إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات عسكرية / نظرية الأمن الإسرائيلي





نظام القبة الفولاذية
مقطع لمدينة القدس
التهديدات الخارجية المعادية لإسرائيل

أوضاع الدفاعية الإسرائيلية في الجولان
أوضاع الدفاعية الإسرائيلية في سيناء
المناطق العازلة
الأوضاع النهائية في فلسطين
الهجمات الإسرائيلية على سورية
الضربة الجوية كولمب
العمليات على الجبهة الأردنية
العملية العين (حوريب)
العملية عوفداه
العملية قادش المعدلة
ضربة صهيون
عملية السلام من أجل الجليل



كلية الملك عبدالعزيز الحربية

ثانياً: العوامل المؤثرة على نظرية الأمن الإسرائيلي

1. العوامل الجغرافية

أ. الموقع الجغرافي

يزيد من اهتمام الدول الكبرى بإسرائيل، ما يضيفه عليها موقعها الجغرافي من مزايا، فإسرائيل جسر إستراتيجي، بري وبحري وجوي، يربط بين ثلاث قارات، وهي حلقة الوصل بين بحرين بالغي الأهمية (المتوسط والأحمر). وتتجمع في موانئ ومطارات إسرائيل شبكة خطوط بحرية وجوية كبيرة، إضافة لما يتيحه لها من قدرة على التأثير في مجريات الأمور بالمنطقة عند الضرورة. كما تستغل الولايات المتحدة الأمريكية هذه المزايا الجغرافية لموقع إسرائيل، فتجعله نقطة ارتكاز لنفوذها في الشرق الأوسط.

ويوضح شيمون بيريز ذلك فيقول: "يجب أن تهتم أوروبا بنا بسبب ما تملكه أيدينا، فموقعنا الممتاز يعتبر قوة، تمكننا من أن نسد الطريق في وجه القومية العربية، وأن نكون بديلا لقناة السويس، وأن نشكل ضغطا على الدول المنتجة للنفط، وتلك التي تنقله".

وقد راح بن جوريون يعدد مزايا الموقع فيقول: "إن الأمن يعنى أيضاً غزو البحر والجو، كما يعني الأرض، ويجب أن تتحول إسرائيل إلى قوة بحرية هامة، وقد أكدت هذه الحاجة تلك المقاطعة الاقتصادية، التي فرضها العرب، وغلق قناة السويس في وجهنا"[1].

وإضافة إلى ما سبق، فموقع إسرائيل في قلب الوطن العربي، رغم ما يبدو له من دوافع مباشرة، فإنه يحتوى في حقيقة الأمر على مزايا كامنة:

(1) أولها وأخطرها شأناً، تمزيق أوصال هذا الوطن الكبير، وفصل مَشْرِقه عن مغربـه، عند نقطة التقائهما في فلسطين.

(2) تظهر الثانية فيما يتيحه الموقع للقوات المسلحة الإسرائيلية، من قدرة على العمل من خطوط داخلية، للانقضاض السريع من قلب الدولة نحو أطرافها الخارجية، شمالاً أو شرقاً أو جنوباً، لتوجيه الضربات الشديدة لأعدائها، في شكل عمليات تعرضية متعاقبة (وهو ما نفذوه جيداً في حربيّ 48، و67، وكذلك في المراحل الأخيرة من حرب 73).

هكذا تأثرت نظرية الأمن بالموقع الجغرافي، بالقدر الذي دفعها إلى وضع نظرية محكمة للدفاع الشامل عن إسرائيل، عن طريق شن "الحرب الوقائية"، مع إقلال الفاصل الزمني لنقل الجهود الرئيسية للهجوم، من جبهة إلى أخرى، في أقل وقت ممكن (الوقفة العملياتية)، بفضل إتقان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لأساليب وأدوات المناورة للعمل من خطوط داخلية.

ب. المساحة وشكل الحدود (اُنظر خريطة الأوضاع النهائية لفلسطين)

رسمت إسرائيل خريطتها الأولى في حرب 1948، فجاءت على شكل مثلث بالغ الطول، شديد النحول، جملة مساحته 20700 كم2، ومجموع أطوال حدوده المائية، على البحر المتوسط والبحر الميت وخليج العقبة، 244 كم، بينما تناهز أطول حدوده البرية زهاء 951 كم: (مع الأردن 531 كم، مع لبنان 79 كم، مع سورية 76 كم، مع مصر 265 كم).

يبلغ أقصى طول لإسرائيل حوالي (415) كم، وأقصى عرض لها (110) كم، وأقل عرض لها (14) كم، في المنطقة المحصورة بين قلقيلية في الضفة الغربية و"تل أبيب"[2] مما أعطى لإسرائيل شكلاً غير طبيعي. فهي شريط طويل، يقل عرضه في بعض الأجزاء إلى حد كبير، الأمر الذي لا يؤمن لها العمق الكافي، ويتيح الفرصة لشطرها إلى قسمين عند أي هجوم مفاجئ عليها.

خلق هذا التناقض، بين المساحة الإجمالية وطول الحدود، بعض المشاكل الإستراتيجية. وكان أشدها خطراً على أمنها الوطني، الافتقار إلى العمق الإستراتيجي، الذي أثّر بدوره وبصورة مباشرة على عقيدة إسرائيل العسكرية، فدفعها إلى أن ترفض القتال على أرضها رفضاً تاماُ، لقرب مراكزها الحساسة من الحدود، ولسهولة تمزيق أوصال الدولة بضربات منسقة، تشن ضدها على الاتجاهات التعبوية الكثيرة، التي تتجه كلها إلى قلب الدولة. إضافة إلى ذلك، فقد خلق طول الحدود جبهات واسعة، كان يمكن أن تثقل كاهل الدفاع، لو اتبعت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية النمط التقليدي لحمايتها.

تأثرت نظرية الأمن الإسرائيلي والعقيدة العسكرية، بشكل الدولة غير الطبيعي، ودفعها ذلك إلى التوسع بالعدوان نحو حدود طبيعية، أكثر أمناً، فكانت الجولة الثانية خريف عام 1956 (29 أكتوبر 1956)، ثم الثالثة صيف عام 1967 (5 يونيه 1967).

إضافة لذلك، فإن افتقار إسرائيل إلى العمق الإستراتيجي، الذي حرمها من حرية المناورة الواسعة، أدى إلى اعتناقها عقيدة عسكرية بنقل الحرب إلى أرض العدو، للخروج من هذا الاختناق الجغرافي، حيث تستطيع قواتها المسلحة أن تمارس الهجوم دون قيود، بالاقتراب غير المباشر، والاندفاع السريع إلى الأعماق، للإخلال بالاتزان الإستراتيجي للأعداء، والسيطرة على محاور التحرك في العمق.

تأثرت نظرية الأمن الإسرائيلي بالعامل الجغرافي، ليس فقط في مساحة الدولة وشكل الحدود، بل وفي مناطقها الداخلية أيضاً، فهذا المثلث الحيوي المحصور، بين تل أبيب وحيفا والقدس، يحوي أعلى كثافة سكانية، وأهم المراكز الاقتصادية، حيث تتركز به الصناعات الحربية، والقواعد الجوية، والمواني الرئيسية، والأراضي الزراعية، ويوجد به الممران اللذان يشكلا عنق الزجاجة، تمر من خلاله، جميع الطرق التي تربط بين شطري إسرائيل الشمالي والجنوبي[3]. وإزاء كل ذلك ركزت العقيدة العسكرية، على حماية هذا المثلث الحيوي بالدرجة الأولى، بإبعاد خطر الحرب عنه، بدفع جبهة القتال بعيداً داخل الأراضي العربية. ومن ثم، انعكست الأوضاع الجغرافية على فكر الدفاع الإسرائيلي، ليكون دفاعاً تعرضياً.

ج. الطبيعة الجغرافية لمسرح الحرب

عاملان رئيسيان يبرزان في هذا المسرح، هما تنوع طبيعته، واتساعه. فالتنوع الكبير في طبيعة مسرح الحرب العربي الإسرائيلي، بين طبيعة صحراوية، وسلاسل جبلية، وسهول ومناطق مزروعة، وكثبان رملية متحركة، قد فرض على القوات البرية الإسرائيلية أن تكون على قدر كبير من المرونة وخفة الحركة، والقدرة على المناورة الواسعة، ليس بشكلها التقليدي فحسب، ولكن بكل ما يتيحه لها العلم من آفاق[4].

كان أول ما تفرضه طبيعة الأرض على جيش إسرائيل، أن يكون ذا قدرة عالية على عبور مختلف أنواع الأراضي، في مختلف الظروف الجوية، وأسوأ حالات الرؤية. أما اتساع المسرح، فلم يعد مقتصراً على دول المواجهة المحيطة بإسرائيل، بل امتد إلى دول الدعم العربية، ثم امتد ليشمل كل الدول العربية جنوب البحر الأحمر، بعد حرب عام 1973، ثم ليشمل كذلك باكستان بعد تفجيراتها النووية الأخيرة. الأمر الذي فرض عليها عدة تدابير، لتقرير قدرة قواتها المسلحة لإحراز النصر في هذا المسرح المتنوع، والكبير في الوقت نفسه، أهمها:

(1) توفير السيطرة الجوية لقواتها البرية في المسرح، على المحاور الرئيسية، وفي التوقيتات الحرجة.

(2) رفع قدرة القوات البرية على المناورة، من خلال زيادة القدرات الميكانيكية والإدارية والفنية، وبالقدرة على الاقتحام الجوى الرأسي، مع العمل في إطار مفهوم الجيش الذكي من خلال المعدات والذخائر الذكية.

(3) اللامركزية، وتشجيع الأفراد على حرية التصرف التلقائي، ومداومة الابتكار حيال الظروف الطارئة، والمواقف سريعة التغير في المسرح.

(4) الالتزام بأساليب الاقتراب غير المباشر، والاعتماد على حركات الالتفاف والتطويق السريع، للوصول إلى عمق العدو ومؤخرته، من خلال مواصلة القتال ليلاً ونهاراً، وتحت ظروف الأحوال الجوية الصعبة.

(5) زيادة اهتمام المؤسسة العسكرية، بالحصول على الطائرات متعددة المهام، وكذا الطائرات من دون طيار، التي يمكنها أن تصل إلى مسافات بعيدة داخل عمق العدو، وحيث تتعدد مهامها كذلك.

2. العوامل الإستراتيجية

أ. الأمن الوطني

يحدد شيمون بيريز “Shimon Perez” العلاقة المتبادلة، بين العقيدة العسكرية والسياسة الخارجية الإسرائيلية بقوله: "إن الأمن في حاجة إلى علاقات خارجية، من أجل بناء القوة العسكرية، كما أن الأمن بقوته العسكرية، يمكنه أن يسهم في العلاقات الخارجية كذلك".

ويعتقد دافيد بن جوريون أنّ العقيدة العسكرية والسياسية الخارجية، وجهان لعملة واحدة، هي "الأمن الوطني لإسرائيل"، ويؤكد أنه في غياب أحدهما لا يكتمل كيان الآخر، إذ يقول: "يعتمد دفاع إسرائيل بالدرجة الأولى على رفعة شأننا وعلو كعبنا في الحلبة الدولية. إن الشئون العسكرية والخارجية أمران متشابكان، لا يمكن لأيهما أن يكون العامل الحاسم بمفرده في البلاد، وذلك لسبب مهم هو أن استطاعتنا، أو عدم استطاعتنا، الحصول على الأسلحة الثقيلة المناسبة لتجهيز جيشنا، يعتمد على علاقاتنا الدولية، وهي دون روابط صداقة سياسية، تصبح الأداة الرئيسية للدفاع عن دولتنا الصغيرة، أي- جيشنا - أداة ضعيفة".

ويوضح بنيامين نيتانياهو “Benjamin Netanyahu”، العلاقة بين الأمن والسلام بقوله: "في الشرق الأوسط يتقدم الأمن على السلام ومعاهدات السلام، وكل من لا يدرك هذا، سيظل دون أمن ودون سلام، وفي نهاية الأمر، محكوم عليه بالفناء".

وهكذا، أصبح عامل الأمن يشكل هاجساً رئيسياً، الأمر الذي فرض على القيادات الإسرائيلية المختلفة أن تقدمه على أي اعتبار، حتى لو كان المقابل هو السلام.

ب. الدعم والردع السياسي من خلال قوى كبرى حليفة

اتجهت السياسة الخارجية الإسرائيلية، إلى دعم نظرية الأمن من خلال عدة أساليب. فسعت الدبلوماسية إلى خلق المناخ الدائم للارتباط الوثيق بإحدى الدول الكبرى، ضماناً لأمنها الوطني، وتوفيراً لمصدر سلاح مضمون. ويقول شيمون بيريز في ذلك: "علينا أن نضمن صداقة إحدى الدول الأربع، أمريكا، أو روسيا، أو فرنسا، أو بريطانيا، على الأقل، وبأي ثمن". غير أنه في ظل النظام العالمي الجديد، أضافت إسرائيل الصين واليابان إلى هذه القائمة.

كما اهتمت السياسة الخارجية، بتوافر الخبرة التكنولوجية، ونقلها إلى إسرائيل. يقول شيمون بيريز في ذلك: "إننا لسنا قوة عسكرية، ولن نكون قوة عسكرية، ما لم يتوفر لنا السلاح ذو النوعية الممتازة، الذي يحقق توازن موقفنا حيال العرب. كما لا يمكن أن يقوم جيش الدفاع الإسرائيلي في المستقبل، دون الاعتماد على مصدر سلاح حديث، يرتبط بقاعدة تكنولوجية عسكرية متقدمة تقدما كبيراً". عملاً بذلك استمر تحول ارتباط إسرائيل الوثيق بإحدى الدول الكبرى من دولة إلى أخرى (بريطانيا، ثم فرنسا)، حتى انتهى إلى الارتباط مع الولايات المتحدة الأمريكية.

ونتيجة لهذا الارتباط المتبادل، أصبح على إسرائيل قبل أن تفتعل أي أزمة أو حرباً في المنطقـة، أن تحظى بموافقة "الولايات المتحدة الأمريكية"، وأن تتفق معها (بشكل غير معلن) على شن تلك الحرب، أو افتعال الأزمة، وهو شرط أساسي لذلك، باعتبارها الضمان الأكيد لاستمرار الدعم، وقطف ثمار النصر في نهاية القتال. وتجربة التواطؤ الثلاثي على مصر عام 1956، لا تغيب عن ذهن إسرائيل، عندما كلفها التغاضي عن الحصول على موافقة الولايات المتحدة الأمريكية على شن الحرب، التنازل عن معظم مكاسب الجولة الثانية. وتزداد قيمة الولايات المتحدة الأمريكية، في دعمها لسياسة إسرائيل العسكرية، بما تملكه من تأثير على الأمم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن في ظل النظام العالمي الجديد، وما يمكن أن تمارسه من ضغط على دول كثيرة. وبفضل ذلك أصبح كل ما هو مطلوب من الأمم المتحدة، إزاء أي صراع مسلح في مسرح الحرب العربي الإسرائيلي، هو ألا تصدر قراراً بإيقاف القتال حتى تحقق إسرائيل هدفها من هذا الصراع، وألا تصدر أي إدانة لإسرائيل نتيجة ذلك.

ج. تفتيت الصف العربي: (إستراتيجية التفتيت)

تعطي إسرائيل أهمية كبرى لخطر قيام أي نوع من الوحدة أو التضامن أو التقارب بين العرب، لما قد يترتب عليه من حشد حقيقي لقدراتهم الكبيرة. ولهذا ركزت نظرية الأمن الإسرائيلية على ضرورة تفتيت الصف العربي، وبذر بذور الشقاق بينهم. وقد وضح ذلك في قول شيمون بيريز، "لكي نكون قوة سياسية في الشرق الأوسط، يجب أن تتسع الخلافات بين العرب". ولا تكتفي إسرائيل بجهودها الذاتية في هذا المضمار، بل تعمل في تعاون وثيق مع الكثير من أصدقائها، الذين يحملون عنها العبء الأكبر، في محاولة عزل مصر عن الصف العربي، ومداومة زرع الخلافات بين الحكومات العربية، فالعمل السياسي الذي يجب أن تقوم به إسرائيل بمساعدة الغرب، هو العمل على زرع بذور الشقاق وتقوية القوى المناوئة لمصر في تلك الدول، وهو عمل على جانب عظيم من الأهمية لنجاح العمليات الحربية".

3. العوامل الاقتصادية

يشترك الاقتصاد مشاركة عضوية في تحقيق أهداف نظرية الأمن، ويؤدى دوراً أساسياً في توفير التمويل اللازم لبناء القوة المسلحة، وتسليحها وتدريبها وإعاشتها. ويعتبر اقتصاد إسرائيل، منذ قيامها، اقتصاد حرب، تُوَجّهْ كل طاقاته نحو تطوير آلة الحرب وتوفير مطالبها، وتكريس جميع قدراته لتحقيق الأهداف العسكرية المرسومة، لمراحل التوسع المتتالية. ويعتمد اقتصاد إسرائيل في نموه ـ إلى حد كبير ـ على العون المادي الخارجي، الذي يتدفق عليه، إضافة لفئات الهجرة المتنوعة المتخصصة، التي تتيح لإسرائيل أن تنميّ عدداً من الصناعات الدقيقة والمتقدمة مثل الصناعات الإلكترونية، والصناعات الجوية، والبتروكيماويات. وقد تزايد هذا الاتجاه كثيراً في أعقاب جولة يونيه 1967، فقد ركزت إسرائيل على ما يسمى "بالصناعات ذات التقنية العالية  High Tech"، بتنمية واستغلال القدرات العلمية والتقنية، التي حققت فيها إسرائيل مزايا نسبية.

تأثرت نظرية الأمن الإسرائيلية بمختلف العوامل الاقتصادية، وكان تطلعها إلى حل مشكلة الأراضي الزراعية المحدودة، ومصادر المياه في اليرموك والليطاني والأردن، ثم مصادر الخامات والمواد الأولية في الأراضي العربية المتاخمة. وقد انعكست تلك العوامل الاقتصادية، على نظرية الأمن الإسرائيلي، فيما يلي:

أ. ضمان التدفق المستمر للنقد الأجنبي، لتغطية تكاليف الحرب والتنمية الاقتصادية (المعونات- التعويضات - التجارة الخارجية).

ب. تحقيق مستوى مناسب من المخزون الإستراتيجي، في كافة الاحتياجات الرئيسية.

ج. ضغط فترة التعبئة العامة إلى أقل حد ممكن، أو فرضها على مراحل متتالية، واعتبار الحرب الخاطفة ضرورة اقتصادية، تحتم بدء الحرب وإنهاءها في أقصر زمن ممكن.

د. توفير الحماية الكافية لمراكز الإنتاج الاقتصادية الحيوية، بما يكفل استمرار سير العمل فيها بأقصى طاقة، أثناء الطوارئ والحروب، وذلك بنقل الحرب بعيداً عن أرض إسرائيل.

هـ. استغلال الموارد المستولى عليها في الأراضي العربية، بحال احتلالها، لسد النقص الذي يعانيه الاقتصاد منها، ولتغطية نفقات الاحتلال باستنزاف هذه الموارد إلى أقصى حد ممكن. (النفط المصري من خليج السويس، وموارد المياه العربية، عقب حرب يونيه 1967).

4. العوامل الدينية والاجتماعية والمعنوية

يُعزى النقص في الموارد البشرية، الذي تعانى منه إسرائيل (مقارنة بالموارد العربية)، إلى طبيعتها كدولة ناشئة. لذلك، اعتمدت في مراحلها الأولى على الهجرة والاستيطان، وكان الخيار الأساسي لمواجهة خططها التوسعية، هو التنشيط الدائم للهجرة اليهودية إليها، من مختلف أنحاء العالم. وقد جعلت هذه القوى المهاجرة، من إسرائيل، قاعدة عسكرية، تزدهر قواها بشكل مستمر بالتطعيم البشرى المتدفق عليها، والمنتقى من أفضل الأنواع المتاحة، على اتساع العالم، ذات المستويات العالية في الإنتاج والخبرات، المتمرسة في كل المجالات، بما فيها المجال العسكري. اهتمت الصهيونية بتحويل المجتمع الإسرائيلي إلى مجتمع عسكري، تشكل القوى العاملة نصفه، وينخرط أكثر من نصف هذه القوى العاملة في تشكيلات القوات المسلحة الإسرائيلية، وهي أكبر نسبة تحمل السلاح بين مختلف دول العالم.

يوضح ذلك أن الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، ليست غاية تهدف إلى جمع الشتات فقط في أرض الميعاد، بقدر ما هي وسيلة لخلق القوة الذاتية القادرة على الغزو والتوسع. فقد كانت المؤسسة العسكرية تدرك منذ الوهلة الأولى، أن القاعدة العلمية التكنولوجية، والقدرة الاقتصادية، هما عصب القوة العسكرية الحديثة وعمادها، والذي تشكل القوة البشرية المؤهلة معنوياً ودينياً وتقنياً، الركيزة الأساسية لهما.

أ. الشعب المسلح

أدى اهتمام إسرائيل بالنوع، إلى خلق مجتمع عسكري متميزٍ، أصبح هو السمة الغالبة على المجتمع الإسرائيلي الجديد. وقد كشف دفيد بن جوريون عنه النقاب، في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني، الذي عقد في 6 أبريل سنة 1948 حين قال: "إن قلة اليشوف “Yishuv”، وتعذر سد الدياسبورا “Diaspora” لحاجتنا من القوة البشرية، يحدان من النمو المطرد لقواتنا المقاتلة.غير أن القوة البشرية ليست كل شئ، فمقومات النصر تعتمد على الإمداد والأموال والوعي والروح المعنوية، وعلى ذلك دعونا نستغل نوعيتنا إلى أقصى حد. دعنا نسخر كل قواتنا البشرية للمعركة والإنتاج بقدر ما تسمح به الطاقة، لا لشيء سوى لاحتياجات الأمن المنتظرة". (اُنظر ملحق اليشوف القديم واليشوف الاستيطاني) و(ملحق صهيونية الدياسبورا)

وبذلك حدد دافيد بن جوريون، منذ سنة 1948، سمة المجتمع الإسرائيلي، وأرسى قواعد بناء قواته المسلحة. فدعا إلى استغلال "النوع" إلى الحد الأقصى، وإلى تسخير الطاقات البشرية لخدمة الحرب، وإدارة الغزوات، وتحويل المجتمع الإسرائيلي برمته إلى شعب مسلح ذي معنويات عالية، مشبّعة بروح القتال والعدوان، بفضل أربعة توجهات تعمل المؤسسة العسكرية دون كلل على ملء أذهان الأطفال والشباب بها، لخلق المقاتل العقيدي العنيف وهي:

(1) التوجه الديني والتوجه التاريخي

عمل المفكرون ورجال الدين منذ ميلاد الدولة الإسرائيلية على إحياء التراث العبري الروحي والعسكري القديم. وعن طريق ترسيخ هذه المفاهيم، تعمل المؤسسة العسكرية دون ملل، لتجدد في أذهان اليهود على الدوام ذكريات الشتات الأليمة، والاضطهاد القيصري الروسي والهتلري النازي، وشبح دمار المعبدين الأول والثاني، ووقفة قلعة الماساده. وقد شكل ذلك، المضمون الدائم للثقافة المعنوية للقوات. أُخْرِجَ من أسفار التوراة وكتب التراث ما يضيف إلى الاعتداد بالنفس والثقة بالقدرة اليهودية، والتميز العنصري، وتأكيد الحق الإلهي، فيما تسعى الصهيونية إلى استعادته من حقوق مزعومة.

(2) التوجه العاطفي

خدمت ظروف الشتات اليهودي أهداف الصهيونية. فأضافت إلى وجدان اليهود شحنات عاطفية جارفة، مستمدة مما تعرض له إخوتهم وآباؤهم وأجدادهم في الدياسبورا، من إذلال واضطهاد وتعذيب، خاصة في أسبانيا الكاثوليكية، على يد محاكم التفتيش في القرون الوسطي، وفي روسيا القيصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم في ألمانيا الهتلرية في أواسط القرن العشرين.

(3) حب البقاء

كانت التهديدات العربية بإبادة إسرائيل، وإزالتها من الوجود، فرصة تلقفتها المؤسسة العسكرية، والقيادة السياسية، ثم جسمتها وملأتها بعوامل الإثارة. ففي جولة عام 1967 على جبهة سيناء، قال الجنرال "إسرائيل طال"، قائد مجموعة العمليات الشمالية: "إن مصير أي شعب من الشعوب، يشكل سلوكه، ومصيرنا جعل منا أمة من المحاربين، لأننا لا نستطيع أن نتراجع، فإلى أين يمكننا أن نتراجع، وجنودنا يوقنون أنه لا يمكنهم أن يخسروا، وإلا حكموا بالإعدام على نسائهم وأطفالهم". وقائد آخر كانت كلمته إلى جنوده على خط الاقتحام: "إن لم ننتصر فإلى أين نعود؟ بل.. ولمن نعود". بهذا المنطق عملت المؤسسة العسكرية على ترسيخ عقدة الخوف في نفوس المواطنين كافة، وربط الهزيمة أو الفشل بالموت أو الفناء، وأنه لا مفر من القتال، بكل القوى وبكافة السبل، حتى النصر.

ب. الريادة والطليعة

يلتحق الفتيان والفتيات بين سن الرابعة عشرة والثامنة عشرة بمنظمة الجدناع[5]. فيتدربون على امتداد أربع سنوات في كتائب الشباب على الريادة وصفات الطليعة، لتأهيلهم للانخراط في سلك الخدمة الإلزامية من سن الثامنة عشرة. ويشير قانون الخدمة الدفاعية، الذي أصدره الكنيست في 5 أغسطس عام 1959 إلى.. "أن توجه كافة أنشطة التدريب لخلق جيل من الرواد، يفهم بوعي كامل التاريخ اليهودي في سجلات البشر وإنجازاته الكبيرة". بهذا وضعت إسرائيل مبدأ من أهم مبادئ نظرية الأمن الإسرائيلي في مجال علم الاجتماع، وهو "زيادة عائدات البشر دون زيادة عددهم" أي التفوق النوعي.

5. العوامل العسكرية والتكنولوجية

لمست المؤسسة العسكرية، منذ بدايتها الأولى، مدى حاجتها إلى إقامة قاعدة علمية تكنولوجية في الدولة، ترعى التجديد والابتكار والتطوير في عتاد الحرب، وتشرف على مختلف وسائل الإنتاج، خاصة الأسلحة والذخائر والآلات الدقيقة، من منظور أن الدولة، التي لا تجدد صناعاتها العسكرية، ستتخلف وتفقد قوتها النسبية السابقة. فتطور الأسلحة يغير دائماً من ميزان القوى، ويسبب تغييرات سياسية بعيدة المدى. لتحقيق ذلك:

أ. يجب أن يضم الجيش الحديث المعاصر بين صفوفه، قرابة40% من جملة أفراده من التكنولوجيين والفنيين، وهذا الطريق هو الوحيد لضمان قدرة إسرائيل العسكرية للتطوير الدائم لنظم التسلح. وإذا ما واصلت إسرائيل جهودها في هذا السبيل، فسوف تصل إلى الاستقلال التكنولوجي في مختلف مجالات الدفاع. إنّ ما يجنيه الجيش الإسرائيلي من تفوق تقني على العرب في الوقت الحالي، بدأ مع أوائل الستينيات، حينما أعلن شيمون بيريز أنّ: "على الدولة الحديثة في هذا العصر، أن تقيم قاعدة إنتاج، وإلا فسوف تجد أنها لا تنتمي إلى المستقبل"، حيث كان التعاون الفرنسي الإسرائيلي قائماً، ثم تحول إلى التعاون الأمريكي، الذي تطور من خلال اتفاق مبادرة الدفاع الإستراتيجي (حرب النجوم) في الثمانينات، التي أتاحت لإسرائيل الإطلاع على قدر هائل من التطور التقني الأمريكي، ساعدها فيما وصلت إليه من قاعدة تقنية متطورة. ثم تعاونها التكنولوجي متعدد الاتجاهات بعد انتهاء الحرب الباردة، مع كل من روسيا الاتحادية، والصين، والهند.

ب. الانتماء إلى المستقبل: وقد وضّح بيريز، في أواخر الستينيات، مراحل انتماء إسرائيل إلى المستقبل، على النحو التالي:

(1) مرحلة عاجلة (نقل التكنولوجيا): تركز على الجهد الصناعي لتطوير الصناعة الإسرائيلية وجعلها أكثر عصرية، بالاستفادة من خبرات وتجارب الآخرين.

(2) مرحلة وسيطة (استيعاب وتوطين التكنولوجيا أو محاكاتها): تركز على الجهد العلمي برعاية البحوث التطبيقية، حيث أعلن إيجال آلون “Yigal Allon”، نائب رئيسة الوزراء، أمام المجلس الوطني للبحث والتطوير" أن الحكومة سوف تعتمد مبلغ 100 مليون دولار في الخطة الخمسية1970-1975 للعلم التطبيقي". وجاء في كتاب "عشرون سنة من استقلال إسرائيل" أن البحث النظري والتطبيقي يضعان إسرائيل بين الدول العشر الأوائل، والأكثر تطورا في العالم، وأن العلم يضاعف نفسه في إسرائيل مرة كل خمس سنوات.

عكست القاعدة التكنولوجية العلمية المتقدمة في إسرائيل، آثارها على جوهر نظرية الأمن الإسرائيلي، وأدخلت تغييراً جذرياً عليها، إذ فتحت أمامها القدرة على تحقيق قدر كبير من الاكتفاء الذاتي، والاعتماد على النفس بدرجة متزايدة.

(3) مرحلة آجلة (ابتكار وتطوير التكنولوجيا الذاتية): تركز على الجهد التكنولوجي لفرض نظرية الردع النفسي على العدو، عن طريق ما توفره لها قاعدتها التكنولوجية العلمية من قدرة على إنتاج أسلحة فوق التقليدية[6]، حتى تتمكن من ممارسة أسلوب "الإملاء" على العرب، وهي المرحلة الحالية التي تعيشها إسرائيل، وتحاول خلالها فرض شروطها على العرب.

وكان أبرز انعكاسات العوامل العلمية والتكنولوجية، على نظرية الأمن الإسرائيلي:

(1) أن المقدرة التكنولوجية والعلمية ذات آثار بعيدة في نظرية الأمن، وفي مجال "الإستراتيجية العسكرية"، لأن القدرة على إنتاج الأسلحة والمعدات الحديثة محلياً، وإحاطتها بقدر من السرية، تمكَّن من تحقيق المفاجأة الإستراتيجية عند استخدامها.

(2) الإنذار المبكر في شؤون الأمن الوطني، أصبح مسألة حياة أو موت، يترتب عليه النجاح أو الفشل في الحروب المعاصرة، والسلاح المعادى غير المعروف نوعه أو عدده أو أسلوب استخدامه، قد يجعله الإنذار المسبق مشكلة صعبة[7]. وقد عملت إسرائيل على تطوير وسائلها الذاتية، من أقمار التجسس "أفق 1، 2 ،3"، إضافة إلى تعاونها مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الإنذار.

 



[1] تهتم المؤسسة العسكرية بمنطقتي مدخل خليج العقبة وباب المندب، وهو ما يفسر شراءها “ 3 “ غواصات دولفين ألمانية قادرة على إطلاق الصواريخ من تحت سطح البحر.

[2] كان هذا قبل حرب 1967 بين العرب وإسرائيل واحتلالها الضفة الغربية بالكامل.

[3] ممر الناصرة، وممر عبدالمجيد، (مجدو قديماً) بين جبل الكرمل، وسلسلة جبال يهوذا.

[4] البعد الثالث بالارتفاع عن سطح الأرض، أو باستخدام الفضاء.

[5] منظمة شبه عسكرية، يلتحق بها الشباب الإسرائيلي قبل سن التجنيد

[6] تشمل الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية، وأي أسلحة أخرى قد تظهر مستقبلاً، لها صفة التدمير الواسع الانتشار.

[7] كان هذا هو ما حدث تماماً في الجولة الرابعة عام 1973 عندما فشلت إسرائيل في فهم دور الصواريخ المضادة للطائرات والمضادة للدبابات فتعرضت للهزيمة في المرحلة الافتتاحية من الحرب فيما بين 6،13 أكتوبر 1973.