|
8. المرحلة الثانية من عملية الغزو التركي
استأنف وزراء خارجية تركيا واليونان وبريطانيا إجتماعهم، في جنيف، يوم 8 أغسطس 1974، في محاولة لتدعيم الإجراءات التنفيذية الفعلية لقرار وقف إطلاق النار بين الجانبين. واشترك الرئيس القبرصي الجديد، كليريديس، في هذه الجولة الجديدة من المباحثات، معلناً إيمانه بالمحافظة على استقلال قبرص ووحدة أراضيها، ضمن تسوية سياسية دائمة، تكفل إقامة حكم ذاتي، واسع النطاق، لطائفة القبارصة الأتراك.
أدّت هذه التطورات إلى انهيار مؤتمر جنيف الثاني، بعد أن رفض الجانبان، اليوناني والقبرصي، مقترحات تركية، تنص على منح الأقلية التركية في قبرص، و110 آلاف نسمة، ستة أقاليم مستقلة يحكمها القبارصة الأتراك ذاتياً .
كذلك أدت الاشتباكات العسكرية وتصاعدها في الجزيرة، إلى انفجار الموقف العسكري، مرة أخرى، بصورة خطيرة. وأصدرت أنقرة الأمر إلى قواتها، ببدء المرحلة الثانية من عملية الغزو، التي بــدأت فجر 14 أغسطس، وانتهت في 16 منه، بعد إنجازها لكل مهامها، في توفير الأمن لتلك القوات من جهة، وفي زيادة الرقعة الجغرافية، التي توفر للقبارصة الأتراك الأمان .
وتمكنت القوات التركية من السيطرة على نحو 35% من مجموع مساحة الجزيرة، إذ قامت باحتلال قطاع رئيسي من شمالي قبرص، يمتد من فاماجوستا في الشرق، إلى خليج مورفو ومدينة ليفكا Lefka في الشمال الغربى، ماراً بنيقوسيا، العاصمة، والهضبة الوسطى للجزيرة، في ما يُسمى بـ "خط أتيلا Attila Line" ، وهو الجزء الذي يحدد القطاع التركي، الذي تطالب أنقرة بإدارة مستقلة له، في إطار دولة فيدرالية (اُنظر الخريطة الرقم 2). فانتقل الرئيس القبرصي كليريديس، ووزراؤه، من نيقوسيا إلى ليماسول.
رأت تركيا أنها حققت الأهداف الإقليمية، لطائفة الأتراك القبارصة. فأصدر بولنت أجيفيت، رئيس وزراء تركيا، بياناً يعلن فيه، بعد نجاح التحرك العسكري التركي في قبرص، أن بلاده قد بدأت وقف إطلاق النار بدءاً من 16 أغسطس 1974، بعد أن تم إرساء قواعد الدولة القبرصية الاتحادية الجديدة .
وثمة من يرى أن هذه العملية العسكرية، من قبل تركيا، قد أدّت، من جانب آخر، إلى خدمة الإستراتيجية التركية، لأنهـا استطاعت استخدام حوالي 35% من مساحة جزيرة قبرص لمصلحة إستراتيجيتها، وخاصة إزاء أساس الدولة القبرصية المستقبلية، كما تراها تركيا. وكان من نتيجة الإنزال العسكري التركي، هجرة 16 ألف يوناني من أماكنهم في القطاع الشمالي، كما ترك حوالي 40 ألف يوناني بيوتهم، لأنها استُخدمت كثكنات للجيش التركي .
زار الأمين العام للأمم المتحدة، كورت فالدهايم Kurt Waldheim، جزيرة قبرص، يومي 25 و 26 أغسطس 1974. وأجرى مشاورات مع الجانبين القبرصيين، اليوناني والتركي، أدّت إلى بدء محادثات ثنائية، في نيقوسيا، بين رؤوف دنكتاش وجلافكوس كليريديس. وجرت هذه المحادثات، أسبوعياً، في حضور الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في قبرص، وتناولت المسائل الإنسانية. وكان الإفراج عن أسرى الحرب، الأتراك واليونانيين، الذي بدأ في 23 سبتمبر 1974، وانتهى في أواخر أكتوبر 1974، نتيجة لهذه الاجتماعات .
9. عودة مكاريوس
حثت حكومتا الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تركيا، على الموافقة على عودة مكاريوس إلى الجزيرة. ولم تعترض تركيا، فعاد الرئيس مكاريوس إلى الجزيرة القبرصية، في 7 ديسمبر 1974. وبدأ ولايته الجديدة بمخالفة دستورية صريحة، لغيابه عن الجزيرة مدة 75 يوماً، إذ كان عليه، وفقاً للدستور، أن يخضع لعملية انتخاب جديدة، لكنه ضرب، مرة أخرى، بالدستور عرض الحائط، واكتفي بتسلم مقاليد الرئاسة من "كليريديس"، الذي كان يقوم بمهام رئيس الدولة بالنيابة. واعترض القبارصة الأتراك على هذه المخالفة الدستورية، ورفضوا الاعتراف بمكاريوس رئيساً منتخباً، وبحكومته حكومةً لكل قبرص .
ونتيجة ذلك، توقفت المحادثات الثنائية، التي كانت قد بدأت في أغسطس 1974، وذلك ريثما تتضح سلطات كليريديس ونطاق صلاحياته. وتم حل هذه المسألة في الأسبوع الأول من يناير 1975، واستؤنفت المحادثات في 14 منه. وتم الاتفاق على أن تبدأ المحادثات بمناقشة سلطات الحكومة المركزية ومهامها، في دولة فيدرالية. ولم تصل المباحثات إلى حل .
في 13 فبراير 1975، أعلن القبارصة الأتراك عن إنشاء "دولة قبرص التركية الفيدرالية"، كإدارة قبرصية تركية مستقلة، بهدف إقامة الجناح التركي لجمهورية قبرص الفيدرالية المنشودة.
وعلى أثر ذلك، انسحب الجانب القبرصي اليوناني من المحادثات، لاعتراضه على إعلان الدولة التركية الفيدرالية .
اتفق الجانبان على القيام بجهود جديدة، للتوصل إلى حل للقضية القبرصية، من خلال محادثات بين الطائفتين، على أساس متكافئ، وتحت رعاية الأمين العام للأمم المتحدة. وقد جرت، بالفعل، سـت جولات في فيينا. بدأت الجولة الأولى في 28 أبريل 1975، وانتهت الجولة السـادسـة في 7 أبريل 1977، ولم تحقق نتائج حاسـمة . وأوقفت المحادثات نظراً إلى وفاة مكاريوس المفاجئة، في 3 أغسطس 1977.
10. نتائج الغزو التركي لقبرص
أ. نتائج الغزو، بالنسبة إلى قبرص
لم تمر ثمانٍ وأربعون ساعة على بدء الغزو التركي لقبرص، حتى قدم نيكوس سامبسون، الرئيس الذي عينته سلطات الانقلاب، استقالته، بعد ثمانية أيام فقط من توليه منصبه. وخلفه جلافكوس كليريديس رئيس المجلس الوطني (البرلمان)، ونائب الرئيس مكاريوس، وهو مؤسس وزعيم الحزب الديموقراطي الموحد، اليمين المعتدل. وكان يدافع دائماً عن سياسة مكاريوس، في ما يتعلق بمستقبل قبرص، وكيفية حل المشكلة الطائفية من طريق المفاوضات المباشرة، في إطار فكرة استقلال الجزيرة، كدولة ذات سيادة.
وكان كليريديس يحظى باحترام الأقلية التركية، بعد أن مثل الجانب اليوناني في المفاوضات، التي دارت بين زعماء الجاليتين في أواخر الستينيات. وكان أول إجراء اتخذه كليريديس، بعد تعيينه رئيساً لقبرص، هو الاجتماع مع رؤوف دنكتاش، زعيم القبارصة الأتراك، في حضور قادة قوات الأمم المتحدة في الجزيرة، لبحث وسائل تنفيذ وقف إطلاق النار. وهكذا، قضى الغزو التركي على سيطرة قادة الانقلاب العسكري، من ضباط الحرس الوطني، على مقاليد الحكم في قبرص .
ب. نتائج الغزو، بالنسبة إلى اليونان
شهدت اليونان تحولاً جذرياً في أوضاعها السياسية الداخلية، إثر الغزو التركي لقبرص، إذ استقالت الحكومة العسكرية، وأعلنت القوات المسلحة اليونانية تخليها عن الحكم في البلاد، وتسليمها زمام الأمور إلى حكومة مدنية. وقام الرئيس اليوناني، الجنرال فايدون جيزيكيس، في 24يوليه 1974، باستدعاء قسطنطين كرامنليس، رئيس وزراء اليونان الأسبق (في الفترة ما بين عامَي 1955 ـ 1963)، من باريس، ليترأس الوزارة المدنية الجديدة .
وتمكن كرامنليس، فور عودته، من تشكيل حكومة جديدة، من أحد عشر وزيراً، منهم خمسة من نواب الحزب الوطني السابقين، الذي كان قد أسسه كرامنليس، وثلاثة من نواب حزب اتحاد الوسط، الذي يتزعمه جورج مافروس، وزير الخارجية، وثلاثة من المستقلين. وأصدرت الحكومة الجديدة عفواً عاماً عن جميع المسجونين السياسيين، وألغت المعتقل، الذي أقامته الحكومة العسكرية السابقة في جزيرة ياروس، في بحر إيجه. وأعفت ديمتريوس إيوانيدس، قائد الشرطة العسكرية من منصبه. وفي الأول من أغسطس 1974، أعيد العمل بدستور 1952. وأصدرت الحكومة الجديدة مرسوماً دستورياً، يقضي بإدخال 12 تعديلاً على ذلك الدستور. وتشمل هذه التعديلات ضمان حقوق المواطنين، واستقلال القضاء، وإخضاع الجرائم الصحفية للمحاكم العادية، وتوفير الضمانات لحرية التعبير، ونزاهة الانتخابات، وكفالة حقوق الإنسان.
وهكذا، هبت رياح الحرية السياسية على اليونان، بعد سبع سنوات من الدكتاتورية العسكرية، بسبب تطورات الأحداث في قبرص ،وتمتعت اليونان بحكم مدني، يتسم بالديموقراطية التقليدية .
أعلنت اليونان انسحابها من الجناح العسكري لحلف شمال الأطلسي، لم يحل دون دفع الغزو التركي عن جزيرة قبرص، وخذلانه لليونان، في مواجهتها تركيا.
فرضت الولايات المتحدة الأمريكية حظر السلاح على تركيا، الذي استمر حتى عام 1978.
------------------------
|