إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (27 ديسمبر 2008 ـ 17 يناير 2009)




نتائج قصف صاروخ القسام
مجزرة السبت الأسود
معبر رفح البري
انصهار القذائف الفسفورية
شاحنات تحمل الفولاذ المقسم
قادة قمة الكويت

أسلوب القتال في المناطق السكنية

مناطق رماية صواريخ المقاومة
أعمال القتال من 3 – 5 يناير 2009
أعمال القتال جنوب قطاع غزة
أعمال القتال شمال ووسط قطاع غزة
قطاع غزة



الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة

المبحث الأول

المشهد الفلسطيني

(يناير 2006 – ديسمبر 2008)

خضع قطاع غزة للاحتلال الإسرائيلي، بعد حرب عام 1967. ومنذ اتفاق أوسلو 1993، وتطبيق الحكم الذاتي الفلسطيني في غزة وأريحا، بدأ الفلسطينيون يسيطرون، بالتدريج، على المناطق المسكونة في قطاع غزة، وإن كان شكلياً. وفي 12 سبتمبر 2005، أتمت الحكومة الإسرائيلية إخلاء المستوطنات، وإنهاء وجودها الاستيطاني، وإنهاء الحكم العسكري في قطاع غزة، وعَدّت الخط الفاصل بين إسرائيل وقطاع غزة خط حدود دولية؛ على الرغم من استمرار الجيش الإسرائيلي في حصار القطاع، ومراقبة أجوائه وسواحله، وتنفيذ العديد من العمليات البرية فيه، واستمرار مسؤولية إسرائيل الرئيسية عن تزويد سكانه بالوقود والكهرباء والمياه، حتى بعد انسحابها منه.

سيطرت حركة "حماس" على قطاع غزة، بعد رفض حركة "فتح" الاشتراك في حكومة ائتلافية، وانقلاب أولاهما، في يونيه 2007، انقلاباً عسكرياً وسياسياً على السلطة الفلسطينية وحركة "فتح". وفي ضوء هذه التطورات، سعت "حماس" إلى استغلال سيطرتها على القطاع. ولم تخف طموحاتها إلى بسط سيطرتها على الضفة الغربية؛ في الوقت نفسه الذي سعت فيه إلى تجنب الأخطار المترتبة عل الحصار الدولي والإسرائيلي؛ ومحاصرة محاولات حركة "فتح" ومنعها من بلوغ السلطة الفلسطينية داخل القطاع. هذا إلى جانب استغلال التهديد الإسرائيلي باقتحام القطاع، وتحويله إلى عامل قوة، يعزز رغبة "حماس" في القضاء على نفوذ حركة "فتح"، والسيطرة الكاملة على الملف الفلسطيني، بوصفها القادرة على مواجهة هذا التهديد وحماية القطاع.

أولاً: نشأة "حماس"

"حماس" تُعرف نفسها بأنها حركة مقاومة شعبية، وطنية، تعمل على تحرير الشعب الفلسطيني وخلاصه من الظلم، وتحرير أرضه من الاحتلال.

"حماس" هو الاسم المختصر لـ "حركة المقاومة الإسلامية". وتقول إنها حركة جهادية، بالمعنى الواسع لمفهوم الجهاد؛ وجزء من حركة النهضة الإسلامية، التي تُعَدّ المدخل الأساسي لتحرير فلسطين، من النهر إلى البحر[1]. ولا تُخفي تبعيتها الأيديولوجية لفكر جماعة الإخوان المسلمين.

تُشير عدة دراسات إلى أن تاريخ نشأة "حماس" يرجع إلى رغبة أمريكية ـ إسرائيلية في ند يواجه وينافس حركة "فتح"، التي أسسها ياسر عرفات، ووصل من خلالها إلى زعامة منظمة التحرير الفلسطينية. وهو ما اعترف به، يوماً، رئيس وزراء إسرائيل السابق، إسحق رابين، وعَدّه خطأً سياسياً كبيراً، وقعت فيه إسرائيل.

ففي دراسة، أعدها أستاذ العلوم السياسية، ورئيس قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة سان فرانسيسكو، الدكتور ستيفن زونس Stefin Zons؛ ونُشرت في موقع مركز أبحاث العولمة، في يناير 2009 ـ حمّل فيها إدارة بوش مسؤولية تفاقم نفوذ "حماس"، وخاصة مع فشل هذه الإدارة في اعتماد سياسة ناجحة تجاه الداخل الفلسطيني، في ما يتعلق بمسار المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ ما ساعد على تعزيز نفوذ المقاومة الإسلامية، المتمثلة في "حماس". وأكد أن عملية السلام، أُصيبت، في عهد بوش، بالجمود والشلل، منذ فشل مفاوضات كامب ديفيد، عام 2000، برعاية الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون. كما كان موقف إدارة بوش بمساعدة حركة "فتح" بالأموال والسلاح، بعد ذلك؛ على الرغم مما يسودها من فساد ـ كما تقول الدراسة ـ سبباً في توجه الفلسطينيين إلى خيار آخر، هو انتخاب "حماس" والإتيان بها إلى الحكم، عام 2006.

واصلت إدارة بوش أخطاءها في التعامل مع القضية، بإحكام الحصار والعزلة على "حماس"؛ ما أعجزها عن أداء وظائفها؛ فخلق المناخ الملائم لمساعدات إيران المالية والتسليحية لحركة "حماس"؛ لملء الفراغ، وتقوية علاقاتها بالمقاومة الإسلامية.

بعد 22 عاماً من انطلاق "حماس"، عام 1987، لم تغير من أفكارها الأيديولوجية والسياسية. وأصبحت قوة لا يُستهان بها فلسطينياً. وقد سعت شعبياً، وهزمت "فتح"، كبرى فصائل الجهاد الوطني الفلسطيني، ثلاث مرات: أولاها في الانتخابات البلدية، وأخرى في الانتخابات التشريعية؛ والمرة الثالثة والحاسمة بقوة السلاح، في يونيه 2007.

أظهرت "حماس" قدرة كبيرة على التنظيم والانتشار والتسليح. ونسجت علاقات وثيقة بإيران وقطر وسورية. ولها مواقف أخرى من دول عربية. قاطعت الانتخابات، عام 1996، وعَدَّت ذلك خطأً، تداركته عام 2006. وسيطرت على المجلس التشريعي. وهي تسعى إلى السيطرة على كرسي الرئاسة في السلطة الفلسطينية.

يرأس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل، الموجود في دمشق. ويُعَدّ هذا المكتب هو أعلى هيئة قيادية في "حماس"، موكول إليه اتخاذ القرار السياسي والإستراتيجي، وذلك بعد مشاورات مع مجلس شورى عام للحركة.

أمّا العمل الميداني، فيمكن القادة الميدانيين في "حماس" اتخاذ القرارات المتعلقة بعملهم الميداني مباشرة، في إطار الخط العام لتعليمات المكتب السياسي.

يصدر القرار الإستراتيجي في الحركة بناءً على مشورة عامة، في أربعة مواقع أو قطاعات: الموقع الأول (الخارج) ويُقصد به خارج فلسطين؛ والثاني قطاع غزة؛ والثالث الضفة الغربية؛ والأخير داخل السجون الإسرائيلية.

يستقل كلّ قطاع بقراره، دون الرجوع إلى المناطق الأخرى. ويأخذ القرار الأولي مجلس شورى مصغر، هو جزء من مجلس الشورى العام. ثم يُرفع الرأي إلى المكتب السياسي لحركة "حماس"؛ لاتخاذ القرار النهائي الملزم للجميع.

أمّا الموضوعات الإستراتيجية، فيحتاج بتّها إلى اقتراع كلّ من ينتمي إلى "حماس" في موقعه، أينما كان، حتى داخل السجون. وظهر ذلك عندما اتخذت حماس قرار المشاركة في الانتخابات، عام 2006. وهذا ما يفسر الوقت الطويل، الذي تحتاج إليه الحركة لاتخاذ قراراتها.

والشورى في اتخاذ القرارات، لم تحل دون اختلاف "حماس" غزة و"حماس" الضفة. فالأخيرة تشكو إغفال آرائها. وترد قيادة الحركة بأن الآراء تتخذ بالأغلبية؛ فلا يمكن مساواة موقع يضم آلافاً بآخر يضم مئات.

أجرت حماس، في نهاية عام 2008، أول انتخابات لهيئاتها القيادية في قطاع غزة، وعلى كلّ المستويات، منذ فازت في الانتخابات التشريعية، عام 1996. وقد أفرزت انتخابات غزة قيادات جديدة شابة، في الهيئات الإدارية، ومجلس الشورى العام، والمكتب السياسي؛ مع انتخاب رموز في الحركة، من أمثال إسماعيل هنية، لعضوية المكتب السياسي.

مثل العملّ العسكري في "حماس" كتائبُ القسام، وهي الجهاز العسكري. كان ذلك العمل غير منظم، حتى أواخر عام 1991. وبدأ بالتطور تطوراً كبيراً، منذ عام 1992 حتى عام 1994. ثم بدأ يتراجع، نوعاً وعدداً وتسليحاً، حتى عام 1997؛ بسبب سيطرة السلطة الفلسطينية. وكاد توقف منذ عام 1998، حتى انتفاضة الأقصى، في أواخر عام 2000.

انطلق العمل العسكري، مرة أخرى. وشهد توسعاً جغرافياً، بإمرة أحمد الجعبري، الذي تعرفه "حماس" بأنه نائب القائد الأعلى العام لكتائب القسام، محمد الضيف، الذي تعرض لعدة محاولات اغتيال فاشلة؛ ولكنها أدت إلى شلله.

وقد ساعد تماسك حركة "حماس" إدراكها أن أيّ انشقاق داخلي، سيقضي عليها. زِد على ذلك أنها تربي أبناءها على المبادئ الأيديولوجية لجماعة الإخوان المسلمين، وأبرزها الولاء والسمع والطاعة لأولياء الأمر؛ حتى إن قادة المناطق والمواقع التنظيمية، وفي الجناح العسكري للحركة، يُعرفون القادة بالأمراء؛ ولا مخالفة في طاعة الأمير.

وقد أظهرت استطلاعات للرأي، أن الحرب الأخيرة على غزة، أفقدت "حماس" الكثير من شعبيتها، سواء في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، وكذلك في الخارج. فقد شعر كلّ من أيدها في الانتخابات التشريعية أنه قد أخطأ في ذلك. وهو ما عزي إلى القتل والدمار اللذَين لحقا بشعب غزة في هذه الحرب، وأفقداه الثقة بقيادات "حماس" السياسية والعسكرية، التي لم تُعِدّ الشعب ومسرح العمليات المنتظر لمثل هذه المواجهات العسكرية.

ومن المعروف أن قادة "حماس" اختفوا في ملاجئهم تحت الأرض، وتركوا الناس يواجهون آلة الحرب الإسرائيلية، بصدور عارية، من دون تجهيزات هندسية أو ملاجئ، أو تحضير مسبق، يراعي قرار هؤلاء القادة نقض التهدئة، ومغامرتهم في حرب شتان فيها ما بينهم وبين إسرائيل.

كان قرار نقض التهدئة غير رشيد، وغير حكيم، وغير مدروس؛ تسبب في ما يعانيه شعب غزة، اليوم، وقد اعترف خالد مشعل لصحفي فرنسي، أن نقض التهدئة مع إسرائيل، كان هدفه إشعار العالم  بأهمية "حماس"؛ وذلك بإشعال الموقف مع إسرائيل والاقتراب به إلى حافة الهاوية. ولكنه لم يكن يتوقع أن يكون حجم رد الفعل الإسرائيلي بهذا القدر من العنف. وهذا يوضح دوافع اتخاذ القرارات لدى "حماس". كما اعترف الناطق باسم "حماس"، فوزي برهوم، أنهم أثناء الحرب، كانوا يختبئون في بيوت أصدقاء لهم، ينتمون إلى حركة "فتح"، وكانوا يعملون في الأجهزة الأمنية السابقة في القطاع، والتي نكلت بها "حماس"، أثناء انقلابها، في يونيه 2007؛ وعلى الرغم من ذلك، لم يشوا لإسرائيل بمن لجأ إليهم من رموز "حماس"؛ وهذا ما يدعوا للفخر!

ثانياً: تطورات القضية الفلسطينية

بعد موافقة أمريكية وإسرائيلية على مشاركة حركة "حماس" والفصائل الفلسطينية في الانتخابات التشريعية، دعماً للعملية الديموقراطية، فازت الحركة بالأغلبية في الانتخابات. وألفت الحكومة الفلسطينية الجديدة، برئاسة إسماعيل هنية، في 21 مارس 2006. وكان إعلان الحكومة برنامجها السياسي، الذي تضمن إزالة الاحتلال والمستوطنات وجدار الفصل العنصري، وبناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، والتمسك بحق العودة، ودعم جميع أشكال المقاومة، لكونها حقاً مشروعاً، وغيرها من الحقوق الفلسطينية ـ إيذاناً بانهيال المشاكل على قطاع غزة من كلّ صوب.

هددت الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، بقطع المساعدات، واتخاذ تدابير عقابية ضد حكومة "حماس". وهددت الحكومة الإسرائيلية بالحرب على قطاع غزة، إذا مارست "حماس" ما سمته: إرهاباً مباشراً. ورفضت منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية، في رام الله، برنامج الحكومة الآنفة، وطالبتا بتعديله. ثم توالت المقاطعة الدولية لتلك الحكومة. إلا أن قرارات قمة جامعة الدول العربية، في الخرطوم، 28-29 مارس 2006، طالبت باحترام آراء الشعب الفلسطيني في اختيار قيادته، والإشادة بانتخابات الفلسطينيين وحكومتهم.

احتدمت الخلافات بين غزة ورام الله في السيطرة على معابر قطاع غزة، والخزينة الفلسطينية الخاوية، ومبادرة الحكومة في غزة، في أبريل 2006، إلى تأليف قوة أمنية تنفيذية، من الفصائل الفلسطينية. وزاد الوضع تعقيداً تشديد الولايات المتحدة الأمريكية إجراءاتها لحصار حركة "حماس"، لمنع وصول المساعدات المباشرة وغير المباشرة إلى قطاع غزة؛ وتهديدها للبنوك: العربية والإسلامية، إن هي استقبلت المساعدات والتبرعات للشعب الفلسطيني؛ بل طالبت بإغلاق جميع المسارات لتوصيل الأموال إليه.

برعاية العاهل السعودي، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وُقِّع "اتفاق مكة"، في 8 فبراير 2007، بحضور السلطة والفصائل الفلسطينية. وتضمن تأليف حكومة وحدة وطنية، ووقف الاقتتال الداخلي، وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما أقر في اجتماع جامعة الدول العربية، 28 – 29 مارس 2007. فألفت حكومة وحدة وطنية، برئاسة إسماعيل هنية، في 15 مارس 2007. إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، أعلنتا تحفظهما من اتفاق مكة والحكومة الفلسطينية، وتمسكهما بقرارات اللجنة الرباعية الدولية. كما ضغطتا على السلطة الفلسطينية، ليحملاها على رفض المشاركة في الحكومة الجديدة، أو التعامل مع "حماس". ناهيك من ازدياد الإجراءات: الأمريكية والإسرائيلية، لتشديد الحصار، ومنع المساعدات للشعب الفلسطيني، في قطاع غزة.

عمدت حركة "حماس" إلى انقلابها الشهير على حركة "فتح"، في قطاع غزة، في 17 مايو 2007؛ بدعوى إجهاض أعمال عدائية من أخيرتهما على أولاهما. واتهمت "حماس" جهاز الأمن الوقائي والاستخبارات بعمليات مشبوهة. ودعمت اتهامها بعرض بعض الوثائق والصور في وسائل الإعلام.

لم يتوانَ العرب والمصريون في المصالحة بين الحركتَين. وألفت الجامعة العربية لجنة تقصٍّ للحقائق في غزة. إلا أنها لم تستكمل إجراءاتها، إذ رفضت السلطة الفلسطينية التعامل معها، وأعلنت الاكتفاء باللجنة الفلسطينية، التي كونها الرئيس محمود عباس لتقصي حقائق الأحداث. وإنقاذاً للموقف، أعلن الرئيس الفلسطيني تأليف حكومة طوارئ، برئاسة سلام فياض، في 16 يونيه 2007، حازت تأييد ودعم الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والدول العربية، بصفتها الحكومة الشرعية الوحيدة، التي سيتم التعامل معها. وعلى الرغم من استقالتها، في يناير 2009، إلا أنها استمرت في تنفيذ مهامها، ريثما تؤلَّف حكومة جديدة.

في إطار المخاوف: الفلسطينية والإسرائيلية والأمريكية، أن تطاول سيطرة حركة "حماس" الضفة الغربية، سارعت حكومة الطوارئ الفلسطينية إلى إضعافها باتخاذ العديد من الإجراءات، في الضفة الغربية، مثل إغلاق المؤسسات الثقافية الحمساوية، في إطار خطة، بدأتها في 7 يوليه 2008. وبالتعاون الأمني مع الجانب الإسرائيلي، اعتقل العديد من قادة "حماس"، ومن فصائل أخرى، في الضفة الغربية. فردت "حماس" باعتقال قادة "فتح" في قطاع غزة. وتعددت الاشتباكات المسلحة بين الطرفَين، في القطاع، ولا سيما تلك التي وقعت في 18 ديسمبر 2006، على أثر أزمة الانتخابات الفلسطينية؛ وفي 4 أغسطس 2008، إثر تفجير إرهابي، في 25 يوليه، اتهمت به "حماس" مقربين من "فتح".

بيد أن الاشتباكات، لم تَحُلْ دون تحاور الحركتَين، والذي شاركت فيه، أحياناً، الفصائل الفلسطينية، وقيادات مستقلة، برعاية مصرية، شهرياً، في القاهرة. إلا أنه لم يحقق نتائج فعلية، بل اقتصر على الأمور الإعلامية؛ إذ إن العديد من اتفاقات التهدئة بين الطرفَين، لم تراعَ.

وفي سبتمبر 2006، و22 يناير 2008، اجتهدت الجامعة العربية، ومجلس الأمن، في وقف الاعتداءات الإسرائيلية، ومحاولة إقرار المبادرة العربية للسلام (اُنظر مشتملات المبادرة العربية للسلام، التي أقرها مجلس الجامعة العربية في القمة الرابعة عشرة ـ لبنان 2002). إلا أنهما لم يحققا شيئاً. كما نشطت الجامعة مع الجمعية العامة للأمم المتحدة لإصدار خمس قرارات، في ديسمبر 2007، لمصلحة القضية الفلسطينية؛ إلا أنها غير ملزمة لإسرائيل. أضف إلى ذلك مشاركة الجامعة في جميع المؤتمرات والمنتديات الخاصة بالشأن الفلسطيني. زِد على ذلك أن وزراء الخارجية العرب، اتخذوا قراراً مهماً، في 15 نوفمبر 2006، بكسر الحصار المضروب على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؛ إلا أن التهديد الأمريكي بإيقافه، حال دون تنفيذه؛ وعزز الموقف الأمريكي مطالبة الدول العربية باحترام شروط اللجنة الرباعية الدولية، في شأن المساعدات للشعب الفلسطيني.

كان واضحاً اهتمام المجتمع الدولي بتحسين أوضاع الضفة الغربية، لتكون نموذجاً لِمَا يمكن تنفيذه في قطاع غزة. فقد تركزت معظم المساعدات في تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الضفة الغربية. ونظمت الدول الأوروبية، بمشاركة عربية، مؤتمراً للاستثمار في رام الله (20 – 22 مايو 2008). وشارك فيه رجال أعمال أوروبيون وعرب؛ بل قيل إن إسرائيليين، ومشاركين من عرب 48، انضموا إليه. وتعهد المؤتمرون باستثمار مليار و200 مليون دولار في مشروعات بالضفة الغربية، معظمها في مجال الاستثمار العقاري.

في إطار إعادة بناء الأجهزة الأمنية والقضائية والعدلية، نظم الاتحاد الأوروبي مؤتمر برلين/ ألمانيا، في 23 – 24 يونيه 2008؛ لدعم إعادة بناء أجهزة الشرطة الفلسطينية، والأجهزة القضائية، وسيادة القانون، وتوسيع مهمة الشرطة الأوروبية، ومكتب تنسيق دعم الشرطة الفلسطينية التابع للاتحاد الأوروبي.

أمّا الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، فهي حلقة مفرغة، تدور بين الفعل ورد الفعل. ومن أبرز هذه الحلقات تنفيذ المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، يوم 25 يونيه 2006، عملية "الوهم المتبدد"، ضد موقع إسرائيلي في منطقة كرم أبو سالم، جنوب شرقي القطاع. وأدت إلى مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين، وأسر الجندي جلعاد شاليط. وردت إسرائيل بعملية برية محدودة، باسم: "أمطار الصيف"، امتدت من 28 يونيه إلى 14 يوليه 2006. وكان هدفها المعلن تحرير الجندي الإسرائيلي الأسير، والقضاء على المقاومة في قطاع غزة. وأدت إلى مقتل 54 فلسطينياً، وجَرْح العشرات. واتهمت حكومة "حماس" الأجهزة الأمنية الفلسطينية بمشاركة الاستخبارات الإسرائيلية في البحث عن مكان الجندي الإسرائيلي. وما إن انسحبت القوات الإسرائيلية، في 14 يوليه، حتى عادت للتوغل في محور صلاح الدين، وضرب قطاع غزة، مع استمرار الغارات الجوية عليه.

وقعت الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، بوساطة مصرية، اتفاق تهدئة مع الجانب الإسرائيلي، في 25 نوفمبر 2006. قضى بوقف إطلاق الصواريخ، مقابل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع. ونفذت إسرائيل انسحابها منه في 26 نوفمبر؛ ليُنتشر فيه 13 ألف رجل من قوات الأمن الفلسطينية. وبعد انتهاء مهلة اتفاق التهدئة، في 25 أبريل 2007، أطلقت المقاومة الفلسطينية 80 صاروخاً وقذيفة هاون على الجانب الإسرائيلي.

استمر الجانب الإسرائيلي في اعتداءاته على قطاع غزة، حيث قتلت غاراته الجوية، بين 15 و20 يناير 2008، 36 فلسطيني، وجرحت 200 آخرين. وبدعوى وقف إطلاق الصواريخ من القطاع، نفذت إسرائيل عملية برية وجوية، باسم: "الشتاء الساخن"، بين الأول والثالث من مارس 2008، أودت بحياة 116 فلسطينياً، وجرحت 350 آخرين. أمّا التوغلات الإسرائيلية في القطاع، فهي عديدة، أبرزها في 12 ديسمبر 2007، جنوب شرق مدينة غزة؛ وفي 4 نوفمبر 2008، شرق مدينة خان يونس. وكانت غارات الطيران الإسرائيلي على القطاع شبه يومية.

لم يَحُلْ اتفاق التهدئة، بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، بوساطة مصرية، دون تبادل الطرفَين النار، بين 19 يونيه و19 ديسمبر 2008. فقد أحصت جماعة الأزمات الدولية إطلاق المقاومة الفلسطينية 329 صاروخاً وقذيفة هاون على إسرائيل، أغلبها بعد الهجوم البري الإسرائيلي على غزة، في 4 نوفمبر 2008. ورصدت إطلاق الفلسطينيين 2278 صاروخاً وقذيفة هاون على إسرائيل، خلال الأشهر الستة لاتفاق التهدئة السابق. أمّا الجانب الإسرائيلي، فقد نفذ ما يراوح بين 162 و195 خرقاً، في القطاع، قتلت 22 فلسطينياً، وجرحت 62 آخرين؛ إضافة إلى استمرار الحصار المفروض على قطاع غزة.

الطرفان: الإسرائيلي والفلسطيني، كانا يرحبان بتجديد التهدئة؛ وإنما كلّ منهما وفق منظوره الخاص نحوها. فالمنظور الإسرائيلي، اعتمد على فرض تنفيذ التهدئة على الجانب الفلسطيني فقط، وأن تكون دائمة. ورفض مناقشة قضية الحصار والمعابر مناقشة حاسمة؛ لعدم منح حركة "حماس" نصراً، يزيد قوّتها وشعبيتها؛ ولإقناعها بأن الحصول على أيّ مكاسب، لا يتأتّى باستخدام العنف؛ وأنها لا توازي إسرائيل، وفق المفهوم الملازم لنظرية الردع المتبادل، وهو ما يرفضه وزير الدفاع الإسرائيلي.

أمّا منظور حركة "حماس" فاستند إلى إستراتيجية وقف الحصار؛ وأن الحرب ليست غاية عندها، بل بديل هو أفضل من الوضع الراهن؛ وأن التهدئة، من دون مقابل، هي ضرب من الانسحاب المذل، والموت التدريجي لشعب غزة. وبحسب مفاضلة أحد مسؤوليها بين المواجهة وفتح المعابر، اختار الثانية؛ ولكن بين الاستسلام والمواجهة، اختار القتال.

لا شك أن الهجمات الإسرائيلية: الجوية والبرية على قطاع غزة، واستمرار حصاره، وتردي الحالة الإنسانية فيه، وتدفق سكانه في اتجاه الحدود المصرية، لافتقاره إلى عمق إستراتيجي ـ آتت المطمع الإسرائيلي في تصدير مشكلة القطاع إلى الجانب المصري، تمهيداً لحلها الإقليمي، بأن يفوَّض قطاع غزة إلى الإدارة المدنية المصرية. وبدأت الظاهرة، في 14 يوليه 2006، بتفجير الجدار الحدودي بين الرفَحين: المصرية والفلسطينية؛ ودخول 500 فلسطيني إلى رفح الفلسطينية بالقوة، ودخول أعداد أخرى إلى رفح المصرية.

وفي 23 يناير 2008، أعيد تفجير الجدار الحدودي. وتدفق نحو 700 ألف فلسطيني إلى رفح المصرية والعريش؛ للحصول على المواد التموينية. ولم تستعد السلطات المصرية السيطرة على الحدود المشتركة، إلا في الأول من فبراير 2008. وسرعان ما أعلنت تسرب مسلحين فلسطينيين إلى سيناء، حيث قبض على جماعتَين فلسطينيتَين، معهما أسلحة وأحزمة ناسفة، تنويان تنفيذ عمليات إرهابية في طابا وإسرائيل. وتكرر اختراق معبر رفح، في 2 يوليه 2008؛ إلا أن السلطات المصرية، ضبطت الموقف.

وتواصل الاهتمام بالقضية الفلسطينية. فعمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى عقد مؤتمر "أنابوليس"، في 27 نوفمبر 2007، بحضور 40 دولة. وأقر إطلاق عملية التفاوض الفلسطيني ـ الإسرائيلي، على أساس خريطة الطريق؛ للوصول إلى اتفاق بنهاية عام 2008، وإعادة بناء المؤسسات الفلسطينية: الحكومية والسياسية والاقتصادية والأمنية. وعلى أثره، عُقد مؤتمر "باريس" الاقتصادي للدول المانحة. وأقر المؤتمرون مساعدات، قيمتها 7.4 مليارات دولار مساعدات؛ لإعادة الإعمار. وصل منها، حتى نهاية عام 2008، مبلغ 717 مليون دولار فقط، إلى السلطة الفلسطينية. وكان معظمها لإعادة بناء الأجهزة الأمنية في رام الله.

كما قرر مؤتمر أنابوليس تأليف ست لجان فلسطينية ـ إسرائيلية، خلال فبراير 2008؛ للتفاوض في قضايا الحدود والمستوطنات واللاجئين، والقدس، والمياه، والأمن. أضف إلى ذلك تأليف لجنة عليا فلسطينية ـ إسرائيلية ـ أمريكية؛ لمناقشة التزامات خريطة الطريق على الجانبَين. وعقدت هذه اللجان عشرات الجلسات؛ ولكنها كانت عقيماً؛ على الرغم من جهود وزيرة الخارجية الأمريكية، التي زارت المنطقة نحو ثماني مرات؛ والرئيس الأمريكي مرتَين، خلال عام 2008. لا، بل إن الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش، حمل المشروع الأمريكي لإقرار السلام في الشرق الأوسط إلى مجلس الأمن؛ لتوثيق جهوده في المفاوضات. واستجيب له في القرار الرقم 1850، بتاريخ 12 ديسمبر 2008.

ثالثاً: خلاف الفلسطينيين واتفاقهم

بعد رحيل الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، عام 2004، اضطرت الساحة الفلسطينية، واكتنف الغموض تدابير السلطة الوطنية في رام الله، وإجراءات المعارضة، بزعامة حركة "حماس" في قطاع غزة. وكشفت الحرب على قطاع غزة مدى انقسامهما، والقنوط الذي يعتري الساحة الفلسطينية، في مختلف المجالات. ويمكن تركيز جذور الخلافات الفلسطينية، وربما العربية، في مجالَين رئيسيَّين: الموقف من المقاومة المسلحة، والموقف من عملية التسوية. ولكلّ منهما مسوغاته وأسانيده المقنعة؛ فلا يمكن اتهامه بالقصور، فضلاً عن الخيانة. وقد يكون هناك صراع آخر، غير معلن، خلف أهداف التحرر الوطني، مثل الصراع على السلطة من جانب حركة "حماس"؛ وصراع السلطة والثروة، من جانب حركة "فتح"، في ظروف اتهامها بالفساد، من جانب بعض المؤسسات الدولية.

1. قضية المقاومة المسلحة

اعتمدت الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ أواسط القرن العشرين، المقاومة والكفاح المسلح. واقتصر رد الفعل على الجانب الإسرائيلي، وأحياناً الرفض الدولي. إلا أن الجانب الإسرائيلي، نشط، بعد أحداث سبتمبر 2001، في تعبئة شاملة للمجتمع الدولي؛ لوصف المقاومة بالإرهاب، والفصائل الفلسطينية بجماعات إرهابية. وباتت المقاومة المسلحة "بأعمال محدودة" أمراً غير مرغوب فيه، عربياً ودولياً. ولم تتمكن الدول العربية من التنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، والمجتمع الدولي؛ للتوافق على وصف أو تعريف موحد للإرهاب، يقي من خلط الإرهاب بالمقاومة.

ولم تتردد الولايات المتحدة الأمريكية في رسم سياستها الشرق أوسطية وفقاً لخطط إسرائيل؛ عسى أن تُفرض تلك السياسة على النظام الدولي، محاباة للقوة العظمى، المهيمنة على العالم. وسرعان ما اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الاتحاد الأوروبي، والرباعية الدولية، موقفاً ثابتاً من المقاومة الفلسطينية، لا يرى فيها إلا عملاً إرهابياً، سواء اقترفته حركة "حماس" أو حركة "الجهاد الإسلامي" أو غيرهما. وقد أيدت روسيا والصين، والمجتمع الدولي، هذا الاتجاه؛ عدا دول الممانعة، مثل: إيران وفنزويلا وكوبا، التي أجازت حق الشعب الفلسطيني في المقاومة.

أ. آراء التيارات المؤيدة للمقاومة المسلحة، وخاصة الفصائل الفلسطينية المسلحة

(1) المقاومة المسلحة حق مشروع، طبقاً لميثاق الأمم المتحدة، في المادة (51) من الفصل السابع، الذي استخدم اصطلاح: اعتداء قوة مسلحة، في تقنين لحق الدفاع الشرعي للدولة. كما شملت المادة الثانية من اتفاقية جنيف عام 1949، والبروتوكولات المكملة لها، تحديد الأوضاع، التي تقع تحت حماية الاتفاقية، مثل النزاعات المسلحة بين الشعوب والاستعمار. كما أن القانون الدولي الحديث، يطلق على المقاومة والنضال اصطلاح: "الحرب العادلة" Just War، للتحرر من الاستعمار الأجنبي، والتي تناقض مفهوم الإرهاب، الذي يعتمد على عصابات الجريمة المنظمة والمجرمين. ولذلك، فإن الوضع السياسي والقانوني والأخلاقي، يجيز للشعب الفلسطيني محاربة الاحتلال.

(2) إن هناك العديد من الدول في العالم، عانت الاحتلال الأجنبي، وقاساه بعضها استمر مئات السنين. وكان هناك كفاح ومقاومة مسلحة للاحتلال، أزهقت آلاف الأرواح خلالها؛ طمعاً في الاستقلال. ولذلك، كانت هناك علاقة تاريخية، وجوبية، بين الاحتلال والمقاومة؛ فما دام هناك احتلال، سيكون ثمة مقاومة.

(3) إن التفاوض لم يحقق شيئاً للشعب الفلسطيني، بل ساعد على تأكُّل القضية الفلسطينية. ذلك أن إسرائيل، لا تنوي إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة؛ فضلاً عن أنها لا تعرف إلا لغة القوة في حل القضايا.

(4) عدم اعتراف إسرائيل بأضعف أنواع المقاومة السلمية للسلطة الفلسطينية. فعندما بادر سلام فياض، رئيس وزراء حكومة الطوارئ الفلسطينية، عام 2008، إلى إرسال رسائل إلى عدة دول أوروبية، يطلب ربط منح إسرائيل تسهيلات إضافية، في نظام المشاركة الأوروبي ـ الإسرائيلي ـ سارعت إسرائيل إلى تعليق تحويل عائدات الضرائب الفلسطينية إلى السلطة الفلسطينية.

ب. آراء السلطة الفلسطينية، وبعض تيارات حركة "فتح"

المقاومة المسلحة، ليس رهناً بالشرعية أو عدمها؛ وإنما يتحكم فيها المناخ، والظروف: الداخلية والخارجية. واستطراداً، فإن الأوضاع الحالية للشعب الفلسطيني هي ضحية للفعل ورد الفعل، الإسرائيلي والفلسطيني؛ للأسباب التالية:

(1) المقاومة المسلحة لم ـ ولن ـ تنتصر عسكرياً، على الجانب الإسرائيلي. ولن تجبره على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية، أو رفع الحصار وفتح المعابر. لا، بل أسفر عنها آلاف الشهداء والجرحى والأسرى، والتدمير الكامل للأراضي الفلسطينية؛ ومصداق ذلك نتائج الحرب الأخيرة على قطاع غزة. وقد عبّر الرئيس محمود عباس عن هذا الرأي، في مؤتمره الصحفي، في القاهرة، يوم 10 يناير 2009، إذ قال: "إذا كانت المقاومة ستفني الشعب الفلسطيني، فلا نريدها".

(2) مشروع المقاومة والكفاح المسلح، بات غير مرغوب فيه، أمريكياً وأوروبياً. واستمراره سيحرم الشعب الفلسطيني أيّ مشاريع للتنمية وإعادة الإعمار، وتوفير الحياة الكريمة.

(3) تحوُّل المقاومة المسلحة إلى مشاريع حزبية، وأحياناً دينية، وليست مشاريع وطنية لتحرير الأراضي الفلسطينية ـ يصعب توحيد الفصائل المسلحة؛ فيحُول دون ازدياد قوّتها وقدرتها على مواجهة الاحتلال.

(4) زيادة قدرات المقاومة العسكرية على التأثير في الجانب الإسرائيلي، من خلال الاعتماد على التصنيع المحلي للسلاح وتهريبه، بعد تعاسر حصولها على العتاد العسكري، في ظل الحصار والرقابة المفروضَين على قطاع غزة ـ هو أمر غير كافٍ لتأهيلها للدخول في معركة حاسمة مع الاحتلال.

(5) موازين القوى العربية، والمعطيات الدولية الحالية، ليست قادرة على دعم منهج المقاومة، خلال المرحلة الراهنة، وهذا الخيار، يحتاج إلى زمن آخر، تتغير فيه الموازين: العربية والدولية.

2. عملية التسوية

بعد رحيل ياسر عرفات، لم يتمكن الرئيس محمود عباس من المزاوجة بين المقاومة والتسوية، وبين المفاوضات والانتفاضة، أو بين السلطة والمقاومة. واستيقن أنه ليس هناك بديل من المفاوضات، إلا الاستمرار فيها؛ لإحراج إسرائيل، ودفع العالم إلى مزيد من الضغط عليها. أمّا حركة "حماس"، فطفقت تتهم السلطة الفلسطينية بمواطأة إسرائيل على إغفال القضية، والقضاء على المقاومة؛ حتى إنهما تواطأتا، في الحرب الأخيرة على قطاع غزة؛ لإسقاط الحركة؛ وقمع الشعب الفلسطيني، في الضفة الغربية، لمنعه من دعم القطاع.

تتركز رؤية المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، في الدعوة إلى مفاوضات فلسطينية ـ إسرائيلية؛ لتسوية القضية الفلسطينية، وفقا للواقع على الأراضي الفلسطينية؛ إذ إن عملية التسوية هي الحل الشامل، والعادل، للقضية.

الخلاف في عملية التسوية هو خلاف على مسار التفاوض، لحل القضية الفلسطينية. إنه خلاف بين مبدأ السلام الممكن للتسوية، والسلام العادل لحل القضية.

أ. الرأي الأول

تراه السلطة الفلسطينية، وحركة "فتح". ويقضي باتخاذ التفاوض مساراً وحيداً لحل القضية الفلسطينية، في ظل الظروف المحيطة: الداخلية والخارجية.

(1) تعرضت القضية الفلسطينية، في مدى ستين عاماً، للتأكُّل. ولو استمرت ذلك ستين عاماً أخرى، لتلاشت القضية الفلسطينية. كما انحسرت الأهداف: الفلسطينية والعربية، إذ تخلت عن تحرير فلسطين عام 1948، وفلسطين 1967؛ واكتفت بنحو 22% من أرض فلسطين 1948، في الضفة الغربية وقطاع غزة.

(2) الظروف التي يعيشها الفلسطينيون، والسياسة الإسرائيلية المعربدة عليهم، وخِفَّة موازين القوى العربية لمصلحة إسرائيل، كلّ ذلك أملى مفاوضة الإسرائيليين، وقبول ما يمكن الحصول عليه من حقوق فلسطينية. وهو ما يطلق عليه السلام الممكن، في إطار تسوية متفق عليها، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ريثما يُستكمل التفاوض لاحقاً، للحصول على جميع الحقوق الفلسطينية.

(3) إسرائيل كيان شرعي، معترف به دولياً. ولها مقعد في الأمم المتحدة. وسعت، أواخر عام 2008، إلى الترشح لعضوية مجلس الأمن، ضمن مقاعده العشرة غير الدائمة. وهي دولة تجاور الأراضي الفلسطينية. ولذلك، يجب الاعتراف بها، ومفاوضتها، للحصول على تسوية مقبولة للقضية الفلسطينية. وتنقض "حماس" هذه الرؤى. فهي لا تعترف بحقوق المواطنة بين العرب واليهود في إسرائيل؛ بل تنكر التعامل مع أبناء الديانات والثقافات الأخرى.

ب. الرأي الآخر

تراه حركة "حماس"، والفصائل الفلسطينية، المعارضة للتفاوض، أو لتسوية مؤقتة؛ على طريقة السلام الممكن. وتتمسك بمبدأ السلام العادل، والشامل؛ لاسترداد جميع الحقوق الفلسطينية؛ حتى إنها لم تعترف بشرعية دولة إسرائيل. لا، بل إن هناك من يطالب بأراضي فلسطين 1948.

(1) اعتماد السلطة الفلسطينية على المساعدات: الأمريكية والأوروبية؛ وحرصها على استرداد الضرائب من الجانب الإسرائيلي، رَهَنَا قراراتها بالإرادة الخارجية. ولو رأى أيّ مسؤول في السلطة الفلسطينية رأياً مرفوضاً إسرائيلياً أو أمريكياً، لاحتجزت تلك المساعدات وأموال الضرائب، ريثما يُتَنَكر لذلك الرأي. وهو ما يقيد قرارات السلطة الفلسطينية، ويحرفها عن مصالح الشعب الفلسطيني.

(2) هناك مخاوف من إجبار السلطة الفلسطينية على قبول تسوية مشوهة، تقف عند حدّ المرحلة الثانية من خريطة الطريق؛ لإقامة دولة فلسطينية، بحدود مؤقتة؛ تتحول، بالأمر الواقع، إلى حل نهائي، ودائم، بعد إجراء استفتاء شكلي فيها.

(3) مفاوضة الجانب الإسرائيلي، تعني التنسيق الأمني؛ واستطراداً، القضاء على المقاومة المسلحة، أيْ تشارُك السلطة وإسرائيل في إهماد المقاومة، أو بمعنى آخر تحويل الأجهزة الأمنية الفلسطينية لتكون ذراعاً عسكرية إسرائيلية، في الأراضي الفلسطينية.

(4) التفاوض في تسوية مؤقتة، لم يحقق شيئاً للشعب الفلسطيني، منذ عام 2004؛ بل سَوَّغ زيادة إسرائيل الاستيطان والحصار وعمليات القتل والتدمير. وحرم السلطة الفلسطينية اتخاذ أيّ موقف رسمي أو عملي، يرفض السياسة الإسرائيلية؛ ما ضعضع أنصار حركة "فتح"، وزعزع شرعية السلطة الفلسطينية.

3. عملية إعادة الإعمار

تُقدر الأموال المطلوبة لإعادة إعمار قطاع غزة بنحو مليارَي دولار. جاد خادم الحرمَين الشريفَين عاهل المملكة العربية السعودية بنصفها تقريباً. وحاكته دول الخليج. ويخشى المانحون أن يُبدد ذلك المبلغ الوافر في غير ما جُمع له. فيلحق بأموال، جُمعت فاستأثرت بها قياداته. فقد تدفق على المنظمات الفلسطينية، ولا سيما قبل حرب الكويت، عام 1990، مئات الملايين من الدولارات؛ توزعتها، سراً، قلة من الأشخاص. لذلك، يحذر الجميع، بعد انتهاء الحرب على القطاع، وبدء جمع الأموال لإعادة إعماره، من تكرار ما سبق. وهو ما تمخض بصراع رهيب، بين السلطة الفلسطينية و"حماس". أُوْلاهما ترى أنها هي الجهة الشرعية؛ فهي أوْلى بالقيام على تلك الأموال ومظانّ إنفاقها. وهي أحق بل أكفأ، بل أقدر على حصر الخسائر، ورسم الخطط، ووضع برنامج زمني للإعمار. وهي تحوز موافقة الدول الغربية، ومعظم الدول العربية.

أمّا "حماس"، فقد أعلنت الحرب على الرئيس الفلسطيني وحكومته. واتهمتهم بالفساد والانحراف وسرقة أموال الشعب الفلسطيني. وهددت بإعلان قضايا مخطرة، تسوقهم إلى المحاكم. وترى أنها أحق بالمعونات كلّها؛ لأنها هي القوة الموجودة على أرض قطاع غزة. وهي أعلم بمواطن الأضرار فيه. بيد أنها سرعان ما أعلنت اكتفاءها بمعونات الدول: العربية والإسلامية؛ تاركة للسلطة تبرعات أوروبا والغرب، التي لن تزيد على 20% من المليارَي دولار.

وطمعت إسرائيل بمعظم المعونات. واقترحت تأليف لجنة، بمعرفتها، تتسلم الأموال، وتشرف على مشروعات إعمار قطاع غزة، بخبرة إسرائيلية؛ لتحرم "حماس" فرصة إعادة بناء بنيتها العسكرية؛ مستخلصة الدرس من حرب لبنان، عام 2006. وأعلنت رفضها أن تكون للحركة أيّ صلة بالمعونات.

لذلك، لم تسمح إسرائيل بمرور كميات كبيرة، من الحديد والأسمنت ومواد البناء؛ حتى لا تسخرها "حماس" لبناء مرابض الأسلحة ومستودعات الذخيرة والأنفاق، وباقي مواقعها العسكرية. وطلبت من الدول الأوروبية إعداد قوائم بالسلع والمواد، التي ستدخل إلى قطاع غزة، بهدف إعمار البنية التحتية المدنية؛ لتشرف على تلك القوائم.

الصراع على المعونات، بين "فتح" و"حماس"، هو أشد فتكاً بالقضية الفلسطينية من الانشقاق السياسي؛ فما بالك باجتماعهما! ولا شك أن اصطراع الحركتَين، سيؤخر إعمار القطاع، وقد يعلقه؛ إذ إن بعض الدول المانحة، تشترط تصالحهما أولاً، يليه إعداد خطة، تشترك فيها حكومتا رام الله وغزة.

نجم عن هذا الصراع إحجام كثير من الدول المانحة عن التبرع، ونكوص أخرى عن وعودها، وتشكيك بعض الدول في جدوى الإعمار، في ظل هذا المناخ. ومن الغريب، أن كِلا الطرفَين الفلسطينيَّين، يرفض وصول الأموال إلى غزة، من طريق الطرف الآخر. ويرضى بضخها بوساطة المؤسسات الدولية، والمنظمات الأهلية الأجنبية! وهذا القصور في رؤية الطرفَين، يمهد لقبول وصاية مالية خارجية، وتدخلات أجنبية. كما يشوه النضال الفلسطيني، ويزري بالعالم العربي، لسنوات طويلة.

لا ريب أن القضية الفلسطينية هي محور جميع الملفات الشائكة في المنطقة. وأهداف الجهات المانحة، لا تقتصر على الدعم الاقتصادي للقضية الفلسطينية؛ بل تتعداه إلى تنفيذ مآربها السياسية، وتحقيق مصالحها.

واستطراداً، فإن ركيزة تصارعها هي القضية الفلسطينية. وهذا ما يعني للفلسطينيين، أن قضيتهم تتعرض لضغوط مستمرة، من جهات مختلفة؛ ويتعلق أمرها بضرورة التوصل إلى تفاهمات وتوافقات بين أطراف عديدة، بينها الطرف الفلسطيني نفسه بالطبع. لذلك، لن يستطيع الجانب الفلسطيني إملاء موقفه على الآخرين، ما دام موقفه منقسماً بين "فتح" و"حماس". ناهيك بأن الجهات المتربصة بالقضية، تجد لمآربها متنفساً، من خلال هذا الانقسام. لا، بل توارى دون الانقسام الفلسطيني الاحتلال والممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.

وهناك بُعد آخر له، أهمية بالغة في إعادة إعمار قطاع غزة. وهو ما يتعلق بمضمون الرسالة، التي يريد الفلسطينيون إيصالها إلى العالم الخارجي، والهدف الأسمى المتمثل في إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، والسيادية. وهو الهدف الذي يجب أن يبقى بارزاً، لا يواريه عليه أيّ هدف آخر، ولا الانخراط في صراع داخلي، ولا التركيز في قضية إعادة الإعمار؛ وهو ما يفرض على الفرقاء الفلسطينيين المتصارعين تركيز رسالتهم إلى العالم وتوحيدها.

نعم لإعمار القطاع؛ ولكن ضمن عملية متكاملة، وهدف واضح هو إنهاء الاحتلال، خلال مدة زمنية محددة؛ على أن يواكب ذلك فك الحصار، ووقف الاستيطان، ورفع الحواجز العسكرية في القدس، وفي مدن الضفة، التي يجب وصلها، براً، بالقطاع.

رابعاً: المعابر وأزمة معبر رفح

1. المعابر

تتحكم إسرائيل في جميع المعابر، التي تصل قطاع غزة بالعالم الخارجي. وهي سبعة معابر، ثلاثة منها رئيسية، وتمثل أهمية كبرى للقطاع، وهي: معبر رفح المخصص لعبور الأشخاص مباشرة من الحدود الشمالية الشرقية لمصر وإليها. ومعبر بيت حانون "إيريز" وهو مخصص كذلك لعبور الأشخاص من إسرائيل ثم الضفة الغربية وإليهما. ومعبر المنطار "كارني"، وهو المعبر التجاري الرئيسي، المخصص لحركة الاستيراد والتصدير، ومرور البضائع من القطاع وإليه.

أمّا المعابر الأخرى، فهي: معبر كرم أبو سالم "كيرم شالوم" وهو على الحدود المصرية؛ ومعبر صوفيا، ومعبر نحال عوز، وجميعها مخصصة لنقل البضائع الثانوية. ومعبر كيسوفيم وهو مخصص للمهام العسكرية.

تكاد هذه المعابر تكون معطلة؛ لرغبة إسرائيل في السيطرة على "حماس"، داخل قطاع غزة. بيد أن الحركة، عبْر هذه المعابر، كانت صعبة، قبل سيطرة حماس على القطاع؛ بل كانت، أحياناً، شبه مستحيلة. وأصبحت هذه المعابر غير ذات جدوى، على أهميتها للقطاع، والتي تبرز من خلال مواقعها، كالآتي:

أ. معبر المنطار (كارني)

وهو من أهم المعابر في القطاع وأكبرها. ويقع شرق مدينة غزة. وتنبثق أهميته من كونه المعبر الرئيسي لتصدير البضائع واستيرادها، من قطاع غزة وإليه؛ فهو إذاً، شريان الحياة للفلسطينيين. وهو أكثر المعابر خضوعاً للتفتيش، بعد معبر رفح، إذ تشترط إسرائيل تفتيشاً مزدوجاً لكلّ ما يمر عبره. يتولى التفتيش أولاً طرف فلسطيني. يليه شركة إسرائيلية متخصصة في الأمن.

والمعبر مُعَد ليستوعب ما حجمه 220 شاحنة، يومياً. إلا أنه منذ سيطرة "حماس" على القطاع، أُغلق دون عمليات التصدير. أمّا عمليات الاستيراد، فكانت محدودة؛ عسى أن تجبر سكان القطاع على التمرد على "حماس"؛ لكونها السبب لذلك.

ب. معبر بيت حانون (إيريز)

هو المنفذ المباشر الوحيد لقطاع غزة إلى إسرائيل أو الضفة الغربية، من دون المرور بمصر أو الأردن. ويقع شمالي القطاع. وقد تحول، الآن، إلى ما يشبه مركزاً حدودياً، يتاخم إسرائيل. ويكاد يكون مغلقاً، منذ سيطرة "حماس" على القطاع؛ فلا يسمح بعبوره إلا لموظفي المؤسسات الأجنبية، وبعض الشخصيات المهمة، وبعض الحالات الصحية الحرجة، والمطبوعات والجرائد؛ وذلك بعد التنسيق مع الجانب الإسرائيلي والحصول على التصاريح اللازمة، وبصعوبة بالغة. ويضطر عابروه إلى السير على الأقدام مسافة كيلومتر، وسط إجراءات أمنية معقدة، بعد تعرضهم لفحص أمني دقيق.

ج. معابر صوفيا وكرم أبو سالم وناحال عوز

هي معابر تجارية. يمر بها أغلب احتياجات قطاع غزة: الإنسانية والطبية. ولا تعمل، الآن، إلا في أوقات متباعدة، كلّما دعت الضرورة. وتُعَدّ بديلاً ثانوياً من معبر المنطار.

يقع أولها شرق رفح. وتعبره مواد البناء بخاصة. ويقع ثالثها شرق غزة. وتعبره المحروقات. أمّا أوسطها، فاختص بعبور المساعدات الأخرى. واتخذ غير مرة بديلاً من معبر رفح؛ لكونه الوحيد الموجود على الحدود المصرية. وهو يمكن إسرائيل من اعتقال من تريد اعتقالاً مباشراً وفورياً، لا يمكنها منه معبر رفح، الذي تتدخل في شأنه عبر دائرة تليفزيونية فقط، لتمنع من لا تريد دخولهم إلى القطاع من مصر؛ إذ إنه يخضع إلا للسلطتَين: الفلسطينية والمصرية.

د. معبر كيسوفيم

يقع بين منطقة خان يونس ودير البلح. وهو مخصص للأغراض العسكرية الإسرائيلية. فكلما أرادت إسرائيل اجتياح القطاع، تعبره دباباتها وآلياتها العسكرية. أمّا في الأحوال العادية، فإنه يُعَد مركزاً حدودياً، بين إسرائيل والقطاع. وقد أغلقته السلطات الإسرائيلية، في أغسطس 2009.

هـ. معبر رفح (أنظر صورة معبر رفح البري)

يناهز سكان مدينة رفح 150 ألف نسمة. وتنقسم قسمَين: أحدهما في الجانب المصري، حيث تُسمى: رفح المصرية، وتضم 40 ألف مصري. والثاني في الجانب الفلسطيني، حيث تسمى: رفح الفلسطينية، وتحتضن 110 آلاف فلسطيني. وتجمع بينهما أواصر عائلية قوية. ويصل بينهما معبر رفح المخصص لحركة الأشخاص، إلى جانب تجهيزه لنقل البضائع. وطالما أُغلق، وطال إغلاقه، أحياناً، أشهراً، قبل سيطرة "حماس" على قطاع غزة. ومنذ سيطرتها عليه، في 15 يونيه 2007، أُحكم إغلاقه، إلا في حالات إنسانية محددة. وهو ما أبرم حصار القطاع، وحرم أهله حرية الحركة، فتعطلت أعمال الكثيرين، ومُنع آخرون من العلاج أو إكمال دراستهم أو زيارة أهليهم، أو من العودة إلى القطاع والخروج منه. إلا أن مصر كثيراً ما فتحته أمام الحالات الإنسانية الخاصة.

وقد نشطت الحركة في المعبر، بعد تدمير إسرائيل، في نهاية عام 2001، مطار عرفات الدولي، المنفذ الحيوي الوحيد للفلسطينيين. لكن إسرائيل دأبت على تعطيل المعبر، بذرائع مختلفة، إلى أن أمكن التوصل إلى اتفاقية المعابر، عام 2005. وهي اتفاقية دولية. شاركت فيها إسرائيل، والسلطة الفلسطينية، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، مشاركة مباشرة. وكانت مشاركة الحكومة المصرية فيها غير مباشرة. ورفضتها "حماس" آنذاك؛ وما زالت.

سمحت الاتفاقية لإسرائيل بالمراجعة، من خلال دائرة تليفزيونية، لكلّ الداخلين إلى القطاع، عبر هذا المعبر. كما نصت على أن تعمل الممرات باستمرار، والسماح لإسرائيل بتصدير منتجاتها الزراعية من غزة.

2. أزمة معبر رفح

استثار فتح معبر رفح البري حمية الفلسطينيين والمصريين والعرب، وخاصة في المستويات الشعبية، وبعض المثقفين والكتاب وأصحاب الرأي، وبعض الأنظمة الرسمية: العربية والإسلامية. فبادروا إلى المطالبة بألاّ يُقْصَر عبوره على الجرحى والمساعدات الإنسانية؛ وليُبَحْ لجميع السكان في غزة، من دون سمة مرور. واحتدم جدلهم، عام 2008، وخاصة بعد تعرض سكان القطاع لعدائيات إسرائيلية مفرطة، وحصار دائم؛ وتردي حالتهم المعيشية والإنسانية؛ ما أدى إلى انفجارهم، عشوائياً؛ على الحدود المصرية. وبين 23 يناير والأول من فبراير 2008، تدفق نحو 700 ألف فلسطيني إلى الأراضي المصرية، في رفح والعريش، حيث تزودوا بالمواد التموينية. وأعادوا الكرة، في الثاني من يوليه 2008. واشتدت المطالبة بفتح معبر رفح، خلال الحرب على قطاع غزة وما بعدها.

فُتح معبر رفح البري، ثاني أيام الحرب على قطاع غزة، أيْ في 28 ديسمبر 2008، حين عبره إلى مصر 558 جريحاً فلسطينياً، ومعهم 545 مرافقاً. كما عبره إلى  القطاع أطباء: مصريون وأجانب، وإعلاميون، ووفود أجنبية؛ إضافة إلى المساعدات الإنسانية. وسرعان ما تعرضت مصر لهجوم إعلامي وجماهيري، طالب بدخول شاحنات الإغاثة إلى القطاع، عبر معبر رفح. لا، بل إن بعض الدول والمنظمات، رفضت توجيه مساعداتها إلى قطاع غزة، عبر معبر كرم أبو سالم، جنوبي القطاع؛ لأنه معبر إسرائيلي. كما طالب البعض بدخول مجاهدين، لمشاركة المقاومة في الحرب.

إن معبر رفح البري، يحكم استخدامه العديد من الاتفاقيات، مثل: اتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية، 29 مارس 1979؛ واتفاق فيلادلفي، بين مصر وإسرائيل، الأول من أغسطس 2005، وهو خاص بنشر حرس حدود مصريين على الحدود المصرية في رفح؛ واتفاق المعابر، بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، سبتمبر 2005؛ إلا أن الاتفاق الوحيد، الذي ينظم استخدام معبر رفح، هو اتفاق المعابر، بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، في 15 نوفمبر 2005 (اُنظر نص اتفاقية المعابر، بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، نوفمبر 2005 ).

طالبت حركة "حماس" والفصائل الفلسطينية، بإلغاء اتفاق 15 نوفمبر 2005، وإشراف مسؤولين من الحركة على الجانب الفلسطيني، وفتح معبر رفح أمام حركة الأشخاص والبضائع. كما نظمت الحركة، بالتعاون مع أطراف تؤيدها: عربية وإسلامية، "حركة دولية لفتح معبر رفح"؛ ما لبثت أن اضطلعت بحملة دولية إعلامية ودعائية على مصر؛ لفتح معبر رفح. وتردد أنها حاولت مقاضاة الحكومة المصرية؛ إلا أنها خابت. أمّا الجانب المصري، فقد تمسك باتفاق 15 نوفمبر، الذي ينص على إشراف السلطة الفلسطينية، وممثلي الاتحاد الأوروبي (بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة الحدودية EUBAM، والتي علقت عملياتها، في 15 يوليه 2007، بعد سيطرة حركة "حماس" على قطاع غزة) على الجانب الفلسطيني من المعبر. كما أن تشغيل المعبر رهن بموافقة أطراف الاتفاق؛ ومصر ليست منهم.

لا شك أن إغلاق معبر رفح دون سكان قطاع غزة، قد أحرج مصر. غير أنها تشبثت باتفاق 15 نوفمبر 2005؛ ليقينها أن إقدامها على تشغيله، منفردة، هو تكريس للانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة؛ وتحقيق للمخطط الإسرائيلي، الطامع، منذ عام 1981، في فصلهما، وتولي القاهرة شؤون إدارة القطاع؛ وبذلك تضمحل القضية الفلسطينية. وقد طالبت مصر بعودة السلطة الفلسطينية إلى المعبر؛ إلا أن حركة "حماس" رفضت هذا الأمر.

أملى على مصر موقفها عاملان أساسيان: أولهما، حرصها على أمنها القومي أن يتأثر بتدفق سكان قطاع غزة إلى سيناء المصرية تدفقاً هائلاً، تداخله محاذير عديدة، تحاكي تلك التي اكتنفت تدفقهم، في يناير 2008، وخاصة وجود مسلحين وأحزمة ناسفة. وثانيهما، الحيلولة دون تنفيذ المقاومة الفلسطينية، في وسط سيناء وجنوبيها، بعض العمليات ضد إسرائيل؛ ما يورط مصر في مواجهة عسكرية مع إسرائيل، إن عمدت هذه إلى مطاردة فلسطينيين، على الأراضي المصرية.

ما إن لامست الأحداث سيناء، حتى بادرت المعارضة المصرية إلى المطالبة بإلغاء معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، التي تقيد حجم الوجود العسكري المصري في سيناء وطبيعته. وتلقف بعض الدول: العربية والإسلامية، وبعض التيارات، مطالب المعارضة المصرية، وسخروها لأزمة معبر رفح ومعاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية؛ فكانت قضية إعلامية عربية وإسلامية، كرست الانقسامات العربية.

إن الخلافات والانقسامات العربية ـ العربية، في شأن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة؛ والاتهامات التي تبادلتها بعض العواصم العربية، أكدت سوء العلاقات العربية ـ العربية، وزادت التضامن العربي وهناً على وهن.

خامساً: بيئتا العدوان: الإقليمية والسياسية

فازت حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية، في الضفة الغربية وقطاع غزة، في يناير 2006، بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني فوزاً ديموقراطياً نزيهاً، شهد لها به الجميع. وما لبث أن سيطرت على القطاع، في يونيه 2007. فبادرت إسرائيل إلى حصارها، اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً، وأحياناً كثيرة عسكرياً؛ فضلاً عن السعي حثيثاً إلى تعميق الخلاف الفلسطيني الداخلي، من خلال المحاور والتحالفات: الإقليمية والدولية.

وفي السياق نفسه، سعت أجهزة الأمن الفلسطينية، وحركة "فتح" إلى إضعاف سيطرة الحكومة الشرعية المنتخبة، بقيادة "حماس"؛ لعلها تسقط. فحرضوا الشارع الفلسطيني على الثورة، بشتى الوسائل، بما فيها الأعمال المسلحة، وإغفال قرارات الحكومة؛ وهو ما عرف، فلسطينياً وإقليمياً، بظاهرة "الانفلات الأمني".

على إثر ذلك، بادرت حركة "حماس" إلى عملية أمنية، امتدت من 11 إلى 14 يونيه 2007. وتمثلت في هجوم القوة التنفيذية، تدعمها كتائب القسام (الجناح العسكري للحركة) على ما سمته: "التيار العميل في الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية وحركة فتح"، الذين اتهمتهم "حماس" بالاضطراب الأمني. وانتهى الصراع إلى سيطرة الحركة على قطاع غزة.

وقد نشرت مجلة "فانيتي فير" Vanity Fair، الأمريكية، أن الإدارة الأمريكية، سعت إلى إطاحة حكومة "حماس"، سياسياً وعسكرياً، وإشعال حرب أهلية في قطاع غزة، وأضافت المجلة، أن الصحفي الأمريكي، ديفيد روز David Rose، قال مستنداً إلى وثائق حصل عليها، إن ثمة خطة سرية، وضعتها الإدارة الأمريكية. ووافق عليها الرئيس الأمريكي. وتولى تنفيذها الجنرال كيث دايتون Keith Dayton، الذي اضطلع بالاتفاق مع محمد دحلان على إسقاط حكومة حركة "حماس".

وبموازاة ذلك، استمرت إسرائيل في اعتداءاتها العسكرية على قطاع غزة. وأحكمت محاصرته اقتصادياً. وقيدت حركة السكان تقييداً حاداً، عبر الإغلاقات الطويلة وشبه الدائمة للمعابر؛ لعل ذلك يحدث انفجاراً وعصياناً، داخل القطاع.

أمّا الولايات المتحدة الأمريكية وشركاؤها الأوروبيون، فقد استمروا في دعمهم المطلق للرئاسة الفلسطينية، ومحاصرة حكومة "حماس". وطالبوا تلك الحكومة بتنفيذ شروط الرباعية الدولية Quartet، من دون مقابل؛ وعلى رأسها الاعتراف بإسرائيل، ووقف الإرهاب، والاعتراف بالاتفاقيات السابقة، التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية مع إسرائيل.

وفي الإطار العربي، حاولت الحكومة المصرية، أن تفرض على "حماس" اتفاقيات مصالحة مع الرئاسة الفلسطينية؛ رأت فيها الحركة تحيزاً واضحاً إلى تلك الرئاسة. فقد كررت القاهرة إغلاق معبر رفح، شريان الحياة لسكان القطاع. وأيدت دول الاعتدال العربية الموقف المصري؛ رغبته في إضعاف نفوذ حركات الإسلام السياسي في المنطقة من جهة، والحفاظ على تحالفاتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى.

غير أن الأردن تراجع، خلال عام 2008، تراجعاً تكتيكياً، يجعله أكثر حيادية. فتقرب إلى حركة "حماس" تقرباً، لم يسفر عنه أيّ اتفاق عملي. ولاين حركة الإخوان المسلمين في الأردن. وحسن علاقاته بسورية وقطر. بيد أنه حافظ على إستراتيجية محور الاعتدال العامة، بما فيها الدعم الكامل للرئاسة الفلسطينية وتدريب قواتها، ومرور السلاح المسموح به إسرائيلياً للسلطة الفلسطينية.

أمّا حكومة "حماس"، فعمدت إلى تثبيت حكمها في قطاع غزة وخدمة سكانه. فنشرت الأمن. ونظمت الأجهزة الأمنية تنظيماً، لا عهد به للقطاع. وأنقذت الوزارات والمرافق العامة من الفساد والترهل. واتخذت هي وفصائل المقاومة كلّ الاستعدادات الميدانية الممكنة، للتصدي لأيّ عدوان عسكري إسرائيلي مرتقب. واجهت الحصار الإسرائيلي للقطاع بالتغاضي عن حفر الغزيين للأنفاق، عبر الحدود المصرية، بل شجعت عليه؛ لتهريب الحاجات الحياتية والضرورية.

ودأبت "حماس"، وفصائل المقاومة، على إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون من قطاع غزة باتجاه البلدات الإسرائيلية المحيطة به؛ رداً على اعتداءات الجيش الإسرائيلي المتكررة، والتي يدعي أنها رد على النيران الفلسطينية. ولم يطفئ تلك النيران إلا اتفاق الطرفَين، في صيف 2008، على هدنة، مدتها ستة أشهر.

إلا أن إسرائيل تابعت، خلال التهدئة، إغلاق المعابر، وحرمان الغزيين المحروقات والكهرباء؛ فضلاً عن اعتداءاتها العسكرية عليهم؛ عسى أن يحفزهم كلّ ذلك إلى التمرد والعصيان على "حماس".

لقد أدركت "حماس"، منذ نجاحها في الانتخابات التشريعية، أن إسرائيل ستلجأ إلى الحسم العسكري، إن فشل الحصار الاقتصادي والسياسي في حمل الغزيين على التخلي عنها؛ فضلاً عن ثورتهم عليها. وتشير المعلومات إلى إن التحضير للعدوان العسكري على القطاع، يعود إلى بداية عام 2008، أيْ مع بداية المفاوضات، التي أفضت إلى الهدنة بين إسرائيل وحركة "حماس"، في منتصف السنة نفسها؛ ما يظهر أن الهدنة لم تكن إلا مرحلة تحضير للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.



[1] من النهر إلى البحر: نهر الأردن شرقاً، إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً.