إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / السِّير الذاتية للشخصيات الواردة في كتاب "مقاتل من الصحراء" / السِّير الذاتية للشخصيات، في مصر









الفصل السادس

الفصل السادس

رياح السخط وبداية النهاية

 

وقائع أحداث الشغب في يومي 18، 19 يناير 1977

تضمن خطاب السادات بتكليف ممدوح سالم بالوزارة في إبريل 1975، أن تكون مسؤولية وزارته رفع المعاناة عن الجماهير، وتثبيت الأسعار، ومقاومة الفساد. وظلت الصحف حتى يناير 1977 تبشر الناس بتثبيت الأسعار، وتحسين أحوال المعيشة، وتنشر تصريحات الرئيس بقرب قدوم الرخاء، الذي سيعم الجميع. وفي الوقت نفسه أرسل صندوق النقد الدولي مذكرة إلى الحكومة المصرية، طلب فيها رفع أو تخفيض الدعم على بعض السلع الضرورية، وهدد بعدم إقراض مصر مبلغ 200 مليون جنيهاً، ما لم تتم الاستجابة لذلك.

وعقد مجلس الوزراء جلسات متتالية مطولة، وقال القيسوني ـ رئيس المجموعة الاقتصادية ـ إن المركب تميل الآن من الناحية الاقتصادية، ويمكن أن تغرق، ولا مفر من اتخاذ القرار. وحدد القيسوني السلع التي يمكن رفع أو تخفيض الدعم عنها. وأضاف إن الدول العربية كذلك قررت عدم دفع مساعدات لمصر إلاّ بعد استشارة خبراء من البنك الدولي. واعترض سيد فهمي ـ وزير الداخلية ـ بشدة، وقال إن الوزارة شُكلت أصلاً لكي تثبت الأسعار، فكيف يفاجأ الناس بعد شهرين برفع الأسعار، وهذا يؤثر على الوضع الأمني. وفي النهاية تمكن القيسوني من إقناع السادات، فاصدر أوامره بالاستجابة لقرارات البنك الدولي. وصدرت صحف يوم 17 يناير 1977 تحمل على صفحاتها الأولى قوائم بخمس وعشرين سلعة ضرورية ارتفعت أسعارها مرة واحدة.

سبق أحداث 18، 19 يناير أن أضرب سائقو التاكسيات داخل الأقاليم وخارجها مطالبين برفع سعر "البنديرة" لأنهم علموا أن سعر البنزين سوف يرتفع. وأصدر رئيس الوزراء قراراً بالاستجابة لهم، وطلب من وزير الداخلية الاتصال بجميع المحافظين على الفور ليعلن ذلك في لافتات كبيرة في أماكن تجمع السيارات.

تفجر الموقف صباح 18 يناير، ووصلت الأنباء إلى وزارة الداخلية بأن عمال مصانع حلوان يتحركون في مسيرة، بدأت في الثامنة صباحاً متجهة إلى مجلس الشعب. وفي الوقت نفسه تجمع حشود من الطلبة في جامعتيّ عين شمس، والقاهرة. أما في الإسكندرية فقد تجمع عمال الترسانة البحرية للخروج في مسيرة من ميدان المنشية. وتوالت البلاغات من المنصورة وبورسعيد، بل وفي أسوان نفسها حيث كان الرئيس هناك يستعد لاستقبال المارشال تيتو، رئيس يوغسلافيا. وتحولت التظاهرات إلى شغب وتحطيم، واتجهت التجمعات الهائجة لمهاجمة مواقع السلطة، مثل أقسام الشرطة والمطافئ. وقد هوجمت نقطة شرطة في الإسكندرية، فصدرت الأوامر بإطلاق النار؛ لأن استيلاء أي تجمع على موقع أمني معناه انهيار السلطة.

هجوم على استراحة حسني مبارك

وعلى حرس الرئيس

هاجمت التظاهرات في الإسكندرية الاستراحة المخصصة لنائب رئيس الجمهورية حسني مبارك، واتصل النائب بالسادات في أسوان وأبلغه بالحادث. ومن الغريب أن السادات لم يعرف ما كان يجري، وكان مشغولاً بحديث تجريه معه صحفية لبنانية في شرفة استراحته المطلة على خزان أسوان القديم. وفجأة شاهد عموداً من الدخان يرتفع، فقال: ما هذا؟ قالت الصحفية اللبنانية: ربما كانت المظاهرات في القاهرة قد وصلت إلى هنا. وسألها مندهشاً: أية تظاهرات؟

في ذلك الوقت كان حرس الرئيس الخاص يتحركون بسياراتهم من المطار إلى الفنادق التي سينزل فيها الضيف الزائر، والوفد المصاحب له. وتسبب الزي الرسمي لهم في مشاكل حادة مع المتظاهرين، وتحطمت بعض سياراتهم، واشتعلت النار في بعضها. وهرع محافظ أسوان مذعوراً إلى الرئيس يقول: "سيادة الرئيس، أرجوك أن تغادر الاستراحة على الفور"، وأخذ يحذر من أن الجماهير الغاضبة تزحف في الطريق إلى الاستراحة والشرطة تقاوم، والخطر محتمل إذا تمكنت الجماهير من قطع الطريق بين الاستراحة والمطار، فسارع السادات بالخروج تاركاً وراءه الأوراق الرسمية التي أرسلت إليه للإطلاع والتوقيع. وظل ذلك الموقف بذكرياته المريرة محفوراً في ذاكرة السادات. وقبل مغادرته أسوان، اتصل السادات بممدوح سالم ـ رئيس الوزراء ـ وطلب منه الإعلان رسمياً عن العدول عن قرارات رفع الأسعار. واشتد عنف التظاهرات، وبدأت قيادات الأمن تهتز، وقال أحد كبار مسؤولي الأمن في القاهرة لوزير الداخلية: "العملية راحت خلاص". وحل الليل، وإزاء عنف وكثافة التظاهرات، لم يكن هناك مناص من الاستعانة بالقوات المسلحة، وعلى الرغم من أن الفريق الجمسي ـ وزير الحربية ـ كان رافضاً في البداية؛ اعتماداً على أنه طلب من الرئيس، بعد حرب أكتوبر، وعداً بألا يُستخدم الجيش على الإطلاق في أية عمليات ضد الشعب، مهما كانت الظروف. إلاّ أن السادات أصدر أمره بتدخل القوات المسلحة، وإعلان الأحكام العرفية، وفرض حظر التجول. وجرت مناورة إعلامية مساء 18 يناير للتخفيف من مشاعر الجماهير، ودعي القيسوني إلى ندوة تليفزيونيه حيث أعلن إلغاء رفع الأسعار. ولكن هذه التصريحات لم تحدث أي أثر.

وصل السادات إلى القاهرة من أسوان، وقصد إلى بيته في الجيزة. وكانت هناك طائرات هليوكبتر أمام البيت على شاطئ النيل جاهزة للإقلاع، كما كانت المنطقة كلها محاطة بالدبابات الثقيلة. وفي مطار "أبو صوير" كانت طائرة السادات الكبيرة من طراز "بوينج 707"، مستعدة للإقلاع، إذا حتمت الظروف. وكانت وجهتها المقررة، إلى طهران أو إلى أمريكا عن طريق السودان.

استمرت التظاهرات يوم 18 يناير حتى الساعة الثالثة صباحاً، وألغيت زيارة الرئيس اليوغسلافي. واحترقت مخازن الورق في مبنى أخبار اليوم, وكانت قوات الأمن قد أُنهكت تماماً، وتقررت لهم وجبة ساخنة في مواقعهم. وتواصلت حدة التظاهرات صباح 19 يناير، وقلبت في شارع صلاح سالم إحدى سيارات الجيش، وظهرت عناصر اندفعت إلى النهب والتدمير. وكان واضحاً أن هناك جماعات أرادت استغلال الموقف، وانتشرت تحركات الجيش مسبوقة بإعلانات متكررة في الإذاعة والتليفزيون أن الرئيس ألغى قرارات رفع الأسعار.

ومن المؤكد أن بعض صناع القرار راودهم الشك، في أن الجنود والضباط ـ وهم جزء من الشعب ـ قد يرفضون أوامر التصدي للتظاهرات، وقد تتطور الأمور إلى ما هو أسوأ. ولكن أمكن فض التظاهرات، وكانت آخر تظاهرة في حي زينهم في الساعة التاسعة مساء. وأعطى وزير الداخلية التمام بعد فض هذه التظاهرات، وعادت القاهرة إلى حالتها الطبيعية صباح 20 يناير 1977، بعد أن جرى نقل عدد كبير من قوات الأمن المركزي والحرس الجمهوري من أسوان، بطائرات عسكرية إلى القاهرة. واعتقلت النيابة العامة أعداداً كبيرة من المواطنين، الذين اتهموا بالسلب والنهب والتخريب خلال التظاهرات. ولكن لم تصل النيابة إلى إدانة أحدٍ بعينه، ولا إلى أدلة دامغة ضد عدد من المقبوض عليهم، وفشلت القضية من الناحية القانونية. وعبر راديو موسكو عن الأحداث بأنها "انتفاضة شعبية"، بينما وصفها السادات بأنها "انتفاضة حرامية"، وكذلك وصفها الكاتب الصحفي مصطفى أمين. ( اُنظر ملحق كلمة الرئيس السادات في لقائه بأعضاء المجلس الأعلى للجامعات).

رد فعل السادات

عقد السادات سلسلة اجتماعات في بيته، ضمت أعضاء مجلس الأمن القومي وكبار رجال المخابرات ومباحث أمن الدولة. وطلب بياناً كاملاً بالموقف من كل جوانبه. وظهر أن الموضوع أعمق من تظاهرات رفع الأسعار، وأن مؤامرة كبرى كانت تدبر من قوى شيوعية، وجماعات إسلامية. واستُنتج ذلك من أن الهتافات كانت واحدة في كل مكان، وكذلك أسلوب المقاومة والتخريب، وهو محاصرة أقسام الشرطة والمطافئ، والهجوم على جميع المرافق العامة بالأحجار والنيران، ومهاجمة ملاهي شارع الهرم. كل هذا يوضح طبيعة الأطراف، وأن المسألة مدبرة من تنظيمات سرية تريد ركوب الموجة وتوجيه التظاهرات. وقد شبه السادات الحركة بأنها مثل عملية استيلاء لينين على موسكو، ووثوبه إلى السلطة في عام 1917.

كان السادات في قمة الألم والحزن مما جرى، رأى فيه جحوداً من الماركسيين، الذين سمح لهم بحزب شيوعي لأول مرة. وعاد السادات إلى رأيه الذي كان يردده كثيراً، وهو أن تجربته في الحياة السياسية علمته ألا يثق بشيوعي ولا بإخواني؛ لأنهم: "مهما عاملتهم بالخير، فهم ينقضون عليك في الوقت المناسب".

أجرى السادات تعديلاً وزارياً أبعد فيه سيد فهمي، وزير الداخلية، من الوزارة، وكان هو كبش الفداء، على حد تعبير رجال الأمن. ثم تقدم السادات، في 10 فبراير 1977، إلى الناخبين باستفتاء على أحد عشر اقتراحاً، تحت عنوان "حماية أمن الوطن والمواطنين" وقد وردت عقوبة "الأشغال الشاقة المؤبدة" ست مرات، في بنود هذا الاستفتاء. (اُنظر ملحق مشروع الاستفتاء الذي قدمه السادات للشعب في 10 فبراير 1977).

الحملة التأديبية على ليبيا

بدأت نذر الخلاف بين السادات والقذافي، حين رفض السادات عرضاً من القذافي، يقترح فيه وحدة كاملة بين مصر وليبيا يتولى السادات رئاستها، ويتولى القذافي قيادة القوات المسلحة المشتركة فيها. وكان هدف القذافي من ذلك اجتياح إسرائيل عن طريق نقل القوات كلها إلى سوريا، وشن الهجوم على إسرائيل من هذا الاتجاه فقط.

وأخذ الخلاف يتصاعد، بعد وقف القتال مباشرة، بين مصر وإسرائيل في أكتوبر 1973. كان القذافي يرى أن استمرار الحرب ضروري، خصوصاً بعد التضامن العربي الكبير ومؤازرة الدول العربية لمصر وسوريا، أثناء الحرب. وتزايد الخلاف، وأخذت كل دولة تتهم الأخرى بتدبير عمليات نسف وتخريب داخل أراضي الدولة الأخرى، ووصلت الأمور إلى الذروة حتى وقع صدام عسكري مأسوي بين البلدين.

15 يونيه 1977

أعلنت وكالات الأنباء وصول 16 من الدبلوماسيين والموظفين في القنصلية المصرية في بنغازي ترافقهم عائلاتهم إلى القاهرة، بعد أن احتجزتهم السلطات الليبية أسبوعا في أحد الفنادق هناك. وقد ردت السلطات المصرية باتخاذ إجراء مماثل ضد الدبلوماسيين الليبيين في الإسكندرية، كما قررت منع جميع الليبيين من مغادرة الأراضي المصرية.

2 يوليه 1977

ذكر كمال حسن علي ـ رئيس المخابرات في ذلك الوقت ـ أن العقيد القذافي حشد قواته على الجبهة الغربية، وهاجم نقاط الحدود المصرية بدعوى أنها قد تجاوزت أماكنها داخل الحدود الليبية بمقدار 200 متر، وأسر 38 فرداً من هذه النقط. ووصف كمال حسن علي هذا التصرف بأنه صفعة من صديق، وكان لابد أن تلقنه القوات المسلحة المصرية درساً لا ينساه.

سبب الأزمة

كان السادات ـ في حقيقة الأمر ـ يريد شن حرب تأديبية على ليبيا. وكان من أسباب ذلك أن الموساد الإسرائيلي أبلغ السادات ـ عن طريق المغرب ـ أن لديهم معلومات عن مؤامرة ليبية ضد السادات، وأوضحوا أنهم على استعداد لإعطاء التفاصيل لمندوب مصري مباشرة. وفي الرباط التقى مدير المخابرات العسكرية المصرية ورئيس الموساد الإسرائيلي، الذي سلمه تفاصيل المؤامرة.

وبناء على هذه المعلومات أمر السادات بشن حرب تأديبية على ليبيا، وحُجته أن السوفيت كانوا يكدسون أسلحة كثيرة متقدمة في ليبيا مما يعد خطراً على أمن مصر. وبدأ القتال يوم 21 يوليه 1977، واستمر القصف الجوي المصري للمواقع الليبية أسبوعاً كاملاً. وكان تصرف مصر أشبه بحركة شد الأذن للرئيس الليبي، الذي كانت أجهزة الإعلام المصرية تهاجمه بشدة، ويصفه السادات في كل مناسبة "بمجنون ليبيا"، و "الولد المجنون بتاع ليبيا" علناً في الخطب الرسمية والأحاديث الصحفية والإذاعية. كما كانت أجهزة الإعلام الليبية تشن حملات ساخنة على مصر ورئيسها، وتصف السادات بالخائن، وسياسات السلام مع إسرائيل بالاستسلام.

21، 22 يوليه 1977

بدأت العمليات العسكرية يوم 21 يوليه، وفي اليوم التالي أعلن ناطق عسكري مصري أن القوت الجوية المصرية اضطرت إلى الرد على 3 غارات شنتها الطائرات الليبية ضد منطقة السلوم، وقد أدى الهجوم المصري على قاعدة العضم الجوية الليبية، إلى إصابة منشآتها بأضرار بالغة وتدمير عدد من الطائرات فيها. كما أنزلت الطائرات المصرية مظليين وكوماندوز في بلدة قصر الجدي الليبية. وظهرت عناوين جريدة الأهرام يوم 22 يوليه، تقول: اشتباكات بالطائرات والمدافع مع ليبيا على مدى 3 أيام، القوات المصرية تطارد القوات المعتدية حتى غرب بلدة مساعد الليبية، وتُدمر 40 دبابة، و50 عربة قتال، وطائرتين، وتأسر 12 عسكرياً، و 30 مخرباً.

23 يوليه ـ 30 يوليه 1977

ظل القصف المصري مستمراً، وأعلن السادات في خطاب الاحتفال بمرور ربع قرن على ثورة 23 يوليه أن القوات المصرية لقنت القذافي درساً لن ينساه، وأن مصر مستعدة لتكرار هذه العملية. وبعد وساطات عربية مكثفة من جانب ياسر عرفات، الذي ظل ينتقل بين طرابلس والإسكندرية، ومن الكويت التي أوفدت وزير خارجيتها إلى زعيمي البلدين، ومن الحبيب بورقبية، وهواري بومدين، ووفود من سوريا والعراق. وقبل السادات الوساطة وأصدر يوم 24 يوليه أوامره بوقف كل العمليات العسكرية على طول الحدود الليبية المصرية، فور بدء مباحثاته مع الرئيس بومدين، مشترطاً سحب الأسلحة السوفيتية الإستراتيجية من المناطق الليبية المحاذية لحدود مصر الغربية.

وظل الوضع قابلاً للانفجار إلى 30 يوليه 1977، كما تواصلت الحرب الكلامية بين البلدين عبر الإذاعات والصحف.

أمنية السادات

في يوم 14 أغسطس 1977، ذكر السادات أنه قال لهواري بومدين حين توسط لديه في إيقاف العمليات العسكرية ضد ليبيا، لِمَ لا تنتظر يومين آخرين ريثما أكون قد انتهيت من تلقين القذافي الدرس.

وقد استمرت الحرب الكلامية إلى أن بادر السادات في 24 أكتوبر 1977، بإرسال وزير الصحة المصري الدكتور إبراهيم بدران، وعدد من الأطباء لمعالجة نجل العقيد القذافي. وقد رحب الليبيون بهذا التصرف الإنساني، وقال القذافي: هذا هو السادات كما عهدته. وكان الرد الليبي هو زيارة عبدالفتاح يونس قائد القوات الخاصة الليبية إلى القاهرة، مع تصريح مسؤول إعلامي ليبي بأن التقارب مع مصر ينبع من مبادئ ثابتة، لأن مصر هي الشقيقة الكبرى، والخصام معها لا يفيد إلا أعداء الأمة.

وقف تصدير القطن للاتحاد السوفيتي

في يوم 14 أغسطس 1977، وفي لقاء السادات بالمبعوثين المصريين القادمين من الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، أعلن أن مصر قد قرَّرت حظر تصدير القطن إلى الاتحاد السوفيتي، رداً على قراره حظر توريد السلاح وقطع الغيار لمصر، وقال السادات، إن هذا معناه أن تصبح الأسلحة الموجودة لدينا "خُردة". وأن مصر ترفض أن يكون هناك مكان ممتاز لأية دولة أجنبية، سواء كانت من الدول الصغرى أو الكبرى.

التفكير في زيارة إسرائيل

في مساء 29 سبتمبر 1977، استقبل السادات، في حجرة نومه بمنزله في الجيزة، مبعوثاً من واشنطن يحمل رسالة من إسماعيل فهمي، وزير الخارجية، الذي أوفده السادات ليلتقي الرئيس الأمريكي جيمي كارتر Jimmy Carter، وأعضاء الكونجرس المؤثرين، للعمل على إحياء مؤتمر جنيف. وفي هذه الرسالة يقول إسماعيل فهمي:

لا أمل في عقد مؤتمر جنيف.

الموقف الأمريكي في غاية الضعف.

هم يدورون حول الموضوعات دون أن يكون لهم رأي حاسم.

بات واضحاً أن كل الوسائل التي استخدمتها لمصر لتحريك الموقف الأمريكي قد باءت بالفشل. وأخذ السادات يتأمل الموقف، وخرج بنتيجة وصفها بقوله: "تبين لي أننا داخلون على حلقة مفرغة رهيبة. تماماً كالتي عشناها طوال الثلاثين عاماً الماضية.

ضاعف من صدمة السادات رسالة خطية، تلقاها من الرئيس كارتر جاء فيها "إن الموقف متجمد، والعرب في خلافات حول إجراءات عقد مؤتمر جنيف، وطريقة تشكيل الوفود العربية إلى المؤتمر، وفد عربي واحد، أم وفود مختلفة، وكذلك طريقة تمثيل الفلسطينيين في المؤتمر". كان مضمون الرسالة أن الأمل أصبح معدوماً في فتح أي طريق لمباحثات السلام.

وأمّا في إسرائيل فقد أصبح مناحم بيجن رئيساً للحكومة، وراح يعلن أن الضفة الغربية جزء من أرض إسرائيل التاريخية، وأنه لن يستجيب لأي ضغوط من أي جهة، وسيضع بنفسه الشروط التي يراها مناسبة للتسوية السلمية للنزاع، من خلال مفاوضات مباشرة مع الدول العربية دون شروط مسبّقة، وأن على الدول العربية أن تقيم مع إسرائيل العلاقات الدبلوماسية والتجارية عند توقيع اتفاقيات السلام. وأمّا منظمة التحرير فهي تنظيم إرهابي وسلاح في خدمة الدول العربية والإمبريالية السوفيتية، ولذا لابد من إزالتها وتدميرها.

سيادتك بتتكلم جد يا ريس!!؟

سافر السادات إلى رومانيا، وذهنه مثقل بالتفكير في خطوة إيجابية، وقال لمعاونيه غير مرة:

"لابد أن نفكر في تحرك جذري يغير الصورة تماماً".

وفي اليوم التالي لوصول السادات إلى رومانيا، استدعى وزير خارجيته، إسماعيل فهمي، في المساء، وقال له: "عندي فكرة، ربما تبدو لك غريبة، ولكنني أعتقد أنها ستحرك الموقف الميت الجامد، ما رأيك في أن أذهب إلى الإسرائيليين في عقر دارهم، وأعلن شروطنا للسلام"؟

وأصيب إسماعيل فهمي بالذهول، فسأل: "تروح فين ياريس، إسرائيل!!؟ قال السادات: ولم لا؟ إحنا منتصرين، ومعندناش عُقد، ولن نتنازل عن أي حق عربي، ولكنني بذلك أضعهم في موقف حرج أمام العالم كله, ولن يستطيعوا التملص من فكرة السلام".

وسأل إسماعيل فهمي، وهو لا يزال في ذهول: سيادتك بتتكلم جد يا ريس؟

قال: نعم.

وعاد إسماعيل فهمي إلى مقره، وكان أسامة الباز في انتظاره، ومعه محمد البرادعي المستشار بالخارجية ، وقال لهما إسماعيل فهمي: "تصوروا الراجل عنده فكرة حشاشي، وباين إنه واخدها جد".

السادات يعلن استعداده

في 9 نوفمبر 1977 وقف السادات في مجلس الشعب يلقي خطاباً بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة. وقرب نهاية الخطاب قال السادات:

"إنني ومن مركز القوة مستعد للذهاب إلى أقصى الأرض، حتى إلى الكنيست نفسه، لكي أتحدث للإسرائيليين في عقر دارهم عن رغبتنا في السلام" ( اُنظر ملحق خطاب السادات في مجلس الشعب: مستعدون للذهاب إلى جنيف دون اعتبار لمشاكل الإجراءات) .

ومع أن مجلس الشعب صفق بحماسة لهذه العبارة، فقد كان ظن الأعضاء، بغير استثناء، أنها مبالغة خطابية. وكثيرون لم يعيروا الأمر اهتماماً، إذ كان السادات كثيراً ما يخرج في خطابه عن النص المكتوب ويفصح عن آراء وأفكار مرتجلة، ربما دارت في خلده للمرة الأولى وهو يلقي الخطاب. ويقول الدكتور بطرس غالي، وزير الدولة للشؤون الخارجية آنذاك: وكان الرئيس عرفات أول من أنفجر بالتصفيق لهذه الكلمات. ولم يكن عرفات ولا زملائي (الوزراء)، ولا أنا فهمنا تداعيات ما قاله الرئيس. وفهم معظمنا كلماته على أنها مجرد تعبير عن استعداده لبذل أقصى جهد ممكن لتحقيق السلام.

تصوَّر المهندس سيد مرعي ـ مثل غيره ـ أن السادات يلقي قنبلة سياسية، كبالون اختبار لا أكثر ولا اقل. ولذا اتصل سيد مرعي، ببعض رؤساء تحرير الصحف، ورجاهم ألا يبرزوا هذه الفقرة من خطاب الرئيس. وعندما علم السادات بذلك، اتصل بسيد مرعي وقال له إن إعلان زيارته للقدس قرار حقيقي وليس للمناورة. بل إن السادات لم ينم ليلته إلا بعد أن اطَّلع على الطبعات الأولى للصحف.

بعث رئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيجن، بدعوة رسمية يوم 15 نوفمبر للرئيس السادات لزيارة القدس (عن طريق السفارتين الأمريكيتين في تل أبيب وفي القاهرة)، وقبل السادات الدعوة، وتحدد لبدء الزيارة مساء السبت 19 نوفمبر 1977 الموافق لوقفة عرفات. تعلقت أنظار العالم بالسادات. لقد أصبح نجم الساعة، بل نجم العام، بغير منازع.

قرار باعتقال السادات!!

زار السادات دمشق، في 16 نوفمبر، للقاء الرئيس الأسد. وأثناء اجتماع السادات والأسد حتى ساعة مبكرة من الصباح، كانت قيادة حزب البعث في اجتماع طويل، قررت فيه اعتقال السادات قبل مغادرته دمشق، وإعلان محاكمته سياسياً وشعبياً بتهمة الخيانة!، وخلال مراسم التوديع ذهب مبعوث من القيادة القطرية إلى المطار لكي يحصل على موافقة حافظ الأسد على القرار، ولم يستطع المبعوث أن يقابل الأسد إلا بعد أن ركب السادات الطائرة! ولم يتوصل الرئيسان إلى اتفاق، وكان ذلك إشارة للقوى العربية المعارضة للتعبير عن رأيها. فتصاعدت من العراق وليبيا والتنظيمات الفلسطينية أصوات الإدانة للسادات[1]، بينما التزمت دول شبة الجزيرة العربية الصمت من أثر الصدمة.

استقالة وزيري الخارجية، والدولة للشؤون الخارجية

وفي يوم 17 نوفمبر، قدم إسماعيل فهمي وزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء استقالته، وكذلك فعل محمد رياض وزير الدولة للشؤون الخارجية، وقبل السادات الاستقالتين.

يوم مشــهود

جاء اليوم المحدد للرحلة المثيرة، يوم السبت 19 نوفمبر 1977. كان العالم كله مشدوهاً، والناس في كل أنحاء العالم يشاهدون الرحلة المثيرة، ويتابعونها لحظة بلحظة، والأعصاب متوترة، أعلن وزيران للخارجية استقالتهما قبل بدء الرحلة. استقال إسماعيل فهمي أثناء وجود السادات في دمشق يوم 17 نوفمبر، واتصل النائب حسني مبارك بالرئيس في دمشق وأبلغه بالخبر، فطلب منه الرئيس أن يقبل الاستقالة على الفور، وأن يتولى محمد رياض، وزارة الخارجية، ولكنه كذلك أعلن استقالته. ولم يجد السادات إلا أن يختار بطرس غالي، وزير الدولة للشئون الخارجية، لكي يكون ضمن الوفد المرافق له إلى القدس.

في مساء 19 نوفمبر، كان الظلام قد خيَّم على مطار بن جوريون، وسلطت الأضواء على أرض المطار، وعلى مدرج به كل قيادات إسرائيل، وممثلي الهيئات المختلفة بها. ونزل السادات وصافح بيجن الذي صاحبه وأخذ يقدمه لكبار المستقبلين، ولم يترك السادات شخصية إسرائيلية دون أن يداعبها، موشي ديان، جولدا مائير، شارون، شيمون بيريز. وقال لشارون: "كنت سأقضي عليك في الثغرة"، ورد شارون: "السلام أحسن".

السادات في الكنيست

في صباح اليوم التالي للزيارة، 20 نوفمبر، خرج السادات لصلاة العيد، ودخل القدس وصلى في المسجد الأقصى. ووجد أن منبر صلاح الدين قد احترق تماماً، فأمر بإعادة بناء المنبر من جديد على نفقة مصر وذهب السادات إلى الكنيست الإسرائيلي، وألقى من داخله خطابه الشهير . وأعقب ذلك اجتماعات منفصلة مع أعضاء حزب العمل، وكتلة ليكود، والنواب الشيوعيين. واستمع السادات طويلاً إلى المتطرفين والمعتدلين، الذين تناولوا في كلماتهم مشكلات تفصيلية وأظهروا تشدداً في المطالب، وخاصة النائبة جيئولا كوهين، التي مزقت معاهدة السلام بعد ذلك.

عاد السادات إلى مصر، واستقبلته الملايين استقبالاً حافلاً.

رد الفعل العربي

باستثناء السودان، الذي سارع رئيسه جعفر نميري، إلى مصر فور عودة السادات، وأبدى تأييده الكامل تماماً، وباستثناء المغرب أيضاً، فقد أعلن الملك الحسن الثاني، أن مبادرة السادات فرصة فريدة تتوج كفاح العرب لتحرير أراضيهم، وأكدَّ الحسن تأييده للمبادرة. وسلطنة عُمان التي لم تعلن رفضها للمبادرة، لم تتقدم دولة عربية واحدة لكي تنضم إلى عملية السلام، بل تبارت كل الدول العربية في شجب هذه العملية.

كان السادات شخصية عنيدة. ولعل بعض الدول العربية ظنت أنه يمكن أن يتراجع، مثلما حدث مع جمال عبدالناصر من قبل عام 1954، عندما دعا وزير خارجية بريطانيا إلى عقد اجتماع مائدة مستديرة تشترك فيه الدول العربية وإسرائيل، لبحث تسوية النزاع. ويقول محمد إبراهيم كامل: وعندما أعلن عبدالناصر أنها فكرة جديرة بالدراسة، احتجت سوريا والفلسطينيون، وغيرهما، وانهالت الاتهامات على عبدالناصر بالخيانة، وبأنه يبيع القضية الفلسطينية للعدو الصهيوني. فتراجع عبدالناصر، وهدأت العاصفة.

وفي الحقيقة كان ينبغي على السادات أن يعد لهذه المبادرة، بالتشاور والتنسيق مع الدول العربية، قبل أن يعلنها على الملأ. فيتفادى بذلك الفرقة والمعارك الجانبية مع بعض الدول العربية. ولكن لعل السادات، وقد سيطرت عليه فكرة المبادرة، لم يطق الصبر، وتملكه الخوف ـ إن هو تشاور مع الدول العربية في الأمر ـ أن تضيع المبادرة بين الاختلافات وتعارض وجهات النظر، أو أن تفقد المبادرة بريقها وعنصر المفاجأة لإسرائيل وللعالم.

انقسمت الدول العربية، بعد زيارة السادات للقدس، إلى ثلاث مجموعات:

1.      جبهة الصمود والتصدي

وهي سوريا والعراق الجزائر وليبيا واليمن الجنوبية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وقد اتخذت هذه المجموعة موقفاً متطرفاً معادياً لمبادرة السادات، واعتبرتها خيانة للقضية العربية، وسعياً من السادات وراء حل منفرد مع إسرائيل. وقطعت هذه الدول علاقاتها الدبلوماسية مع مصر.

  1. والمجموعة الثانية

تعاطفت مع المبادرة، وهي السودان، وسلطنة عُمان والمملكة المغربية، حيث لعب الملك الحسن الثاني دوراً بارزاً في الاتصال السري السابق على مبادرة السادات بين حسن التهامي، ممثلاً للسادات، وموشي ديان، ممثلاً للحكومة الإسرائيلية، في سبتمبر 1977[2].

  1. أمّا المجموعة الثالثة

وتضم الأردن، والمملكة العربية السعودية، وباقي دول الخليج، فقد اتخذت موقف التريث والانتظار، واحتفظت بسفرائها وعلاقاتها الدبلوماسية مع مصر في بادئ الأمر.

أما في العالم الخارجي

فلشهور طويلة لم تخل صحيفة أو مجلة أو نشرة أخبار من صورة للسادات، أو خبر عنه. وتبني العالم مبادرة السلام وتشبث بها، خاصة الرأي العام الأمريكي.

وانتقلت التفاعلات إلى داخل إسرائيل نفسها، فرفعت حركة "السلام الآن" شعار "إن السلام أهم من الأرض"، وجابت التظاهرات الشوارع تدعو الحكومة الإسرائيلية إلى عدم إضاعة الفرصة، بأي شكل من الأشكال.

تطورات سريعة

1.   أصدر السادات قراره بأن يرأس عصمت عبدالمجيد، الوفد المصري في اجتماعات مينا هاوس، في 15 ديسمبر 1977. وقد وُجِّهت الدعوة إلى كل أطراف المؤتمر أمريكا، وروسيا، والأمم المتحدة، وسوريا، والأردن، ولبنان، ومنظمة التحرير. بيد أن منظمة التحرير والدول العربية الأخرى أعلنت مقاطعة الاجتماع، وأعلن المتحدث الرسمي الإسرائيلي أن غياب الأطراف الأخرى لا يمنع مناقشة التوصل للحل الشامل. وقد رُفعت أعلام الدول العربية على فندق مينا هاوس، وكان من بينها علم فلسطين، ثم أزيلت الأعلام بعد ساعة واحدة.

2.   صدر قرار السادات بتعيين محمد إبراهيم كامل، وزيراً للخارجية، في 24 ديسمبر 1977. وفي اليوم نفسه شارك الوزير الجديد في مباحثات الإسماعيلية بين مصر وإسرائيل.

3.   في 5 سبتمبر 1978، سافر السادات، ووزير خارجيته، محمد إبراهيم كامل، إلى الولايات المتحدة، لحضور مباحثات كامب ديفيد.

4.   في مساء الأحد 17 سبتمبر 1978، جرى التوقيع على معاهدة كامب ديفيد.

السادات يحصل على جائزة نوبل

رُشح السادات في سبتمبر 1978 لجائزة نوبل للسلام، وفي 27 أكتوبر 1978، أعلنت لجنة "نوبل" في أوسلو فوز السادات بجائزة نوبل للسلام مناصفة مع مناحم بيجن، رئيس وزراء إسرائيل، تقديراً لجهودهما في مفاوضات السلام، والتي بدأت بزيارة السادات للقدس، وأدت إلى تحطيم الحائط النفسي الذي دام حوالي 30 عاماً. ونوَّهت اللجنة بجهود الرئيس الأمريكي كارتر. وقد أعلن السادات إهداءه لقيمة الجائزة لتطوير قرية ميت أبوالكوم. وتبلغ قيمة الجائزة 172 ألف دولار (725 كرونة سويدية). وحصل عليها، في 20 ديسمبر 1978. وكانت اللجنة التي منحته الجائزة مكونة من خمس شخصيات، برئاسة السيدة أوسي ليونيز عضو البرلمان النرويجي، ونائبة رئيس الحزب الحاكم، ورئيسة لجنة العلاقات الخارجية.

السادات يستقبل شاه إيران

عندما انهار عرش الشاه، وغادر إيران مع زوجته، بعد إعلان أنه سيترك بلاده في إجازة مؤقتة، لم تكن دولة في العالم أو في المنطقة على استعداد لاستقباله، إلاّ السادات، الذي أجرى معه اتصالات لكي يحضر إلى مصر. واستقبله السادات يوم 9 يناير 1978، في مطار أسوان استقبالاً رسمياً، حضره سفير إيران في مصر. وأطلقت المدفعية 21 طلقة، كما أعد السادات للشاه استقبالاً شعبياً كبيراً في الشارع الرئيسي في أسوان من المطار، وصحبه في سيارة مكشوفة، حتى مرسى المركب الذي نقلهم إلى فندق أوبُرى على الضفة الثانية من النيل. وكان واضحاً أن الشاه وزوجته يعرفان تماماً أن عودتهما إلى إيران أمر بالغ الصعوبة. كان الشاه في غاية الحزن وكذلك زوجته الإمبراطورة فرح ديبا، وأراد السادات أن يرفع من معنوياته بهذا الاستقبال. وعندما انتهت الزيارة الرسمية في أسوان، وغادرها الشاه إلى الرباط، ثم إلى المكسيك، ثم إلى بنما بعد ذلك (حيث لاحقته هناك كل تظاهرات ومظاهر الاحتجاج من الجماهير، والحرج من جانب حكومات هذه البلدان) لم يجد الشاه مستقراً له، سوى العودة ليقيم في "وطنه الثاني" مصر، فوصل إلى أسوان ومعه قرينته بعد ظهر يوم 16 يناير 1979، واستقبله السادات استقبالاً رسمياً، فأطلقت المدفعية 21 طلقة لدى وصول الطائرتين الخاصتين اللتين أقلتا الشاة وقرينته، والوفد المرافق.

كان كثير من المسؤولين في مصر يعارضون استضافة الشاه، وكانت وجهة نظرهم أن ليس لمصر قدرة على تحمل مشكلات جديدة في الحكم، كما أنها ليست لها مصلحة في عداء ثورة الخميني. كذلك كانت المعارضة الداخلية، والجماعات الإسلامية تهاجمان هذا التصرف من السادات في عنف شديد. ولكن السادات لم يستجب لهذه المعارضة، وكان مُصرّاً على موقفه. ولم تكن استضافة الشاه في مصلحة مصر، ولم يكن الشاه يستحق ذلك، فهو لم يكن صديقاً لمصر في أي وقت مضى، بل إنه كان طوال معارك مصر والعرب يقف مع إسرائيل منذ حرب 1956، و 1967، وفي حرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر 1973 فضلاً عن انه كان، هو المصدر الرئيسي الذي يمد إسرائيل بالنفط.

الشاه مثلي الأعلى

ويبدو أن السادات كان معجبا إعجابا شخصياً بالشاه. ففي عام 1974، عاد الصحفي المصري أحمد بهاءالدين، بعد لقاء مع الشاه في إيران. واستضافه السادات ليسأله عن لقائه الشاه، ثم أخذ يسأله: ولكن ألم تلاحظ أنه خارق الذكاء؟ ألم تجد ثقافته واسعة؟ ألم تجد أن فكره الإستراتيجي شديد التفوق؟

يقول أحمد بهاء الدين: "كان السادات يسألني بروح من الإعجاب الهائل عن شخص لم يكن يعرفه جيدا، فهو لم يره إلا في مؤتمر في الرباط أيام عبدالناصر، وتشاجرا، وتبادلا الإهانات في جلسة من جلسات المؤتمر، وانتهى الأمر.

وحاول أحمد بهاء الدين أن يشرح للسادات تردي الأحوال في إيران، ولكن السادات قاطعه معبراً عن إعجابه الهائل بالشاه قائلا:

"أتعرف أنني أعتقد من زمان أن مثلي الأعلى بين كل زعماء العالم الثالث هو شاه إيران!!!؟" ثم استطرد السادات قائلاً:

"زعماء عدم الانحياز بتوعك الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً منذ سنوات: نهرو ـ ونكروما ـ وسوكارنو ـ وحتى عبدالناصر ـ وحتى تيتو اللي لسه عايش.. أين هم الآن؟ راحو فين؟ اللي مات والي انهزم واللي راح في انقلاب والي انكمش داخل حدوده زي تيتو! واحد فقط من هذا الجيل، وهذه المرحلة كلها باق على مقعده، بكل سلطانه وهيلمانه، والدنيا تسعى إليه، هو شاه إيران… قعد على حجر أمريكا، ومسك في هدومها، واديك شايف: كل أصحابك راحو والشاه عملتله أمريكا كل اللي هو عايزه! قامت ثورة وهرب إلى إيطاليا. الأمريكيون جابوه ورجَّعوه وقعَّدوه على العرش لحد دلوقتي علشان كده، بقول لك، إني أعتقد إنه رجل خارق الذكاء وغير عادي".

ويبدو كذلك أن السادات كان يظن أن الشاه لابد أن يعود إلى عرشه مرة ثانية.

ويبدو أيضاً أن صفة الإصرار في السادات، هي التي دفعته إلى الإصرار على استبقاء الشاه بعد ذلك، على الرغم من تأكده بأنه لن يعود إلى عرشه، وبأن أمريكا قد تخلت عنه تماماً. ففي زيارة للرئيس الأمريكي السابق فورد، لأسوان، عقد اجتماعاً ضم السادات والشاه وسيد مرعي. وراح الشاه يهاجم أمريكا، ويتهم الإدارة الأمريكية بأنها تخلت عنه، وبأنها أفسحت المجال للمعارضة لكي تنمو، وأن أمريكا هي التي خانته، ولعبت دوراً منافيا لكل القيم الأخلاقية. وكان تعليق السادات، بعد هذا الاجتماع، في حديث مع المهندس سيد مرعي، أن هذا وضع الحاكم الذي يعتمد على قوة أجنبية تساند حكمه.

السادات ينقذ الشاه في آخر لحظة

في أثناء ذلك سافر الشاه إلى "بنما"، وهناك تم تدبير مؤامرة من جانب حاكم "بنما" لتسليم الشاه إلى حكومة الثورة في إيران. وعندما اتصلت الشهبانو بجيهان السادات وأخبرتها، قرر السادات إرسال طائرة من رئاسة الجمهورية على الفور لنقل الشاه إلى مصر. ولمّا وصل إلى مصر قال له السادات: "أنت هنا في بلدك ووسط أهلك. ولن تغادر مصر، ولا تفكر في ذلك".

وعندما اشتد المرض على الشاه في أيامه الأخيرة، أصبح السادات يتولى بنفسه إعلان النشرة اليومية عن الحالة الصحية للشاه. وعندما توفى الشاه، تجاهل السادات وصية الشاه، وتجاهل إلحاح الإمبراطورة "فرح ديبا"، أن تكون الجنازة عائلية ومحدودة، وتعمد أن تُجرى للشاه جنازة رسمية عسكرية كرئيس دولة. وارتدى السادات الزي العسكري للقائد الأعلى للقوات المسلحة، واختار بنفسه خط سير الجنازة، الذي استغرق حتى المسجد نحو تسعين دقيقة. ودعا عدداً كبيراً من رؤساء الدول، ولم يحضر إلا بعض الرؤساء السابقين.

السادات يعرض ماء النيل هدية لبيجن!!!

يقول الصحفي موسى صبري، في كتابه "السادات الحقيقة والأسطورة"، في مايو 1977، كان بيجن في زيارة لمصر، وقال له السادات: ما رأيك، تبقَّى سنة على الحكم الذاتي الفلسطيني، الجزء الثاني من كامب ديفيد، ومن الحكمة أن نتفق الآن على المبدأ، لماذا ننتظر عاماً لكي تبدأ المباحثات؟.. ما رأيك مليون متر مكعب من الماء يومياً أعطيها لك؟ إنني أعطيك كل إجراءات الأمن في سيناء.. أنا اليوم أعطيك الحياة "الماء" أنا أعطيك الحياة مقابل القدس!!

ولكن بيجن رد عليه قائلا: "إن مبادئنا ليست للبيع مقابل المياه من النيل. إن أمن إسرائيل وأهمية القدس ليست قضايا للبيع في مقابل مياه من النيل.

إجراءات الاعتقال في سبتمبر 1981

تحول كبير

بدأ السادات يضيق بالمعارضة، ويرى أنها تنال من إنجازاته، وأخذ ضيقه يتزايد ويتنامى. لقد قدم إنجازات واضحة، وحقق النصر، واسترد سيناء، وفتح القناة. وكان عليه أن يمضي في الطريق ويعلم أن مصر، بعد إبرام معاهدة السلام، كانت في حاجة إلى أن يخلع عن نفسه زهو السلطان وأبهة الملوك، ويجلس للدراسة والبحث والعلاج. لقد زادت الجراح وتفاقمت المشكلات، ومع عام 1980 أرسل البنك الدولي يلفت الأنظار إلى الفجوة المتزايدة ـ التي أوجدتها سياسة الانفتاح ـ بين الأغنياء والفقراء، والآثار الاجتماعية الرهيبة التي يمكن أن تترتب على هذه الفجوة. وتقول أرقام البنك الدولي إن 5 , 21% من الدخل القومي يذهب إلى 5% من السكان، وإن 20% من السكان يحصلون على متوسط دخل 600 جنية في السنة، كما أن 44% من سكان الريف، و 33% من سكان المدن يعيشون تحت خط الفقر، وكان الإعلام الحكومي يخفي هذه الأرقام عن الناس. في الوقت الذي تظهر فيه إعلانات استفزازية في الصحف، عن حفلات عيد الميلاد ورأس السنة بسعر مائتي جنيه للتذكرة الواحدة. وشاع في ذلك الوقت تعبير ساخر، أن مصر فيها ثلاثة أنواع من السلع: إنتاجية، واستهلاكية، واستفزازية.

وبدأت روائح الفساد والثراء الفاحش تفوح، وتتهم السادات وأسرته. وأخذ الكتاب المعارضون في الخارج يكتبون أن مصر تضم 40 مليون حرامي وعلى بابا، يعني 40 مليون مصري ورئيس الدولة، حسب تعبير محمد نبوي إسماعيل، وزير الداخلية آنذاك، الذي ذكر واقعة معينة لها دلالتها الواضحة. إذ يقول: أصدر السادات قراراً بالإفراج عن متهم يسمى صلاح يوسف عبد السيد الطحاوي، صاحب صيدلية بجوار منزل الرئيس السادات. وكان قد أُلقي القبض عليه في 15 يونيه 1981 متلبساً بحيازة كميات من الأقراص والمساحيق والحقن المخدرة ، إضافة إلى بعض الذخيرة غير المرخصة، وكميات من الأدوية المهربة وغير المسعرة. وقد أمر السادات بالإفراج عنه صحياً مع آخرين. وتم الإفراج عنه بالفعل في اليوم التالي[3]!!!

عذر أقبح من ذنب

ولما استفسر نبوي إسماعيل الرئيس عن أسباب الإفراج عن صاحب الصيدلية، قال السادات: "يا نبوي الراجل ده جارنا وأجزاخانته جنب بيتنا في الجيزة ومراته جت عيطت في البيت وقالت إنه مظلوم!! وأنا من حقي كرئيس جمهورية أن أعفو عنه نهائياً، وعن الجريمة طبقاً للدستور. وأنا لمّا أعفو عنه يمكن ينصلح، ولو انصلح ده يبقى مكسب!! قال نبوي: أنا بس مارضيتش أنفذ، قلت إن قضايا المخدرات حساسة وفيها لغط، وقلت أعرض الأمر على سيادتك الأول" فقال السادات: لا ما فيهاش حاجة!!

نجم عالمي

بدلاً من الانتفاع بما تحقق من نجاحات، والبدء في خط إصلاحي حقيقي، ودراسة المشاكل دراسة جادة، ومواجهتها بحسم، بدلاً من ذلك كله أضاع السادات الفرصة، وتصور أنه بلغ ما لم يبلغه أحد من قبل. وأخذ يحيا حياة سيد أرستقراطي عظيم، له في كل ركن من أركان مصر قصر ملكي فخم، وحاشية ضخمة، وأسرة تصاهر أصحاب الملايين. وهو في الشتاء في الإسماعيلية وأسوان، وفي الصيف في الإسكندرية، يستيقظ قبيل الظهر، وله برنامجه الأرستقراطي الخاص ( اُنظر ملحق برنامج حياة السادات اليومي). وطائرة بوينج 707، وأخرى هليوكبتر جاهزتان مرابطتان ببابه. وملابسه تصنع عند دييور وبيير كاردان. تحول السادات إلى نجم عالمي، تنشر مجلة شتيرن الألمانية صورته على غلافها، وفي يده وردة، وتمنحه لقب "أشيك" رجل في العالم. وأخذ الإعلام الغربي يقدم السادات على أنه الزعيم العالمي الذي غير وجه التاريخ. واختارته كثير من الصحف، وعلى رأسها مجلة تايم الأمريكية، على أنه رجل 1980، ولم تكن ثمة صحيفة غربية تخلو من صورة أو مقال عن السادات. واللغة الوحيدة التي يقبلها هي لغة المديح، وصدره يضيق بأي نقد. وتلك هي فترة الأخطاء والعناد والإحساس الهائل بالعظمة. ومعظم الذين أبغضوا السادات داخل مصر، تكونوا خلال هذه الفترة، التي شهدت استفتاءات عجيبة، منها استفتاء في 21 مارس عام 1980 لتعديل المادة 77 من الدستور لتنص على أن يظل السادات رئيساً مدى الحياة. ومنها محاولة عجيبة من أحد أعضاء مجلس الشعب عن دائرة "ببا"، تقدم باقتراح مكتوب إلى مجلس الشعب يطلب منح السادات لقب سادس الخلفاء الراشدين. وتم تحويل الاقتراح إلى لجنة الاقتراحات والشكاوي، بتاريخ 14/2/1981. واجتمعت اللجنة في 15/3/1981، برئاسة محمود أبو وافية، عديل السادات، ووافقت على الاقتراح، وحوَّلته إلى لجنة الشئون الدستورية والتشريعية لإصدار القرار، ودعوة الناخبين إلى الاستفتاء عليه.

سخط في كل مكان

  1. في أوساط الناس

ازداد الفقراء سخطاً، ولم يروا أثرا للرخاء الموعود. واتضح للشعب أن سياسة الانفتاح الاقتصادي لم تفلح في شيء إلاّ في زيادة عدد أصحاب الملايين، بينما استمر التضخم وارتفعت نسبته. وامتلأت الأجواء بالشكوك. وبلغت الشكوك درجة أن الناس أصبحوا مستعدين أن يصدقوا أي شائعة، وأن يتوقعوا مؤامرة شريرة وراء أي حادث. فعندما سقطت طائرة هليوكوبتر يوم 2 مارس 1981، ونتج عن سقوطها موت الفريق أحمد بدوي، رئيس الأركان، ومعه عدد من القادة العسكريين، كان الناس على استعداد لأن يصدقوا أن ثمة مؤامرة اغتيال رتبتها جهات ما. ولقد أظهرت التحقيقات أن سبب الحادثة كان إهمالاً في الصيانة، لكن أحداً لم يكن ليصدق هذا التفسير البسيط المحزن.

  1. في أحزاب المعارضة

بدأت أحزاب المعارضة (حزب التجمع، والعمل، والوفد الجديد، والأحرار)، توحد صفوفها، وبدأت تنمو بينها فكرة الجبهة الواحدة. وكانت الاجتماعات الشعبية التي يعقدها حزب التجمع في عدد من أحياء القاهرة، وفي بعض مدن الصعيد، والوجه البحري، كلها تحريض على السخط بسبب ارتفاع الأسعار، والتفاوت بين الطبقات.

وتحول حزب الوفد الجديد إلى المعارضة العنيفة. وكان الصحفي الشهير، مصطفى أمين، يساند حزب الوفد في صحيفة أخبار اليوم، سواء بالأخبار أو المقالات. وأعلن فؤاد سراج الدين، رئيس حزب الوفد، أن ثورة يوليه ما هي إلا انقلاب، ووصف الأحوال قبلها بأنها كانت افضل بكثير، وأنكر أنه كان هناك إقطاع أو هضم لحقوق العمال والفلاحين.

ولما نشأت فكرة الجبهة الواحدة، وبدأت في عقد ندوات في الجامعات ومقار الأحزاب، وازداد التصعيد والتوتر، سلكت الجبهة اتجاهين:

·    التحالف مع الاتجاهات الدينية.

·    التحالف مع دول الرفض، وذهب خالد محيي الدين، رئيس حزب التجمع إلى دمشق وسلَّم جائزة السلام لحافظ الأسد. وفتحت الصحف العربية الموالية لدول الرفض صفحاتها لنشر أخبار وتحقيقات ومقالات عن المعارضة في مصر في حملة متصلة، كلها تشهير بالسادات، وزوجته جيهان، وحياته الخاصة، وبذخ معيشته.

  1. في التيارات الدينية

أ. التيارات الإسلامية

اشتعلت حدة الخطب في المساجد، وأصبحت خطب الشيخ عبدالحميد كشك في القاهرة، والشيخ أحمد المحلاوي، والأستاذ محمود عيد في الإسكندرية، وغيرهم، تتناول حياة السادات الخاصة، وتتهمه بالظلم والبذخ والخروج على الإسلام. وتُسجل الخطب على أشرطة كاسيت وتوزع بأسعار زهيدة جداً أو بالمجان. وظهرت المنشورات العديدة من الجماعات الإسلامية ضد بيجن خلال زيارة له للإسكندرية، ومنها منشور صوَّر السادات بشكل "حمار".

في يوليه 1977، عقد الشيخ عبدالحليم محمود ـ شيخ الأزهر ـ مؤتمراً إسلامياً، رداً على مؤتمر سبق أن عقده الأقباط. واصدر شيخ الأزهر مجموعة من القرارات، بينها أن أي قانون أو لائحة تعارض تعاليم الإسلام تعتبر ملغاة، وأن مقاومة مثل هذه التشريعات واللوائح واجب على كل المسلمين، وأن تقنين الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكامها لا يرتهن بموافقة البرلمان، وإنما أحكام الشريعة قانون مقدس وافق البرلمان أم لم يوافق، لأنه ليس من حق أحد أن يناقش أحكام الله. وأن التأخير في تطبيق الشريعة الإسلامية، مراعاة لمشاعر غير المسلمين، لا يمكن قبوله. وأضاف المؤتمر نداءاً إلى الرئيس السادات يطهر أجهزة الإعلام من كل المواد غير الإسلامية، وأن يجعل الدين أساسا للتعليم في كل المراحل.

ب. الأقباط

بدأ نشاط الأقباط في مصر يتسع. كانت قوة الأنبا شنودة في ذلك الوقت قد وصلت إلى مداها. أصبح له وضع شبه مستقل عن سلطة الدولة، وتوثقت علاقاته الكنسية بأطراف متعددة في العالم. وبدأ الأقباط التصعيد في يناير 1977، في مؤتمر في الإسكندرية، وكان من توصيات هذا المؤتمر الذي انعقد تحت محور "حماية الأسرة والزواج المسيحي".

1.   "المساواة وتكافؤ الفرص وتمثيل الأقباط في الهيئات النيابية".

2.   "توجيه بيان إلى السلطات بطلبات لإلغاء مشروع قانون الردة".

3.   "العدول عن التفكير في تطبيق قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية على غير المسلمين".

4.   "حرية نشر الفكر والتراث القبطي".

5.   "استبعاد الطائفية في تولى وظائف الدولة على كل المستويات".

وتأييداً لهذه المطالب، وكنوع من الاحتجاج، قرر المؤتمر أن تكون الفترة بين 31 يناير إلى 2 فبراير 1977 فترة صيام. وأن يظل المؤتمر منعقداً حتى تستجيب السلطات إلى مقترحاته.

وقد تلقى المؤتمر رسائل تأييد عديدة من جماعات قبطية خارج مصر، أرسلت صور منها إلى مجلس الشعب في مصر، وكانت هذه الرسائل كلها تحمل صيحات احتجاج:

"لماذا يعاني إخواننا الأقباط من هذه المصاعب في مصر؟".

"كيف يُعامل الأقباط في مصر على أساس أنهم من أهل الذمة؟".

"ما الذي تنوي الحكومة عمله في موضوع تقنين الشريعة الإسلامية؟".

وكان هذا المؤتمر هو الذي رد عليه الشيخ عبدالحليم محمود بمؤتمر مضاد. وهكذا بدا في الجو توتر بين المسلمين والأقباط، وارتفعت حرارة هذا التوتر طوال عامي 1978، 1979.

وفي 26 مارس 1980، ألقى الأنبا شنودة خطاباً غاضباً، عارض فيه أن تكون الشريعة الإسلامية أساسا لقوانين تُطبق على غير المسلمين. وأعلن أن صلوات عيد القيامة لن تقام هذا العام، كنوع من الاحتجاج على إهمال ما تقدم به الأقباط من طلبات.

ووقعت أحداث متفرقة في أكثر من مكان، شهدت اعتداءات متبادلة بين المسلمين والأقباط. كما وقع حادث اعتداء على كنيسة في الإسكندرية، ثم كانت أحداث الزاوية الحمراء، التي بدأت بخلاف بسيط بين جيران تطور إلى شجار، ومعركة، وإطلاق رصاص. ثم وُجد من روَّج الشائعات بأن الأقباط يقتلون المسلمين، ووجد أيضاً من روَّج بأن المسلمين يقتلون الأقباط.

ومما زاد الأمر سوءاً أن الجمعيات القبطية في أمريكا، نشرت إعلاناً بمساحة نصف صفحة في الواشنطن بوست والنيويورك تايمز، تزعم فيه وجود مضايقات كبيرة يلقاها الأقباط في مصر. وكان هذا أثناء زيارة السادات الأخيرة لواشنطن في أول سبتمبر 1981. ثم قررت هذه الجمعيات أن تخرج في تظاهرات ضد السادات في واشنطن، إحداها أمام البيت الأبيض أثناء اجتماعه مع ريجان، والثانية أمام متحف المتروبوليتان، الذي كان سيحضر فيه السادات احتفالاً بإقامة قسم جديد للآثار المصرية، وتوزيع المنشورات أمام مقر إقامة السادات في البلير هاوس. وتحمل هذه المنشورات شعارات مثل: "المسلمون المتعصبون يضطهدون الأقباط في مصر", "أقباط مصر يُقتلون وتحرق كنائسهم، وتضرب بالقنابل".

هكذا كان الوضع داخل مصر: تكتلُ أحزاب المعارضة في جبهة واحدة، وتحالف مع الاتجاهات الدينية، ونزول الجميع إلى الشارع. وكما قال المحامي والسياسي فتحي رضوان: "كنا نعمل على أن يصدر السادات قراراً بوضعنا جميعاً في السجون".

تصعيد من خارج مصر

  1. دول الرفض: تزايدت حدة انتقادات دول الرفض لمصر، مع عزلة مصر عن الأسرة العربية.

2.   مناحم بيجن: في هذا الجو الملتهب كانت مفاوضات الحكم الذاتي تتعثر، وتعرض الرئيس السادات لأكثر من تصرف دنئ من مناحم بيجن، رئيس وزراء إسرائيل، ففي 4 يونيه 1981، التقى السادات مناحم بيجن في شرم الشيخ. وعقدا مؤتمراً صحفياً مشتركاً، وبعد أربع أيام فقط قصفت الطائرات الإسرائيلية المفاعل النووي العراقي قرب بغداد. وكان هذا أكبر إحراج للسادات. وكان أكثر ما ضايق السادات أن السفير الأمريكي اتصل هاتفياً برئاسة الجمهورية صباح يوم قصف المفاعل العراقي ليسأل ما إذا كان مناحم بيجن قد أخطر السادات بنية إسرائيل قصف المفاعل. وقد أعلن مناحم بيجن، أنه لم يبلغ الحكومة الأمريكية بالهجوم إلاّ بعد إتمامه، وأنه أخفى أمر الهجوم عن السادات عند اجتماعهما في سيناء في الأسبوع الماضي. وكانت مخاوف السادات نابعة من أنه إذا كان السفير الأمريكي نفسه قد فكر في هذا، فكيف بالآخرين؟، وهكذا أصدر السادات تصريحاً أن مناحم بيجن لم يخطره بهذا الموضوع، وأن نبأ ضرب المفاعل العراقي قد أصابه بصدمة حقيقية لأنه بعد مرور أربع سنوات على بدء عملية السلام، ما كان يجب الإقدام على مثل هذا التصرف، والذي يصفونه بأنه إجراء وقائي. وأنه يحتج بشدة على أولئك الذين يظنون أنه كان على علم بنوايا إسرائيل.

وضع بيجن عشرات العقبات أمام مفاوضات الحكم الذاتي، وكان يريد أن يفرض خطوات التطبيع بأسلوب يثير مشاعر المصريين، ومن ذلك إصراره على تبادل طلبة الجامعات بين مصر وإسرائيل.

  1. نجح رونالد ريجان Ronald Regan ، في الانتخابات الأمريكية، وكانت كل تصريحاته خلال الانتخابات تبشر بخيبة الأمل. وبعد أن قابل السادات الرئيس ريجان للمرة الأولى، خرج بانطباع أن الرئيس الجديد يعيش في واد بعيد تماما عن الحقوق العربية. فعندما أخذ السادات يشرح كل جوانب القضية، لم يعلق ريجان بكلمة واحدة!. وقد قال السادات لمستشاريه "الراجل ده نايم على روحه".
  2. أمّا عن وسائل الإعلام الغربية، فقد أعدت شبكة ABC الأمريكية برنامجا خاص عن السادات، عرضته أثناء زيارة السادات لواشنطن، وفي هذا البرنامج قارنت السادات بشاه إيران. وقد غضب السادات غضباً شديداً، وقال: "إن هؤلاء المجانين يشبهونني بشاه إيران. إن هناك حملة ضدي في الولايات المتحدة هدفها أن تظهر أن مصيري سوف يكون مصير الشاه".

وقد شعر السادات أن استقبال وسائل الإعلام له قد تغيَّر عما كان عليه من قبل، وجادله بعض ممثلي وسائل الإعلام الأمريكية، وأخذوا يسألونه عن المصاعب الداخلية في مصر، والفتنة الطائفية.

المواجهة العنيفة وقرارات سبتمبر

إزاء التصعيد من جانب كل القوى، كان السادات يزداد عصبية. وراح يهاجم الجميع بعنف شديد، ومن أمثلة ذلك.

  1. دخل السادات في مواجهة مع الأنبا شنودة، وألقى خطاباً في مجلس الشعب ذكر فيه أن لديه معلومات عن مطامع البابا السياسية، وأضاف أن التقارير تشير إلى أن البابا يعمل من أجل إنشاء دولة للأقباط في صعيد مصر تكون عاصمتها أسيوط.
  2. هاجم السادات فصائل المعارضة هجوماً عنيفاً، وشدَّد الهجوم على المهندس إبراهيم شكري، زعيم حزب العمل، وعلى فؤاد سراج الدين، زعيم حزب الوفد، بعنف في خطاب ألقاه في 16 مايو 1981، في جامعة الإسكندرية، وقال: "وواحد يقول لك أنا باشا أبن باشا ....، إيه دا كانوا بيدوكم بالصرم الإنجليز" ... ( اُنظر ملحق خطاب السادات في 16 مايو 1981) .
  3. في 17 مايو 1981، وفي احتفال محامي الإسكندرية بثورة 15 مايو، ألقى السادات خطاباً هاجم نقابتي الصحفيين، والمحامين، وهاجم فؤاد سراج الدين، وحذَّر من إدخال السياسة في الدين، والدين في السياسة ( اُنظر ملحق خطاب السادات في احتفال المحامين بالإسكندرية بعيد ثورة مايو) .

في يوم 4 سبتمبر عام 1981، أصدر السادات قراراته باعتقال 1536 شخصاً من رجالات ونساء مصر. وشملت الاعتقالات القيادات الدينية والسياسية والحزبية، وإلغاء بعض الصحف والمجلات المعارضة، وإبعاد 67 صحفياً عن الكتابة وأجهزة الإعلام، ونقل 64 أستاذا جامعياً إلى أعمال بعيدة عن مجالات تخصصاتهم. لقد ضمت الاعتقالات مجموعات من مشاهير السياسيين: فؤاد سراج الدين، وفتحي رضوان، ود. محمد عبدالسلام الزيات وزير الخارجية الأسبق، والمهندس عبدالعظيم أبو العطا، وزير الري السابق، الذي لم يكن له نشاط سياسي يُذكر، وكان مريضاً، وقد توفي أثناء الاعتقال. ومحمد فائق، وزير الإعلام الأسبق، وعبدالعزيز الشوربجي، نقيب المحامين الأسبق[4]، ومعظم قيادات الأحزاب، منهم د. محمد حلمي مراد، الوزير السابق، ونائب رئيس حزب العمل، وحامد زيدان، رئيس تحرير جريدة الحزب. ونصف أعضاء اللجنة المركزية لحزب التجمع من أمثال: د. فؤاد مرسي، الوزير الأسبق، و د. إسماعيل صبري عبدالله، الوزير الأسبق، وفريد عبدالكريم. ونواب مستقلين مثل: د. محمود القاضي، وعادل عيد، وكمال أحمد، ومعظم أعضاء مجلس نقابة المحامين. وشخصيات دينية بارزة مثل: الشيخ عمر التلمساني، المرشد العام للإخوان المسلميـن، و المحلاوي، والشيخ كشك، والشيخ محمود عيد. وقيادات نسائية بارزة مثل د.نوال السعداوي، ود.لطيفة الزيات، ومئات من الشخصيات القبطية البارزة. وقد وصف السادات الجميع بأنهم "حفنة من الأرازل" ( اُنظر ملحق أسماء الذين تم التحفظ عليهم في أحداث الفتنة الطائفية في 4 سبتمبر 1981) .

أيام عصيبة

  • في 5 سبتمبر 1981، أمر السادات بتطويق وادي النطرون، وأُعلن إلغاء القرار الجمهوري بتعيين الأنبا شنودة، بطريركا للأقباط. وتعيين لجنة بابوية مؤقتة من خمسة أعضاء، وتحديد إقامة الأنبا شنودة في دير وادي النطرون.

في 6 سبتمبر 1981، صدرت الجرائد بعناوين مثيرة مثل : أخطر استغلال للدين، دور العبادة تُستغل لتحقيق أغراض سياسية، ضرب الوحدة الوطنية، التحفظ على أموال الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية، التحفظ على 1536 شاركوا واستغلوا أحداث الفتنة الطائفية. إلغاء القرار الجمهوري بتعيين الأنبا شنودة (اُنظر ملاحق العناوين الرئيسية للأهرام في 6 سبتمبر 1981 وملحق العناوين الرئيسية للأخبار في 6 سبتمبر 1981).

  • في 9 سبتمبر 1981, عقد السادات مؤتمراً صحفياً في بيته في ميت أبو الكوم، حضره ممثلون عن الصحافة المحلية والأجنبية. كان السؤال الذي وجهه مندوب شبكة ABC الأمريكية هو: "سيادة الرئيس، إنك كنت في الولايات المتحدة قبل أسبوع، فهل أخطرت الرئيس ريجان بما تنوي عمله؟".

وفقد السادات أعصابه كلها مرة واحدة، وضرب المنضدة بيده، وانفجر قائلاً: "يجب أن تفهم أنك في بلد مستقل، ولولا الديمقراطية لأخرجت مسدسي وأطلقت عليك النار" ( اُنظر ملحق المؤتمر الصحفي العالمي الذي عقده السادات في 9 سبتمبر 1981).

  • أثارت قرارات السادات عاصفة من الانتقادات الحادة خارج مصر. فقد وصفها الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بأنها إجراء غير ديمقراطي، وأنه يشجبها. ووصفتها صحف وإذاعات ومحطات التليفزيون العالمية بأنها ضربة للديمقراطية، وأن السادات أصبح ديكتاتوراً باطشاً. وبعض الصحف الغربية، وبالذات صحيفة الصنداي تايمز Sunday Times ، هاجمت السادات بعنف، ونشرت الصنداي تايمز مقالاً من صفحة كاملة وضعت فيه رسماً لوجه السادات، وكأنه وجه "حمار". وكذلك تحدث ديفيد هيرست مراسل الجارديان Guardian البريطانية إلى شبكة ABC الأمريكية موجها مجموعة من الإهانات الشخصية للسادات، منها قوله "إنه ممثل وبهلوان".
  • في يوم 14 سبتمبر 1981، وجه السادات حديثاً إلى الشعب، وهو الحديث الذي أثار استياء عارماً[5]. فطوال أربع ساعات مضى السادات يسب فيه المعتقلين، وخصص ساعة كاملة من حديثه لمهاجمة فؤاد سراج الدين، وقال: "هذا الإنسان بسيادة القانون لن أرحمه أبداً .. لأنه .. لويس السادس عشر". ووصف محمد حسنين هيكل بأنه ملحد . وأخذ يُهاجم الإخوان المسلمين. ويسخر من الجماعات الإسلامية، ومن الفتيات المحجبات، وشبه أرديتهن بأنها كالخيام، وسخر من أصحاب اللحى، وتعرض بالإهانة لأحد علماء المسلمين قائلاً:

لن أرحمهم.. لن أرحمهم.. لن أرحمهم.

التلمساني سامحته مراراً، ولن أرحمه هذه المرة.

المحلاوي مرمي في السجن زي الكلب.." كررها ثلاثا وبصق ( اُنظر ملحق بيان السادات إلى الأمة في 14 سبتمبر 1981).

وفي خطاب آخر للسادات في 30 سبتمبر 1981م، هاجم فصائل المعارضة، وفؤاد سراج، والجماعات الإسلامية، وإيران، وبعض الدول العربية، هجوماً عنيفاً ( اُنظر ملحق خطاب السادات في ختام أعمال المؤتمر العام الثاني للحزب الوطني الأول من أكتوبر 1981).

وقد أجمعت وكالات الأنباء والمراسلون الذين حضروا الجلسة المشتركة لمجلسي الشعب والشورى، أن السادات كان يتحدث بعصبية واضحة أفقدته الكثير مما كان يتسلح به من قدرة على سلسلة الأحداث وتبرير ما اتخذه من إجراءات. كما ظهر وكأنه عاجز تماماً عن شرح أفكاره ونواياه.

وهكذا بدأت سحب السخط تتجمع وتتكاثف، إلى أن بلغت المأساة ذروتها، وكانت النهاية الأليمة يوم 6 أكتوبر 1981.

 



[1] محمد حافظ إسماعيل، "أمن مصر القومي في عصر التحديات"، ص 442. قارن: محمد حسنين هيكل، "خريف الغضب"، ص 20 حيث ذكر أن ياسر عرفات كان حاضراً جلسة مجلس الشعب التي أعلن السادات فيها استعداده للذهاب إلى القدس، وقد استبد به القلق الشديد، على الرغم من تأكيد وزير الخارجية المصري له أنها كانت "زلة لسان" من الرئيس.

[2] ولكن موقف المغرب تغير بعد ذلك، وأعلن وزير خارجيتها عن أن كامب ديفيد هي اتفاق منفرد. راجع: موسى صبري، "السادات الحقيقة والأسطورة"، ص 579، حيث قال: وتدور الأيام بعد ذلك، ويذهب كمال حسن علي إلى المغرب عام 1984، فيقول له وزير خارجيتها: لقد شكلنا أربع مجموعات فنية وسياسية لدراسة اتفاق كامب ديفيد، وخرجت كل مجموعة برأي واحد أن هذا الاتفاق هو أول وثيقة دولية كان يمكن استثمارها لتحقيق المطالب العربية!!

[3] محمود فوزي، "النبوي إسماعيل وجذور منصة السادات"، ص 79. ويعلق نبوي إسماعيل بقوله: "ومن المعلوم أن الإفراج صحياً يطبق فقط على المسجونين السياسيين عندما تزول الأسباب السياسية لسجنهم من وجهة نظر رئيس الجمهورية.

[4] 'موسى صبري، "الحقيقة والأسطورة"، ص 178، 195. حيث قال: لم يكن هناك مبرر على الإطلاق لاعتقال عبد العزيز الشوربجي، فقد كان يعاني من أزمة قلبية حادة، وكان قد تجاوز السبعين من عمره، رغم أنه سب السادات قائلاً إنه يحتقره.

[5] 'اُنظر الملاحق. خطاب أنور السادات عشية اعتقالات سبتمبر.