مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

المعركة من أجل السلْطة (تابع)

         كان عليَّ أن أخوض معركة بلا هوادة مع زملائي في لجنة الضباط العليا لأقنعهم بأفكاري. كنت أريد سيطرة "عملياتية" كاملة، بينما هم يريدون قَصْرَ سلطاتي على القيادة "التكتيكية". كنت حريصاً عند اختيار الضباط للعمل معي أن يكونوا ممن يخططون ويديرون، بينما هم يريدونهم ضباط اتصال فقط ملحقين على قيادتي. أرادوا لي أن أحتفظ بلقب قائد القوات المشتركة، بينما يحتفظون هم بالسيطرة المباشرة على قواتهم. حاولوا، في البداية، أن يقصروا سلطاتي على الوحدات البرية في المنطقتين الشرقية والشمالية. حتى في هاتين المنطقتين، أرادوا أن أخضع لسلطات قائد القوات البرية. وكان عليَّ أيضاً إذا أردت تخصيص مهام للقوات الجوية أو البحرية أن أحصل أولاً على موافقة قادة تلك القوات.

         كنت أؤكد لهم أنني لا أسعى إلى كسب شخصي، بل إلى إنجاز المهمة على الوجه الصحيح. وفي إحدى المرات، عقب مناقشة حادة، عدت إلى بيتي أَتَمَيَّز من الغيظ، لكنني لم ألبث أن راجعت نفسي وأقسمت ألاّ أستسلم أبداً. من يدري ما سوف يحدث لهذا البلد لو انقطع الحوار بيننا؟ عدتُ واستأنفت المعركة من أجل الصلاحيات التي كنت أحتاج إليها، يوماً بيوم وشبراً بشبر، وكأنني أنْحَتُ في الصخر. وفي النهاية، وافق زملائي على أن أتولى شؤون الأمريكيين. ولكن ماذا عن القوات المصرية والقوات السورية والقوات المغربية التي وصلت؟ وماذا عن غيرها من القوات الكثيرة التي يُتوقع وصولها؟ من سيكون مسئولاً عنها؟

         أرسلت خطاباً إلى الأمير سلطان بعد أن عاد من المغرب ليمسك بزمام الأمور في وزارة الدفاع، على الرغم من الألم الذي كان يشعر به في ركبته، وشرحت له طبيعة خلافاتي مع لجنة الضباط العليا. وكتبت بالحرف الواحد "فلتأمر بأن يتولى القيادة رئيس هيئة الأركان العامة، وسوف أعمل مساعداً له أو تحت قيادته في أي شكل من الأشكال، ولكن لا بدّ من أداء العمل بالأسلوب الصحيح". وأوضحت لسموه أن خلافاتنا خَلَّفت صعوبات جمّة، فالفريق هورنر، القائم بأعمال القائد في القيادة المركزية الأمريكية، لا يعرف حتى الآن مع من يكون تعامله.

         وَضَعَتْ خلافاتنا الأمير سلطان في موقف حَرِج لا يُحسد عليه. لم يكن يريد أن يظهر أمام القادة الآخرين في مظهر من يحابي ابنه وَيَنْتَصَر له. فطلب من مساعد وزير الدفاع، الشيخ عثمان الحميد، رئيس هيئة الأركان العامة السابق، وهو رجل عسكري يحظى باحترام الجميع، أن يسعى في الوساطة بيننا، لكنّ مساعيه لم تفلح في تقريب وجهات النظر. كنت مصمّماً أن تكون لي سيطرة "عملياتية" على جميع القوات، وكانوا لا يريدون ذلك. وتأزَّمت العلاقة بيني وبينهم وبعد أن كنت أذهب لأتناول طعام الغداء مع قادة القوات في مكتب رئيس هيئة الأركان العامة كل يوم تقريباً، ابتعدت عنهم وانقطعت عن الذهاب.

         أخيراً، وفي الخامس من نوفمبر، أرسلت خطاباً "سرياً للغاية" إلى الأمير سلطان. كان خطاباً قوياً من خمس صفحات أفرغت فيه كل ما اعتلج في صدري من مخاوف وشكوى. كانت البلاد في خطر وكنت أبذل قصارى جهدي، لكن الجهود لم تؤتِ ثمارها، فالمشاكل تزداد يوماً بعد يوم. عشرات الألوف من الرجال كانوا في طريقهم إلى المملكة، والمسؤوليات الملقاة على عاتقنا أضحت تنوء بحملها صُمُّ الجبال. كان على سموه اتخاذ القرار إن كنت سأمارس القيادة العملياتية أو التكتيكية.

         وبعد ثلاثة أسابيع، في السابع والعشرين من نوفمبر، حدث انفراج في الأزمة عندما استدعانا الأمير سلطان إلى الاجتماع في مركز عمليات القوات الجوية. كان من عادته أن يزور مراكز القيادة للقوات المختلفة بشكل دوري ليطّلع على سير الأوضاع. فيستمع إلى تقارير القادة ويراجع خطط العمليات ويقف على درجة الاستعداد القتالي للقوات. وكان يرسل أيضاً فرقاً للتفتيش على الوحدات المختلفة في مواقعها. ولعله اختار مقر قيادة القوات الجوية تلك المرّة، لأن معظم معارضي منحي القيادة العملياتية هم من تلك القوات، وترتكز معارضتهم على مخاوف متوارثة. ففي معظم الجيوش، يخشى القادة الجويّون أن يجدوا أنفسهم تحت سلطة قائد قوات برية يرأسهم، بدلاً من أن يعمل معهم على قدم المساواة. بيد أنني كنت أعلم جيداً أنه لا توجد في التاريخ العسكري حرب كانت القيادة العليا فيها لقائد قوات جوية. وفي كل حال، أصبح مقر قيادة القوات الجوية هو مسرح الصراع على الصلاحيات. ولئن كان قائد القوات الجوية الفريق أحمد بحيري صديقاً لي، إلاّ أن وجهات نظرنا، في ما يتعلق بتلك القضية من منظور مهني عسكري لها، كانت مختلفة.

         حضر الاجتماع ما يقرب من 24 قائداً، بينهم رئيس هيئة الأركان العامة وقادة القوات وقادة القواعد الجوية في أنحاء المملكة وغيرهم من كبار القادة. كان الوقت ضُحى والأضواء خافتة في غرفة الاجتماع الفسيحة.

         بدأ الاجتماع بتقرير عن القوات الجوية، تَلتْه مناقشات بين القادة. ومن عادة الأمير سلطان أن يتكلم والابتسامة على وجهه، لكنه، هذه المرة، ظل عابساً وهو يتحدث عن الأخطار المحدقة التي تتعرض لها المملكة والتي لم يسبق أن تعرضت لمثلها قط. ثم تفجرت كلماته تَقْطُر غيظاً وهو يجول ببصره من قائد إلى آخر:

       "تتنازعون أمركم بينكم وأمن البلاد في خطر! هذا أمر لا يمكن احتماله. أريد القوات البرية والجوية والبحرية وقوات الدفاع الجوي، كل القوات تحت قيادة واحدة. وإذا ارتأيتم أن خالداً لا يصلح للقيام بهذه المهمة فأبعدوه. لا يهمني أنه ابني، فكلكم أبنائي ولن أتحيز لأحد منكم في خلافاتكم. لا بد أن تَبُتُّوا هذه المسألة الآن. وأريدكم أن تعلموا جميعاً علم اليقين أنني لن أدع البلاد تتعرض للخطر بسبب خلافاتكم. من منكم يستطيع أن يتولى القيادة؟ من يأنس في نفسه القدرة على تولي هذه القيادة فليتكلم وسأقف إلى جانبه حتى النهاية وأمنحه الصلاحيات الكاملة. وإذا لم يتقدم منكم أحد فليُمنَح خالدٌ ما يحتاج إليه من سلطات".

         ومضى الأمير سلطان في حديثه على هذا المنوال نصف ساعة. ظل يتحدث في لهجة قيادية صارمة، صرامة لم أعهده يتحدث بها من قبل، على كثرة ما شهدت له من مواقف مماثلة. كان حقاً قائد القادة. وكان لموقفه الحاسم وقراره الحازم الذي لم تؤثر فيه مشاعر الأبوة، وقع كبير وأثر بالغ في نفوس كل القادة. لم يتقدم أحد إلى القيادة. إذ بدا لهم جميعاً أننا وصلنا إلى نقطة تحوّل بالغة الأهمية في مسار الأزمة.

         كان حديث الأمير سلطان مفتاح نجاحي. فتلك هي المرة الأولى التي شعرت فيها أنني أتحمل المسئولية الكاملة. فمنذ تلك اللحظة، كنت أحصل على الدعم كل الدعم. كما مُنِحْتُ كل الصلاحيات التي أحتاج إليها للإعداد للحرب. وفي الثلاثين من نوفمبر، فوّض إليَّ الأمير سلطان سلطات واسعة، وأحسست وقتها أنني قادر - بعون من الله على قيادة يحق لبلادي أن تعتزّ بها وتفخر.

سابق بداية الصفحة تالي