|
2. مفاجأة إسرائيل بالانتفاضة
كانت الانتفاضة، بهذا العمق والاتساع المكاني والاستمرار الزماني، مفاجأة لإسرائيل، لا في المجال التكتيكي، أو المجالات الهامشية، بل "إن الفلسطينيين فاجأوا إسرائيل بفتحهم جبهة جديدة ضدها، جبهة ثالثة، بعد أن كانت إسرائيل تدرك أن عليها أن تواجه جبهتين: جبهة الحرب النظامية لجيوش مقاتلة، وجبهة الإرهاب "العمليات الفدائية"، وعن طريق الانتفاضة، فتح الفلسطينيون في المناطق المحتلة جبهة جديدة "عنف مدني شعبي"، ولم يكن الجيش الإسرائيلي على استعداد لذلك، لا بالنسبة إلى تنظيمه وانتشاره وأساليب عمله فحسب، بل لم تكن لديه التجهيزات الملائمة لمواجهة هذه الجبهة أيضاً، وقد انكشفت إسرائيل بضعفها، بغتة، في الخارج، ولسكانها على حد سواء".
وصحيح أن الحكم العسكري الإسرائيلي خبر، من قِبل، موجات من "الإخلال بالنظام"، يقوم بها التلاميذ والشباب، ولكن المفاجأة كانت في شمول جميع الفئات من السكان: شباباً وشيباً نساء وأولاداً وشيوخاً، قرويين ومدنيين، متدينين وعلمانيين، فالفئات الإسلامية.. أصبحت الآن الرائدة والموجهة للانتفاضة في قطاع غزة.. ".
ويرى بعض الإسرائيليين، أن "المفاجأة التي أصيبت بها إسرائيل من اندلاع الانتفاضة، كانت أعنف من مفاجأتها بحرب أكتوبر.. فإسرائيل لم تستطع عام 1987 ملاحظة ما يجري "داخل بيتها" وفي غرفة نومها، وفشلت زعامتها واستخباراتها في فهم التطور المستمر، الذي كان يجري في المجتمع الفلسطيني". ويناقش زئيف شيف، مؤلف كتاب "انتفاضة"، وزير الدفاع في ذلك الحين، إسحاق رابين، الذي كان يمتعض من مقارنة أحداث الانتفاضة بمفاجأة حرب أكتوبر، التي قُتل فيها ثلاثة آلاف إسرائيلي، فيقول في الرد عليه: "ليس كل فشل يقاس بعدد القتلى"، فقد انكسرت هيبة الجيش الإسرائيلي، وأصبح آلاف الشباب والأطفال يتحدونه، ويوجهون إليه الإهانات.
وسواء فوجئت إسرائيل أو لم تفاجأ، فإن الحقيقة الناصعة أن الجماهير الفلسطينية التي هبت في وجه الحكم الإسرائيلي قد ضاقت ذرعاً بالاحتلال، وأرادت أن تختط طريقاً جديداً واسعاً للاشتباك معه في الداخل، بعد أن لحق الضمور العمليات الخارجية، أو عبر الحدود. وانطلقت الانتفاضة وامتدت عبر المكان، من المخيمات إلى المدن والقرى، ومن القطاع إلى الضفة، وعمّت كل فئات المجتمع الفلسطيني، وكل تنظيماته. فلم تبق قرية ولا مخيم ولا حي، في طول البلاد وعرضها، لم تشارك في الانتفاضة، أو لم تقدم الشهداء والجرحى والمعتقلين. وامتدت عبر الزمان، فلم تتوقف بعد أسبوع أو شهر، أو سنة. وكان بعض الشباب المشاركين في الانتفاضة، يأملون ـ في أيامها الأولى ـ أن تستمر أكثر من ستة أشهر، لتكون أطول من الإضراب المشهور، الذي شهدته فلسطين عام 1936، وامتد ستة أشهر. وحسب رأي زئيف شيف، في كتابه "انتفاضة"، فقد قدر زعماء منظمة التحرير في نهاية شهر يناير 1988، أن اندفاع الانتفاضة آخذ في التراجع. محمود عباس "أبو مازن"، المسؤول عن الشؤون الإسرائيلية، تنبأ علانية بأن الانتفاضة ستستمر ما بين شهرين وثلاثة أشهر، وتتوقف، ثم تعود مرة ثانية للاندلاع من جديد، بعد مضي سنة أو سنتين. ولم يكن أبو مازن يعرف أن معظم الخبراء الإسرائيليين، كانوا يعتقدون مثله".
ولكن خاب ظن هؤلاء الخبراء وتقديراتهم، وتجاوزت الانتفاضة توقعات أبي مازن. فقد استمرت، من غير توقف سنتين. وما وصلت إلى نهاية شهرها الرابع، حتى كان عدد الشهداء قد تجاوز 227 شهيداً وحُرق وحُطم حوالي 370 سيارة وآلية إسرائيلية. (انظر الجداول الأرقام 3، 4، 5، 6، 7، 8 التي توضح الإحصائيات لدى الجانبين). (كتاب الانتفاضة لغسان دوغر).
وتواصلت الانتفاضة بعد ذلك، تخف حيناً لتشتد آخر، وقد تهدأ في مكان لتنشط في آخر. وقد يلتقط المجاهدون أنفاسهم، ليأخذوا فترة راحة يطورون فيها أساليبهم ووسائلهم. لذلك مرت الانتفاضة في ثلاث مراحل متداخلة، ولكن يغلب على كل مرحلة فيها اتجاه معين، أو أسلوب محدد، وقد تطول كل مرحلة أو تقصر، من غير تقيد بزمن محدد، وهو أمر ما لا يمكن تخطيطه وتنفيذه، حسب دراسة وتخطيط، لإحداث ثورة شعبية، تتوزع على عشرات المدن والمخيمات ومئات القرى، مع تعدد المنظمات، التي تشارك فيها. وهذه المراحل هي:
1. المرحلة الأولى:
هي مرحلة المواجهة الجماهيرية الشّاملة، حيث الإضرابات العامة، والتظاهرات العارمة المنظمة، والاشتباك مع جنود الاحتلال، برجمهم بالحجارة، وقذفهم بالزّجاجات الحارقة، وزرع المسامير في طريق سياراتهم، وخرق منع التِّجول. وفيها أيضاً تمت تعبئة المجتمع الفلسطيني كله، للقيام بهذا المجهود. وقد تميزت هذه المرحلة ببعض التدابير، الهادفة إلى إلحاق الخسائر الاقتصادية بالاحتلال الإسرائيلي. فقد أعلن الشّعب الفلسطيني مقاطعة انتقائية للسلع الإسرائيلية، التي يوجد لها بدائل محلية، اعتباراً من مايو 1988. كما حض قادة الانتفاضة المواطنين على عدم دفع الضرائب للاحتلال، ودعوا التجار إلى خفض مشترياتهم من السوق الإسرائيلية. ثم امتدت المقاطعة إلى جهاز الحكم والإدارة المدنية والبلديات والمجالس، التي يديرها إسرائيليون.
2. المرحلة الثانية:
كانت هذه المرحلة مرحلة المواجهة الجماهيرية، مع تنامي التكتيكات الموازية، هي من جانب الكوادر التنظيمية للفصائل الفلسطينية العاملة في الانتفاضة. وركزت على ضرورة الاعتماد على الذات، وبناء المؤسسات الوطنية، حيث تزامنت الدعوة إلى مقاطعة الإدارة المدنية، واستقالة الموظفين الفلسطينيين في دوائر الاحتلال، مع مضاعفة المساعي لتطوير أساليب جديدة لملء الفراغ المؤسساتي، الذي سينتج عن ذلك، في إدارة الشؤون المدنية للشعب الفلسطيني.
3. المرحلة الثالثة:
اتسمت هذه المرحلة بتراجع النشاطات الجماهيرية، وتنامي العمليات المسلحة من قبل التنظيمات الفلسطينية، حيث بدأ هذا النوع من المواجهة بالتصاعد المنظم، منذ أوائل عام 1992، في ظل التراجع الجماهيري مع فعاليات الانتفاضة، بعد انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، بحضور ممثلين فلسطينيين، وموافقة منظمة التحرير، ودول المواجهة العربية.
وقد بدأ هذا التراجع منذ أوائل عام 1991، بسبب انشغال العرب بحرب الكويت وكثرة الأعمال الوحشية في قمع الانتفاضة، واعتقال الآلاف من العناصر النشيطة في الانتفاضة. ولكن العمليات النوعية التي كانت تنفذ بين حين وآخر، ظلت تحرك الجمكاهير، وتبقى جذوة الانتفاضة متوهجة. فقد شهدت هذه المرحلة عمليات متطورة، هزّت الكيان الإسرائيلي هزاً عنيفاً، وشغلت النظام الدولي. وعاشت الضّفة والقطاع، أجواء حرب حقيقية في أعقاب سلسة العمليات، التي نفذتها حماس في الذكرى الخامسة لانطلاق الانتفاضة. واتخذت إسرائيل قرارات بإبعاد جماعي للمسؤولين في حركة حماس. فغادرت الأراضي المحتلة في 17 ديسمبر 1992 ثماني حافلات، تقل 415 معتقلاً من حماس والجهاد الإسلامي، متجهة إلى لبنان. وألقت بهم عبر الحدود، في مكن نال شهرة بعد ذلك، هو "مرج الزهور"، حيث أصر المبعدون على البقاء فيه، قريباً من الحدود. ودخلت قضية إبعادهم المحافل الدولية، وناقشها مجلس الأمن الدولي، واستعملت أمريكا حق النقض "الفيتو"، بعد أن أعلنت إسرائيل أنها توافق على إعادتهم بعد سنة.
وقد أثر هذا الإبعاد على الأحداث، خلافاً لما توقعت إسرائيل وخططت له. فقد كان إبعادهم مدعاة إلى تصاعد العمليات الاستشهادية، والمواجهات المسلحة، التي نفّذها المجاهدون من كتائب القسّام والجهاد الإسلامي.
وكانت التضحيات، التي قدمتها الجماهير المنتفضة، كبيرة. وظلت الانتفاضة في الاستمرار، وتقديم الشهداء والجرحى والمعتقلين. حتى وصل عدد الشهداء نهاية يونيه 1994 نحواً من 1392 شهيداً، منهم 353 طفلاً. وإذا كان عدد الشهداء قد قل في النصف الثاني من عمر الانتفاضة، فقد بقى شلال الدم متدفقاً. (ويوضح الجدولان 9، 10 موقف شهداء الانتفاضة وعددهم).
|