إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الحرب الإيرانية ـ العراقية، من وجهة النظر العربية





مناطق النفوذ في العالم
موقع الجزر الثلاث
منطقة جزر مجنون
إصابة الفرقاطة الأمريكية STARK
مسارح الصراع البرية والبحرية
معركة الخفاجية الأولى
معركة تحرير الفاو
معركة سربيل زهاب
الهجوم الإيراني في اتجاه عبدان
الإغارة الثالثة على دهلران
التشابه بين مضيقي تيران وهرمز
العملية رمضان
العملية فجر ـ 8
العملية فجر ـ 9
الغارة الإسرائيلية الثانية
القواعد البحرية الإيرانية في الخليج
اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916
حادث إسقاط الطائرة الإيرانية
حدود المياه الإقليمية الإيرانية
حرب الناقلات

مناطق إنتاج النفط
أوضاع القوات العراقية والإيرانية
مسلسل العمليات كربلاء (1 – 9)
مسرح العمليات (الاتجاهات الإستراتيجية)
مسرح العمليات (التضاريس)
مسرح العمليات والدول المجاورة
الموقع الجغرافي للعراق وإيران
المنطقة الكردية
الهجمات الثانوية للعملية بدر
الهجوم المضاد الإيراني العام
الأفكار البديلة للعملية خيبر
التواجد الأجنبي في الخليج
التجمع القتالي لقوات الطرفين
العملية مسلم بن عقيل
العملية بدر
العملية فجر النصر
القواعد والتسهيلات الأمريكية
القواعد والتسهيلات السوفيتية
بدء الهجوم العراقي
تضاريس المنطقة الإيرانية
تضاريس العراق
تقسيم إيران
سلسلة العمليات فجر
طرق المواصلات بالشرق الأوسط
فكرة الاستخدام للقوات الإيرانية
فكرة الاستخدام للقوات العراقية



حرب عام 1967

المبحث الثامن عشر

نتائج تحسن الموقف العراقي

أولاً: تصاعد التسلح في الخليج العربي

خلال العامَين السابقَين (1986 ـ 1987) جهدت الدولتان في شراء أسلحة أكثر تطوراً، في ضوء نتائج القتال، والخبرات المكتسبة منه. فركزت إيران في الأسلحة المضادّة للأسلحة العراقية المتفوقة عليها (الدبابات والطائرات). بينما ركز العراق في زيادة تفوقه النوعي، بالحصول على طائرات ودبابات ومدفعية. وحصل الطرفان على صواريخ أرض/ سطح، ذات مدى متنوع.

لم تكن دولتا الحرب، هما، وحدهما، الساعيتَين إلى الحصول على الأسلحة. بل إن دول مجلس التعاون الخليجي، كانت طرفاً آخر في التسلح، في المنطقة، لأسباب متعلقة بالحرب عينها. ولكن المملكة العربية السعودية، كانت ترمي إلى بناء قوة مسلحة متنامية، ومزودة أسلحة عصرية، لتكون رادعة لأي عدوان ضدها. بينما هدفت الكويت إلى الحصول على المعدات، التي تمكنها من التغلب على الألغام البحرية. وسعت الدول الأربع الأخرى إلى زيادة قدراتها على الدفاع عن أهدافها المهمة (اُنظر جدول مشتريات الأسلحة، في منطقة الخليج العربي في المراحل الأخيرة (1986 ـ 1988)).

ثانياً: اتساع الحرب، وزيادة كثافة الاشتباكات

اتخذت الحرب مفهوماً مكثفاً، لكلٍّ من اتساع مجالها، وتعدد اشتباكاتها. ويبدو أن الكثافة الزائدة، كانت نتاج الأسلحة، التي تمكن الطرفان من استيرادها. وقد ظهر تأثير ذلك في ازدياد حجم الخسائر، وهو ما يعني، كذلك، زيادة القوة التدميرية للأسلحة الجديدة. كما اتسع مجال الصراع بين البلدَين، ليشمل مناطق خارج النطاق الجغرافي لهما، باستخدام الطائرات الحربية وصواريخ أرض/ أرض وأرض/سطح، والسفن الحربية (أو المسلحة). وقد برز، كذلك، نجاح طرفَي الحرب في تطوير بعض الأسلحة والذخائر وتصنيعها، خاصة صواريخ أرض/ أرض. من جهة أخرى، فقد دخلت أطراف جديدة في الحرب، سواء بوجود قطعها البحرية العسكرية في المنطقة (الدول الأوروبية الغربية)، أو تلك التي أُصيبت بعض أهدافها الحيوية، من جراء الاعتداءات، المقصودة وغير المقصودة، من البلدَين (المملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة)، أو باشتراك قواتها المسلحة في الرد على الاعتداءات الإيرانية (الولايات المتحدة الأمريكية).

ثالثاً: المتغيرات الجديدة في الحرب

مع بداية عام 1988، بدا أن هناك متغيرات، تفرض على الحرب مساراً مختلفاً عما كانت عليه في السنوات الأخيرة. وقد أدت إلى تحوّل جذري في دفة الحرب، أسفر عن تحقيق نتائج، كانت، حتى نهاية العام 1987، تبدو بعيدة.

1. ضعف موقف إيران، العسكري والسياسي

شنت إيران هجمات متتالية، ومتزامنة أحياناً، بأسلوب واحد، هو أسلوب الموجات البشرية. وأدى ذلك إلى خسائر جسيمة، في الأرواح والمعدات. وقد تمكنت من تعويض جزئي للمعدات المدمَّرة، إلا أن خسائرها البشرية، كان من الصعب تعويضها، على الرغم من تفوقها البشري، عددياً، على العراق.

كان الشعب الإيراني مرهقاً من طول زمن الحرب، وزادته الخسائر البشرية والعسكرية إرهاقاً، وضعفاً معنوياً، وفقد حماسته السابقة للثورة الإسلامية؛ إذ مرت السنون، ولم تتحقق وعود القيادات، الدينية والسياسية، بالنصر الحاسم.

وزاد من تفاقم الموقف، تورط إيران في حرب الناقلات، ثم تعرّضها للسفن التجارية، الأجنبية والخليجية، وقصفها الأراضي الكويتية بالصواريخ. وهو ما أثار سخط العالم عليها، وأدى إلى مواجَهة ساخنة مع الولايات المتحدة الأمريكية، عدة مرات، لم تستطع طهران أن تكون فائزة في أي منها. وزاد النفور من سياستها، بتشددها ورفضها قبول قرار مجلس الأمن الدولي، الرقم 598، الذي رآه الجميع أفضل الحلول وأكثرها ملاءمة وأعدلها، للطرفَين. وأدى ذلك إلى ازدياد عزلة إيران السياسية.

2. نمو قدرات العراق العسكرية ونفوذه السياسي

استطاع العراق استنزاف القوة العسكرية الإيرانية، واتخذ خطاً سياسياً مغايراً، فكسب تأييد دول مجلس التعاون الخليجي. كما اكتسب مزيداً من النفوذ السياسي، بامتناعه عن الإضرار بمصالح الآخرين، في منطقة الخليج العربي، عدا ما حدث خطأً، وقد اعتذر عنه، وقدم تعويضات مادية عن بعضه، وبقبوله تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي، الرقم 598. بل عرض مبادرات لوقف إطلاق النار، في كثير من الأحيان، رفضتها إيران جميعاً. والتزم بوقف جزئي لإطلاق النار، في أحيان أخرى، خاصة في قصف المدن والمدنيين، وهو ما لم تحترمه إيران، في معظم الأوقات. كان الخطأ الجسيم للسياسة العراقية هو مهاجمة بعض ناقلات النفط الأجنبية، التي تنقل النفط الإيراني، وذلك في إطار محاولاته التأثير في اقتصاد إيران، وقدرتها على الاستمرار في الحرب.

على الصعيد العسكري، نجح معظم الهجمات العراقية المضادّة، وازدادت القوة العسكرية العراقية، بازدياد الأسلحة، المستوردة والمصنعة محليا، وإنشاء قوات جديدة متميزة (فرق حرس جمهوري)، نظامية، مدربة تدريباً عالياً. وهو ما تفوق فيه على إيران، التي اعتمدت على المتطوعين، ذوي التدريب العسكري الأولي.

كان المتغير العراقي المهم، والحاسم، هو التغيير في أساليب إدارة القتال، واستيعاب القيادات، العسكرية والسياسية، دروس الحرب، واستجابتها لمتغيراتها استجابة، مكنتها من دحر الهجمات الإيرانية المتكررة[1].

3. الوجود العسكري الأجنبي في الخليج العربي

أدى تشدد إيران، وتمسكها بخطتها الإستراتيجية، القاضية بالتعرض لخطوط الملاحة الدولية، خاصة خطوط تصدير النفط، إلى جلب مزيد من القوات العسكرية الأجنبية إلى منطقة الخليج، لتأمين الملاحة. وأسفر تعرضها للمصالح الأمريكية، وهيبة الدولة العظمى، عن مواجهة قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي ردت بعنف، أفقد إيران كثيراً من الاحترام العسكري في المنطقة، فضلاً عن ازدياد القيود على مخططاتها العسكرية، وخسارتها مورداً مهماً للسلاح، كانت في أشد الحاجة إليه، في هذه المرحلة[2].

4. المتغيرات السياسية، العالمية والإقليمية

شهد العالم، في هذه الفترة من عمر الحرب العراقية ـ الإيرانية، تحوّلاً جذرياً في السياسة العالمية، كان له أثره في ساحة الحرب في الخليج.

أ. المتغيرات في سياسة الاتحاد السوفيتي، واتجاه القيادة السياسية السوفيتية إلى زيادة اهتمامها بالسياسة الداخلية. وهو ما انعكس على انحسار سياستها الخارجية، فبدأت سحب قواتها من أفغانستان، ودخلت في مفاوضات ومباحثات مع الجانب الأمريكي، لسحب ترسانتها من الصواريخ الباليستية النووية، تمهيداً لتدميرها. وأرخت قبضتها على الدول الشيوعية. كان هذا التغير، هو الأكثر تأثيراً في الحرب، في الخليج. فقد كان المجتمع الدولي، يهيئ نفسه لاستيعاب تلك المتغيرات، والتدخل فيها وتوجيهها، كلٌّ يبغي مصالحه الخاصة، فتراجعت أهمية حرب الخليج لديه، وأصبح لا يسمح بتداخلها في الحدث الأكبر الوشيك، في السياسة الدولية[3]. وقد كان العراق يسير في الاتجاه الصحيح، من دون استيعاب للمتغير نفسه[4]. بينما كانت إيران عقبة إقليمية، بتصرفاتها غير الواعية للمتغيرات الجديدة.

ب. على المستوى الإقليمي، أعادت الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية بمصر، عقب قمة عمان، في نوفمبر 1987؛ وكانت قد قطعت، بتزعم من العراق، عقب اتفاق كامب ديفيد مع إسرائيل. وكان العراق من أولى الدول التي أعادت العلاقات بالقاهرة، وعاد معها الدور المصري القوي في الخليج، الذي أضاف، إلى جهود دول مجلس التعاون الخليجي، كثيراً من الضغوط السياسية على إيران. وهو ما أفادت منه بغداد.

ج. اتخذ المجتمع الدولي باكستان، كقوة إقليمية ذات فاعلية في أحداث المنطقة، بديلاً من إيران، التي كانت تسعى إلى تعطيل الانسحاب السوفيتي من أفغانستان. وهو ما دفع الاتحاد السوفيتي إلى مقايضة إيران تعطيل قرار حظر التسليح ضدها، بعدم تعطيل انسحابه من أفغانستان. وقد فسر الإيرانيون ذلك تفسيراً خاطئاً، حتى فوجئوا بتحول السياسة السوفيتية ناحية المملكة العربية السعودية، لتمارس ضغطاً على باكستان، حتى لا تعارض الانسحاب السوفيتي من أفغانستان، الذي اتضح أنه أشد خطراً من المعارضة الإيرانية لتأثر الأطراف الأفغانية المتحاربة بالقرارات السياسية لباكستان. فقد كان كل الأطراف تتوق إلى الانسحاب السوفيتي من أفغانستان.

د. آخر المتغيرات كانت إجراءات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، لتخفيف وجودهما العسكري البحري في الخليج العربي، الذي كان مرتبطاً، كذلك، بالمتغيرات الأخرى.

رابعاً: الهجمات الإيرانية الأخيرة

ساد الاعتقاد، مع نهاية عام 1987، أن إيران أصبحت غير قادرة على شن هجومها الشتوي الكبير المعتاد، على الرغم من التصريحات، الرسمية وغير الرسمية للمسؤولين الإيرانيين. إذ إن الخسائر البشرية العالية للقوات الإيرانية، وضعف استجابة الشعب لنداءات القيادة الإيرانية، للتطوع، هما العامل الحاسم، الآن، في استمرار الإستراتيجية العسكرية الإيرانية، الرامية إلى إحراز نصر كبير على العراق.

في منتصف يناير 1988، شنت إيران عدة هجمات، تحت اسم جديد، "بيت المقدس"، في القطاع الشمالي من الجبهة، وعلى الحدود بين البلدَين، شرق السليمانية، حيث كانت تشن سلسلة من الهجمات، منذ عام 1987. وقد نفى العراق ما أعلنه الإيرانيون من استيلائهم على 42 كم2 من الأرض، تحتوي على 11 تلاً، و29 قمة جبلية (هيئات مرتفعة تسيطر على الأرض حولها، وهي مهمة، عسكرياً وسياسياً)، وقتل وجرح وأَسْر أكثر من 4 آلاف عراقي.

خلال فبراير ومارس 1988، تفرغ الطرفان لإدارة حرب غير مباشرة على مياه الخليج والمدن القريبة من خط القتال. فلم تحدث مواجَهة مباشرة بينهما؛ إذ استخدما القوات الجوية والصواريخ والمدفعية بعيدة المدى. وكانت الأهداف اقتصادية، عبْر قصف المنشآت النفطية، ومعنوية من خلال التأثير في قوة تحمّل الشعب.

في مارس 1988، استأنفت إيران هجماتها الشمالية. فشنت عدة هجمات، غير مؤثرة، على المدن الحدودية، شمال بغداد على بُعد 250 كم، فقصفتها بالمدفعية، وهاجمتها واستولت على 6منها، إضافة إلى 25 كم من الأرض، شرق السليمانية. صد العراق الهجمات، وأعلن مقتل ألف جندي إيراني، وعمد إلى قصف طهران والمدن الإيرانية القريبة، بالصواريخ والطائرات.

كانت أهداف الهجمات الشمالية للإيرانيين، محاولة الوصول إلى بحيرة دار بنكهان، وتدمير الخزان المائي، الذي يمد بغداد وشمالي العراق بالطاقة الكهربائية المولدة منه. كما تفتح هذه الهجمات الطريق داخل الأراضي العراقية الشمالية الجبلية، بما يسمح لإيران باستغلال طبيعة الأرض، والاستفادة من تمرّس المتمردين الأكراد بالقتال الجبلي، مما يساعدها على التقليل من تفوق العراق في التسلح.

وعلى الرغم من المقاومة العراقية، وصعوبة الأرض، إلا أن المفاجأة، التي حققتها القوات الإيرانية في هجماتها الشمالية، مكنتها من إحراز تقدم محدود. وسارع القادة الميدانيون العراقيون إلى سحب قواتهم من المناطق الجبلية المرتفعة، المدافعة عن المدن. وهو ما استغله الإيرانيون باحتلال القمة، وإصلاء القوات العراقية في المدن، ناراً حامية، أدت إلى رفع نسبة خسائرها، التي راوحت بين ألفين وثلاثة آلاف جندي من الفِرقتَين المدافعتَين عن المنطقة، وعدد كبير من الدبابات والمعدات الأخرى). وفقد العراقيون، كذلك، تفوّقهم النيراني، كما فقدوا حشودهم، لانتشار القوات في مجموعات صغيرة، للدفاع عن القرى والمدن، فقلّت الكثافة العددية، وضعفت قدراتهم الدفاعية.

لم تستطع إيران استغلال نجاح قواتها المبدئي، فلم تطور الهجوم للحصول على عمق أكبر، والوصول إلى أهداف هجومها الرئيسية. وهو ما يعلن، بوضوح، ضعف قوّتها العسكرية. وكانت تلك هي الفرصة، التي يجب أن يستغلها العراق، بعد تحسّن ظروفه، ولا سيما في مجالَي السياسة والتسلح، للمبادرة، مرة أخرى، إلى الهجوم، واستعادة أراضيه، التي فقدها، أثناء الهجوم الإيراني.

خامساً: العراق يستعيد المبادأة

كان من الواضح، أن الجميع يرغبون في وقف القتال، في منطقة الخليج، وأن المجتمعان، الدولي والإقليمي، سيمارسان، قريباً، ضغوطاً قوية لذلك، خاصة أن الإطار، الذي سيُتَّفق في إطاره على وقف الحرب، قد سبق إعلانه (قرار مجلس الأمن الدولي، الرقم 598). وبفشل الهجمات الإيرانية، ووضوح عدم قدرتها على المزيد، كان على العراق أن يسارع إلى انتزاع الأوراق الرابحة من أيدي الإيرانيين؛ التي جمعوها في عدة سنين سابقة؛ حتى يكون في موقف أقوى، لدى بدء التفاوض، الوشيك، بينهما.

لم تكن مبادرة العراق إلى الهجوم مفاجأة تامة. فقد أعد له جيداً، وخدع الإيرانيين عنه، عندما شغلهم بصدّ هجمات جيش التحرير الشعبي الإيراني؛ وهو الجناح العسكري للمعارضة الإيرانية، من مجاهدي خلق، في منطقة شوش، على مواجهة 20 كم، في بداية عام 1988. وقد عَدَّت إيران ذلك الهجوم محاولة عراقية سياسية، وتحسيناً لأوضاع العراق الدفاعية، في تلك الناحية.

صاحب هجمات المعارضة الإيرانية، قصف صاروخي مكثف للمدن الإيرانية بالصواريخ وصلت إلى 106 صواريخ، في خلال مارس، وارتفعت إلى 140 صاروخاً، في الأسبوع الأول من أبريل، شملت 37 مدينة إيرانية، إضافة إلى الهجمات الجوية[5]. (اُنظر ملحق حرب المدن)

تحت تأثير تلك الأحداث، حرك العراق قواته نحو الجنوب، لحشد القوات، تمهيداً لمبادرته إلى الهجوم، من دون أن تفطن إيران لذلك. فقد تواصلت التحركات، لمدة شهر كامل، حتى اكتمل حشد القوات المخصصة للهجوم المرتقب. وأعيد توزيع قوات الفيلق السابع في المنطقة، وتمركزت فيها عدة تشكيلات من الحرس الجمهوري، واتخذت وحدات المدفعية أوضاعها الملائمة، وشُوِّنَت الذخائر، بكميات كبيرة، تحيناً للوقت الملائم لبدء تحرير الأرض المحتلة، بدءاً بالفاو.

سادساً: معركة تحرير الفاو

بعد خمس سنوات تقريباً، أي منذ الانسحاب، عام 1982، وهو تاريخ آخر الهجمات العراقية، في بداية الحرب، عاد العراق إلى شن هجمات رئيسية قوية، موجهاً هجومه الأول ضد القوات الإيرانية، التي تحتل شبه جزيرة الفاو، منذ أكثر من عامين (9 فبراير 1986)، في عمليتها المسماة "فجر 8".

كان التاريخ هو أول أيام رمضان. لذا، سميت المعركة من قِبل العراقيين، "رمضان مبارك". وقد وافقت نهاية يوم 16 أبريل، وقبل بدء نهار 17 أبريل. لذلك، كان هجوماً ليلياً صامتاً. هدفه استعادة السيطرة على شبه جزيرة الفاو كلها. كانت المفاجأة تامة؛ إذ كان الإيرانيون يحتفلون ببدء شهر رمضان المبارك. فضلاً عن أن القوات العراقية، لم تَعْتَدْ قتالاً ليلياً صامتاً، كما أن حجم القتال ومستواه لم يكونا متوقعَين. وكذلك الاتجاه لم يكن في الحسبان، فقد كان الظن الأكبر، أن تحاول القوات العراقية، عندما تفكر في الهجوم، شن هجمات مضادّة لكسر حصار البصرة.

1. طبيعة الأرض في قطاع الهجوم، في الفاو

تقع المنطقة التي خصصت لعمليات الفيلق السابع لاسترداد الفاو، يمين شط العرب ويساره، في منطقة، تمتلئ بأشجار النخيل، المنتشرة على مسافة، تراوح بين 800م وألفي متر، من حافة الشط. تتخللها سواقي الري. ويكثر فيها نباتات طويلة الساق (قصب وبردي). ويفصل بين منطقة العمليات والضفة الغربية لشط العرب، مسافات غير متساوية. لتعرج الشط، تبلغ في أدناها 500م وأقصاها 3 آلاف متر. وهي منطقة اختفاء جيدة للأفراد المترجلين، سواء عند التحرك أو التخندق. وهو ما يجعل من عملية تطهيرها من المدافعين أمراً صعباً، خاصة مع قربها من المواقع الدفاعية الإيرانية، على الضفة الغربية لشط العرب، حيث جزيرة عبدان.

اتخذ الإيرانيون من جزيرة عبدان قاعدة نيرانية، لمعاونة القوات، غرب شط العرب. وهي تمتد من مدخل الشط، مقابل الطرف الجنوبي الأقصى لشبه جزيرة الفاو، حتى جنوب المحمرة الإيرانية، عند مصب نهر كارون (65 كم طولاً، و5 كم عرضاً، في الشمال، و20 كم عرضاً، في الجنوب). وحُشد فيها فرقتان، خصصتا لمعاونة المواقع الدفاعية ونجدتها، في الغرب، كما كانتا تقومان بغيار القوات، في الغرب، دورياً (وهو ما كان يحدث حينما بدأ الهجوم).

المنطقة الملاصقة لشط العرب، غرباً، أرض رسوبية مالحة، غير صالحة لسير العربات العسكرية بوجه عام، والمجنزرات بوجه خاص. ويقع فيها، جهة الخليج، موقع المعامر، التاريخي، العائد إلى القرن التاسع عشر، والذي اتُّخِذ منطقة عبور، لتجاوز الترع والقنوات المائية، من الاتجاهين.

كان في المنطقة ثلاثة طرق رئيسية. الأول، الطريق القديم، بين الفاو والبصرة، منذ القرن التاسع عشر، وهو لا يزال مستخدماً، بعد تعديله وتطويره. الثاني، هو الطريق المعروف باسم الطريق الإستراتيجي، ويمتد من الفاو، عبر الأرض المالحة، إلى وسط شبه جزيرة الفاو. والثالث، طريق ساحلي موازٍ لخور عبدالله، حتى ميناء أم قصر. وتلتقي الطرق الثلاثة في منطقة عقدة الفاو (اُنظر شكل معركة تحرير الفاو).

2. الخطة الدفاعية الإيرانية

استمرت القوات الإيرانية في احتلال شبه جزيرة الفاو فترة زمنية، تعدت السنتَين. فكان لديها الفرصة لإنشاء مَواقع دفاعية جيدة التجهيز، وتدريب قواتها على مواجَهة الهجمات العراقية المتوقعة، لتحرير الفاو واستعادتها، والتي طال انتظارها 26 شهراً، في إطار خطة دفاعية مُحكَمة، ومنسقة جيداً.

كان الإيرانيون يعانون عدة مشاكل، عسكرية واقتصادية وسياسية، فرضت على القوات الإيرانية، في شبه جزيرة الفاو، أوضاعاً معينة، وأسلوباً محدداً. وكان أهم المؤثرات، هو عدم قدرتهم على استئناف الهجوم، للوصول إلى البصرة، هدفهم الأزلي، وعدم القدرة، كذلك، على التخلي عن هذا الهدف. لذلك، كانت المَواقع الإيرانية أقرب إلى مواقع ابتدائية للهجوم، منها إلى مواقع دفاعية كاملة. وأثر ضعف الإمكانات في تجهيز المواقع هندسياً، يجعلها منيعة، ضد الاختراقات العراقية المتوقعة. وكذلك في القدرات النيرانية. كانت الروح المعنوية، الآخذة في التدهور، مؤثراً آخر في قدرات القوات الإيرانية وكفاءتها، في شبه جزيرة الفاو؛ فطبيعة المنطقة قاسية، وإمداداتها، الإدارية والطبية، غير كاملة، وصدى الهزائم المتتالية، لا يزال مسموعاً، إضافة إلى ضعف التدريب، والمَلل من طول الحرب، التي دخلت عامها الثامن.

ارتكزت الخطة الدفاعية الإيرانية على طبيعة الأرض، مع بعض التجهيز الهندسي، باستغلال الموارد المحلية في المنطقة، لزيادة صعوبة اختراق القوات العراقية دفاعاتها. ووضعت الخطة على أساس صدّ الهجوم العراقي المنتظر، وتكبيده خسائر جسيمة، ثم دفع الاحتياطيات، المتمركزة في جزيرة عبدان، خلْف المَواقع الدفاعية، لشن هجوم مضادّ، يدمر القوات العراقية، التي قد تنجح في اختراق المَواقع الإيرانية.

وبنى الإيرانيون ثلاثة سواتر ترابية، متدرجة الارتفاع، تدرجاً، يعلو فيه الساتر الخلفي عمّا أمامه، مما يتيح للمدافعين عنه السيطرة على التحركات قبالته. ووصل ارتفاع أعلاها إلى ثلاثة أمتار. وشقت القوات الإيرانية مجاري مائية بين السواتر الثلاثة، لمنع الدبابات والمركبات المجنزرة من الحركة بينها، إضافة إلى أن منطقة الممالح (وسط شبه الجزيرة) ذات طبيعة رخوة هشة، مما يصعب الحركة خلالها. ولتسهيل حركة القوات الإيرانية وتأمينها، أنشئ ساتر رابع، خلْف الساتر الثالث، وأقلّ منه ارتفاعاً، ومُهدت الأرض بينهما للمركبات الإيرانية، كما أنشئ بينهما، كذلك، مناطق تمركز العناصر، الإدارية والفنية، والاحتياطيات من الاحتياجات والقوات.

وغمر الإيرانيون الأرض في المملحة، بينهم وبين القوات العراقية، بالمياه، بصفة دائمة، من طريق شق مجرى مائي في شط العرب، لزيادة صعوبة التحرك خلالها، ووضعت الموانع الخرسانية، والأسلاك الشائكة، والألغام، في كل مكان، خارج الطرق والمحاور.

وأنشأ الإيرانيون ملاجئ تحت الأرض، استخدمت الخرسانة المسلحة في بعض منها. وغُطِّيَت بردم عالٍ، لتتحمل القصف، الجوي والمدفعي، المنتظر. ومُوِّهَت لتشابه الأرض حولها، ليصعب اكتشافها. وحُفزت خنادق، لتكون ممرات لحركة الأفراد، مغطاة، كذلك، لتصل بين الملاجئ ومَواقع الأسلحة والدفاعات الأمامية. كما زوِّدت المَواقع إمدادات إدارية، من التعيينات والمياه والذخائر، تسمح لها بالصمود يومَين كاملَين، في حالة حصارها؛ وهو ما يوضح وعي الإيرانيين بالصعوبات التي ستواجهها الاحتياطيات القابعة في جزيرة عبدان، للعبور ونجدة هذه المَواقع الأمامية، غير أنهم لم يسعوا إلى تعديل خطتهم، ونقْل تلك القوات الاحتياطية، إلى مناطق تتيح سهولة الإنجاد. وعلى الرغم من إنشائهم عدة جسور عائمة، وآخر ثابتاً، على شط العرب، فالمتوقَّع أن يبادر العراقيون إلى تدميرها، قبْل بدء الهجوم، لعرقلة مناورة الإيرانيين.

كانت الخطة الدفاعية الإيرانية، في مجملها، بسيطة، وبدائية، وتقليدية كذلك. تفتقر إلى كثير من أساسيات الدفاع، خاصة الدفاعات ضد الدبابات، والطائرات، والإبرار، الجوي والبحري، والحرب الكيمياوية. وهو ما يعني هشاشة الدفاع ضد هجوم قوي، تُطبق فيه نظريات الاستخدام الأمثل لتعاون الأسلحة المختلفة. كانت نقطة القوة الوحيدة، هي طبيعة الأرض، والموانع الصناعية، التي أضيفت إليها.

بعد مرور أكثر من عامَين، على احتلال القوات الإيرانية شبه جزيرة الفاو، ومع اتساع جبهة القتال، من الشمال إلى الجنوب، وتكرار الهجمات الإيرانية، ذات الموجات البشرية الكثيفة، وخسائرها الجسيمة، كان لا بدّ للإيرانيين من تخفيض حشدهم في المنطقة، بسحب وحدات منها، لدفعها إلى مناطق أخرى، تبعاً للحاجة إليها. وتدنّي الحشد الإيراني من ثلاثين ألف جندي، عند احتلال المنطقة، عام 1986، إلى حوالي ثمانية آلاف جندي فقط، عام 1988. وهو ما أضعف قوة الدفاع، ذي المواجهة الكبيرة.

3. الخطة الهجومية العراقية

كانت البدائل المتاحة، أمام المخطط العراقي، محدودة؛ فالأرض، بطبيعتها وموانعها المختلفة، تجبر القوات العراقية على الالتزام بالمحاور الرئيسية. لذلك، سعى المخطط العراقي إلى حل مشاكل استخدام القوات بشكل أفضل، وإلى تنسيق خطة الخداع، بما يعوض القوات عن تحركها المقيد حتى الدفاعات الإيرانية، وصعوبة المناورة خارج المحاور الرئيسية؛ وهو ما سبق أن تسبب، عام 1986، بفشل الهجمات العراقية المضادّة.

قسمت الخطة إلى ثلاث مراحل متتالية. المرحلة الأولى، تتقدم فيها القوات العراقية، تحت ستر القصف، الجوي والمدفعي، نحو المَواقع الإيرانية، الأمامية والخلفية، لتواجه الدفاعات الرئيسية على الساتر الأول، وتهاجمه، وتستولي على السواتر الترابية الثلاثة، وتصل إلى القناة المائية الأولى للإغمار. المرحلة الثانية، تطور القوات العراقية هجومها، بدفع مزيد من القوات إلى الاشتراك في القتال، وتواصل اقتحام المَواقع الدفاعية الإيرانية، حتى تصل إلى القناة المائية الثانية للإغمار، وإلى المنطقة جنوب عقدة الفاو، حيث تتلاقى الطرق الثلاث الرئيسية المتجهة إلى الفاو. المرحلة الثالثة، تشمل حصار مدينة الفاو واقتحامها وتطهيرها، والوصول إلى آخر نقطة في شبه الجزيرة، عند رأس البيشة، فتبلغ القوات المهاجِمة أهدافها النهائية (8 كم، جنوب مدينة الفاو).

لتنفيذ الخطة بمراحلها الثلاث، حُشدت القوات المهاجِمة في رتلَين رئيسيَّين. الرتل الأول، ينهض بأعمال قتاله الفيلق السابع، وخُصص له المحور الرئيسي الأول (الطريق القديم)، الملاصق لشط العرب. الرتل الثاني، من قوات الحرس الجمهوري، وخُصص له المحور الرئيسي الثالث (الطريق الموازي لخور عبدالله).

لمعاونة القوات المهاجِمة، حدد للقوات الجوية مهمتان أساسيتان. أولاهما، تدمير الجسور على شط العرب، لمنع ارتداد المدافعين عن شبه الجزيرة، وحصارهم فيها، ومنع عبور القوات الاحتياطية في عبدان (أو تأخيرها)، أو إمداد القوات في شبه جزيرة الفاو. والمهمة الثانية، كانت قصف المَواقع الإيرانية، بالتركيز في مناطق تمركز الاحتياطيات، في جزيرة عبدان، وعقد المواصلات ومراكز القيادة والسيطرة. بينما تهاجم الطائرات العمودية المسلحة التجمعات البشرية والدبابات.

وحُدد للقوات البحرية تدمير القطع البحرية الإيرانية، في قمة الخليج، ومنعها من الاقتراب أو الاشتراك في قصف القوات المهاجِمة، والحؤول دون مشاركتها في التمهيد النيراني ضد المناطق الخلفية، في جنوبي شبه الجزيرة، خاصة عند اقتراب الرتل الثاني (قوات الحرس الجمهوري) من مدينة الفاو، أو عند تحقيقها المهمة النهائية في رأس البيشة.

4. سير المعركة ونتائجها

تقدمت القوات المهاجِمة، ليلاً، لتصل، قبْل الفجر، إلى مرمى أسلحة القوات المدافعة، فعمدت إلى الاختراق السريع، المباغت، في هجوم برمائي، على محورَي التقدم، مطوقة المَواقع الرئيسية، ومفاجئة القوات الإيرانية، على المحورَين، الأول، حيث تهاجم قوات من الفيلق السابع، والثاني، حيث تهاجم وحدات من الحرس الجمهوري. بينما انتشرت القوات الخاصة في منطقة المستنقعات والأرض المملحة بينهما.

استخدمت القوات العراقية الغازات الحربية، من أنواع غازات الأعصاب، لإفقاد المدافعين القدرة على استخدام الأسلحة، أو السيطرة على القوات. بينما مهدت المدفعية العراقية ـ فور الالتحام بالمَواقع الأمامية للإيرانيين، تمهيداً نيرانياً قوياً، شمل معظم شبه الجزيرة، وجزيرة عبدان، وشط العرب. اشتركت فيه القوات الجوية والقوات البحرية، مما مكن القوات المهاجِمة من تحقيق اختراق سريع فعال.

وساعد على سرعة الاختراق، والتقدم بمعدلات هجوم عالية، كثافة الحشد العراقي في مواجَهة الإيرانيين، إذ فاق، عدداً، 6 أضعاف المدافعين، وهو ما أتاح للقوات الأمامية المهاجِمة، الاقتراب من الموانع، والتغلب عليها، وعبور المسطحات المائية الفاصلة، بنجاح، على الرغم من الخسائر التي تكبدتها، من جراء حقول الألغام والأشراك الخداعية.

لم تُبْدِ القوات الإيرانية مقاومة عنيفة، كما هو متوقع، بل سرعان ما انهارت دفاعاتها، فعمدت إلى الارتداد، بسرعة، في اتجاه شط العرب، حيث الجسور الأربعة، التي تمكنت القوات العراقية من تدمير اثنين منها. وخلال أربع ساعات ونصف، من بدء الهجوم، حققت القوات الأمامية المرحلة الأولى (الساعة الحادية عشرة صباحاً).

اندفعت القوات العراقية تطارد المنسحبين، الذين اضطروا إلى ترك أسلحتهم الثقيلة والدبابات والمدافع، والتكديسات الإدارية، في المَواقع، وعلى طول المحاور العرضية، المتجهة إلى شط العرب، حيث المعابر إلى الشرق. وتمكنت القوات المطارِدة من الوصول إلى خط مهمة المرحلة الثانية، في الخامسة والنصف مساءً (بعد 11 ساعة قتال).

واستمر الحرس الجمهوري في الاندفاع جنوباً، ليصل إلى مدينة الفاو، ويتجاوزها، سريعاً، إلى رأس البيشة، مطوقاً القوات الإيرانية، التي لم تتمكن من الانسحاب، ومستكملاً مهمة الهجوم النهائية، بعد ظهر اليوم التالي (18 أبريل 1988)، في الساعة الخامسة إلا ربعاً، حين تحقق استرداد شبه جزيرة الفاو، في 35 ساعة، كأول انتصار عراقي كبير، منذ فترة طويلة من الحرب.

خسر الإيرانيون حجماً كبيراً من قواتهم، في شبه جزيرة الفاو، ما بين قتيل وجريح وأسير. ولم يتسنَّ الفرار إلا لعدد قليل منهم. كما خسروا معظم المعدات والأسلحة، خاصة الثقيلة، التي استولى العراقيون على معظمها، وبعضها سليم[6]. كما استردوا الأرض كاملة، في ذلك القطاع، واتصلوا، مرة أخرى، مع الخليج العربي. وعلى أثر ذلك، أعلن الرئيس العراقي، صدام حسين، مبادرة سلام للخليج العربي في 19 أبريل 1988 (اُنظر ملحق نص مبادرة السلام في الخليج العربي التي أعلنها صدام حسين رئيس الجمهورية العراقية).

سابعاً: الهجمات العراقية لتحرير الأرض (تحسُّن الموقف القتالي للعراق)

تابع العراقيون هجماتهم، في القطاع الجنوبي. واستطاعوا إلحاق هزيمة جديدة بالقوات الإيرانية، شرق البصرة، باستعادتهم مدينة شلامجة، على مسافة 25 كم، شرق البصرة. وخسر الإيرانيون، في عشر ساعات قتال، في يوم واحد، 50 ألف مقاتل، إضافة إلى عدد كبير من معدات القتال الرئيسية، تصل إلى 10% من قوة الجيش الإيراني. وأدى ذلك إلى انخفاض آخر في معنويات الإيرانيين، جنوداً وشعباً، وفترت حماستهم للثورة.

مرة ثالثة، شن العراق هجوماً جديداً، في الشمال، على عدة مراحل، شمل كل أنحاء المنطقة الكردية. وتمكن من استعادتها، ودحر القوات الإيرانية. وكان رد الفعل الداخلي، في إيران، عنيفاً؛ إذ أُقصِيَ العديد من القيادات العسكرية، خاصة رئيس الأركان، ونيطت القيادة العامة للقوات المسلحة، بالإنابة، برئيس البرلمان، هاشمي رافسنجاني.

لم تحدِث التغييرات القيادية، والهزائم المتتالية، تغيراً في السياسة العسكرية لإيران. فقد دأبت القيادات، السياسية والدينية، على رفضها قبول وقف إطلاق النار. وطالب الخميني بمواصلة الحرب. ونشطت المزايدات من أجل الانتخابات الوشيكة. وكان رد فعل الشعب عنيفاً، كذلك، بتزايد التظاهر ضد الحرب، والتقاعس عن التطوع. ولم تجد القيادة السياسية بداً من محاولة إظهار قدرتها على السيطرة على الأمور، والإيحاء بأن الهزائم السابقة، إن هي إلا جولة. فانبرت لهجمات، خططت على عجَل، في 13 يونيه 1988، في منطقة شلامجة، لاستعادتها من العراق.

كانت القوة الإيرانية المهاجِمة، في شلامجة، مؤلفة من 25 ألف جندي (50 كتيبة). تمكنت من التغلب على الموانع أمام الدفاعات، من أسلاك شائكة وحقول ألغام، بخسائر فادحة. إلا أنها فشلت في اختراق أي مَوقع عراقي، ولم تستطع، بعد ثلاثة أيام قتال، اختراق أكثر من 10 كم.

اعتمد العراقيون على قواتهم الجوية، التي نفذت عدداً ضخماً من الطلعات، يومياً، وصلت إلى 650 طلعة، في أيام القتال الثلاثة، قبل أن يدفعوا الاحتياطيات القوية، بقوة 40 ألف جندي (11 لواء)، إلى ضربة مضادّة، استعادت بها الأرض، التي استولى عليها الإيرانيون في 19 ساعة قتال، مكبدة إياهم خسائر جسيمة.

عاد العراق إلى شن هجماته، في الشمال، حول السليمانية. وتمكن من استعادتها برمّتها، في يونيه 1988، وسيطر على المنطقة، فتمكن، بذلك، من إنهاء الوجود الإيراني في معظم المنطقة. ويلاحظ أن العراقيين نفذوا هجماتهم بعد تحريكهم قواتهم، من الجنوب إلى الشمال. كما شنت القوات الجوية، التي سبق أن شاركت في هجمات الجنوب، في الفاو، هجمات مكثفة لمعاونة القوات البرية. وهو ما يعنى قدرة العراق على إعادة توزيع قواته ونشرها، بحرية أكبر من قبْل. وهي نتيجة لنجاح هجماتهم المتوالية. وبات واضحاً استعادة العراقيين للمبادأة، التي فقدها الإيرانيون تماماً.

أبدت إيران مرونة أكبر، في التجاوب مع مساعي السلام، إلا أنها لم تتنازل عن شروطها لوقف إطلاق النار. وهو ما أدى إلى توقف المساعي وإنهائها، في كثير من الحالات. ولم يكن العراق يعلق آمالاً على المساعي الدبلوماسية. فقد كان تواقاً إلى تحسين موقفه العسكري، قبْل أن يحدث تغير في الموقف السياسي، يؤدي إلى وقف إطلاق النار، وهو ما كان متوقَّعاً في وقت قريب؛ إذ كانت الخطوة التالية المنتظَرة، هي المباحثات المباشرة، التي كان العراق يرمي إلى دخولها قوياً، يستطيع أن يحقق مكاسب سياسية، في اتجاهات التفاوض حول تلك المشاكل، التي كانت من أسباب الحرب، وتسويتها تسوية مُرْضِيَة.

قبل أن ينتهي يونيه 1988، كان العراق قد شن هجومَين آخرَين. الأول، في منطقة مهران، بحجم كبير من القوات المدرعة، وباشتراك جيش التحرير الشعبي، التابع لحركة مجاهدي خلق، الإيرانية المعارضة، تمكن خلاله أن يستولي على مدينة مهران الإيرانية وما جاورها، وأن يدمر فرقة إيرانية كاملة، قبْل أن ينسحب إلى داخل حدوده، تاركاً قوات مجاهدي خلق، الإيرانية المعارضة، تحتل المدينة. وقد سارعت القيادة الإيرانية إلى سحب عدة وحدات من قطاعات أخرى، لتدفعها إلى استعادة المدينة، وتنشر قواتها في المنطقة الحدودية، حتى كرمنشاه، معلنة عن نجاحها في صدّ الهجمات العراقية. إلاّ أن العراق فاجأ الإيرانيين، في اليوم نفسه، بدفعه قوات عراقية إلى الاستيلاء على مهران، مرة أخرى، والاستيلاء على القمم الجبلية المحيطة.

أمّا الهجوم الثاني، فقد وقع في نهاية الشهر، بقوة صغيرة من المشاة، يدعمها بعض وحدات من الحرس الجمهوري؛ إذ قاما بعبور برمائي، ثم هاجما جُزُر مجنون، تحت ستر نيران كثيفة، من المدفعية والدبابات، من مواقعها المختارة جيداً. وأعقب العبور البرمائي، إنشاء عدة جسور وطرق ممهدة، إلى المنطقة المستولى عليها، لنقل مزيد من القوات. وخلال ثماني ساعات قتال، استطاعت القوات العراقية السيطرة على الجُزُر، ومتابعة الهجوم، داخل الأراضي الإيرانية المجاورة، بعمق 30 كم.

تكبدت القوات الإيرانية خسائر جسيمة، مرة أخرى، خاصة أن العراق استخدم الغازات الحربية في الهجومَين. كما أن حشده القوات والأسلحة الرئيسية، تعدى، في الهجوم الثاني على جُزُر مجنون، المعدلات المعتادة، حيـث فاق نسبة 1 : 20[7]. واستخدم لواء مظلياً في الإبرار خلْف الدفاعات الإيرانية، لعزلها وتطويقها، مما عجّل بسقوطها.

ثامناً: الهجمات العراقية الأخيرة

خلال يوليه 1988، مارست القيادة العراقية ضغطاً قوياً على إيران، عبر قصفها الأهداف الاقتصادية بكثافة عالية، ومطاردة القوات الإيرانية في المناطق، التي سبق استيلاؤها عليها، داخل الحدود العراقية. ولم يبقَ سوى منطقة الزييدات على الحدود الدولية، بالقرب من حقول النفط، في العمارة، حيث آخر المَواقع الإيرانية، في الأراضي العراقية.

أسفرت الهجمات السابقة، منذ تحرير الفاو، عن هزائم متتالية للقوات الإيرانية. فقدت فيها معظم أسلحتها، حتى إنها باتت تفتقر إلى القدرة القتالية الكافية[8]. كما انخفضت الروح المعنوية للجنود، وفقدوا الرغبة في القتال، بسبب الهزائم المتكررة، والذعر من الغازات السامة، التي يستخدمها العراق في هجماته كافة.

قصفت القوات العراقية، بالمدفعية، المَواقع الإيرانية، حول الزييدات، ثم دفعت قواتها (خَمس فِرق من الفيلق الرابع والحرس الجمهوري) إلى مهاجمة المَواقع الإيرانية، التي انهارت سريعاً ، ولم تبدِ القوات الإيرانية مقاومة قوية، واستسلم 2500 إيراني. تابعت القوات العراقية هجومها، من دون مقاومة تذكر من الإيرانيين. وتخطت الحدود الدولية، مرة أخرى، إلى داخل الأراضي الإيرانية، بعمق 40 كم. واستولت على مدينة دهلران، جنوب مهران، على الطريق بينها وبين ديزفول الإستراتيجية. وسيطرت على أكثر من 1500 ميل مربع من الأرض الإيرانية. إلا أنها انسحبت منها، بعد عدة أيام، كانت كافية ليعي المسؤولون الإيرانيون مغزى الرسالة؛ إذ أعقب ذلك مظاهرات ضخمة، في المدن الرئيسية الإيرانية. وصعد العراق من الموقف، مهدداً بغزو جنوبي إيران، العاجزة عن صدّه، حتى يجبرها على سحب قواتها كافة، خارج الحدود العراقية.

عرض العراق الأسلحة المستولى عليها من القوات الإيرانية، التي تبلغ عدة آلاف من كل نوع، في معرض مفتوح للشعب العراقي. وسارعت إيران إلى إعلان قبولها الانسحاب مما تبقى في حوزتها من مَواقع عراقية، شمال حاج عمران. كما عرضت وقف إطلاق نار، رفضه العراق، مطالباً بتنفيذ قرار مجلس الأمن، الرقم 598. وأتبعت ذلك بتهديد قوي أخير، إذ أغارت طائراتها على منطقة المفاعلات النووية الإيرانية، في بوشهر، والمنشآت الاقتصادية في بندر خميني والأهواز. وردت إيران بإغارة على أهداف عسكرية، في الفاو وكركوك، لم تحدث تأثيراً يذكر في الموقف.

كانت الحرب تمر بلحظات دقيقة في منعطفها الأخير، فالقيادة الإيرانية تبدي مرونة لم تكن من صفاتها سابقاً، بعد سلسلة الهزائم التي منيت بها قواتها، وعودة القوات العراقية لاحتلال أراضي إيرانية، والسخط الشعبي الذي عم المدن الإيرانية، وفي غمرة الأحداث التي ترتب مسرح الحرب للمشهد الأخير، حدثت مواجهة عنيفة بين الزوارق الخفيفة للبحرية الإيرانية والقطع البحرية الأمريكية في الخليج العربي، دمرت، خلالها، البحرية الأمريكية زورقين إيرانيين، وطائرة مقاتلة إيرانية من نوع (F-14)، وتصادف دخول طائرة ركاب إيرانية منطقة الاشتباك فأطلق عليها الطراد الأمريكي ليفنجستون صاروخين سطح/ جو فانفجرت فوق جزيرة هانجام في مضيق هرمز، وقتل كل ركابها (398 راكباً) (اُنظر ملحق حادث إسقاط طائرة الركاب المدنية الإيرانية بوساطة مدمرة أمريكية، في 3 يوليه 1988).

أعلن آية الله الخميني، مرشد الثورة الإيرانية، في 5 يوليه 1988، قبول إيران وقف إطلاق النار، والاستعداد للتوجه إلى مائدة المفاوضات، لحل المسائل المعلقة، في إطار القرار 598، لتتوقف الحرب، بعد ذلك، منهية عقداً من القتال الضاري، في منطقة الخليج العربي، بين أقوى قوَّتَين إقليميتَين فيه.



[1] حصل العراق على مشورة، ومعاونة خارجية على التخطيط وإدارة الحرب، غيرت من أداء قواته، وحسمت المعارك في مصلحته.

[2] كانت الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من تزعمها المطالبة بحظر السلاح على إيران، أحد أهم مورِّدي السلاح إليها، من طريق وسيط (إسرائيل).

[3] انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي، والنظام الدولي، الثنائي القطبية، الذي ساد العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

[4] أثبتت الأحداث التالية (غزو العراق الكويت 1990) عدم استيعاب قادة العراق المتغيرات العالمية، وأن أحداث نهاية الحرب مع إيران، جاءت مصادفة، في تماشيها مع متطلبات المجتمع الدولي.

[5] كانت قدرات إيران على الرد أقلّ من النصف، بالنسبة إلى الصواريخ (65صاروخاً) وبتأثير ضعيف، وأكثر ضعفاً بالنسبة إلى الغارات الجوية.

[6] منها 90 دبابة، وعدد كبير من المدافع، مختلفة العيارات، ومركبات مدرعة.

[7] حشد العراق ألفَي دبابة، مقابل 60 فقط لإيران.

[8] كان لدى العراق عدة آلاف من الدبابات. بينما لم يتبقَّ لإيران سوى مائتَي دبابة فقط. واستولى العراق على 570 دبابة إيرانية، في المعارك السابقة.