كل ما في وسعهم من أجل السلام!!".
|