إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الباردة









المبحث الثاني

المبحث الثاني

السياسة الأمريكية في الفترة 1947-1949

       كانت السياسة الأمريكية في تلك الفترة "1945-1947"، فترة الانتقال للحرب الباردة ـ قد ارتكزت على عنصرين أساسيين: الأول الرغبة في العودة إلى الحالة الطبيعية بأسرع ما يمكن، والثاني محاولة إيجاد أداة دولية دائمة، تأخذ على عاتقها حفظ السلام العالمي، وقد تحقق ذلك الأمـل بإنشاء هيئة الأمم المتحدة.

       أما الرغبة الأولى في العودة إلى الحالة الطبيعية، فقد ظهرت أولاً في المحيط العسكري الأمريكي، ففي مؤتمر "يالتا" وغيره، كان روزفلت يصرح بأن الحكومة الأمريكية لا تستطيع أن تحتفظ بقواتها في أوروبا أكثر من سنتين بعد الحرب، ومع ذلك فإن الحوادث التي تلت الحرب أثبتت أنه كان مخطئاً في التوقيت المبكر، ولو أن الوجود العسكري الأمريكي بدأ يتناقص بتسريح أعداد كبيرة من المجندين. ففي يونيه 1945، كان عدد أفراد الجيش الأمريكي أكثر من 12 مليون، وفي العام التالي أصبح 3 مليون، ثم أصبح 1.6 مليون في يونيه 1947.

       كذلك عملت الولايات المتحدة الأمريكية على إنجاز معاهدات الصلح بأسرع وقت ممكن. ولذلك فقد وقعت، خلال عام 1947، أربع معاهدات: مع كل من إيطاليا، ورومانيا، وبلغاريا والمجر. وهي الدول الصغرى التي تحالفت مع ألمانيا أثناء الحرب. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تتوقع أن يعقب تلك المعاهدات، معاهدة الصلح مع ألمانيا ذاتهـا، ولكن الحرب الباردة بين روسيا والحلفـاء الغربيين وقفت حائلاً دون ذلك.

       أما العنصر الثاني، وهو رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في إيجاد أداة لحفظ السلام، فقد تحقق بتأسيس هيئة الأمم المتحدة. ومع ذلك فإن الآمال التي كانت معلقة على تلك المنظمة العالمية ذهبت أدراج الرياح، ولم تقرب بين الكتلتين المتنافستين بقدر ما باعدت بينهما. حتى أصبح الاتحاد السوفيتي يستعمل حق النقض Veto في مجلس الأمن ما بين حين وآخر، مما وسع هوة الخلاف الدولي. وفي الوقت نفسه أخذت الولايات المتحدة الأمريكية تسيطر بنفوذها على الدول الكبرى والصغرى في الجمعيـة العامـة ومجلس الأمن ـ وهي الدول التي ترتبط بهـا وتدور في فلكها.

       وكذلك ظهرت خلافات أدت إلى التوتر في العلاقات الدولية، وتمثلت تلك الخلافات في عدة مناطق. ففي إيران اشتد التوتر عندما تلكأت روسيا عدة شهور في إجلاء الحاميات الروسية التي كانت موجودة بها أثناء الحرب. ومحاولتها إقامة حكومة موالية لها هناك. كذلك اشتد التوتر على حدود تركيا، عندما طالبت روسيا صراحة بتعديل تلك الحدود والسيطرة على المضايق. وفي شمال اليونان حدث توتر آخر بسبب الصراع الدامي بين الحكومة الملكيةـ التي تؤيدها بريطانيا ـ ضد حرب العصابات الشيوعية، التي اتخذت لها قواعد في بلغاريا ويوغسلافيا وألبانيا. ثم التوتر الذي حدث في تريستا Trieste بين يوغسلافيا الشيوعية وإيطاليا. وأهم من ذلك كله شدة التوتر الذي كان سائداً على طول خط الحدود في ألمانيـا بين الروس، والحلفاء الغربيين.

       ولعل أعجب ما في الأمر أن الحلفاء لم يضعوا سياسة واضحة لألمانيا عندما انتهت الحرب. وكل ما فعلوه أن اتفقوا على تقسيمها إلى مناطق احتلال عسكرية، دون أن يتفقوا على الخطوات التالية. ففي مؤتمر بوتسدام، الذي عقد في يوليه 1945، كان الاتفاق قد تم على ضرورة احتفاظ ألمانيا بوحدتها تحت إشراف أمريكا وبريطانيا وروسيا، على شرط نزع سلاحها وحرمانها من صناعاتها الثقيلة، حتى لا تعود إلى تهديد السلام. ولكن اتفاق بوتسدام كان مرهوناً باستمرار التحالف الكبير بين روسيـا والحلفـاء، أي أن وحدة الحلفـاء ووحدة ألمانيا تحت السيطرة المشتركة مرتبطتان أشد الارتبـاط. وبمجرد فصم الوحدة الأولى تصبـح الوحدة الثانيـة أملاً بعيد المنال.

       وقد بدأ الخلاف يدب بين الحلفاء والاتحاد السوفيتي، في ربيع عام 1946، عندما أخذت الحكومة السوفيتية تتصرف في المنطقة التي تحكمها بكل حرية، دون الرجوع إلى اللجنة المشتركة التي تكونت لتنسيق العمل، مما أضر أبلغ الضرر بوحدة ألمانيا الاقتصادية. وتغيرت نظرة الفريقين إلى الهدف من الاحتلال. وتطلع كل فريق إلى كسب ود الألمان. حتى إن بيرنز وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية صرح في سبتمبر 1946، بأن الأمريكيين لن ينسحبوا من ألمانيا، وأن بلاده ستساعد الشعب الألماني على أن يعود ليأخذ مكانه بين شعوب العالم الحرة والمحبة للسلام. وقد تغير اتجاه الدول الغربية في شتاء 1946- 1947 لسببين: أولهما سوء حالة الشعب الألماني وبؤسه بعد الهزيمة التي لحقت به، وثانيهما ما اتضح من أن بعث الحياة في الاقتصاد الألماني ضروري لأوروبا الغربية، وأنه ما لم يتخلّ الحلفاء عن سياسة خنق ألمانيا اقتصادياً، فإن الشيوعية ستجد لنفسها طريقاً ميسراً نحو غزو أوروبا الغربية كما فعلت بأوروبا الشرقية.

       وهكذا بالتدريج تغلب الخوف من الشيوعية والاتحاد السوفيتي على الخوف من ألمانيا. وبينما كان النظام الشيوعي يسير بسرعة في القطاع الشرقي من ألمانيا، أخذ الحلفاء الغربيون يحاولون إقامة نظام ديموقراطي لحكومة ألمانيا الغربية.

       وما وافي عام 1947، حتى أصبح تقسيم ألمانيا إلى قسمين مختلفين سياسياً واقتصادياً حقيقة واقعة، أحدهما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاتحاد السوفيتي، والثاني في الغرب يرتبط بالولايات المتحدة الأمريكية.

إعلان مبدأ ترومان، ومشروع مارشال "1947-1949":

       خلال هذه الفترة وصلت الحرب الباردة إلى ذروتها. وتميز عام 1947 بحادثين كانا نذيراً بانتهاء فترة الانتقال وبداية لتزايد مظاهر الحرب الباردة، وهما إعلان مذهب أو مبدأ ترومان ومشروع مارشال.

مبدأ ترومان:

       وقد بدأ مذهب ترومان (انظر ملحق مبدأ ترومان)، عندما زاد احتمال انتشار الشيوعية في اليونان، وكانت إنجلترا قد أخذت على عاتقها أن تمد الحكومة اليونانية بالمال والسلاح لمكافحة الحرب الأهلية مع الشيوعيين، ولكن في مارس 1947 قررت الحكومة البريطانية أنه لم يعد في استطاعتها الاستمرار في هذا السبيل، بسبب سوء حالتها الاقتصادية. وأبلغت هذا القرار إلى الولايات المتحدة الأمريكية فارتاعت له، وتجسد أمامها الخطر الكبير الذي ينجم عن قطع المعونة البريطانية عن الحكومة اليونانية، إذ قد يترتب على ذلك نجاح الشيوعيين في قلب نظام الحكم في اليونان، ومن ثم تتسرب العدوى إلى حوض البحر الأبيض المتوسط. عندئذ طلب الرئيس هاري ترومان من الكونجرس الموافقة على مد اليونان وتركيا بأربعمائـة مليون دولار، ثم تحدث ترومان إلى الكونجرس وإلى جمهور كبير قائلا "أعتقد أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تتجه إلى مساعدة الشعوب الحرة التي تكافح الخضوع للأقليات المزودة بالسلاح أو الضغوط الخارجية. وأنني أعتقد كذلك أننا يجب أن نساعد هذه الشعوب المتحررة على العمل من أجل تقرير مصيرها الخاص بها وطرق سلوكها".

       "وأعتقد أن مساعداتنا يجب أن تسلك بصفة رئيسية طريق المساعدات المالية والاقتصادية التي تعتبر ذات أهمية حيوية بالنسبة للاستقرار الاقتصادي والاتجاه السياسي السليم. إن بذور الأنظمة الشمولية الدكتاتورية تغذيها دائما عوامل الفقر والحاجة، لذلك نجدها تنتشر وتنمو في تربة الكفاح والفقر المليئة بالشر، وتصل إلى قمة تطورها ونموها حين يموت أمل الشعب في تحقيق حياة أفضل. ويجب علينا أن نٌبقي على هذا الأمل حياً في النفوس. إن شعوب العالم الحرة تنظر إلينا كي نساندها في المحافظة على حريتها. فإذا تهاونا في زعامتنا، فإننا نضع سلام العالم في خطر ونحيط رفاهية أمتنا بالخطر كذلك".

       وكان لمبدأ ترومان في نظر الأمريكيين الفضل في:

1. أنه أظهر للاتحاد السوفيتي أن الولايات المتحدة الأمريكية على استعداد لمعارضة "تكتيكات المسالمة" التي يستولي بها على الأراضي الأخرى، قطعة بعد قطعة.

2. أنه ألزم شعب الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة بقبول مسؤولياته في الدفاع عن العالم الحر.

3. أنه أوقف بصورة حاسمة الانتصار الشيوعي المتوقع في اليونان وساعدها على أن تصبح في ذلك الوقت أكثر انتعاشاً من أي وقت.

       ولم يقابل مبدأ ترومان بالترحيب في أول الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الشعب الأمريكي اضطر فيما بعد إلى قبول سياسة حكومته. ويعتبر شهر مارس 1947 نقطة تحول في التاريخ الأمريكي، وليس ذلك بسبب تخلي أمريكا عن سياسة العزلة فحسب، بل بسبب تبدد الحلم الذي كان يراودها بالعودة إلى الحالة الطبيعية، وتسليم الأمر إلى هيئة الأمم المتحدة. إذ لم تعد تكفي هذه الهيئة لحفظ السلام الذي تنشده أمريكا، وهذا السلام في نظرها هو السلام الذي يخدم مصالحها ومصالح حلفائها. ورأت منذ ذلك الوقت أن تتزعم العالم الذي دعته بالعالم الحر.

مشروع مارشال:

       بعد أشهر قليلة أُعلن مشروع مارشال، في 5 يونيه 1947 (انظر ملحق خطة مارشال). وكان الرئيس ترومان قد عين الجنرال مارشال وزيراً لخارجيته، ويتلخص مشروع مارشال في وجوب مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية لأوروبا الغربية قبل أن ينهار اقتصادها، وفي الوقت نفسه حث مارشال الدول الغربية على القيام بوضع برنامج موحد لإنهاض بلادها اقتصادياً حتى يمكن لأمريكا مساعدتها. ولم يستثن من دعوته دول أوروبا الشرقية، ولذلك كان لتلك الدعوة أثرها السيئ لدى حكومة الاتحاد السوفيتي. حتى صرح مولوتوف بأن الاتحاد السوفيتي لا يرى في مشروع مارشال إلا نوعاً من الاستعمار الجديد أي استعمار الدولار الأمريكي، ومحاولة للتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب المستقلة. وبموجب هذا المشروع أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية حوالي اثني عشر ملياراً من الدولارات في سبيل إعادة بناء اقتصاديات أوروبا الغربية.

       لقد جاء مشروع مارشال، في وقت كانت فيه أوروبا الغربية على استعداد تام للانحناء وقبول الشيوعية، إذ كان الألمان يعيشون في مدن مهدمة، كما أنها كانت تئن من الهزيمة، وتعجز عن الدفاع ضد التسلل والانقلابات. أما التضخم في إيطاليا فقد وصل إلى أعلى معدلاته، وفي فرنسا هبطت عمليات النقل وإنتاج المواد الغذائية إلى حالة من الفوضى لم يسبق لها مثيل.. وذلك في الوقت الذي توقفت فيه نصف عمليات التعدين، ولم يكن هناك إمداد بالكهرباء للمدن إلا لفترة ضئيلة، لا تتعدى ثلاث ساعات في اليوم. وبدت الأحزاب الشيوعية في كل من فرنسا وإيطاليا كأنها قريبة من النجاح في الانتخابات بعد أن وعدت بإصلاح الأوضاع. وكان الشيوعيون في البلدين أبطالاً وقت الحرب لأنهم كانوا قادة حركات المقاومة في حين تعاون غالبية رجال الصناعة مع الفاشيين والنازيين. لذلك كان يجب القيام بعمل سريع وحازم، من وجهة النظر الأمريكية.

       لقد أعلن جورج مارشال George Marshall  مشروعه في 5 يونيه 1947، في خطاب خطير أثناء تخريج دفعة جديدة من جامعة هارفارد Harvard ، وكان هذا الخطاب بداية لهذا المشروع، فقال: "لقد أخذ في الاعتبار حين النظر في إعادة الحياة إلى أوروبا تلك الخسائر في الأرواح، والدمار الملموس في المدن الذي أصاب المصانع والمناجم، والطرق والسكك الحديدية، وقد أصبح من الواضح في خلال الشهور القليلة الماضية أن هذا الدمار الملموس قد يكون أقل خطورة من تدهور جميع عوامل الإنتاج ومقومات الاقتصاد في أوروبا. لقد كانت الظروف خلال السنوات العشر الماضية، غير عادية بصورة واضحة، إذ كانت حمى الاستعداد للحرب، والجهود الضخمة التي بذلت خلالها، هي التي تسيطر سيطرة تامة على جميع مظاهر الاقتصاد القومي. وقد أدى هذا الوضع إلى أن تشعر الأجهزة المختصة باليأس المطلق، وإلى أن يتحطم تكوين نظام الأعمال والاقتصاد في أوروبا تحطيماً كاملاً. لذلك تأخر الانتعاش بسبب عدم الاتفاق بين مختلف الأطراف المعنية، حتى بعد انتهاء الحرب بعامين وانتهاء العداوات بين الحلفاء وكـل من ألمانيا والنمسا، وإقرار السلام".

       "لذلك نجد أن مطالب أوروبا خلال السنوات الثلاث أو الأربع القادمة من المواد الغذائية الأجنبية ومن المنتجات الأساسية وبخاصة من أمريكا، كانت أعلى بكثير من قدرتها الحالية على دفع تكاليفها، لذلك يجب أن تقدم إليها المساعدات الإضافية، وإلا فإنها سوف تواجه تدهوراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً خطيراً. لذلك أصبح من المنطق والعقل أن تبذل الولايات المتحدة الأمريكية كل ما في جهدها من طاقات لمساعدتها في العودة إلى حالتها الاقتصادية الطبيعية في العالم، لأن عدم تحقيق هذا الهدف سيؤدي إلى عدم خلق أي استقرار سياسي، كما أنه لن يساعد على تحقيق السلام. لذلك فإن سياستنا ليست موجهة ضد أي بلد من البلاد، أو أي مبدأ من المبادئ سوى الجوع والفقر واليأس والفوضى، بل يجب أن يكون هدفها هو إحياء النشاط الاقتصادي في العالم؛ ليمكن إتاحة ظهور الظروف السياسية والاجتماعية التي يمكن أن تقوم في ظلها المؤسسات الحرة. وإنني على اقتناع تام بأن هذه المساعدة يجب ألا تقوم على أساس التدرج البطيء، في الوقت الذي تظهر فيه الأزمات وتتكون بسرعة كبيرة. لذلك فإن أي مساعدة يمكن أن تقدمها هذه الحكومة في المستقبل، يجب أن تقدم علاجًا وليس مجرد عملية تهدئة وتسكين. وإنني على ثقة تامة من أن أي حكومة تسعى للمساهمة في عملية الإنعاش، سوف تجد كل تعاون مطلق من جانب حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن أي حكومة تلجأ إلى المناورات لتعطيل انتعاش الدول الأخرى لن تجد أي مساعدة من جانبنا. وبجانب ذلك فإن الحكومات، والأحزاب السياسية، أو المجموعات المختلفة التي تسعى إلى استمرار البؤس الإنساني لكي تحصل من ورائه على الربح السياسي، أو غير السياسي، سوف تجد أمامها معارضة قوية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية".

       وكان هدف مارشال من خطابه هو تقديم المعونة الأمريكية لإنعاش الاقتصاد في أوروبا بشرط أن تتعاون الدول الأوروبية في الاستفادة منه على أحسن وجه، على أساس دولي لا على أساس قومي. ويرجع الفضل الأكبر في نجاح مشروع الإنعاش الأوروبي، وما أحرزه من نتائج عظيمة إلى حسن تصرف إيرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا واتساع أفقه. وقد كانت الدول الغربية تعتبر نفسها مدينة دائماً بالفضل لأمريكا، في حين اعتبرت الحكومة السوفيتية هذا المشروع عملاً من أعمال الحرب الباردة.

       ولما دعت بريطانيا وفرنسا إلى عقد مؤتمر في باريس لدراسة مشروع مارشال، رفض الاتحاد السوفيتي الاشتراك فيه، بل وأمر حكومات أوروبا الشرقية ألا ترسل مندوبين عنها. وحتى تشيكوسلوفاكيا التي كانت قد أعلنت قبولها لمشروع مارشال، عادت تحت الضغط الروسي إلى العدول عن الاشتراك في المشروع.

       وهكذا اتسع الخلاف بين الشرق والغرب، وفي أكتوبر 1947 أعلن الاتحاد السوفيتي عن تأسيس منظمة أطلق عليها الكومنفورم[1]  Cominform ، وهي نفس المنظمة الشيوعية القديمة الكومنترن Comintern  في لباس جديد. وتسربت الأوامر للأحزاب الشيوعية في غرب أوروبا أن تتخلى عن سياسة المهادنة والاعتدال التي اتبعتها، عندما كان التحالف الكبير سائداً بين روسيا والغرب، وهنا انتشرت الإضرابات والمظاهرات والعصيان، ولم يقف الحد عند قيام الإضرابات في أوروبا، بل انتقلت إلى الملايو وبورما وإندونيسيا والهند الصينية، ولجأ الشيوعيون الآسيويون إلى حرب العصابات حتى انقلبت الحرب الباردة إلى حرب ساخنة في كثير من أرجاء العالم.

مولد اسم "الحرب الباردة":

       كانت الحرب الباردة قد اكتسبت في ذلك الوقت هذا الاسم المعروف. ففي يوليه 1947 ظهر مقال في المجلة الدورية الأمريكية المسماة "مجلة الشؤون الخارجية" بعنوان "منابع السلوك السوفيتي"، وكان هذا المقال بقلم جورج فروست كينين George Frost Kennan  أحد كبار موظفي وزارة الخارجية في ذلك الوقت، إلا أنه لم يوقع باسمه، ولكن سرعان ما عُرف أن كاتبه هو نفسه جورج كينين. وقد أوضح في مقاله بصورة قاطعة مبدأ "الاحتواء" Containment، الذي أصبح السياسة الرسمية لحكومة ترومان. ولكن هذه السياسة تعرضت لهجوم عنيف، من المعلق السياسي الأمريكي والتر ليبمان، على أساس أنها سياسة عقيمة جدباء، وقد أُعيد نشر هذه المقالات فيما بعد في كتيب بعنوان "الحرب الباردة". وعلى هذا النحو وُلد الاسم، رغم أنه لم يكن حتى ذلك الوقت مجهولاً، فإن عبارة "الحرب الباردة" لم ترد إلا في عنوانه، كما أن الأوضاع التي وصفها الكتاب لم تكن جديدة على القرار.

       وانتقلت المبادأة في الشؤون الغربية إلى أيدي أمريكا من صيف عام 1947 فصاعداً، بصفة قاطعة، رغم أن هذه المبادأة كانت لا تزال محدودة وفي دور التجريب. فكانت سياسة "الاحتواء" لا تعني أكثر مما تؤديه هذه العبارة، ولم تكن تعني زيادة شقة الحرب الباردة أو توسيع نطاقها.. وإنما كان الهدف الحقيقي هو تقوية حلفائها ضد الشيوعية. أما في خارج أوروبا، فإن الحرب الباردة لم تكن قد نشبت بعد، كما أن الأمريكيين لم تكن لديهم رغبة في نشوبها، ففي الشرقين الأوسط والأقصى كان الوضع وضع انسحاب للقوات الأنجلو ـ فرنسية يصحبه هدوء نسبي. وكانت دول أمريكا اللاتينية بعيدة كل البعد عن النفوذ الشيوعي، كما كانت الدول الأفريقية بمنأى عن كل من أمريكا والاتحاد السوفيتي، بما لا يدع لها فرصة أن تكون ميداناً للحرب الباردة على أي وجه.

       وقد تبدو السياسة الأمريكية المرسومة عام 1947 على شئ من القصور في نظر من يتقصى الأسباب والعوامل، فإن سياسة "الاحتواء" كانت لا تعدو أن تكون شبيهة بخط ماجينو خلال الثلاثينيات من ناحيتين: كانت سياسة راكدة من ناحية، ولم تمتد بصورة كافية فتغطي الجهة الأمامية بأكملها من ناحية أخرى، وهكذا لم تدرك أهمية الاحتفاظ بالسيطرة على جميع الكتلة الشيوعية ابتداء من النرويج إلى اليابان إلا فيما بعد. ففي عام 1947 كانت كراهية الأمريكيين التقليدية للاستعمار أو لسيطرة شعب على شعب آخر لا تزال في ذروتها. وكذلك كان البريطانيون قد فقدوا الشعور "بالنعرة الإمبراطورية". وكان الاتجاه السائد في دول آسيا والشرق الأوسط، خلال العامين الأولين بعد الحرب العالمية الثانية، هو الرغبة في الاستقلال والتخفيف من نفوذ الدول الكبرى فيها. ولم يساعد هذا الاتجاه على تدعيم سياسة "الاحتواء" الأمريكية التي كان لها أثرها العميق في جميع الدول الكبرى.

       لقد انسحب الفرنسيون من سورية، ولبنان تحت ضغط المقاومة، وانسحب البريطانيون من العراق "فيما عدا بعض المطارات" كما انسحبوا من منطقة الدلتا في مصر إلى معسكراتهم على قناة السويس ، وكان في نية إيرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا أن ينقل القاعدة العسكرية البريطانية في الشرق الأوسط من منطقة القناة إلى كينيا. كذلك انسحب الأمريكيون والبريطانيون من إيران، ثم تلاهما الاتحاد السوفيتي فسحب قواته منها في مايو 1946. وإن ترك فيها حكومة موالية له في ولاية أذربيجان، أما في الشرق الأقصى فقد تخلت أمريكا عن سيادتها على جزر الفلبين، كما سحبت قواتها من الصين كجزء من سياستها التي تهدف إلى التهدئة والمسالمة، وكذلك عرضت الحكومة الأمريكية على الاتحاد السوفيتي ـ بلا جدوى ـ الدخول في مباحثات لإنشاء حكومة مؤقتة واحدة لكوريا بأكملها، في حين كان البريطانيون مشغولين بعملية انسحاب أكثر أهمية من كل هذا، ذلك هو انسحابهم من شبه القارة الهندية، ومن بورما، ومن سيلان. وكانت قواتهم قد خرجت في عام 1946 من الهند الصينية ومن إندونيسيا، ولم يبق فيها غير قوات الفرنسيين والهولنديين.

       وكان هذا الاتجاه العام يحظى بموافقة أمريكا بطبيعة الحال في ذلك الوقت، أما حين كانت تعجز الدول العظمى عن الانسحاب أو تأبى الانسحاب. فهنا كانت أمريكا تنظر إلى الموقف باستياء. من ذلك موقف البريطانيين في فلسطين والملايو وسنغافورة وهونج- كونج، وموقف الفرنسيين في الهند الصينية، وموقف الهولنديين في إندونيسيا. وكانت هذه المناطق كلها على وشك الوقوع تحت رحى الصراع بين الشيوعية والدول الغربية، ومن ثم بدأت أمريكا في إعادة النظر في سياستها، وإن لم يبد ذلك بوضوح في عام 1947. أما دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا فكان لها وضع مختلف، ذلك أن الأولى كانت تعد المجال الطبيعي للنفوذ الأمريكي، أما الثانية فكانت قد خطت خطواتها الأولى وهي تجتاز عتبة التاريخ المعاصر. على أن هذه المجالات الأربعة الكبرى، التي تقع خارج أوروبا، ونعنى بها: الشرق الأوسط والشرق الأقصى، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، كانت في موقف واحد مشترك حتى عام 1947، أي أنها كانت لا تزال بعيدة عن نطاق الحرب الباردة، وإن كان بعضها أقرب إليه من الآخر.

       فلما أقحمت الحكومة الأمريكية نفسها في النزاع الأوروبي، كانت لا تزال ترجو مع هذا أن يظل الجزء الباقي من العالم بمنأى عن هذا النزاع. والواقع أن السياسة الأمريكية، خارج أوروبا، كانت واضحة في عدد من البرامج قبل برنامج النقطة الرابعة الذي نبع من خطاب الرئيس ترومان الافتتاحي الذي ألقاه في يناير عام 1949، ومثل برنامج المعونة الفنيـة لمنظمة الأمم المتحدة. ولم يكن للأمريكيين في ذلك الوقت أية خطط للتدخل السياسي في آسيا، أو لإقحام الدول المتحالفة في الحرب الباردة.

من أهم أحداث هذه الفترة من الحرب الباردة:

       الانقلاب الذي حدث في تشيكوسلوفاكيا في فبراير 1948. كانت تشيكوسلوفاكيا الدولة الوحيدة من دول المجال السوفيتي التي ظلت محتفظة بنظامها الديموقراطي حتى آخر عام 1947، على الرغم من أن جميع حكوماتها التي تولت الحكم في أعقاب الحرب ظلت تحرص على علاقاتها الوثيقة بالاتحاد السوفيتي، ولكن العلاقات الوثيقة لم تكن تكفي في نظر الروس لاعتبار تشيكوسلوفاكيا دولة صديقة يؤمن جانبها. لذلك صدرت الأوامر للشيوعيين التشيكيين بالقيام بالانقلاب المعروف في 25 فبراير 1948. وطبق النظام الشيوعي في البلاد منذ هذا التاريخ.

       وفي الوقت الذي نجح فيه "مشروع مارشال" أن يؤدي إلى خلق عالم يقوم على أساس الكتلتين، لم تستطع دول أوروبا الغربية أن تبقى محايدة بين عملاقين كبيرين، لذلك التزمت هذه الدول بالكتلة الأمريكية. وبهذه الطريقة استطاع الرئيس ترومان أن ينشئ الكتلة عام 1949، من طريق إنشاء معاهدة حلف شمال الأطلسي (انظر ملحق قرار فاندنبرج). وبهذه الطريقة وجدت أمريكا نفسها، لأول مرة منذ عام 1953، عضواً في تحالف دائم، وقد استطاع مشروع مارشال أن يجعل الولايات المتحدة الأمريكية تضمن إعادة الحياة الاقتصادية الصحيحة لأوروبا. واستطاعت منظمة حلف شمال الأطلسي ربط الولايات المتحدة الأمريكية بأوروبا الغربية من أجل دفاعهم المشترك. وكانت هذه الخطوط منطقية ونهائية بالنسبة لسياسة الاستعداد التي كان ترومان قد بدأها قبل ذلك بعامين.



[1]  أنشئ منظمة الكومنفورم في أكتوبر 1947، رداً على مشروع مارشال.. وكان ستالين وراء إنشاء هذه المنظمة بهدف نشر الدعاية الشيوعية، وجعل مركزها الرئيسي في بلجراد، وقد حُلت عام 1955، وكلمة Cominform  هي اختصار The Communist Information Bureau.