إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الأكراد والمشكلة الكردية




الملا مصطفى البرزاني
جلال طالباني
عبدالله أوج آلان
عبدالرحمن قاسملو


منطقة الأكراد "كردستان"



الأكــــراد

المبحث الرابع

الأكراد في ظل حكم البعث العراقي

وحتى نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية

أولاً: المسألة الكردية، في ظل حُكم حزب "البعث" العراقي

1. الانقلاب البعثي في 17 يوليه 1968

تمكن البعثيون من تجميع قواهم ، وبادروا إلى انقلاب، في 17 يوليه 1968، بقيادة الرئيس أحمد حسن البكر. ولم يكن الأمر غريباً، لأن البعثيين كانوا متحالفين مع القوميين، في انقلاب 1963. ولكن الرئيس عبدالرحمن عارف، أطاح جزءاً منهم، في نوفمبر من العام نفسه، وأبقى المعتدلين، ثم تخلص منهم جميعاً عام 1964. مما أدى إلى أن يتحـالف عليه الجميع، ويطيحوه، في 17 يوليه 1968. وهكذا، يظهر أن هدف الانقلاب الرئيسي، هو الوصول إلى السلطة. ومنذ اللحظة الأولى، اتخذت الحكومة الجديدة العديد من القرارات السياسية، في مصلحة الأكراد، بهدف الحفاظ على وحدة الشعب العراقي، ومواجهة المتغيرات العديدة في المنطقة، وتنفيذ أهداف حزب "البعث" ذي الطموحات القومية الواسعة.

ففي البيان الأول، الصادر عن الحكام الجدد، في 17 يوليه 1968، لم يغب عنهم المسألة الكردية، إذ ذكر البيان "أن الحكام السابقين أهملوا، متعمدين، الاستقرار والأمن الداخلي في ربوع الوطن. ولم يتقدموا خطوة إيجابية واحدة، لحل القضية الكردية. وأن الثورة عازمة على تحقيق الوحدة الوطنية، وإنهاء مشكلة الشمال، بحكمة ودراية، وبروح طابعها مصلحة الوطن، وضمان أمنه واستقراره ورفاهيته، وصيانة وحدته الوطنية".

ثم صدر الدستور المؤقت، في 21 سبتمبر 1968، فألغى الدستور المؤقت السابق، الصادر عن الرئيس عارف. فقد نصت المادة 21، من الباب الثالث، على أن العراقيين "متساوون في الحقوق والواجبات، أمام القانون، لا يميز بينهم، بسبب الجنس أو العِرق أو اللغة أو الدين، ويتعاونون في الحفاظ على كيان الوطن بمن فيهم العرب والأكراد، ويقرر الدستور حقوقهم القومية، ضمن الوحدة العراقية".

وفي نهاية عام 1968 عقد المؤتمر القطْري السابع لحزب "البعث" ـ ومقررات هذا الحزب، في عُرف العراقيين تعادل نصوص الدستور ـ وأكدت قراراته حق الأكراد في التمتع بحقوقهم القومية، في إطار وحدة الشعب والوطن والنظام الدستوري، وأن المشكلة الكردية، يجب أن تُحل حلاً سلمياً، حتى لا تستغلها القوى الخارجية، للتدخل في شؤون العراق، والضغط عليه. وأن عدم قدرة العهود الماضية على تفهّم المشكلة، وعدم الرغبة الصادقة في حلها، علاوة على التدخل الخارجي، زادت المشكلة تعقيداً، حتى إنها كادت تستعصي على الحل، بعد أن حل العنف، منذ عام 1961، في معالجتها، بدلاً من الحوار الديموقراطي، الذي تستوجبه طبيعة المشكلة، التي تتضمن حقوقاً عادلة، لجزء من الشعب العراقي.

2. الصراع الكردي ـ البعثي

كان وضع الأكراد، مع بداية الانقلاب الجديد، مختلفاً تماماً عنه مع الانقلابات السابقة، وكان الملا مصطفى البارزاني، يبدو وكأنه رئيس كردستان غير المعلَن. وكان التحالف، بين الأكراد وبعض الدول الأخرى، وخصوصاً إيران، تحالفاً متيناً، يحقق هدف الأكراد، في تلقّي المساعدات المادية، والأسلحة وتدريب المقاتلين، كما يحقق هدف الدول الأخرى، في الحفاظ على مصالحها في المنطقة، سواء بتوفير النفط أو بإضعاف العراق نفسـه، واللافت هو ذلك التفاهم الضمني، المطبق، فعلياً، دونما أي اتفاق مسبق، بين أطراف ثلاثة، هي: الحكومة العراقية، والأكراد، وشركة نفط العراق، فحواه أن يبتعد القتال عن أي منشآت نفطية، من آبار ومحطات استخراج، أو ضخ، فضلاً عن خط الأنابيب، الممتد من كركوك إلى الأراضي السورية. وفي سبيل ذلك، كانت شركة نفط العراق تتعاطف، بحرص شديد، مع الأكراد، رغبة في استنزاف الحكومة العراقية، بينما كانت تبدي لتلك الحكومة "قلقها" من استمرار تدهور الأوضاع في الشمال.

ومع بداية الانقلاب، لم يستجب الأكراد لبيانه الأول، واستمروا في الإجراءات المناوئة للحكومة. لذلك، اندلع القتال، عنيفاً، بدءاً من أكتوبر 1968، وبعد شبه توقف، منذ يونيه 1966. ولم يكن القتال، هذه المرة، كالمرات السابقة، إذ أدارت الحكومة البعثية دفة الحرب، بأسلوب دموي عنيف، على الرغم من حلول الخريف والشتاء، فشارك الجيش والطيران في القتال، على نطاق واسع. وعلى الرغم من الخسائر الشديدة، وتدمير العديد من القرى الكردية، وإبادة معظم سكانها. إلا أن الحكومة، لم تتمكن من السيطرة على المنطقة الكردية، لأسباب عديدة، منها وعورة المنطقة الجبلية، واستبسال الأكراد في الدفاع عنها، وشن الهجمات الفدائية، وقطع الطرق ... وخلافه.

وقد تغيرت المعطيات في هذه المرحلة، نتيجة عاملَين:

الأول: انحياز حكم "البعث" العراقي إلى المعسكر الشرقي، مما أشعر الأكراد، أن هذا الانحياز يأتي على حساب القضية الكردية، فتغيرت مواقفهم تجاه إيران، واستطراداً، نحو الولايات المتحدة الأمريكية، لإمدادهم بحاجتهم، العسكرية والمادية.

الثاني: تصاعد الخلاف العراقي - الإيراني حول الحدود المشتركة، في شط العرب، وسعي طهران إلى إضعاف الحكومة العراقية، واضطرارها إلى توجيه جهودها نحو الشمال، حرصاً على قوة الموقف الإيراني في الجنوب. وقد وجدت إيران ضالتها المنشودة في الأكراد.

وكانت الحكومة العراقية تدرك ذلك، فعمدت إلى إجراء بعض الإصلاحات، الدستورية والإدارية. ولكن الأكراد لم يستكينوا، إذ كانوا يتحركون بدعم وضغط إيرانيَّين شديدَين.

وفي أكتوبر 1969، ومع اهتمام الإعلام الغربي بالقضية الكردية، تقدَّم الأكراد بمذكرة إلى الأمم المتحدة يشتكون فيها "الحرب العنصرية، التي يشنها حكام العراق ضد الشعب الكردي". واتهمت المذكرة الحكام البعثيين بمحاولة إبادة الشعب الكردي، ومحوه محواً تاماً، كشعب يسعى إلى الاحتفاظ بلغته وثقافته وقوامه القومي. وشملت المذكرة بعض الملاحق بالنصوص المتضمنة حقوق الأكراد، منذ معاهدة سيفر Sèvres، عام 1920. واحتوى الملحق السادس على التنديد بالوضع، الصحي والتعليمي، في كردستان العراق. وشمل الملحق السابع وقائع عن "الحالة المؤسفة، التي يعيشها المسيحيون العراقيون، تحت الحكم البعثي".

وقد دفعت الحملة الإعلامية الدولية إلى تحرك الإدارة العراقية إلى صدور قرار مجلس قيادة الانقلاب إلى إصدار القرار الرقم 677، في 25 نوفمبر 1969، بتشكيل لجنة، برئاسة اللواء الركن صالح مهدي عماش، عضو قيادة الانقلاب، لمتابعة تنفيذ كافة القرارات الصادرة عن المجلس، في شأن الأمور المتعلقة بالقضية الكردية، رغبة في تخفيف حّدة القتال. وقد اتخذت الحكومة العراقية عدة إجراءات، لإثبات حُسن نياتها تجاه الأكراد، وأصدرت عفواً شاملاً عن جميع المدنيين والعسكريين، الذين اشتركوا في أعمال العنف، في كردستان. وأصدرت قانون المحافظات، المتضمن لا مركزية الإدارة المحلية، وإنشاء محافظة "دهوك". وتقرر إنشاء جامعة السليمانية، ومجمع علمي كردي، وإنشاء مديرية الثقافة الكردية، وجعل عيد النيروز عيداً وطنياً، في العراق وهذه القرارات تشمل الوعود السابقة للحكومات المتعاقبة، علاوة على بعض العناصر الجديدة.

3. بيان 11 مارس 1970 (اُنظر ملحق مقتطفات من بيان مجلس قيادة الثورة العراقي حول الحل السلمي للقضية الكردية بغداد 11/3/1970).

مع استمرار المفاوضات بين الحكومة والأكراد. بادرت الحكومة إلى إعلان بيان 11 مارس 1970، الذي يقنن حقوق الأكراد القومية، على مستوى الدولة، ويشعر الأكراد بأنهم جزء من الوطن العراقي، وأن المسألة السياسية في الصراع العربي ـ الكردي، هي في طريقها إلى الحل.

أ. النقاط الرئيسية في بيان 11 مارس

ويشمل هذا البيان العديد من الإجراءات الإصلاحية. واتُّفق على أن يصدر بها تعديل في الدستور المؤقت، كما يتضمنها الدستور الدائم للعراق، عند إصداره. وهي تشمل إجراءات، سياسية وإدارية، وثقافية، وعلمية، أهمها:[1]

المادة الأولى:     تكون اللغة الكردية لغة رسمية، مع اللغة العربية، في المناطق الكردية. وتدَّرس اللغة العربية في كافة المدارس الكردية. كما تدَّرس اللغة الكردية (كلغة ثانية) في كافة أنحاء العراق، وفي الحدود التي يعيِّنها القانون.

المادة الثانية:    يشارك الأكراد في الحكم، دون تمييز بينهم وبين غيرهم، في تولّي الوظائف العامة، والمهمة في الدولة، كالوزارات وقيادات الجيش وغيرها، وبنسب عادلة، مع مراعاة مبدأ الكفاءة، ونسبة السكان، وما أصاب الأكراد من حرمان، في الماضي.

المادة الثالثة:     نظراً إلى التخلف اللاحق بالقومية الكردية، في الماضي، من الناحيتَين، الثقافية والتربوية، يجب وضع خطة لمعالجة هذا الوضع، من طريق الإسراع في تنفيذ قرارات مجـلس قيادة الانقلاب، حول اللغة والحقوق الثقافية للشعب الكردي، والتوسع في فتح المـدارس في المنطقة الكردية، والتوسع في قبول الطلبة الأكراد في الجامعات والكليات العسكرية والبعثات الدراسية، بنسب عادلة.

المادة الرابعة:   يجب أن يكون تعيين المسؤولين والموظفين، في لوحدات الإدارية، ذات الأغلبية الكردية، من الأكراد أو ممَّن يحسنون اللغة الكردية.

المادة السابعة:   النهوض بالمنطقة الكردية، في جميع المجالات، وتخصيص ميزانية مالية لتحقيق ذلك. وتحديد خطة اقتصادية، للتطوير المتوازن، لكل مناطق العراق.

المادة العاشرة:   يتكون الشعب العراقي من قوميتَين رئيسيتَين، هما القومية العربية والقومية الكردية. ويقر الدستور حقوق الشعب الكردي القومية، وحقوق الأقليات الأخرى، ضمن الوحدة العراقية.

المادة الحادية عشرة: الإسراع في تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، مع إعفاء الفلاحين من الديون المتراكمة عليهم.

المادة الثانية عشرة: يكون أحد نواب رئيس الجمهورية، كردياً.

المادة الثالثة عشرة: أ. حق الأكراد في إنشاء منظمات شعبية. وتكون هذه المنظمات أعضاء في المنظمات الوطنية العراقية المشابهة.

                   ب. يعدَّل قانون المحافظات، لينسجم مع مضمون بيان 11 مارس 1970.

المادة الرابعة عشرة: استغلال الثروات الطبيعية في منطقة الحكم الذاتي، سيكون في إطار الجمهورية العراقية.

المادة الخامسة عشرة: يسهم الأكراد في السلطة التشريعية، وفقاً لنسبة عددهم إلى عدد سكان العراق.

وقد تحددت أربع سنوات، كفترة انتقالية، لتنفيذ البيان، وتولّي الأكراد سلطة الحكم الذاتي، في كردستان العراق.

ب. مصداقية الحكومة العراقية في تنفيذ بيان 11 مارس 1970

يُعَدُّ البيان التزاماً من الحكومة، لتحقيق هدفين:

الأول: تحقيق مطالب الأكراد، في شأن حقوقهم القومية المشروعة، ضمن نطاق العراق الموحَّد.

الثاني: فرض مركزية السلطة ، وترسيخ الوحدة الوطنية بين عنصرَي الأمة الرئيسيَّين.

لذلك، كانت الحكومة جادّة في إنهاء المسألة الكردية، لمصلحة العراق، أولاً، ثم لمصلحة الأكراد الوطنيين.

رأت الحكومة العراقية، أن هذا البيان، يمثل قمة المسؤولية الوطنية، وأقصى ما يمكن منحه للأكراد، الذين لاحت أمامهم الفرصة لتحقيق آمالهم، وعليهم أن يستغلوا هذا الموقف الديموقراطي في مصلحتهم، ومصلحة العراق الأم.

ولضمان تنفيذ القرارات، شكلت الحكومة لجنة عليا للشمال، في 12 مايو 1971 برئاسة صدام حسين، مهمتها بحث إجراءات تنفيذ بيان 11 مارس، وخول رئيسها اختصاصات مجلس قيادة الانقلاب (عدا الاختصاصات التشريعية).

ونفّذت الحكومة فعلاً العديد من التزاماتها، على الرغم من المصاعب التي واجهتها. وأصدر مجلس قيادة الانقلاب قراره الرقم 22 في 30 أبريل 1972، بفتح العديد من المدارس في المنطقة الكردية، وحدد التدريس فيها باللغة الكردية، وبإصدار وزارة الإعلام العراقية جريدة كردية، "هاو كاري"، ومجلة كردية، "بيمان"، وتشكيل لجنة لمتابعة الأمور الثقافة في كردستان العراق.

ج. موقف الأكراد من بيان 11 مارس 1970

لم يكن القرار الكردي في يد الأكراد أنفسهم، وإنما كان رهين قوى أجنبية، على رأسها إيران.

تظاهر الملا البارزاني، رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني بقبول البيان، في البداية، وأنه يسعى إلى تنفيذه. وأرسل برقية إلى الرئيس أحمد حسن البكر، معلناً التزامه بالبيان نصاً وروحاً.

وانتهج الملا البارزاني، في الخفاء، نهجاً يهدف إلى تعطيل تنفيذ إجراءات البيان، واللجوء إلى المراوغة، بإيجاد تفسيرات مختلفة لمواد البيان، ومن خلالها، يوجّه اتهاماته إلى الحكومة المركزية بالانفراد بالسلطة، والعمل على هدم البيان.

أما الهدف الحقيقي، الذي كان يسعى إليه البارزاني، فهو انفصال إقليم كردستان عن العراق.

ولم تكن الحكومة العراقية تجهل نيات بعض أجنحة الحزب الكردستاني، ورئيسه الملا البارزاني. لذلك، اشتعلت المواجَهات بينهما، فأدت إلى تعطيل تنفيذ بيان مارس.

وقد حاولت الحكومة استقطاب الحزب الديموقراطي الكردستاني، بتحالفه في إطار الجبهة القومية التقدمية، على أساس ميثاق العمل الوطني، ومن أجل تنفيذ بيان مارس.

لكن هذه المحاولة لم تلقَ إلا الرفض من الملا البارزاني، بل أدت إلى مهاجمته المعاهدة العراقية ـ السوفيتية، وكشف أهدافها المضادّة لمصالح الأكراد. وقد صاحب هذه الحملة الهجوم على قواعد الحزب الشيوعي، في كردستان نفسها.

واستمراراً لأسلوب حزب "البعث"، فقد حاول التخلص من الملا مصطفى البارزاني، باغتياله.

وكانت المحاولة الأولى في سبتمبر 1971، في موطنه "صلالة". ولكنها فشلت، فسارعت الحكومة إلى استنكار الجريمة، وأنكرت أي صلة لها بها.

أما المحاولة الثانية، فكانت في يوليه 1972، وفشلت، كذلك، وتصرفت الحكومة إزاءها تصرفها إزاء المحاولة الأولى.

إلا أن الحكومة نسبت المحاولتَين، بعد فترة، إلى ناظم كراز رئيس مصلحة الأمن العام العراقي، خلال محاكمته، إثر محاولة انقلاب فاشلة، والحكم عليه بالإعدام.

في الوقت عينه، ركز حزب "البعث" في أمرين مهمَّين:

(1) هو إيجاد أكبر قدر من التصدع في جبهة الحزب الديموقراطي الكردستاني، واصطناع قيادات وأحزاب كردية، منافسة للبارزاني.

(2) تهجير أعداد كبيرة من العرب، البعثيين، إلى مناطق الأكراد الآمنة، مع توفير أراضٍ للبناء، بالمجان، ومنحهم وظائف رسمية، للاستقرار هناك، بهدف الإخلال بالتركيبة السكانية في مصلحة العرب، وخصوصاً في المناطق النفطية.

ومع استمرار القتال، وفي محاولة لانفراج الأزمة، بادرت الحكومة إلى التفاوض الثلاثي، بين الأحزاب الثلاثة: "البعث" والشيوعي والديموقراطي الكردستاني، في سبيل إيجاد مخرج للقضية. وبدأت هذه المفاوضات في نهاية عام 1972. واشترك فيها بعض الشخصيات، العربية والكردية، المهتمة بالقضية، إلى جانب الأحزاب الثلاثة. ولكن هذه المفاوضات فشلت، نتيجة تقديم الحزب الكردستاني مشروعاً مضادّاً، رأت الحكومة أنه بعيد جداً عن فلسفة الحكم الذاتي. إذ طالب بإدخال مناطق جديدة في إطار الحكم الذاتي، من بينها منطقة كركـوك النفطية، وبعض المناطق الأخرى، التي لا يشكل فيها الأكراد أغلبية. وكان رفض الحكومة من منطلق أن "كردستان وحدة إدارية، لها شخصية معنوية، تتمتع بالحكم الذاتي، في إطار الوحدة، القانونية والسياسية والاقتصادية، للعراق "الموحَّد". بينما كان المشروع الكردي يطالب بنظام أقرب إلى الوزارات المستقلة، مما يؤدي إلى نشوء كيان كردي منفصل عن العراق.

كما تقدم الجانب الكردي بعدة مطالب، وهو يدرك، مسبقاً، أن الحكومة سوف ترفضها. ومنها:

(1) إصدار كل القوانين، من خلال المجلس الوطني.

(2) تكون الشرطة في كردستان، خاضعة لسلطة الحكم الذاتي.

(3) إلغاء مجلس قيادة الانقلاب.

(4) إنشاء هيئة رقابة متبادلة، على دستورية القوانين.

ومع تعثر المباحثات، اقترح الجانب الكردي، أن تطرح صيغتا المقترحات، الحكومية والكردية، على الشعب لاختيار أفضلهما. ولكن حكومة العراق رفضت ذلك، وتمسكت بالمشروع الذي قدمته.

وبحلول عام 1974، وهو العام الذي يطبق فيه الحكم الذاتي، وفقاً لبيان 11 مارس 1970، عقدت أول جلسة مباحثات، حول مشروع الحكم الذاتي، في 16 يناير 1974، بين ممثلي الجبهة الوطنية في العراق وممثلي الحزب الكردستاني. وكان رئيس وفد الجبهة الوطنية هو صدام حسين، وضم الوفد بعض أعضاء مجلس قيادة الانقلاب، وبعض الأكراد المستقلين.

وكان من الواضح، منذ بداية المباحثات، أن اتجاه كل جانب مختلف عن اتجاه الجانب الآخر. فبينما كان وفد الجبهـة متمسكاً بما جاء في بيان 11 مارس، والقرارات التالية المنفذة لبنوده، كان رأي الحزب الكردستاني، أن الظروف تغيرت، في خلال أربعة سنوات كاملة، مرت على إصدار هذا البيان، ولا بدّ من مراعاة المتغيرات.

وأدت الاختلافات في المباحثات، حتى، في 2 مارس 1974، إلى مقاطعة الوفد الكردي الاجتماعات. عندئذٍ، قرر وفد الجبهة، أن يشرع قانون الحكم الذاتي في موعده المحدد، 11 مارس 1974، بعد مرور السنوات الأربع، المنصوص عليها، كمرحلة انتقالية، في بيان 11 مارس 1970.

ومع استمرار جهود الوساطة، أرسل الملا البارزاني، في 9 مارس، ابنه، إدريس، إلى بغداد، حاملاً رسالة إلى حكومتها، التي فاوضها، وحمل ردها، إلى والده. فأجاب الملا، في برقية، باسم الحزب الديموقراطي الكردستاني، جاء فيها: "إن ما قدمناه، هو ما نعتقده صحيحاً. وعليه، فليس لدينا مقترحات جديدة. وسنلتزم، من جانِبنا، بما يحفظ القانون". "ولقد فهمت الحكومة من هذه البرقية، أنها تشير إلى أن الحزب الديموقراطي الكردستاني، سيستفيد من مهلة الخمسة عشر يوماً، اللاحقة على إعلان القانون".

وقد سارت الحكومة في إجراءاتها، لتنفيذ بيان "مارس 1970. فعُدِّل الدستور المؤقت، ثم صدر بيان مجلس قيادة الانقلاب، حول الحكم الذاتي، في 11 مارس 1974، أعقبه صدور بيان سياسي، تضمن "أن قانون الحكم الذاتي، هو تأكيد لروابط المواطنة والأخوّة التاريخية، بين أبناء العراق، من العرب والأكراد و الأقليات المتآخية، وتطبيق لبيان 11مارس 1970 وما تضمنه ميثاق العمل الوطني. وأن تطبيق الحكم الذاتي، على أسس ديموقراطية، يوفر السبُل لممارسة الحقوق القومية المشروعة" (قانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان في العراق، الذي أذاعه الرئيس أحمد حسن البكر، رئيس مجلس قيادة الانقلاب، رئيس الجمهورية، مساء 11 مارس 1974).

وفي 12 مارس 1974، دعت الحكومة قيادة الحزب الديموقراطي الكردستاني إلى الانضمام إلى الجبهة الوطنية، إلا أن الرد كان الرفض التام لما أقدمت عليه الحكومة المركزية. وتحسباً لما سيحدث، فقد اتخذت الجبهة استعداداتها للحرب. بينما "صعد الأكراد إلى الجبال".

وقد شهدت هذه المرحلة متغيرات عدة، أدت إلى هذا الوضع. أهمها:

(1) إجراءات تأميم النفط العراقي، مع تصاعد أسعاره تصاعداً مطرداً، مما جعل منطقة كركوك ذات ميزات، اقتصادية وإستراتيجية تغري كل طرف بضمها إليه.

(2) تصاعد الرغبة الإيرانية في سرعة إنهاء مشكلة شط العرب، في مصلحة طهران.

(3) انتقام شركات النفط من الحكومة العراقية، بخلق مشاكل كبيرة لها، وذلك للجوئها إلى التأميم.

د. إجراءات الحكومة العراقية لتنفيذ بيان 11 مارس

أجرت تعديلاً وزارياً، عينت، بموجبه، عبدالله، الابن الأكبر للملا مصطفى البارزاني، وزيراً ـ وجعلت ذلك دليلاً على وجود أشخاص من عائلة الملا، يتجاوبون مع سياستها في منطقة كردستان.

في 21 أبريل 1974 عينت الدبلوماسي طه محيي الدين معروف، سفير العراق في رومانيا، آنئذٍ، نائباً كردياً لرئيس الجمهورية .

في 25 أبريل 1974، أصدرت بياناً أكدت فيه تصميمها على تنفيذ قانون الحكم الذاتي، وأنها لن تتفاوض، بعد ذلك، مع الملا مصطفى البارزاني، بل ستستأصله هو وجماعته.

4. اشتعال القتال بين القوات العراقية والأكراد

بحلول أغسطس 1974، بلغت الحرب الكردية ـ الحكومية مستوى، لم تبلغه من قبْل، سواء من جهة اتساع المسرح، أو ضراوة القتال، أو أنواع الأسلحة لدى الطرفين. وقد كان لشاه إيران دوراً كبيراً في إمداد الأكراد بكل ما يحتاجون إليه من أسلحة. كذلك، استقبال إيران، الفارّين من القتال الضاري في منطقة كردستان، إذ لجأ حوالي 130 ألف كردي، كلهم من النساء والأطفال والشيوخ. أما الشبان الهاربون، فكانوا يجندون، ويُعادون للقتال ضد القوات الحكومية.

وأصبح القتال، بحدّته هذه، عبئاً ثقيلاً، على الأكراد والعراقيين والإيرانيين، في وقت واحد.

أدت وسائل الدعاية الغربية إلى اتساع نشاط الإعلام، في نقل صور القتال، ودفع الرأي العام، الإقليمي والعالمي، إلى مشاهدة حرب، بالوكالة، وبين أطراف شعب واحد.

ودفع ذلك بعض القيادات العربية إلى إيجاد حل لهذه المشكلة.

5. وقف إطلاق النار

نشطت الجزائر في وساطة بين كلٍّ من العراق وإيران، لوقف القتال في شمالي العراق.

في 6 مارس 1975، في خلال انعقاد مؤتمر دول الأوبك، في العاصمة الجزائرية، وُقِّعت اتفاقية بين حكومَتي العراق وإيران، وقعها كلٌَ من صدام حسين، نائب رئيس جمهورية العراق، وشاه إيران. وتنص الاتفاقية على تسوية مشاكل الحدود، وخصوصاً "تقسيم شط العرب". وتلتزم إيران بعدم تقديم مساعدات إلى الأكراد العراقيين، في الشمال، وبإغلاق حدودها مع العراق في وجْه أي أنشطة عدائية للعراق.

وكانت هذه الاتفاقية، التي التزم الطرفان بتنفيذ بنودها، هي النهاية الحقيقية للتمرد الكردي، في شمالي العراق. وفر الملا مصطفى البارزاني إلى طهران، ومنها انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث عاش لاجئاً سياسياً، حتى وافته منيته.

بحلول فجر 13 مارس 1975، أعلنت الحكومة العراقية وقفاً شاملاً لإطلاق النار.

أعلن العراق عفواً شاملاً عن جميع الأكراد، الذين يسلمون أسلحتهم وأنفسهم، حتى أول أبريل 1975.

أتاح توافر عائدات النفط، الذي ارتفعت أسعاره، بعد حرب أكتوبر 1973، للحكومة العراقية إعادة إعمار المناطق، التي خربتها الحرب في كردستان.

6. إحكام سيطرة الحكومة على كردستان العراقية

تواصلت حركة إعمار كردستان، وتوالى، كذلك، تهجير الكثير من الأُسَر العربية إليها.

تولّت الحكومة السلطات الإدارية الكاملة في كردستان، ولو أنها اصطدمت، في البداية، ببعض العقبات، التي أمكن تذليلها. وتغلغل حزب "البعث" في المناطق الكردية بعناصره، العربية والكردية.

تولت الشرطة العراقية مسؤولية الحفاظ على الأمن في المنطقة الكردية كلها.

أعادت الحكومة العراقية تمركز القوات المسلحة، لتضع بعض الوحدات في منطقة كردستان ، وليتنامى حجمها، إلى أن وصلت إلى قوة فيلق (بين فرقتَين وثلاث فرق مشاة مدرعة) بهدف إحكام السيطرة العسكرية، السرعة في إخماد أي ثورات جديدة، قد تحدث. كما أنشأت العديد من المطارات في المنطقة، وبالقرب منها.

ثانياًً: تأثير الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980-1988) في المسألة الكردية

لا شك أن إيران حاولت تحريك الأكراد في مصلحتها. ولكن إجراءات الأمن الشديدة، في المنطقة الكردية، لم تمكن إيران (الثورة) من تنفيذ ما نفّذه شاه إيران، في أوائل السبعينيات.

كانت الحرب العراقية/ الإيرانية حرباً نظامية، وكذلك، شبه نظامية، تمتد على مواجَهة أكثر من ألف كم. ومع ذلك، استغلت إيران منطقة حاج عمران الكردية، في جعلها، لفترات طويلة، جيباً عراقياً محتلاً من قِبل القوات الإيرانية. وكانت قد احتلَّت عبْر تجنيد بعض العناصر الكردية الموالية لإيران، نظراً إلى الصعوبات التي تمثلها هذه المنطقة، بالنسبة إلى أي قوات تحاول استعادة السيطرة عليها.

كما أمعن العراق في الدعاية المضادّة لقصف إيران منطقة "مندلي"، وهي منطقة حدودية، يسكنها أكراد شيعة، بهدف تأليب الأكراد والشيعة معاً، على إيران.

باستثناء ذلك، ومعه بعض التحركات السياسية الكردية المعارضة، فإن الأكراد لم يكن لهم تأثير يذكر في مسار الحرب العراقية - الإيرانية سوى استخدامهم كأداة من قِبل أحد الطرفين المتحاربين، ضد الطرف الآخر.

1. الخلاف الكردي ـ الكردي، أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية

عمّقت الحرب العراقية - الإيرانية هوة الخلاف بين الحزبَين الرئيسيَّين في كردستان. فاتجه الحزب الديموقراطي الكردستاني، بقيادة مسعود البارزاني، نحو إيران إلى درجة إعلان تحالف بينهما، عام 1983، وحاول البارزاني، من أجْله، بتوحيد جهود الأكراد في شمالي العراق، للضغط على الحكومة العراقية وإجبارها على تقديم تنازلات للأكراد. بينما اتخذ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بقيادة جلال الطالباني، موقفاً مغايراً، ففتح قنوات اتصال مع النظام العراقي، بل إن الحكومة العراقية، استغلت هذا التقارب في تشجيع الطالباني على إثارة أكراد إيران، بقيادة عبدالرحمن قاسملو، ضد حكم آيات الله في إيران، استنزافاً للجهود الإيرانية، من الداخل.

وعموماً، فإن كلا الحزبين، قد فشل في تحالفاته.

أ. فالحزب الديموقراطي الكردستاني، على الرغم من تحالفه مع إيران، وتبنِّي وجهة نظرها، للضغط على الحكومة العراقية، لم ينجح في إقناع طهران بتسليمه منطقة حاج عمران الحدودية، إذ أصرت إيران على السيطرة عليها، بوساطة القوات التابعة للجبهة الإسلامية .

ب. فشل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في مباحثاته مع الحكومة العراقية، للتوصل إلى صيغة مقبولة للحكم الذاتي، على الرغم من سياسته الاعتدالية نحو الوطن الأم ومساعدته على إثارة أكراد إيران ضد حكومتها.

ج. والنتيجة النهائية هو تصاعد الخلاف بين الحزبَين الرئيسيَّين في كردستان، مما أضعف تأثيرهما في الحكومة المركزية، وأدى إلى تفجير الصراع الكردي - الكردي. وسمح للقوى الأجنبية بالتغلغل في داخل فصائل الأكراد، وكل ذلك، كان ضد مصلحة القضية الكردية نفسها.

وباستثناء أحداث أمنية قليلة، ومسيطر عليها ، فقد تأكدت سيطرة الحكومة المركزية في العراق على منطقة كردستان، طوال حقبة الثمانينيات.

2. التصادم الكردي ـ الحكومي، بعد نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية

بانتهاء الحرب بين إيران والعراق، في أغسطس عام 1988م، برزت ردود فعل، ما بعد الحرب، والتي تتخذ، غالباً، صورة تصفية حسابات، أو محاولة تحقيق مطالب مؤجلة. وهو ما حدث، خلال الربع الأخير من عام 1988، حين صعّد مسعود البارزاني الموقف في الشمال، وهو الذي كان الرئيس صدام حسين يهدف إلى معاقبته، أصلاً، على موقفه أثناء الحرب، إذ كان يميل إلى التحالف مع إيران، أكثر من التزامه بوطنيته، كعراقي.

لذلك، كان الرد الحكومي العراقي قاسياً إلى أبعد الحدود. عزم الرئيس صدام حسين، من خلاله، على إنهاء المشكلة من جذورها، فوجّه الطيران العراقي ليحيل مناطق كردية كاملة إلى دمار شامل، ثم استخدم "الغازات الكيماوية"، التي كان يمتلك منها الكثير، خلال فترة الحرب، ضد منطقة كردية جبلية وعرة، في "حلبجة".

وثارت، وقتها، ردود فعل دولية عنيفة، "لم تخرج عن حدود الإدانة الأدبية". وقد واجهت الحكومة العراقية ذلك بنفي استخدام الغازات الحربية.

وطغى على هذه القضية، تسارع المواقف السياسية في المنطقة، التي امتزجت باحتفالات العراق بالنصر. ثم أعقبها، بعد عامين فقط، حرب الخليج الثانية، أو حرب تحرير الكويت، التي غيرت وجْه المنطقة.



[1] قرار مجلس قيادة الثورة رقم 288 بتاريخ 11/3/1970 والذي يتضمن بيان 11 مارس.