مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

حفيــد ابن سعــود (تابع)

          أمضيت تعليمي المدرسيّ كله في مدرسة تعليم صغار الأمراء التي أسسها الملك سعود - يرحمه الله - في أوائل الخمسينات. وكان مقرها، في سنواتها الأولى، في قصره في حي الناصرية في مدينة الرياض، وتسمى " معهد الأنجال ".

          لم تكن الطرق، في تلك الأيام، معبدة بالأسفلت كما هي اليوم، وكانت الرحلة من بيتنا إلى قصر الملك تستغرق ثلاثة أرباع الساعة.. ويعني ذلك قطع رحلة طويلة عند رجوعنا لتناول طعام الغداء في بيتنا. ثم علينا أن نقطع الرحلة نفسها عند العودة بعد الظهر لاستكمال اليوم الدراسي. ولكن عندما أدرك الملك سعود - وكان رجلاً كريماً عطوفاً بحق - العناء الذي نلاقيه، أصدر أمراً بأن نتناول، أنا وأخي فهد، غداءنا في القصر مع ابنه الأمير منصور . وسعدنا بذلك الترتيب كل السعادة. وكان من ثمار ذلك، تلك الصداقة الطويلة والاحترام المتبادل بيننا. وفي عام 1964، عندما تولى الملك فيصل حكم البلاد، نقلت المدرسة من مقرها في القصر وأسند أمرها إلى وزارة المعارف.

          كانت المدرسة، أول عهدها، تتكون من فصل واحد، يضم نحو 25 تلميذاً. ثم أصبحت بحلول التسعينات معهداً كبيراً ينتظم فيه أكثر من 1200 طالب. وتغطي فصوله الدراسية مرحلة رياض الأطفال حتى المرحلة الثانوية. كما أصبح عدد أبناء غير الأمراء في المدرسة يفوق كثيراً عدد الأمراء، فلم تعد حكراً عليهم. وتغير اسم المدرسة، الآن، ليصبح "معهد العاصمة". كما أنشئ فيها قسم خاص بالبنات في مبنى مستقل.

          ومنذ تأسيس المدرسة، وعلى مدى 31 عاماً، كان يديرها، أو الأحرى يحكمها، رجل عادي في مظهره قوي في إرادته، هو الأستاذ عثمان ناصر الصالح. وقد اختاره الملك سعود مديراً للمدرسة. ولكن ما أن تولى الإدارة حتى رفض رفضاً قاطعاً تدخل أحد في إدارة مدرسته، حتى إن كان الملك نفسه. وكان إذا حاول أحد، أي أحد، أن يملي رأيه عليه يهدد بالاستقالة على الفور. وأدركت بعد ذلك مدى عظمة هذا الرجل. وكنت أحرص على زيارته بعد إحالته إلى التقاعد، كلما سنحت الفرصة، عرفاناً لفضله في تعليمي وتعليم جيل كامل من السعوديين.

          كان مديراً ممن يسمَّون بـ "الطراز القديم". يتبع نظاماً صارماً ويمنع تناول المأكولات أو الحلوى داخل المدرسة. ويشدّد على احترام المدرسين في كل الأوقات ويمنع الخوض في السياسة في غرف الدراسة. وكان التلاميذ يُنادَون ويُعرفون بأسمائهم فقط دون أن تسبقها أية ألقاب.

          وحدث، وأنا في الرابعة عشرة من عمري، أن تمرّدتُ على نظامه الحديدي الصارم. فقلت له ذات مرة: "لا تكن صارماً هكذا.. ما نحن إلا أولاد صغار، ولسنا دمي تحرك خيوطها. دعنا نعش حياتنا". وبدلاً من أن تمتد يده إليّ بالعصا، ابتسم ابتسامة عريضة. لقد بهرته جرأتي حتى قرَّر ألا يعاقبني.

          أعدُّ أخي فهداً، الذي يصغرني بأحد عشر شهراً، أقرب المقربين إلى نفسي، كأننا توأمان. كنّا نتشاجر أيام الطفولة ونتنافس. ولكنّ صداقتنا نمت وتوطدت ونحن على أعتاب مرحلة الرجولة. أمضينا فترة الدراسة بكاملها معاً، نجلس جنباً إلى جنب في غرفة الدراسة. لم نكن من أوائل الفصل، ولكن مستوانا الدراسي كان فوق المتوسط. وفي أحد فصول الصيف، تولى الأستاذ عثمان الصالح تدريسنا مناهج تعليمية إضافية مكنتنا من القفز سنة دراسية. وحدث مرة، أن سأل والدي الأستاذ عثمان أيّنا أفضل تحصيلاً من الآخر، فأجابه أن فهداً أفضل مني بقليل. ولَكم كانت سعادتي بالغة عندما ظهرت نتائج الامتحانات وأخذ والدي يفحصها ليجدني متفوقاً على فهد بقدر قليل. وفي حقيقة الأمر، كان فهد متفوقاً عليَّ دائماً، ولم يتغير ذلك إلا في السنتين الأخيرتين من المرحلة الثانوية، حين حالفني بعض التوفيق واستطعت، بشيء من الاجتهاد اليسير، أن أتفوق عليه قليلاً. وفي السنوات الأخيرة، لم أعد أرى أخي فهداً بالقدر الذي أتوق إليه. فعندما كنت أعمل في القوات المسلحة، كان هو يعمل في وزارة الشؤون الاجتماعية حتى أصبح وكيلاً للوزارة. ثم عين بعد ذلك أميراً على تبوك، في أقصى شمال غربي المملكة. وقد قام، على مدى الأعوام الثمانية الماضية، بتأسيس إدارة نموذجية يُعتد بها.

          ومن أصدقاء الطفولة المقربين أيضاً الأمير محمد بن فهد ، أمير المنطقة الشرقية، الذي تقلد هذا المنصب المهم منذ سنوات عدة، لا يزال يتولى شؤونه باقتدار. وذكرت من قبل أن محمداً أخٌ لي من الرضاعة. وكنّا لا نزال صديقين منذ طفولتنا حتى اليوم. فقد تزوج والده الملك فهد، قبل أن يصبح ولياً للعهد، من خالتي. ولهذا، كنّا نعيش ونلعب معاً معظم وقتنا ليلاً ونهاراً. لم أكن مولعاً بالرياضة أيام الدراسة، لكن محمداً أقنعني بلعب كرة اليـد. وأتقنت اللعب في موقع الدفاع متصدياً للمهاجمين ومغلقاً منطقة المرمى. وحدث ذات مرة أن رشحت نفسي لريادة الفصل، كما رشح محمد نفسه للمنصب عينه. ثم رشح ابن عم آخر لنا هو الأمير سلطان بن محمد نفسه كذلك ( وهو الآن من كبار رجال الأعمال، وأكن له كل الحب والاحترام ). وكان واضحاً أن الأصوات ستنقسم بيننا وأن سلطان سيفوز. فسحبت ترشيحي، وأوحيت إلى مؤيديَّ أن يدلوا بأصواتهم لمصلحة محمد، وتم فوزه فعلاً.

          وكنّا نُعَدُّ من المشاغبين في الفصل أحياناً. وتصادف مرور مدير المدرسة ذات يوم ونحن نشاغب أحد المدرسين، فسأل المدير المدرس بحزم: "هل أنت راضٍ، عن سلوك هؤلاء الأولاد؟". فأجابه المدرس: "ما عدا هذين الاثنين"، وأشار إليّ وإلى محمدٍ.

          إثر ذلك، استدعانا الأستاذ عثمان الصالح إلى مكتبه. حاولت أن أجادله وأبرر له سلوكنا، بينما وقف محمد صامتاً. ولم يكن ما فعلته من الحكمة في شيء. فقد أمر محمداً بالانصراف، أمّا أنا فكان نصيبي ضرباً مبرحاً. وكان هذا درساً مبكراً لضرورة ترك الجدال في بعض المواقف. لكنني، على ما يبدو، لم استوعب ذلك الدرس جيداً حتى هذا اليوم.

          ظهرت القيمة الحقيقية لصداقتي الحميمة للأمير محمد أثناء حرب الخليج. كان كلانا يفهم الآخر جيداً، ولذلك، استطعنا في سهولة ويسر، أن نحُلَّ كل مشكلة واجهتنا. وكان ذلك مصدر ارتياح لكلينا. كنت واثقاً من الاعتماد عليه، وكان خير عون لي، لا سيما عندما أنشد مساعدته في تخطي الإجراءات البيروقراطية أو إنجاز أمر عاجل على وجه السرعة.

          يكبرني محمد بستة أشهر، فهو بذلك مقدَّم عليَّ، وله حق الاحترام حسب تقاليد عائلتنا. ولهذا السبب، هزتني من الأعماق إحدى لفتاته الطيبة، التي ربما لا يذكرها هو نفسه. فمحمدٌ، بحكم وظيفته المدنية أمير منطقة، يتبع إدارياً صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز، وزير الداخلية. لكنه عندما أراد الذهاب إلى جدّة، أثناء الأزمة، اتصل بي إن كنت أمانع في تغيبه عن عمله ليوم أو يومين. ولم يكن ملزماً في حال من الأحوال أن يفعل ذلك، لكنها كانت بحق لفتة طيبة تنم على تقديره لقيادتي.

سابق بداية الصفحة تالي