الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

 
الموقع الجغرافي للسودان
تضاريس السودان
التقسيم الإداري للسودان
التوزيع القبلي للسودان
قناة جونجلي
أماكن معسكرات الفصائل

المبحث الثالث: الفترة من 1985 إلى 1989

أولاً: الفترة الانتقالية (أبريل 1985 ـ مايو 1986)

واجهت الحكومة السودانية منذ منتصف السبعينات، العديد من المشاكل الداخلية، التي نجمت عن:

  1. توتر العلاقات مع دول الجوار وبعض القوى الكبرى، نتيجة للإعلان عن منهج العمل السياسي والاقتصادي بين مصر والسودان في عام 1974. ثم اتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين في الخامس عشر من يوليه 1976، ثم ميثاق التكامل بينهما في الثاني عشر من أكتوبر 1982. وقد أدى ذلك إلى توتر علاقات السودان مع إثيوبيا وليبيا، وتحرك الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وإسرائيل لإحباط التكامل، حتى لا تكون هناك قوى كبرى قوية تسيطر على المنطقة وتهدد مصالح تلك الدول. وقد أثارت بعض هذه الدول الاضطرابات الداخلية في السودان، وحرّكت مشكلة جنوب السودان.
  2. حالة التصحر والجفاف التي ضربت البلاد، ثم نشاط جبهات الجنوب وإيقافهم أعمال التنقيب عن النفط، ثم مشروع قناة جونقلي. وأدى ذلك إلى زيادة تدهور الموقف الاقتصادي وارتفاع الأسعار، وانخفاض قيمة الجنيه السوداني.
  3. زيادة أعداد اللاجئين إلى الأراضي السودانية من إثيوبيا وتشاد وأوغندا، وما صاحب ذلك من تهديد للأمن القومي السوداني.
  4. إعلان الشريعة الإسلامية، الذي أدّى إلى تخوف الدول الكبرى، والدول الأفريقية المسيحية من أن يؤدى ذلك إلى مدٍّ إسلامي داخل أفريقيا.
  5. رفعت الحكومة، في 26 مارس 19985، الدعم عن السلع الغذائية، وخفّضت قيمة الجنيه السوداني.

          أدت تلك العوامل إلى خروج تظاهرات الطلاب، التي انضم إليها العاطلون والمتسكعون وحدثت اشتباكات مع رجال الأمن.

          ولمّا تصعّد الموقف، وازدادت حدة التظاهرات وقد آزرتها كل قوى الشعب، أعلن الفريق أول "سوار الذهب"، وزير الدفاع، انحياز القوات المسلحة للشعب، والاستيلاء على السلطة في 6 أبريل 1985، على أن تنقل السلطة إلى الشعب بعد فترة انتقالية مدتها عام. وأعلن إعفاء الرئيس نميري والوزراء من مناصبهم، وشكل ما سُمي بالمجلس العسكري الانتقالي، وعُرفت حكومته بحكومة "الانتفاضة الشعبية".

          اتفق المجلس العسكري الانتقالي الحاكم، مع ممثلي القوى الوطنية على تشكيل وزارة انتقالية، يشترك فيها ثلاث وزراء جنوبيين. ووافق تجمع السياسيين الجنوبيين "S.S.P.A." على ذلك، بينما اتخذ تجمع الجنوبيين " S.P.K"، وكان يسمى المؤتمر الأفريقي السوداني "S.A.C."، موقفا أخر طالب فيه بتمثيل الجنوب بثلث أعضاء مجلس الوزراء.

          عندما تولى المجلس العسكري الانتقالي السلطة، كان هناك سلطتان أخريتان مناؤتان للحكم، هما الأحزاب، وكانت تتمتع بحرية حركة كبيرة، وترسل الوفود للخارج وتعقد الاتفاقيات الثنائية. أما السلطة الثانية فهي التجمع الوطني والتجمع النقابي، الذي كان يسعى للتقارب مع جون قرنق.

مشكلة الجنوب في الفترة الانتقالية

          قرر المجلس العسكري الانتقالي حل مشكلة الجنوب، في إطار حكم ذاتي إقليمي، داخل مبدأ "السودان الموحد"، من خلال انتهاج سياسة حوار ديموقراطي مع كافة القوى الجنوبية. وتمهيداً لذلك، اتخذ الإجراءات الآتية:

  1. إيقاف قرارات تقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقسام.
  2. إيقاف العمل بقوانين الشريعة الإسلامية في الجنوب.
  3. إيقاف العمليات العسكرية في الجنوب.
  4. الدعوة إلى مؤتمر قومي لزعماء الشمال والجنوب وجون قرنق، لحل المشكلة.
  5. تعيين مجلس تنفيذي عالٍ لحكم الجنوب، كاتجاه نحو توحيد الجنوب في إقليم واحد.

عقب الانتفاضة الشعبية في أبريل 1985، أصبحت خريطة الأحزاب الجنوبية تضم الآتي:

  1. السياسي في جنوب السودان، بقيادة "صمويل أرو" S.. S P.A.
  2. حزب سانو، بقيادة "أندرو ويو".
  3. حزب سابكو، وهو اختصار لاسم "الحزب السوادني الأفريقي"، ويتزعمه "اليابا سرور".
  4. حزب "S. A. C" المؤتمر الأفريقي السوداني، ويتزعمه "د. والتركونجوك".
  5. الحزب الفيدرالي، ويرأسه "جوشوادى وال".
  6. الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة "جون قرنق".
  7. حزب السلام، ويرأسه "رمضان شول"، وهو يدعو إلى الارتباط بالإسلام والدول العربية.
  8. حزب تحرير السودان، ويرأسه "إبراهيم الطويل".

والحزبان الأخيران من الأحزاب الصغيرة عديمة الفاعلية.

          رفض جون قرنق الاعتراف بالمجلس العسكري، باعتباره استمراراً لثورة مايو 1969. وأعلن عدم اعترافه بالوضع القائم، واعتدت قوات الخوارج على قرية القردود، جنوب كردفان.

          تركزت مطالب الجهات المعارضة في إقصاء الحكومة العسكرية، وتقسيم ثروات الجنوب مناصفة بين الشمال والجنوب، وإلغاء قوانين الشريعة الإسلامية، مع إعطاء مهلة أسبوع واحد لتخلي العسكريين عن السلطة للشعب.

          أصدر المؤتمر الأفريقي السوداني "S. A. C."، بياناً طالب فيه بإلغاء اتفاقية التكامل، واتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والسودان، والانسحاب من حلف دول البحر الأحمر (يُقصد به اتفاق الدفاع المشترك وجامعة الدول العربية)، وإلغاء قوانين الشريعة الإسلامية. ومعروف أن هذا المؤتمر تسيطر عليه عناصر يسارية، وأنه على علاقه بجون قرنق. وعلى النقيض، استجاب لدعوة الحوار التجمع السياسي لجنوب السودان "S.S.P.A." بقيادة صمويل أرو، والذي يضم سانو وأنيانيا2، وأعلنت أنيانيا2 توقفها عن الصراع المسلح.

          جرت يومي 24، و25 سبتمبر 1985، محاولة عنصرية من أهل الجنوب والنوبة، للاستيلاء على السلطة في كل السودان. وكان وراء المحاولة الأب فيليب غبوش (زعيم الاتحاد الزنجي الأفريقي في الستينات) ودعوته قائمة على أن غالبية شعب السودان تتحدر من عنصر زنجي، سواء في الجنوب أو في غرب السودان وجبال النوبة. وأنه يحق لهذه الأغلبية الزنجية حكم السودان وتحريره، من حكم الأقلية العربية المسلمة. وقد اتضح وجود تخطيط مشترك لحركة جون قرنق مع حركة إسماعيل يعقوب. وكان مخططاً وصول دعم للحركة النقابية، سواء بالطائرات من إثيوبيا، أو براً بعناصر سودانية متمردة. على أن تتولى الإرساليات في أنحاء السودان، ومجلس الكنائس العالمي، تقديم المساعدات للانقلاب.

          بعد اكتشاف المحاولة العنصرية وفشلها، تقدم جون قرنق بشروطه إلى الحكومة الانتقالية لإجراء مفاوضات. فاشترط حل المجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء، وإلغاء قوانين الشريعة الإسلامية، وإلغاء الاتفاقيات المبرمة بين السودان ومصر، والسودان وليبيا. (كانت ليبيا بعد الانتفاضة قد أعلنت عن وقف دعمها لقرنق، وفي الوقت نفسه قدمت الدعم العسكري المحدود لحكومة السودان). وقد اشترط قرنق كذلك تشكيل حكومة قومية جديدة، تضم جميع الفئات بما فيها حركته. لكن حكومة السودان لم ترضخ لشروط قرنق.

          أعطى جون قرنق لحركته وجيشه صفة الشرعية في تحرير السودان كله. وهو في تلك الفترة لم يكن يسعى إلى حل انفصالي، على الرغم من أن تصريحات ممثل حركته في أوروبا، جون لوك، تعكس سمة الانفصالية للحركة، وهي مماثلة لتصريحات سابقة انفصالية في عام 1956. وهي تصريحات تركز على أن السودان ليس عربياً، بل أفريقي متعدد الأجناس، وأن العرب فيه أقلية.

مؤتمر كوكادام

          عُقد في شهري فبراير ومارس 1986، اجتماعٌ بين قادة التجمع الوطني للإنقاذ، والحركة الشعبية لتحرير السودان في منطقة كوكادام في إثيوبيا. وحضر الاجتماع قادة التجمع وحزب الأمة برئاسة "إدريس البنا"، ومن الجنوب التجمع السياسي لجنوب السودان، والمؤتمر السوداني الأفريقي، والحزب الشيوعي السوداني، والحزب الوطني، والحزب الوطني الاتحادى، وحزب البعث العربي، والحركة الشعبية وجناحها العسكري.

وتوصل المؤتمر في 24 مارس 1986، إلى الاتفاق الآتي:

  1. عقد مؤتمر دستوري لبحث أسس مشاكل السودان، وليس مشكلة الجنوب وحدها.
  2. رفع حالة الطوارئ.
  3. إيقاف إطلاق النار.
  4. أن تُبادر الحكومة بالآتي:

 

أ.

إلغاء قوانين الشريعة الصادرة في عام 1983، وسائر القوانين التي تَحُدْ من الحريات.

 

ب.

إلغاء الاتفاقات العسكرية، مع كل من مصر وليبيا، التي تحد من الحريات العسكرية.

 

ج.

يُستبدل بدستور عام 1985 الانتقالي، دستور عام 1956، كما هو معدل في عام 1964.

          وقد رأت الحكومة السودانية أن استجابتها لشروط قرنق، سوف تقلل من هيبتها أمام الشعب، وسوف تضطرها إلى قبول شروط أخرى تُفرض عليها. كما ظهر للحكومة السودانية مدى ضغط إثيوبيا على جون قرنق، واستجابته لهذه الضغوط. وبذا فشل مؤتمر كوكادام.

تطور الصراع العسكري حتى نهاية الفترة الانتقالية

          شهدت الفترة الانتقالية تصعيد الجهات المناوئة للحكومة، عملياتهم العسكرية على نحوٍ لم يسبق له مثيل في تاريخ مشكلة الجنوب من قبل. وبلغ الصراع مدى ومناطق لم يصلها من قبل، فشمل كل جنوب السودان وجنوب إقليم كردفان، ومناطق الكرمك وجبال الإنقسنا في جنوب النيل الأزرق، وبعض المناطق في شرق السودان. ولم تسلم العاصمة من المحاولات الانقلابية، وشهد السودان عمليات عسكرية يومية، كان حصادها قرب نهاية الفترة الانتقالية كبيراً للغاية. وتلخصها سلسلة معارك روسبيك، في مارس 1986 وما بعدها.

          حاصر المتمردون مدينتى "بور وجميزة"، فتقدمت القوات السودانية من جوبا لاستردادهما. كما حاصروا "يرول"، فتقدمت أيضا القوات من واو ورومبيك، وفكت حصارها جزئياً. وأثناء تسليم المتمردين رداً مكتوباً، على مقترحات رئيس الوزراء، استغلوا الظروف وحاصروا مطار ومدينة الناصر، التي كان مقرراً  تسليم الرسالة فيها. وامتد نشاطهم من الناصر إلى ملكال، ومنها إلى ملوط، بضرب البواخر والوابورات النهرية لمنع إمداد وتعزيز الناصر. فتقدمت القوات السودانية ومعها قوات انيانيا2، في عملية مشتركة ضد المتمردين لفك حصار الناصر. كما هاجمت قوات التمرد مدينة الكرمك ومنطقة الدمازين وجبال الإتقسنا في منطقة جنوب النيل الأزرق، واستدرجوا القوات الحكومية وسببوا لها خسائر فادحة.

          سعى المتمردون إلى تعطيل إجراء الانتخابات، فركزوا عملياتهم في إقليم بحر الغزال، ذي الكثافة السكانية العالية، وأكثرهم من الدينكا. وبدأوا باحتلال "يرول" في ديسمبر 1985، ثم قصف "أويل" و"رومبيك" خلال فبراير 1986، وحِصار "رومبيك" بحوالي أربعة آلاف مقاتل في خمس كتائب، حتى شارفت ذخيرة حامية المدينة وتعيينات السكان على النفاد. فقرر قائد الحامية وضابط أمن المنطقة الانسحاب، ومعهم أهالي مدينة "رومبيك"، إلى مريدي في إقليم الاستوائية. فأعلن المتمردون دخولهم "رومبيك" في 7 مارس 1986. ثم أسقطت ثلاث طائرات انتينوف إثيوبية إمدادات لهم، فتقدموا إلى "التونج" و"واو" و"قوقريـال" و"أويل" لحصارها. وانتشروا في كل إقليم بحر الغزال بقوة تُقارب 40 ألف مقاتل وإداري. فاستغاثت حكومة السودان بالطيران الليبي والدعم العسكري الليبي، لإنقاذ الموقف المنهار.

          استغل المتمردون فصل الأمطار، لفتح جبهة جديدة في منطقة جنوب النيل الأزرق. واستمرت المعارك في منطقة "الكرمك"، إلى أن هزمتهم القوات الحكومية.

          وتُعتبر منطقة أعالي النيل أكثر المناطق كثافة في العمليات، بسبب طول حدودها مع إثيوبيا. فقد درج المتمردون على التسلل عبرها إلى السودان، والاشتباك في معارك كثيرة مع القوات المسلحة في فشلا، والجكوّ، وأكوبو، والبيبور، والناصر، وملكال وبور. وبعد سيطرة القوات المسلحة نسبياً، تحولت حركة التمرد إلى مجموعات صغيرة، تعمل بين ملكال والرنك.

          وظلت المنطقة الاستوائية هادئة عموماً، إلاّ في شرقها حيث دارت العمليات حول "كبوبتا". واعتمد الخوارج في إمدادهم على طريق كينيا ـ الاستوائية، ثم على طريق كينيا ـ أوغندا ـ الاستوائية، خاصة بعد لجوء كثير من الأوغنديين إلى السودان، بعد استيلاء يورى موسيفين على الحكم في أوغندا.

ثانياً: الحكم الديموقراطي الثالث 1986 ـ 1989

          في مايو 1986 استلم مقاليد السلطة في السودان حكم ديموقراطي منتخب، يتكون من مجلس رأس دولة خماسي، ومجلس وزراء. وبدأت الحكومة في ممارسة مسؤوليتها وفقاً للدستور المؤقت، الذي وُضع إبان الفترة الانتقالية عام 1985.

          أجريت الانتخابات في السودان في أبريل 1986 في 260 دائرة، ولم تجر في 35 دائرة جنوبية بسبب الحالة الأمنية. وجاءت نتيجة الانتخابات على النحو التالي:

105 فائزاً لحزب الأمة.

63   فائزاً للاتحاد الديموقراطي.

51   فائزاً للجبهة الإسلامية القومية.

26   فائزاً للأحزاب الجنوبية.

8     فائزين للحزب القومي السوداني.

4     فائزين للمستقلين.

3     فائزين للحزب الشيوعي.

          وشُكلت حكومة ائتلافية من حزبي الأمة والاتحاد الديموقراطي، برئاسة "الصادق المهدي". وفي الوقت نفسه، أُعلن عن تشكيل الجبهة الإسلامية المعارضة بزعامة "حسن الترابي". واختلفت إستراتيجيات الحزبين المؤتلفين، فبينما رأى حزب الأمة أن يتوجه السودان نحو التطبيع مع ليبيا، وإيران وسوريا، وخلق علاقات متوازنة مع كل من السعودية ومصر، رأى الاتحاد الديموقراطي أن تستمر خصوصية العلاقة مع مصر، بينما تكون هناك علاقات حسن جوار مع ليبيا وغيرها من الدول الأخرى. نتيجة لذلك أعلن الصادق المهدي إلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر، في حين أعلن الاتحاد الديموقراطي بأن الاتفاقية باقية ولن تُلغى. وتوصل الجانبان إلى حل وسط، وهو تجميد الاتفاقية، وأن يُستبدل بالتكامل المصري السوداني ميثاق أخوة بين البلدين. ولم تتمكن الحكومة الائتلافية من إلغاء قوانين سبتمبر، نتيجة لموقف الجبهة الإسلامية.



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة